علم

مثل وكيل الظلم



مثل وكيل الظلم

مثل
وكيل الظلم

كيرلس
الأسكندرى عمود الدين

عظة
108 من تفسير انجيل لوقا للقديس كيرلس الأسكندرى

وَكِيلُ
الظُّلْم

(لو16:
1 9) ” وَقَالَ أَيْضًا لِتَلاَمِيذِهِ: كَانَ إِنْسَانٌ غَنِيٌّ لَهُ
وَكِيلٌ فَوُشِيَ بِهِ إِلَيْهِ بِأنهُ يُبَذِّرُ أَمْوَالَهُ. فَدَعَاهُ وَقَالَ
لَهُ: مَا هَذَا الَّذِي أَسْمَعُ عَنْكَ؟ أَعْطِ حِسَابَ وَكَالَتِكَ لأنكَ لاَ
تَقْدِرُ أَنْ تَكُونَ وَكِيلاً بَعْدُ. فَقَالَ الْوَكِيلُ فِي نَفْسِهِ: مَاذَا
أَفْعَلُ؟ لأن سَيِّدِي يَأْخُذُ مِنِّي الْوَكَالَةَ. لَسْتُ أَسْتَطِيعُ أَنْ
أَنْقُبَ وَأَسْتَحِي أَنْ أَسْتَعْطِيَ. قَدْ عَلِمْتُ مَاذَا أَفْعَلُ حَتَّى
إِذَا عُزِلْتُ عَنِ الْوَكَالَةِ يَقْبَلُونِي فِي بُيُوتِهِمْ. فَدَعَا كُلَّ
وَاحِدٍ مِنْ مَدْيُونِى سَيِّدِهِ وَقَالَ لِلأَوَّلِ: كَمْ عَلَيْكَ لِسَيِّدِي؟.
فَقَالَ: مِئَةُ بَثِّ زَيْتٍ. فَقَالَ لَهُ: خُذْ صَكَّكَ وَاجْلِسْ عَاجِلاً
وَاكْتُبْ خَمْسِينَ. ثُمَّ قَالَ لآخَرَ: وَأَنْتَ كَمْ عَلَيْكَ؟ فَقَالَ: مِئَةُ
كُرِّ قَمْحٍ. فَقَالَ لَهُ: خُذْ صَكَّكَ وَاكْتُبْ ثَمَانِينَ. فَمَدَحَ
السَّيِّدُ وَكِيلَ الظُّلْمِ إِذْ بِحِكْمَةٍ فَعَلَ لأن أَبْنَاءَ هَذَا
الدَّهْرِ أَحْكَمُ مِنْ أَبْنَاءِ النُّورِ فِي جِيلِهِمْ. وَأَنَا أَقُولُ
لَكُمُ: اصْنَعُوا لَكُمْ أَصْدِقَاءَ بِمَالِ الظُّلْمِ حَتَّى إِذَا فَنِيتُمْ
يَقْبَلُونَكُمْ فِي الْمَظَالِّ الأَبَدِيَّةِ “.

 

إن
ربنا يسوع المسيح إذ يُظهِر مجده لجموع اليهود أو بالأحرى لكل من آمنوا به، يقول: ”
أنا هو نور العالم” (يو 12: 8) وأيضًا: ” أنا قد جئت نورًا إلى
العالم”(يو 46: 12)، لأنه هو يملأ ذهن من يخافونه بنور إلهي وعقلي لكي لا
يضلّوا عن الطريق الصحيح بالسير في الظلمة والكآبة، بل لكي بالأحرى يعرفون كيف
يتقدَّمون باستقامة في كل عمل صالح، وفى كل ما من شأنه أن يُعين الإنسان ليحيا
حياة القداسة. لذلك هو يريدنا أن نكون صالحين ومستعدين أن نتصل ببعضنا وأن نحب
بعضنا البعض، وأن نكون رحومين ومتزيّنين بمكارم الإحسان.

 

لذلك
فإنه أعدَّ لنا بمنتهى الحكمة المَثَل الحاضر، ولأننا مشتاقون أن نشرحه بأقصى ما
عندنا من قُدرة، لذلك فنحن بالضرورة نتكلَّم كما يلي لأولئك الذين يحبون التعلّم.

 

وهكذا
فإن الأمثال تشرح لنا بطريقة غير مباشرة ومجازية الكثير مما هو لبنائنا، على شرط
أن نتأمل معناها بطريقة مختصرة وملخَّصة، لأنه ليس لنا أن نفحص كل عناصر المَثَل
بتدقيق وتطفُّل، لئلا تتسبب المجادلة الطويلة جدًّا بإفراطها الزائد، في تعب حتى
أولئك المغرَمين بالاستماع وتنهك الناس بازدحام الكلمات. لأنه لو أن واحدًا مثلاً
يأخذ على عاتقه أن يشرح، مَنْ الذي يجب أن نعتبره الإنسان الذي كان له وكيل، وهو
الذي وُشي به إليه، أو مَنْ هو الذي يمكن أن يكون قد وُشي به، وأيضًا مَنْ هم
المدينون له ثم خَصَمَ جزءً من ديونهم، ولأي سبب قيل إن واحدًا مَدِين بالزيت
والآخر بالقمح، فإنه سيجعل حديثه غامضًا وفى نفس الوقت مطولاً بغير داعٍ وأيضًا
يجعله غامضًا بآنٍ واحد. لذلك فليست كل أجزاء المَثَل هي بالضرورة ومن كل جهة
نافعة لشرح ما تشير إليه الأشياء، بل هي قد أُخذت لتكون صورة لأمر هام معيَّن وهو
يقدِّم درسًا لأجل منفعة السامعين.

 

لذلك
فإن مغزى المَثَل الحالي هو شيء مثلما يأتي:

 


الله يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون” (1تي 4: 2)، فمن أجل
هذا السبب هو أعطى ” الناموس عونًا” بحسب تعبير النبي (إش 20: 8)
والناموس في مِثل هذه المقاطع التي نقولها لا يعني بالطبع ما جاء بواسطة موسى فقط،
بل بالحري كل الكتاب الموحى به الذي بواسطته نتعلَّم الطريق الذي يؤدي باستقامة
إلى كل شيء صالح وخلاصي. لذلك فإن رب الكّل يريدنا أن نكون راسخين تمامًا في سعينا
نحو الفضيلة، وأن نُثبِّت رغباتنا نحو الحياة المقدَّسة الأفضل وأن نحرِّر أنفسنا
من ارتباكات العالم ومن كل محبة للغنى ومن اللّذة التي تجلبها الثروة، لكي ما نخدم
الله باستمرار، وبعواطف غير منقسمة، لأنه يقول أيضًا بقيثارة المرنم: ”
ثابروا واعلموا أني أنا هو الله” (مز 10: 46) وأيضًا فإن مخلِّص الكّل يقول
بفمه لكل مَنْ يقتنون ثروات دنيوّية: ” بيعوا ما لكم وأعطوا صدقة، اعملوا لكم
أكياسًا لا تفنى وكنزًا لا ينفد في السموات” (لو 33: 12).

 

إن
هذه الوصية هي في الواقع لأجل خلاصنا، لكن ذهن الإنسان ضعيف جدًّا أو مثبَّت
باستمرار على أمور أرضيّة وهو غير راغب في الابتعاد بنفسه عن لذَّة الغنى. إنه ذهن
يحب المجد الباطل ويرتضي جدًّا بمديح المنافقين، ويتوق إلى التجهيزات الجذابة، ولا
يحب شيئًا أفضل من الكرامة المؤقتة. والمخلِّص نفسه لأنه يعرف هذا، فقد قال عنه في
موضع ما: ” ما أعسر دخول ذوى الأموال إلى ملكوت الله” (لو 24: 18)،وأيضًا:
” لأن دخول جمل من ثقب أبره أيسر من أن يدخل غنى إلى ملكوت الله” (لو 25:
18). لأنه طالما أن الإنسان يعيش في غنى ولذّة فإنه يهمل التقوى من نحو الله، لأن
الثروة تجعل الناس متكبّرين وتزرع في أذهان مَنْ يمتلكونها بذار كل شهوانية.

 

إذن
أليس هناك طريق لخلاص الأغنياء؟ وألا توجد وسيلة لجعلهم شركاء في رجاء القديسين؟
هل هم قد سقطوا تمامًا من نعمة الله؟ هل جهنم والنار مُعدة لهم بالضرورة مثلما هي
نصيب إبليس وملائكته؟

 

لا،
ليس الأمر هكذا، انظر فهوذا المخلِّص قد أظهَرَ لهم وسيلة للخلاص في المَثَل
الحاضر فقد جعلهم الله موكَّلين على ثروة عالمية بسماح ورحمة من الله القدير، لكن
بحسب قصده فقد جُعلوا وكلاء لأجل الفقراء، لكنهم لم يقوموا بوكالتهم بطريقة صائبة
فهم يبعثرون ما قد أُعطي لهم من الرب، لأنهم يبدِّدونه على ملذاتهم فقط، واشتروا
به كرامات مؤقتة غير متذكرين الله الذي يقول: ” ابسط مراحمك لأخيك، ذلك الذي
يحتاج إليك” (تث 8: 15 س)، ولا متذكرين أيضًا المسيح نفسه مخلِّصنا جميعًا
والذي يقول: ” كونوا رحماء كما أن أباكم أيضًا رحيم” (لو 36: 6). لكنهم
كما قلت لا يعملون أي اعتبار لإظهار الرحمة لإخوتهم، بل يغذّون فقط كبرياءهم. هذه
هي التهمة التي توجَّه إليهم أمام رب الكّل. ومن الطبيعي أنهم عند اقتراب الموت
يلزمهم أن يتوقفوا عن وكالتهم، بإنتهاء الأعمال البشرّية، لأنه لا يمكن لأحد أن
يفلت من شبكة الموت. فماذا يريدهم المسيح أن يفعلوا إذن؟ إنهم بينما هم لا يزالون
في هذا العالم، حتى ولو كانوا غير راغبين في إعطاء كل ثروتهم للفقراء، فعلى الأقل
عليهم أن يقتنوا لهم أصدقاء بجزء منها، وأن يقتنوا لهم شهودًا كثيرين لإحسانهم أي
أولئك الذين نالوا خيرًا على أيديهم، حتى إذا انقطعت عنهم ثروتهم الأرضيّة، يمكنهم
أن يقتنوا لهم موضعًا في مظالهم، لأنه من المستحيل أن تكون محبة الفقراء بلا
مكافأة. لذلك سواء أعطى الإنسان كل ثروته أو أعطى جزءً منها، فإنه بالتأكيد سوف
ينفع روحه.

 

لذلك
فهو عمل يليق بالقديسين وجدير بالمديح الكامل والذي يؤدي إلى ربح الأكاليل التي
فوق، أن لا يكنز الإنسان ثروة أرضيّة، بل أن يوزّعها على من هم في احتياج لكي يكنز
بالأحرى ما هو في السموات، ويحصل على أكياس لا تفنى (انظر لو32: 12)، ويقتنى كنزًا
لا يفنى، ويلي ذلك أن يستخدموا نوعًا من التحايل ليكسبوا القريبين من الله كأصدقاء
لهم، بأن يعطوهم جزءً من ثروتهم، ويريحوا كثيرين من الفقراء، لكي بهذا يمكنهم أن
يشاركوهم فيما هو لهم. وينصح الحكيم جدًّا بولس الرسول بشيء من هذا النوع قائلاً
للذين يحبون الثروة: ” لكي تكون فضالتكم لأعوازهم، كي تصير فضالتهم
لأعوازكم” (2كو 14: 8).

 

لذلك
فمن الواجب علينا، إن كان لنا قلب مستقيم، وإذا ثبَّتنا عين الذهن على ما سوف يكون
فيما بعد، وإذا تذكّرنا الكتاب المقدس الذي يقول بوضوح: إننا جميعًا سنظهَر أمام
كرسي المسيح لينال كل واحد ما كان بالجسد بحسب ما صنع خيرًا كان أم شرًا (2كو 10: 5)،
إن كنا نخاف اللهيب الشديد الذي لا يخمد، أن نتذكّر الله الذي يريدنا أن نُظهِر
رحمة نحو إخوتنا، وأن نتألم مع المرضى، وأن نبسط أيدينا لمن هم في احتياج، وأن
نكّرم القديسين الذين يقول المسيح عنهم: ” من يقبلكم يقبلني ومن يقبلني يقبل الذي
أرسلني” (مت 40: 10) ولأن الرحمة للإخوة إنما هي ليست بدون فائدة أو نفع،
لذلك يعلِّمنا المخلّص نفسه ويقول: ” مَنْ يُعطي كأس ماء بارد باسم تلميذ لن
يضيع أجره” (مت 42: 10). لأن مخلِّص الجميع هو سخي في العطاء: الذي به ومعه
لله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى أبد الآبدين.

 

 

عظة
109

الأَمِينُ
في القْلَيِلِ


لاَ تَقْدِرونَ أنْ تَخْدِموا الله وَاْلماَلَ “

(لو16:
10 13): ” اَلأَمِينُ فِي الْقَلِيلِ أَمِينٌ أَيْضًا فِي الْكَثِيرِ
وَالظَّالِمُ فِي الْقَلِيلِ ظَالِمٌ أَيْضًا فِي الْكَثِيرِ. فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا
أُمَنَاءَ فِي مَالِ الظُّلْمِ فَمَنْ يَأْتَمِنُكُمْ عَلَى الْحَقِّ؟. وَإِنْ
لَمْ تَكُونُوا أُمَنَاءَ فِي مَا هُوَ لِلْغَيْرِ فَمَنْ يُعْطِيكُمْ مَا هُوَ
لَكُمْ؟. لاَ يَقْدِرُ خَادِمٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ لأنهُ إِمَّا أَنْ
يُبْغِضَ الْوَاحِدَ وَيُحِبَّ الآخَرَ أَوْ يُلاَزِمَ الْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ
الآخَرَ. لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا اللهَ وَالْمَالَ “.

 

المعلِّمون
الأكثر خبرة وامتيازًا عندما يرغبون في تثبيت أي تعليم هام في عمق أذهان تلاميذهم،
فإنهم لا يغفلون أي نوع من التفكير يستطيع أن يلقي ضوءًا على الغرض الرئيسي
لأفكارهم. فمرّة ينسجون الحجج معًا، ومرة أخرى يستخدمون أمثلة مناسبة، وهكذا
يجمعون من كل حدب وصوب أي شيء يخدم غرضهم. وهذا ما نجد أن المسيح أيضًا يفعله في
أماكن كثيرة، وهو الذي يعطينا كل حكمة. لأنه كثيرًا ما يكرّر نفس الحجج بعينها حول
الموضوع أيًا كان لكي ما يُرشد ذهن سامعيه إلى الفهم لكلماته بدقة. لذا أتوسَّل
إليكم أن تنظروا ثانية إلى مغزى الدروس الموضوعة أمامنا. لأنه هكذا ستجدون أن
كلماتنا صحيحة، وهو يقول: ” الأمين في القليل أمين أيضًا في الكثير، والظالم
في القليل ظالم أيضًا في الكثير”.

 

لكن
قبل أن أسترسل، أعتقد أنه من المفيد أن نتأمل في ما هي مناسبة مِثَْل هذا الحديث،
ومن أي أصل نشأ، لأن بهذا سيصير معنى الكلام واضحًا جدًّا. كان المسيح آنذاك
يُعلِّم الأغنياء أن يشعروا ببهجة خاصة في إظهار الشفقة والعطف نحو الفقراء، وفى
مد يدّ العون لكل من هم في احتياج، وهكذا يكنزون لهم كنوزًا في السماء، ويتفكرون
مقدمًا في الغنى المُذخر لهم، لأنه قال: ” اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظلم حتى
إذا فنيتم يقبلونكم في المظال الأبدية” (لو 9: 16). لكن إذ هو إله بالطبيعة،
فهو يعرف جيدًا كسل الذهن البشرّى من جهة كل عمل جاد وصالح. ولم يغب عن معرفته، أن
البشر في طمعهم في المال والثروة يسلِّمون ذهنهم لحب الربح، وإذ تتسلّط عليهم هذه
الشهوة، فإنهم يصيرون قساة القلوب ولا يبدون مشاركة وجدانية في الألم، ولا يظهرون
أي شفقة أيًّا كانت للفقراء رغم أنهم قد كدّسوا ثروات كثيرة في خزائنهم. لذلك
فأولئك الذين يتفكرون هكذا ليس لهم نصيب في هبات الله الروحية، وهذا ما يظهره
(الرب) بأمثلة واضحة جدًّا إذ يقول: ” الأمين في القليل أمين أيضًا في الكثير،
والظالم في القليل ظالم أيضًا في الكثير “.

 

يارب
اشرح لنا المعنى، وافتح عين قلبنا. لذلك أنصتوا إليه بينما هو يشرح بوضوح ودقة ما
قاله. ” إن لم تكونوا أمناء في مال الظلم، فمن يأتمنكم على الحق؟” (لو
11: 16)، فالقليل إذن هو مال الظلم، أي الثروة الدنيوية التي جُمعت في الغالب
بالابتزاز والطمع. أما مَنْ يعرفون كيف يعيشون بالتقوى، ويعطشون إلى الرجاء المكنوز
لهم، ويسحبون ذهنهم من الأرضيات، ويفكّرون بالأحرى في الأمور التي فوق، فإنهم
يزدرون تمامًا بالغنى الأرضي، لأنه لا يمنح شيئًا سوى الملذات والفجور والشهوات
الجسدانية الوضيعة، والأبهة التي لا تنفع، بل هي أبهة مؤقتة وباطلة وهكذا يعلّمنا
أحد الرسل الأطهار قائلاً: ” لأن كل ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العيون
وتعظم المعيشة” (1يو 16: 2).

 

لكن
مثل هذه الأشياء هي لا شيء بالمّرة لمن يحيون حياة رزينة وتقيّة، لأنها أشياء
تافهة، ومؤقتة، ومملوءة بالنجاسة وتؤدى إلى النار والدينونة، ونادرًا ما تستمر إلى
نهاية حياة الجسد، وحتى إن استمرت، فإنها تزول على غير توقع عندما يحّل أي خطر
بأولئك الذين يمتلكونها. لذلك يوبخ تلميذ المسيح الأغنياء بقوله: ” هلّم الآن
أيها الأغنياء ابكوا مولولين على شقاوتكم القادمة، غناكم قد تهرأ وثيابكم قد أكلها
العث ذهبكم وفضتكم قد صدئا، وصدأهما يكون شهادة عليكم” (يع 1: 53). فكيف صدأ
الذهب والفضة؟ بكونهما مخزونين بكميات هائلة، وهذا بعينه هو شهادة ضدهم أمام منبر
الدينونة الإلهي، لكونهم غير رحومين، لأنهم جمعوا في كنوزهم كميات كبيرة لا
يحتاجون إليها، ولم يعملوا أي اعتبار لمن كانوا في احتياج، مع أنه كان في استطاعتهم
لو هم رغبوا أن يصنعوا خيرًا بسهولة لكثيرين، ولكنهم لم يكونوا أمناء في القليل.

 

لكن
بأي طريقة يمكن للناس أن يصيروا أمناء؟ هذا ما علَّمنا إياه المخلِّص نفسه بعد ذلك،
وأنا سأشرح كيف…

 

طلب
أحد الفريسيين منه أن يأكل خبزًا عنده في يوم السبت، وقَبِلَ المسيح دعوته، ولما
مضى إلى هناك جلس ليأكل، وكان كثيرون آخرون أيضًا مدعوين معه، ولم يكن أحد منهم
تظهر عليه سمات الفقر، بل على العكس كانوا كلهم من الوجهاء وعلية القوم ومحبّين
للمجالس الأولى ومتعطشين للمجد الباطل كما لو كانوا متسربلين بكبرياء الغنى. فماذا
قال المسيح لمن دعاه: ” إذا صنعت غذاء أو عشاء فلا تدعُ أصدقاءك ولا إخوتك
ولا أقرباءك ولا الجيران الأغنياء لئلا يدعوك هم أيضًا فتكون لك مكافأة، بل إذا
صنعت ضيافة فادعُ المساكين الجدع والعرج والعمي، فيكون لك الطوبى إذ ليس لهم حتى
يكافئوك، لأنك تُكافئ في قيامة الأبرار” (لو 12: 1414). هذا هو إذن ما اعتقد
أنه معنى أن يكون الإنسان أمينًا في القليل، أي أن تكون له شفقة على مَنْ هم في
احتياج، ويوزِّع مساعدة ممّا لديّه لمن هم في ضيق شديد. لكن نحن بازدرائنا بالطريق
المجيد والذي له مجازاة أكيدة، فإننا نختار طريقًا معيبًا وبلا مكافأة، وذلك بأن
نعامل باحتقار مَنْ هم في فقر مدقع، بل ونرفض أحيانًا أن نسمح لكلماتهم أن تدخل
آذاننا، بينما نحن من ناحية أخرى نُقيم وليمة مكلّفة وببذخ شديد إما لأصدقاء
يعيشون في رغد، أو لمن اعتادوا أن يمدحوا أو يداهنوا جاعلين كرمنا فرصة لإشباع
حبنا للمديح.

 

لكن
هذا لم يكن هو قصد الله من سَمَاحِه لنا أن نمتلك ثروة، لذلك فإن كنا غير أمناء في
القليل بعدم تكييف أنفسنا وفقًا لمشيئة الله، وبإعطاء أفضل قِسْم من أنفسنا
لملذاتنا وافتخاراتنا، فكيف يمكننا أن ننال منه ما هو حق؟ (أو ما هو حقيقي). وماذا
يكون هذا الحق؟ هو الإنعام الفائض لتلك العطايا الإلهية التي تزيّن نفس الإنسان،
وتجعل فيها جمالاً شبيهًا بالجمال الإلهي. هذا هو الغنى الروحي، وليس الغنى الذي
يسمِّن الجسد المُمسك بالموت، بل هو بالأحرى ذلك الغنى الذي يُخلِّص النفس ويجعلها
جديرة بأن يُقتدى بها، ومكرَّمة أمام الله، والذي يكسبها مدحًا وأمجادًا حقيقية.

 

لذلك
فمن واجبنا أن نكون أمناء لله، أنقياء القلب، رحومين وشفوقين، أبرارًا وقديسين،
لأن هذه الأمور تطبع فينا ملامح صورة الله، وتكمِّلنا كورثة للحياة الأبدية، وهذا
إذن هو ” الحق “.

 

وكون
أن هذا هو مغزى ومقصد كلمات المخلِّص، فهذا هو ما يمكن لأي شخص أن يعرفه بسهولة
مما يلي، لأنه يقول: ” إن لم تكونوا أمناء فيما هو للغير فمن يعطيكم ما هو
لكم؟”. وأيضًا نحن نقول إن ” ما هو للغير” هو الغنى الذي نمتلكه،
لأننا لم نولد أغنياء بل على العكس، فقد وُلِدنَا عُراة، ويمكننا أن نؤكد هذا عن
حق بكلمات الكتاب: ” لأننا لم ندخل العالم بشيء، وواضح أننا لا نقدر أن نخرج
منه بشيء” (1تي 7: 6)، لأن أيوب الصبور قد قال أيضًا شيئًا من هذا القبيل: ”
عريانًا خرجت من بطن أمي وعريانًا أعود إلى هناك” (أي 21: 1). لذلك، فلا يملك
أى إنسان بمقتضى الطبيعة أن يكون غنيًا، وأن يحيا في غنى وفير، بل إن الغنى هو شيء
مُضاف عليه من خارجه، فهو مجرد إمكانية (أى يمكن أن يوجد أو لا يوجد)، فلو باد
الغنى وضاع فهذا أمر لا يخلّ بأي حال بخصائص الطبيعة البشريّة، فإنه ليس بسبب
الغنى نكون كائنات عاقلة وماهرين في كل عمل صالح، بل إن هذه هي خاصية للطبيعة
البشرية أن نتمكّن من عمل هذه الأشياء. لذلك كما قلت فإن ” ما هو للغير
” لا يدخل ضمن خصائص طبيعتنا، بل على العكس فمن الواضح أن الغنى إنما هو
مُضاف إلينا من الخارج. ولكن ما هو لنا، وخاص بالطبيعة البشريّة هو أن نكون
مؤهَّلين لكل عمل صالح، كما يكتب الطوباوي بولس: ” قد خُلقنا لأعمال صالحة قد
سبق الله فأعدها لكي نسلك فيها” (أف 10: 2).

 

لذلك
فعندما يكون البعض غير أمناء ” فيما هو للغير”، أي في تلك الأشياء التي
هي مضافة إليهم من الخارج، فكيف سينالون ما هو لهم؟ كيف سيصيرون شركاء الخيرات التي
يعطيها الله والتي تزيِّن نفس الإنسان وتطبع فيها جمالاً إلهيًا، يتشكّل فيها
روحيًا بواسطة البّر والقداسة، وبتلك الأعمال المستقيمة التي تُعمل في مخافة الله.

 

لذلك
ليت مَنْ يمتلكون منا ثروة أرضية، يفتحون قلوبهم لأولئك الذين هم في احتياج وعوز،
ولنظهر أنفسنا أمناء ومُطيعين لوصية الله، وتابعين لمشيئة ربنا في تلك الأشياء
التي هي من خارج وليست هي لنا لكي ما ننال ما هو لنا، الذي هو ذلك الجمال المقدس
والعجيب، الذي يُشكلِّه الله في نفوس الناس إذ يصوغهم على مثاله، بحسب ما كنا عليه
في الأصل.

 

أما
أنه شيء مستحيل لشخص واحد بعينه أن يقسّم ذاته بين متناقضات ويمكنه مع ذلك أن يحيا
حياة بلا لوم، فالرب يوضح هذا بقوله: ” لا يقدر خادم أن يخدم سيدين لأنه إما
أن يبغض الواحد ويحب الآخر أو يكرم الواحد ويحتقر الآخر” (لو 13: 16). وهذا
في الواقع مثال واضح وصريح ومناسب جدًّا لشرح الموضوع الذي أمامنا، لأن الذي يترتب
على هذا هو خُلاصة المناقشة كلها: ” لأنكم لا تقدرون أن تخدموا الله
والمال”، وهو يقول: لأنه لو كان لإنسان أن يكون خادمًا لسيدّين لهما مشيئتان
مختلفتان ومتضادتان، وفكر كل واحد منهما غير قابل للتصالح مع الآخر، فكيف يمكنه أن
يرضيّهما كليهما؟ لأنه بسبب كونه منقسمًا في سعيه أن يعمل ما يوافق عليه كل منهما،
يكون هو نفسه في تعارض مع مشيئتيهما معًا، وهكذا فإن نفس الشخص يلزمه حتمًا أن
يُظهر أنه شرير وصالح، لذلك يقول (الرب)، إنه لو قرَّر أن يكون أمينًا للواحد فإنه
سيبغض الآخر، وهكذا سيعتبره طبعًا كلا شيء، لذلك يستحيل أن نخدم الله والمال. فمال
الظلم، الذي يُقصَد به الغنى، هو شيء يُسلِّم للشهوانية، وهو معرَّض لكل لوم،
ويولِّد الافتخار ومحبة اللّذة، ويجعل الناس غلاظ الرقبة وأصدقاء للأشرار
ومتكبِّرين، نعم، أية رذيلة دنيئة لا يسببها في أولئك الذين يمتلكونه؟!

 

لكن
مسرّة الله الصالحة تجعل الناس لطفاء هادئين متواضعين في أفكارهم، طويلي الأناة،
رحومين، ولهم صبر نموذجي، غير محبين للربح، غير راغبين في الغنى وقانعين بالقوت
والكسوة فقط، ويهربون على الأخص من محبة المال الذي هو أصل لكل الشرور (1تي 10: 6)،
ويباشرون بفرح الأتعاب لأجل التقوى، ويهربون من محبة اللّذة، ويتحاشون باجتهاد كل
شعور بالتعب والكلل في الأعمال الصالحة، ودائمًا يُقدِّرون السعي إلى الحياة
باستقامة وممارسة كل اعتدال باعتبار أن هذه الأشياء هي التي تربح لهم المكافأة.
هذا هو “ما هو لنا” وما “هو الحق “، هذا هو ما سيسبغه الله
على مَنْ يحبون الفقر، ويعرفون كيف يوزعون على من هم في احتياج ” ما هو
للغير” ويأتي من الخارج، أي غناهم الذي يُعرَف أيضًا باسم المال. فليتّه يكون
بعيًدا عن ذهن كل واحد منا أن نكون عبيدًا له (المال)، لكي بهذا يمكننا بحريّة
وبدون عائق أن نحني عنق ذهننا للمسيح مخلّصنا كلنا، الذي به ومعه لله الآب يحق
التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى أبد الآبدين أمين.

 

عظة
110

محبة
المال الكبرياء

(لو16:
14 17): ” وَكَانَ الْفَرِّيسِيُّونَ أَيْضًا يَسْمَعُونَ هَذَا كُلَّهُ
وَهُمْ مُحِبُّونَ لِلْمَالِ فَاسْتَهْزَأُوا بِهِ. فَقَالَ لَهُمْ: أَنْتُمُ
الَّذِينَ تُبَرِّرُونَ أَنْفُسَكُمْ قُدَّامَ النَّاسِ! وَلَكِنَّ اللهَ يَعْرِفُ
قُلُوبَكُمْ. أن الْمُسْتَعْلِيَ عِنْدَ النَّاسِ هُوَ رِجْسٌ قُدَّامَ اللهِ.
كَانَ النَّامُوسُ وَالأَنْبِيَاءُ إِلَى يُوحَنَّا. وَمِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ
يُبَشَّرُ بِمَلَكُوتِ اللهِ وَكُلُّ وَاحِدٍ يَغْتَصِبُ نَفْسَهُ إِلَيْهِ.
وَلَكِنَّ زَوَالَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ تَسْقُطَ نُقْطَةٌ
وَاحِدَةٌ[1] مِنَ النَّامُوسِ..”.

 

يا
إخوتي إن محبة المال هي داء شرير جدًّا وليس من السهل التحرُّر منه، لأنه بعد أن
يزرع الشيطان هذا المرض في نفس الإنسان فإنه يبدأ أن يعميه ولا يسمح له أن ينصت
إلى كلمات الوعظ لكي لا نجد لأنفسنا سبيلاً للشفاء يستطيع أن يخلِّص من البؤس
أولئك الذين وقعوا في شراكه. وأرجوكم أيضًا أن تلاحظوا مدى صدق كلامي في هذا
الموضوع من مثال الفريسيين، لأنهم كانوا محبين للمال ومغرمين بالربح وينظرون
باحتقار إلى مجرد الاكتفاء، لأنه يمكن للمرء أن يري أنهم ملومون لهذا السبب نفسه
عندما يرجع إلى الكتب الإلهية الموحَى بها. إذ قيل بصوت إشعياء لأورشليم أُم
اليهود: ” رؤساؤك متمردون وشركاء اللصوص، كل واحد منهم يحب الرشوة ويتبع
العطايا، لا يقضون لليتيم ولا يلتفتون إلى دعوى الأرملة” (إش 23: 1 س).
وأيضًا قال حبقوق النبي: ” حتى متى يارب أدعو وأنت لا تسمع، أصرخ إليك من
الظلم وأنت لا تخلِّص؟ القضاء أمامي والقاضي أخذ رشوة ولذلك فالشريعة لا تنفع ولا
يصل الحكم إلى الاكتمال، لأن الشرير ينتصر على الصديق، لذلك يخرج الحكم
معوجًا” (حب 2: 14 س). لأنه كما قلت بسبب كونهم محبيّن للربح، فإنهم يحكمون
باستمرار في الأمور التي أمامهم ليس حسب ما يوافق شرائع الله، بل على العكس يقضّون
بالظلم وبما يتناقض مع مشيئة الله.

 

ثم
إن المخلّص نفسه وبخّهم هكذا قائلاً: ” ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون
المراءون، لأنكم تعشرون النعنع والشبث والكمون وتركتم أثقل ما في الناموس، الحق
والرحمة والإيمان” (مت 23: 23). لأنه إذ قد أعطاهم الناموس حق قبول العشور،
فإنه امتدوا ببحثهم وراء العشور بتدقيق حتى وصلوا لأتفه النباتات وأقلها أهمية،
بينما لن يعطوا سوى اعتبار قليل لأمور الشريعة الأثقل، أي لتلك الوصايا التي كانت
واجبة وضرورية وكانت لخير الناس.

 

لذلك
يقول الإنجيل: ” لأن الفريسيين كانوا محبين للمال”، فإنهم استهزأوا
بيسوع لأنه كان يوجهّهم بتعاليمه الخلاصية إلى طريقة سلوك جديرة بالمدح، وجعلهم
راغبين في أمجاد القديسين. وهو يخبرهم بأنه كان يجب عليهم أن يبيعوا ممتلكاتهم
ويوزعوا على الفقراء. لأنهم بهذا يقتنون لهم كنزًا في السماء لا يمكن أن يُسرق،
وأكياس لا تبلى، وغنى لا يضيع ولا يفنى، إذن فلماذا سَخرَ منه الفريسيون؟ لأن
التعليم كان خلاصيًا بالتأكيد وطريقًا للرجاء في الأمور الآتية وباباً يؤدي إلى
الحياة غير الفانية. لأنهم كانوا يتعلّمون منه أساليب النجاح الحقيقي، ويتعلّمون
كيف ينبغي أن يمسكوا بإكليل الدعوة السماوية، وأيضًا كيف يصيرون شركاء مع القديسين،
وأبناء المدينة التي فوق، أي أورشليم التي في السماء والتي هي حُرَّة حقًا وأم
الأحرار. ولأنه هكذا يكتب بولس المبارك: ” وأما أورشليم العليا التي هي أمنا
جميعًا فهي حرة” (غل 26: 4). فلماذا استهزأوا به إذن؟

 

لننظر
إلى سبب شرهم. لقد تملّك داء الطمع على قلبهم، وإذ صار ذهنهم مستعبدًا للطمع فإنه
أصبح خاضعًا له حتى ضد إرادته، ومذلولاً تحت قوة الشر، ومقيدًا بقيود لا فكاك منها.

 

يقول
كاتب سفر الأمثال إن: ” كل إنسان مُقيَّد بحبال خطاياه” (أم 22: 5 س).
فكما أن أكثر أمراض الجسد خبثًا لا تقبل علاجات الطب، وكأنها تهرب من الشفاء وحتى
إن استخدم أحدهم ذلك العلاج الذي يؤدي إلى الشفاء بطبيعته، فإنها تتهيج أكثر وتثور
مهما كان اللطف الذي يعاملها به فن الطب، هكذا أيضًا تلك الشهوات التي تتعرض لها
نفوس الناس، فإنهم يكونون أحيانًا معاندين ويرفضون الإنصات للنصح، ولا يسمعون كلمة
واحدة تدعوهم لترك الشر وتوجهّهم إلى طريق أفضل. وكما أن الخيول الجامحة والمشاكسة
والزائدة النشاط لن تطيع اللُجم، كذلك أيضًا ذهن الإنسان عندما يكون تحت تأثير
الشهوة، وميالاً تمامًا للانقلاب إلى الشر، فإنه يكون عاصيًا وعنيدًا ويرفض الشفاء
بكراهية شديدة.

 

لذلك
بعد أن كلّمهم مخلّص الجميع بكلمات كثيرة، ورأى أنهم لم يتغيروا عن شهواتهم
ومقاصدهم الماكرة، بل فضّلوا بالأحرى أن يظلّوا في حماقتهم الغريزية، فإنه لجأ
أخيرًا إلى توبيخات أشد. لذلك ففي هذه المناسبة يُظهِر أنهم مراءون وكذَّابون
يستغلون[2] المذبح طلبًا للمديح ويتلهّفون على الكرامة التي يستحقها الأبرار
والصالحون دون أن يكونوا كذلك فعلاً وهم غير جادين في طلب رضا الله، بل على العكس
يفتّشون بحماس عن المجد الذي من الناس. لذلك، يقول: ” أنتم الذين تبررون
أنفسكم قدام الناس. ولكن الله يعرف قلوبكم، إن المستعلي عند الناس هو رجس قدام
الله”

 

(لو
15: 16)، وهذا ما يقوله لهم أيضًا في موضع آخر: ” كيف تقدرون أن تؤمنوا وأنتم
تقبلون مجدًّا بعضكم من بعض والمجد الذي من الله الواحد لستم تطلبونه” (يو 44:
5)، لأن إله الكل يُكّلل بالمديح للبر، الذين هم صالحون حقيقة؛ أما أولئك الذين لا
يحبون الفضيلة، بل هم مراءون، فإنهم يختلسون بأنفسهم وحدهم شهرة الكرامة. وربما
يقول البعض، ولكن أيها السادة المحترمون، ليس أحد يُكلِّل نفسه، لأن الإنسان الذي
يصطنع المديح لنفسه يُستهزئ به بعدل، لأنه مكتوب: ” ليمدحك القريب لا فمك أنت،
الأجنبي لا شفتاك أنت” (أم 2: 27 س). لكن رغم أن المرائين يمكن أن يظلوا دون
اكتشاف، ويأخذوا الكرامات التي من الناس، إلاّ أنه يقول هنا: ” لكن الله يعرف
قلوبكم”. فالديان لا يمكن أن يُخدع؛ فهو يري أعماق ذهننا؛ ويعرف مَنْ هو
المجاهد الحقيقي، ومَنْ الذي يسرق بالاحتيال، الكرامة التي يستحقها غيره بحق،
وبينما هو يُكرِم مَنْ هو بار حقًا فهو ” يبدد عظام الذين يسعون لإرضاء
الناس” بحسب تعبير المرنم (مز 5: 52 س)، لأن شهوة إرضاء الناس هي دائمًا أم
الكبرياء الملعونة ورأسها وجذرها، وهي التي يبغضها الله والناس على السواء. لأن
مَنْ يقع ضحية لهذا الداء فإنه يشتهي الكرامة والمديح؛ وهذا الأمر كريه لدى الله؛
لأنه يبغض المتكبر، لكنه يقبل ويرحم ذاك الذي لا يحب المجد (لنفسه) والذي هو
متواضع القلب.

 

وعندما
سحقهم المسيح بهذه التوبيخات، أضاف أيضًا شيئًا أكثر، وأعني به، ما كانوا مزمعين
أن يعانوه بسبب عصيانهم وشرهم إذ يقول: ” كان الناموس والأنبياء إلى يوحنا،
ومن ذلك الوقت يُبشَّر بملكوت الله وكل واحد يغتصِب نفسه إليه، ولكن زوال السماء
والأرض أيسر من أن تسقط نقطة واحدة من الناموس”. فهو يخفي أيضًا وفي غموض ما
سوف يسبب لهم ألمًا ويحجب تنبؤه بخصوص تلك الأشياء التي كانت عتيدة أن تحدث لكل
الذين لن يطيعوه، وهو يقول: إن موسى ومعه جماعة الأنبياء القديسين أعلنوا من قبل
مضمون السر الخاص بسكان الأرض. فالناموس يُعلِن بالظلال والمثالات أنه من أجل خلاص
العالم ينبغي أن احتمل موت الجسد، وأبيد الفساد بالقيامة من الأموات، كذلك أيضًا
تكلّم الأنبياء بنفس المعنى من كتابات موسى، لذلك يقول: إنه ليس غريبًا أو ليس غير
معروف من قبل أنكم تزدرون بكلامي وتحتقرون كل ما هو نافع لخيركم، لأن كلمة النبوة
عني وعنكم تمتد إلى القديس يوحنا المعمدان، ولكن ” من أيام يوحنا يُكرز
بملكوت السموات، كل واحد يغتصِب نفسه إليه”. ويقصد هنا بملكوت السموات: التبرير
بالإيمان، وغسل الخطية بالمعمودية المقدَّسة، التقديس بالروح، العبادة بالروح،
الخدمة التي هي أعلى من خدمة الظلال والرموز، كرامة تبني البنين، ورجاء المجد
العتيد أن يُعطَى للقديسين.

 

لذلك
يقول: ملكوت السموات يُكرز به، لأن يوحنا المعمدان وقف في وسطهم وقال: ”
أعدوا طريق الرب” (لو 4: 3)؛ وقد أظهر قائلاً: ها هو قد اقترب، وكأنه داخل
الأبواب وهو الحَمَل الحقيقي لله، الذي يحمل خطية العالم، لذلك فكل مَنْ يسمع ويحب
الرسالة المقدَّسة فإنه يغتصبها، وهو ما يُقصد به: أنه يستخدم كل اجتهاده وكل قوته
في رغبته للدخول داخل نطاق الرجاء. لأنه كما قال في موضع آخر ” ملكوت السموات
يُغصب والغاصبون يختطفونه” (مت12: 11).

 

وهو
يقول: إن ” زوال السماء والأرض قبل اليوم الذي يأمر به الله فيه بهذا، أيسر
من أن تسقط نقطة واحدة من الناموس”، ويشير أحيانًا بكلمة الناموس إلى الكتب
الإلهية الموحى بها معًا، أي كتابات موسى والأنبياء. فما الذي أنبأت به الكتب
والذي يجب بالضرورة أيضًا أن يكتمل؟ إنها تنبأت أنه بسبب كفر إسرائيل الشديد
وفجوره المفرط سيسقط من كونه من عائلة الله، رغم أنه الابن الأكبر، وأن أورشليم
ستُطرح بعيدًا عن إمهال الله ومحبته، لأنه هكذا تكلّم عنها بصوت إرميا[3]: ”
هاأنذا سأسيج طريقها بالشوك وأسد طرقها وهي لن تجد مسلكها” (هو6: 2س). لأن من
يخشون الله فطريقهم مستقيمة ولا يوجد فيها أي موضع شديد الانحدار، بل كلها مستوّية
وممهّدة جيدًا. ولكن طريق أم اليهود، مُسيّج بالشوك لأن طريق التقوى قد صار
متعذرًا السير فيه بالنسبة لهم.

 

وكونهم
مظلّمي الذهن ولا يقبلون نور مجد المسيح لأنهم لم يعرفوه فهذا ما سبق أن أعلنه
بقوله لجموع اليهود: ” أنا شبهت أمك بالليل، هلك شعبي من عدم المعرفة لأنك
رفضت المعرفة أرفضك أنا حتى لا تكهن لي، ولأنك نسيت شريعة إلهك أنا أيضًا
بنيك” (هو5: 4و6).

 

أنت
تسمع أن جموع العصاة يُشبهون عن حق بالظلمة والليل. لأن كوكب الصبح العقلي، وشمس
البر، يشرق ويضيء في ذهن وقلب من يؤمنون، أما ذهن أولئك الذين يزدرون بالنعمة
العظيمة والتي تستحق أن نقتنيها، فقد اسودَّ في الظلمة، والعتمة العقلية، فكثير
إذن مما يختص بتلك الأشياء، سبق أن أعلنه جماعة الأنبياء القديسين من جهة إسرائيل.

 

ولكن
الذين يعترفون باستعلان مجد المسيح مخلّص الجميع، فإن الله الآب وعد بواسطة أحد
الأنبياء القديسين هكذا قائلاً: ” وسأقويهم في الرب إلههم، وباسم إلههم
يثبتون” (زك12: 10س). ويقول المرنم مخاطبًا ربنا يسوع المسيح بالروح: ”
يارب بنور وجهك يسلكون، باسمك يبتهجون اليوم كله، لأنك أنت فخر قوتهم، وببرك يرتفع
قرننا” (مز15: 88 17س). لأننا نفتخر في المسيح، لأننا تبرّرنا بواسطته فإننا
قد ارتفعنا، وإذ طرحنا عنا ذُل الخطية، ونحن نحيا في امتياز كل الفضائل فقد
اغتنينا أيضًا بالمعرفة الصحيحة والنقّية لتعاليم الحق. لأن هذا ما وعدنا الله به
حيث يقول بصوت إشعياء: “وسأقود العمى في طريق لا يعرفونها. وسأجعلهم يمشون في
مسالك لم يعرفوها. أجعل ظلمتهم نورًا، وكل مواضعهم المنحدرة أجعلها ممهدة”
(إش16: 44س). لأننا نحن الذين كنا مّرة عميانًا قد استنرنا ونحن نسير في مسلك جديد
من البّر؛ بينما الذين افتخروا بالناموس كمعلّم لهم، قد اظلموا كما قال المسيح
نفسه: ” قد أعمت الظلمة عيونهم” (انظر يو4: 12) والعمى قد حصل جزئيًا
لإسرائيل (رو5: 11) لأنهم مبصرين ولا يبصرون، وسامعين لا يسمعون (مت13: 13). لأنهم
أخطأوا ضد الأنبياء القديسين بل وتجاسروا أن يرفعوا أياديهم ضد الذي كان يدعوهم
إلى الخلاص والحياة. لذلك يقول، ولو أنكم عصاة، ورغم أنكم بحماقة تزدرون بكلماتي
التي ستقودكم إلى بلوغ ما هو نافع ولائق، إلاّ أن المسيح سبق فأعلن بواسطة الناموس
والأنبياء أمرًا يستحيل أن لا تكتمل فيه كلمات الله، لأنه أعلن ما علم أنه ينبغي
حتمًا وبالضرورة أن يحدث.

 

لذلك،
فعدم الإيمان يجلب الهلاك على البشر، مثلما يفعل أيضًا عنق الذهن المتعالي في
تصلبه بسبب الكبرياء الزائد ضد المسيح مخلّصنا جميعًا الذي به ومعه لله الآب يحق
التسبيح والسلطان مع الروح القدس، إلى أبد الآبدين. آمين.

————-

[1]
الكلمة السريانية التي تقابل نقطة (
keraia) اليونانية تعنى أصغر جزء من أحد الحروف العبرية.

[2]
في اليونانية
BwmolÒcoj تشير إلى الأشخاص الذين لا يتورعون عن ارتكاب أية دناءات طلبًا
للمديح. النسخة السريانية تلتزم بالترجمة الحرفية وهي المترجمة هنا.

[3]
النبوة هنا لهوشع وهو أمر شائع عند كُتّاب العهد الجديد والآباء أن يقتبسوا من
أسفار الأنبياء الصغار تحت اسم إرميا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار