كتب

دراسة لاهوتية فى كتاب اخنوخ الأول



دراسة لاهوتية فى كتاب اخنوخ الأول

دراسة
لاهوتية فى كتاب اخنوخ الأول

 

1-
كتاب اخنوخ كلمة من السماء

حين
استعمل كتّاب أخنوخ فناً أدبياً يرتبط بعالم الرؤيا، دلّوا على اعتقادهم بأنهم
ينقلون كلمة سماويّة. وعكس ما يمكن أن نتوقّع، إن لفظة “كشْف أو رؤيا”
لم تستعمل في هذه المجموعة، وفعل “كشف” نادر جداً: 7: 1؛ 8: 3؛ 9: 6، 8؛
13: 2 بالنسبة إلى الأسرار التي حملها الساهرون المتمرّدون: 10: 2؛ 107: 3 بالنسبة
إلى ما نعلم عن نوح والطوفان؛ 106: 19؛ 91: 14؛ 94: 2 بالنسبة إلى ما نال أخنوخ من
كشف وكيف يعلنه في نهاية الزمن. فهناك عدد كبير من ايحاءات نالها اخنوخ تسمّى
“حكمة” (5: 8؛ 32: 3- 6؛ 37: 1- 4؛ 82: 2- 3؛ 92: 1؛ 93: 8؛ 10؛ 94: 5؛
104: 12؛ 105: 1). وفعل “أعطي” يدلّ على أصل إلهي (5: 8؛ 37: 4؛ 93: 10؛
104: 12). هذا ما نسمّيه المجهول الالهي. أعطي أي الله أعطى.

إن
المجموعة الاخنوخيّة هي وديعة أرضيّة من الحكمة جاءت من العالم الخفيّ. وقد تأمّل
فيها الكتّاب حيث تماهى الحكيم الأولاّني والرائي. وهكذا لا يهتمّ الانسان
بالمسيرة التاريخيّة التي بها تجسّدت هذه الحكمة في هذه النصوص، بل في تماهيها مع
الحكمة السماويّة وارتباطها بصورة قديمة أدركت على أنها الينبوع الجوهري والوسيط
لمثل هذه الحكمة.

فالحكمة
الاخنوخيّة لها وظيفة خلاصيّة. هي التوراة في معنى واسع. وبعض وجهاتها تكشف
الشريعة التي تجسّدُ إرادة الله التي يجب أن نطيعها إذا أردنا الخلاص. وهي تقدّم
تعليماً حول الدينونة الآتية التي بها سيخلّص الله الطائعين ويحكم على العصاة. وهكذا
يكون الكشف الأخنوخي للحكمة وجواب الانسان لها، ضروريّين من أجل الخلاص، أو
الحياة، أو البركة.

هذه
النظرة إلى الحكمة هي في وظيفتها شبيهة بفهم ابن سيراخ للحكمة. فحين نقرأ سي 24،
نفهم أن ابن سيراخ لا يرى في التوراة الموسويّة ظاهرة تنضمّ إلى جبل سيناء، بقدر ما
يرى فيها مقاماً دائماً لحكمة وُجدت منذ البدء في السماء، ووظيفتها في إعطاء
الحياة، تمرّ بها عبر تفسيرها بواسطة الحكماء. فالفروقات لدى هذين الكاتبين في فهم
الحكمة تلفت النظر. عرض ابن سيراخ ما فهم بالتوراة الموسويّة. ورأيه في خصائص حكمة
أخنوخ يبقى غير أكيد (44: 16 يطرح مشكلة نصوصيّة). وإذا توقّفنا عند وسائل الكشف،
يبدو متردّداً في ما يتعلّق بالاحلام والرؤى (34: 1- 8). ويختلف عن كاتب الرسالة
فلا يحصر الخلاص في الذين قبلوا تفسيره للتوراة.

 

2-
الثنائيّة في كتابات أخنوخ

 

حين
استعمل كتّاب أخنوخ الفن الجلياني، فقد فعلوا بالنظر إلى فهم للواقع التاريخيّ
والكونيّ الذي يمتدّ في المجموعة فيبدو جوهرياً في عرضها. فالعالم الظاهر هو
انعكاس للعالم الخفيّ الذي لا تُعرف حقائقه المتشعبّة إلاّ إذا كُشفت. فطبيعة
ووظيفة هذه الثنائيّة، وبالتالي استعمال الفن الأدبي الجلياني، هي مهمّة لتحديد
ميزات المجموعة الاخنوخيّة، وللاشارة إلى تحوّلات هامة في التقليد البيبليّ.

إن
الثنائية المكانيّة جزء لا يتجزّأ من عرض التوراة الأخنوخيّة. وإن كانت معلوماتنا
ضئيلة حول مجمل التوراة التي أخذت بها الحلقات التي دوّنت المجموعة الاخنوخيّة،
فمن الواضح أن العمل بالكلندار على ما يجب، يلعب دوراً هاماً. الذي السبب، ضخّم
بعض الكتّاب المعرفة الموحاة للعالم الخفيّ، النيّرات السماويّة، وهي معرفة
ضروريّة لسلوك قديم.

وهناك
وجهات هامة في فهم كتّاب أخنوخ لطبيعة الشرّ، قد سيطرت عليها نظرة إلى العالم
شرّيرة. فالبشر مسؤولون عن أعمالهم، وهم سوف يجازون شراً أو خيراً في الدينونة
العظمى. ومع ذلك، فكتّاب أخنوخ ينسبون إلى العالم الشيطانيّ الخفيّ جزءاً هاماً من
الشرور في هذا العالم. وتخصّص المجموعةُ مساحة واسعة للسطر التي ترسم أصول ذاك
العالم بالنسبة إلى التمرّد الملائكيّ الذي اتخذ مكاناً له في ملكوت السماوات
والماضي الأوّلاني الخفيّ.

وبعد
أن توقّف الكتّاب عند طابع الشرور وأصلها العلويّ، بحثوا عن دواء عبر التاريخ وعبر
العالم المحسوس. من جهة، يكمن الدواء في مُقبل خفيّ. وهذا يحصل حين تبدأ دينونة
الله في دهر جديد يختلف في النوعيّة عن الدهر الحاضر، وحين تصبح نيّة الخالق
الاولانيّة واقعاً مستمراً، وحين يُقتلع الشرّ إلى الأبد. ومن جهة ثانية، بدأ
الحلّ مسيرته في خدر العرش الخفيّ، في ملكوت السماوات، حيث يعارض الملائكة
الشياطين مدافعين ومهيّئين الخلاص، وفي تراجع سريّ للكون حيث تنتظر أماكن العقاب
أو هي منذ الآن تطالب بضحاياها.

 

3-
النظرة اللاهوتيّة في كتاب أخنوخ

 

يشهد
1 أخن على التلاقي بين عدّة تيّارات اجتماعيّة وحضاريّة ودينيّة برزت في العالم
اليهوديّ بعد المنفى. فالاعتقاد هو أساسيّ بأن إرادة الله قد كُشفت وأنها ستُطاع.
فتوراة موسى التي فُسرّت في طريقة خاصّة، قد أخذت بها التوراة الاخنوخيّة وأضافت
إليها، فركّزت على الكوسمولوجيا والكلندار. اعتبر كتّاب أخنوخ أنهم وسطاء وحي حول
الدينونة الاسكاتولوجيّة الكبيرة التي ستجازي الابرار والخطأة على جوابهم لإرادة
الله، وهم مدينون لوجهات من النبوءة في أرض اسرائيل. وهذا واضح في استعمال الفنون
الادبيّة النبويّة، وفي الارتباط بالتقاليد النبويّة الخاصة.

بيد
أن تجسيد هذا التعليم في امتداد التاريخ، وفي رؤى كونيّة، وتحويل النداء الرؤيوي
إلى صعود سماوي، كل هذا يعكس اختلافات هامة ترتبط بالتقليد البيبليّ. إذا تركنا
جانباً التلميحات والعودات المفصَّلة إلى وجهات حيّة وجامدة في العالم المخلوق، في
مركّباته وبنيته، نكون وكأننا نترك ارتباطات نجدها في العالم الحكميّ. فهذه
المواضيع تكمّل التوسّع الزماني للاسكاتولوجيا النبويّة مع بُعد مكانيّ. وكل هذا
يتزيّن عبر استعمال لأشكال وتقاليد نجدها في الأدب الحكميّ.

وعبر
التقاء هذه التيّارات، تظهر في 1 أخن ظاهرة جديدة. فمضمون التوراة قد توسّع،
وتخصّص تفسيره الحقيقي. والكشف عن إرادة الله والمستقبل الاسكاتولوجي، يكتمل
بمعرفة موحاة عن العالم الخفي. وكل هذا يتماهى مع حكمة إلهية ذات بُعد واسع تمرّ
في وساطة الرائي الأولاني والحكيم.

وتلاقي
التيارات العقلية واللاهوتيّة والدينيّة، في 1 أخن، يزداد تعقيداً بعناصر جاءت من
العالم الوثنيّ: أساطير بابليّة حول الحكيم القديم. أساطير يونانيّة حول بروموتاوس
والجبابرة. وجغرافيا ميتولوجيّة وكوسمولوجيا تشترك فيهما بلدان الشرق الأوسط.
فمبدأ التلفيق الانتقائي ليس بجديد في ديّانة اسرائيل، ولكن طريقة المزج هنا تبدو
جديدة.

 

4-
مصدر 1 أخن والإطار الاجتماعيّ

 

إن
الكتابات الاخنوخيّة هي مجموعة من التقاليد ترتبط بعضها ببعض ارتباطاً وثيقاً.
خُلقت، نُقلت، وُسِّعت في حلقة اليهود الاتقياء، في حقبة تمتدّ من القرن الثاني ق.
م. إلى القرن الأول ب. م. وكان الاسيانيون في قمران وارثي هذه المجموعة وناقليها
وإن لم يكن أكيداً أن هذه الجماعة كتبت جزءاً من هذه المجموعة. أن تكون هذه
الجماعة (أو هذه الجماعات) التي خلقت التقاليد الاخنوخيّة، مرتبطة بقمران، فوجود
عدّة مخطوطات في مغاور قمران يدلّ على ذلك. وكذلك التلميحات إلى هذا الأدب في
وثائق جماعة قمران. وأيضاً التشابهات الجوهريّة العديدة بين 1 أخن ومختلف النصوص
الاسيانيّة. وبين هذه التشابهات، كلندار شمسيّ مشترك. عداء تجاه الهيكل الثاني
(وإن اختلفت الاسباب). تذكّر السهر الدينيّ، إصلاح (أو تجديد) الحقبة الهلنستيّة.
الاعتبار بأنهم مختارو الله الأبرار (أبغضوا واضطهدوا) الذين يمتلكون تفسيرَ
التوراة التفسير الضروريّ للخلاص، والنظرَ إلى أسرار الله في نهاية الزمن.
ايديولوجيا حربيّة مشتركة تستبق مشاركة جماعة المختارين في الدينونة الآتية.

هناك
أمور ما زالت عالمة حول الرباط بين جماعة قمران والأدب الاخنوخي. إلاّ أن ما أشرنا
إليه يوجّه دراستنا. ففي الشكل الأول لخبر شميحزا، عكست العودة إلى وحي الله لنوح،
اعتقاد الكاتب بأنه يشكّل مع آخرين بقيّة الأبرار الذين ستخلّصهم معرفتهم للدينونة
الآتية. وزمن تدوين كتاب النيّرات، يدلّ على أن الكلندار الشمسيّ كان من أول عناصر
توراة أخنوخ. وبدت ف 12- 16 وكأنها تعكس عداء تجاه الهيكل كما في القرن الثاني ق.
م. ورؤية الحيوانات، ورؤية الاسابيع، ترسمان هذه العودة إلى زمن بنائه.

إن
كتاب اليوبيلات الذي يعود، على ما يبدو، إلى زمن إصلاح ياسون في أورشليم، يقدّر
تقاليد أخنوخ ويُبرز أهميّة الكلندار الشمسيّ. إلاّ أنه يعكس بعض روح التشيّع،
ويبدو أنه يحصر شجبه للهيكل والكهنوت في الحقبة الهلنستيّة. إن دا 7 و12 يعكس
تقاليد نجدها في 1 أخن 14: 24- 27. ونشاط دانيال الرؤيوي يتوازى مع نشاط أخنوخ.
ومع أننا نعرف الشيء القليل عن “الاتقياء” (حسيديم) المذكورين في 1 و2
مك، فلا شيء في النصوص الاخنوخيّة يمنع النظرية التي تقول: إن هذه النصوص وهذه
الجماعة كانت جزءاً من حركة إصلاحيّة مشتركة أو سلسلة من الحركات. فالعمود الأول
من وثيقة صادوق ورؤيا الاسابيع، يعودان إلى السهر الدينيّ في حقبة يصوّرها
المصدران دون الإشارة إلى العودة والهيكل الثاني. وإن العمود الثامن في نظام
الجماعة يطبّق هذا التقليد على تأسيس جماعة قمران. وغياب كتاب الامثال من مكتبة
قمران يشير إلى أن المجموعة الاخنوخيّة قد نُقلت وتوسّعت بعيداً عن عالم قمران.

مع
أن طبيعة النصوص الاخنوخيّة التي لا نعرف اسم كاتبها (أو كتّابها) تخفي وقائع
اجتماعيّة ونظميّة ووظائفيّة تشكّل عالم الكاتب، إلاّ أننا نجد فيها بعض الإشارات.
فتفسير التقليد الذي قبلت به الجماعة، كان نشاطها الأول. لا شكّ في أن هذا التقليد
نُسب إلى أخنوخ. ومع ذلك نجد البنتاتوكس أو الأسفار الخمسة والانبياء اللاحقين
(أشعيا، إرميا، حزقيال). وفي رؤية الحيوانات، نجد أخباراً تُذكر في الانبياء
السابقين (يش، قض، 1 و2 صم، 1 و2 مل). بالإضافة إلى ذلك، تعكس بعض النظريّات دراسة
عن السماوات، عن الجغرافيا والكوسمولوجيا. فمن جهة المبنى، يذكر القسم الأكبر من
المجموعة أحلاماً ورؤى مع تفسيرها، وذلك في خبر يبدأ مع يوسف بن يعقوب عبر حزقيال
وزكريا ليصل إلى رؤى دانيال.

وارتبط
كل هذا النشاط فاعتبر أنه وساطة وحي. غير أن ما يلفت النظر، ورغم الجذور الموسويّة
والنبويّة لقسم كبير ما هذا التقليد، فالكتّاب لا ينسبون لقب “النبيّ”
إلى أخنوخ ولا إلى أن من الابرار الذي نقرأ عنهم في هذه النصوص. هناك لفظتان
تدلاّن على نشاط وحي. بعض من الأبرار الذين علّموا شريعة الله سُمّوا
“حكماء” (98: 9؛ 99: 10). بما أن “حكمة” اخنوخ هي موحاة،
فاللقب يمتلك رنّة وحي. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، يُدعى أخنوخ
“الكاتب” الحكيم والبارّ (15: 1؛ 92: 1). فمع أن هذه اللفظة تعود إلى
نشاطه على مستوى الكتابة، في تدلّ على محتوى رفيع. حين نتذكّر صورة عزرا والوصف في
سي 24: 39، نرى تماهي الكتّاب مع الحكماء الذين يمتلكون سلطة تفسير التقليد
المقدّس ونقله.

وبعيداً
عن المفسِّرين والناقلين، اعتبر الكتّاب في عمل التفسير، أنهم نالوا توجيهاً
مباشراً على مستوى الوحي يوازي توجيه الأنبياء. فالوظيفة والنظام والممارسة التي
نجدها في لفظتي “حكيم” و”كاتب”، تحتاج إلى دراسة أوفى.
فمخطوطات قمران تقدّم بعض الإشارات في عودتها إلى “معلّم البرّ” الذي
يتوازى لقبه مع لقب أخنوخ (12: 4؛ 15: 1) والذي يُعتبر تفسيره للتوراة والانبياء
مقابلاً لنشاط التقليد الاخنوخي في بعض أنماطه.

كيف
تنظّم كتّاب أخنوخ وقرّاؤه والمتشيّعون له في جماعة أو جماعات؟ هذا يبقى سراً. قد
نجد ما يدلّ على حياة مشتركة في الكلام عن الأبرار المختارين (ف 1- 5)، في رؤيا
الأسابيع، في 104: 12- 14 وفي الامثال التي تتحدّث عن “بيوت الجماعات”.
ولكن تنقصنا معلومات خاصّة وواضحة تشبه تلك التي نجدها في نظام الجماعة والحفريات
الاركيولوجيّة.

 

5-
تقاليد أخنوخ والمسيحيّة الأولى

 

إن
النصوص المحفوظة ما كتابات أخنوخ، ظلّت حتى اكتشافات قمران، في إطار الحلقات
المسيحيّة. فالإطار الحيّ لهذا النقل كان جماعة دينيّة نعمت بغنى العالم الجليانيّ
اليهوديّ، الذي نقلته كتابات أخنوخ. في النهاية بعض الاقوال حول ابن الانسان في
مرقس وفي المعين (متّى ولوقا) عرفت التقليد كما هو في القسم الثاني أو الامثال،
وطبعته بالطابع المسيحيّ. فهناك تقاليد ارتبطت ببطرس الرسول (مت 16: 1؛ 2 بط؛ رؤيا
بطرس) فأخذت عناصر من هذه المجموعة. ونجد انعكاساً عن ذلك في انجيلَيْ متّى ولوقا.

ورؤيا
القديس يوحنا قد استعملت تقاليد اخنوخيّة كما في كتاب الامثال. ورسالة يهوذا (آ
14- 15؛ ترتليانس، في عبادة الاوثان 4؛ عبادة النساء، 3: 1) نسبت إلى أخنوخ وضعاً
نبوياً واوردت القول في البداية والرسالة. وذكر “برنابا” رؤية الحيوان
ورؤية الأسابيع كأنهما “كتاب مقدّس”. وبدا يوستينوس الشهيد (الدفاع
الثاني 5) وايريناوس (ضد الهراطقة 4/ 36: 4) وكأنهما عرفا التقاليد الاخنوخيّة حول
تمرّد الملائكة. ونذكر أيضاً العظات الاقليميّة المزعومة (8: 12 ي). كما نذكر
اكلمنضوس الاسكندراني واوريجانس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار