علم المسيح

14- ما يعنيه المسيح من لقب ابن الإنسان وعلاقة ذلك بلقب ابن الله



14- ما يعنيه المسيح من لقب ابن الإنسان وعلاقة ذلك بلقب ابن الله

14- ما يعنيه المسيح من لقب ابن الإنسان وعلاقة ذلك
بلقب ابن الله

لمَّا
تجسَّد المسيح وأخذ هيئة الإنسان و”
شكل العبد” لم يَزْدَرِ بالطبيعة
البشرية التي اتَّحد بها، ولا أسكنها في حياته ركناً مظلماً فيه؛ بل رفعها
وعلاَّها لتُشارِك لاهوته في كل ما له، في بنوَّته لله، في سكنى السماء، في شركة
وخدمة الملائكة، والجلوس على السحاب. ثم خُصِّص له من الآب دور الدينونة لأنه ابن
الإنسان، وقدَّم الجسد والدم فيه ليكونا واسطة باللاهوت الذي فيهما ليستطيع
الإنسان بتناولهما أن يحصل على الاتحاد الفعلي والشركة السرِّية مع ابن الله،
وليكون للإنسان ما لابن الله من كرامة ومجد؛ بل وأجلسه معه عن يمين الله ليتقبَّل
الإنسان فيه كرامات الابن الوحيد ومحبة الآب للابن الوحيد، ويرث معه ميراث الابن
في الحياة الأبدية.

والقول
الذي ألمح إليه المسيح إنه العريس، أوضح لنا أن الكنيسة أو الإنسان في مجموعه
البشري هو العروس، وأعطى البشرية فيه مفهوم سر
الزيجة على مستوى السر الأعظم، حيث يصير المسيح والبشرية وِحْدَةً سِرِّية عالية،
جسداً واحداً فائقاً على مفهوم الإنسان، لا نستطيع أن نستعلن واقعه
فينا
طالما نحن لابسين جسد الخطية هذا.

فابن
الإنسان يحمل للكنيسة
أي للبشرية قمة المجد وسر محبة الآب وميراث الحياة
الأبدية والخلود. فإن كان للإنسان عزاء في أرض شقائه هذه فهو في ابن الإنسان الذي
تبنَّى شقاءنا وأورثنا ملكوته. اسمع المسيح وهو يفتخر أنه إنسان: “ولكنكم
الآن تطلبون أن تقتلوني وأنا إنسان قد كلَّمكم بالحق الذي سمعه من
الله” (يو 40: 8). فهنا يفتخر أنه إنسان يتكلَّم بالحق، ولكن لئلاَّ يستغلّها المفسدون كمَّل قوله: “الذي سمعه من
الله” فهو إنسان نعم، ولكن يتكلَّم بما سمعه من
الله!!

فحينما
يقدِّم لنا المسيح نفسه باعتباره الملك الإلهي، يكون هو الذي بواسطته يمكن الدخول
إلى ملكوت الله الذي يقوم المسيح بتدبيره ونموه.

علماً بأنه هو الذي أعطى نفسه لقب ابن الله: “فالذي
قدَّسه الآب
وأرسله إلى العالم أتقولون له إنك تجدِّف لأني قلت إني
ابن الله.
” (يو 36: 10)

كما
أنه هو الذي أعطى لنفسه لقب ابن الإنسان: “فأجاب رئيس الكهنة وقال له:
أستحلفك بالله الحي أن تقول لنا: هل أنت المسيح ابن الله؟ فقال له يسوع: أنت قلت،
وأيضاً أقول لكم من الآن تبصرون ابن الإنسان جالساً(
[1]) عن يمين القوة وآتياً على
سحاب السماء” (مت 26: 63و64). فالمسيح نفسه هو القائل لنثنائيل: “الحق
الحق أقول لكم: من الآن ترون السماء مفتوحة وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن
الإنسان.
” (يو 51: 1)

كذلك: “وليس أحد صعد إلى السماء إلاَّ الذي نزل من
السماء ابن الإنسان الذي هو في
السماء” (يو 13:
3). ويُقرن المسيح اللقبين معاً هكذا: “لأنه كما أن الآب له حياة في
ذاته، كذلك أعطى
الابن أيضاً أن تكون له حياة في ذاته،
وأعطاه سلطاناً أن يدين أيضاً لأنه ابن الإنسان.” (يو 5:
26و27)

وكلا
هذين اللقبين منصوص عنهما في العهد القديم أنهما يشيران إلى المسيَّا، ولكن المسيح
استخدم هذين اللقبين على مستوى أعلى مما كان سارياً بين اليهود.

على
أن هذين اللقبين لا يُفهم أحدهما بدون الآخر، فكل واحد منهما يبرِّر وجود الآخر
ويرتبط به، لأن لقب “ابن الله” لم يُعرف قط إلاَّ على أساس تجسُّد
الكلمة، فلما تجسَّد ابن الله استعلن لنا أن الله أبوه. إذن، فهو ابن الله لأول
مرَّة على الواقع الفكري للإنسان.

كذلك
فابن الله لمَّا تجسَّد وصار إنساناً مولوداً من العذراء القديسة مريم ومن الروح
القدس صار إنساناً ولكن بدون رجل، بدون آدم، فاعتُبِرَ أنه ابن الإنسان تخطِّياً
لكلمة آدم. فعندما نسمع كلمة “ابن الإنسان” ندرك في الحال أنه هو
ابن الله
المتجسِّد.

وقد
انتهى العالم “سانداي” من بحثه المطوَّل عن لقب ابن الإنسان بهذه
الحقيقة: [نستطيع أن نقول على هذا إن (لقب) “ابن الإنسان” إنما يتعمَّق
(أو يشرح)
fathomed سر
تجسُّده.](
[2])

وحينما نسمع كلمة “ابن الله” نُدرك في الحال
علاقته بالله الخاصة جداً، وأنه الحامل لشخص الآب السماوي، وأنه والآب هما الله
لذلك
أصبح اللقبان وقفاً على المسيح: يُستخدم الواحد لكي يكشف لاهوته وعلاقته بالله
أبيه، ويُستخدم الآخر ليُستعلن أنه هو “ابن الإنسان” بدون أن يذكر
اللقب.

على
أن أول مَنْ ذكر لقب ابن الإنسان هو دانيال النبي حينما جاءته النبوَّة ليعبِّر عن
المسيَّا ابن العلي: “كنت أرى في رؤى الليل وإذا مع سحاب السماء مثل ابن
إنسان، أتى وجاء إلى القديم الأيام (الله)، فقرَّبوه قدَّامه، فأُعطي سلطاناً
ومجداً وملكوتاً لتتعبَّد له كل الشعوب والأُمم والألسنة، سلطانه سلطان أبدي ما لن
يزول وملكوته ما لا ينقرض.” (دا 7: 13و14)

وليُلاحَظ
أن القول بمن يأتي على السحاب هو تعبير دائم عن الله. وهكذا اختلط على دانيال
الأمر فكأن الله جاء وقرَّبوه إلى الله، ولكنه رآه بهيئة إنسان. فلم يَقُلْ:
إنساناً، بل قال: ابن إنسان، ليتماشى الخلط في شخصية هذا الآتي على السحاب؛ إذ كيف
يكون هو الله وهو إنسان.

والمعروف
في أيام المسيح أن لقب “ابن الله” كان هو التعبير الساري عن أنه
المسيَّا. وأوضح من عبَّر عن هذه العلاقة بين المسيَّا وابن الله هو بطرس الرسول
بناءً على استعلان كشفه الله الآب في ذهنه فقال: “أنت هو المسيح ابن الله
الحي” (مت 16: 16). وأمَّن على ذلك رئيس الكهنة لمَّا أراد أن يُوْقِعَ
المسيح في اعترافه أنه ابن الله ليأخذها حجة لقتله هكذا: “فأجاب رئيس الكهنة
وقال أستحلفك بالله الحي أن تقول لنا: هل أنت المسيح ابن الله؟” (مت 63: 26).
كما نطقها نثنائيل أحد تلاميذ الرب ولكن
بإلهام واضح: “قال له: يا معلِّم أنت ابن الله. أنت ملك إسرائيل” (يو

49: 1). على أن لقب ملك إسرائيل هو لقب المسيَّا!

وهكذا
تضافرت الرؤى والاستعلانات والإلهامات معاً، ومع تصريح المسيح، أن المسيح هو ابن
الله وابن الإنسان. ويقول شلايرماخر عن لقب المسيح ابن الإنسان هكذا:

[لم
يكن المسيح ليستخدم هذا اللقب إن لم يكن على وعي كامل من أنه يشير إلى مشاركته
الكاملة للطبيعة البشرية، غير أن استخدام هذا اللقب لا يكون ذا معنى إذا لم يكن
استعماله يُعطي المفهوم الخصب للمفارقة الأساسية بين المسيح وبقية الناس.](
[3])

وفي
الحقيقة، لقد كرَّم المسيح البشرية التي أخذ منها جسده بهذا اللقب ورفعها لتكون
على مستوى بنوَّته لله في كل شيء، إذ نسمع عن أعماله هذا التقرير: “فلما رأى
الجموع تعجَّبوا ومجَّدوا الله الذي أعطى الناس سلطاناً مثل هذا” (مت
8: 9). وفي قول المسيح في (يو 51: 1): “الحق الحق أقول لكم: من الآن تَرَوْنَ
السماء مفتوحة وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن الإنسان” تعبير خفي ولكن
عميق، وفيه تمجيد فائق للطبيعة البشرية. فهكذا صيَّر المسيح البشرية سُلَّماً
للسماء تتآخى مع القوات السمائية تمهيداً إلى تجاوزها للملائكة في الكرامة أمام
الآب، لأننا نكون متَّحدين بالابن واقفين أمام الآب مباشرة نمدح مجد نعمته. كذلك
عندما قال: “ابن الإنسان الذي هو في السماء” (يو 13: 3)، هكذا جعل
الطبيعة البشرية صالحة أن تسكن السماء متَّحدة به! وقوله إن الله أعطاه سلطاناً أن
يدين “لأنه ابن الإنسان” فهكذا أُعطيت له الدينونة بصفته ممثِّل
البشرية، لكي يكون رحيماً فيما لإخوته!! بل وأعطاه سلطاناً أن يغفر الخطايا على
الأرض. وحينما دخل السماء ليتراءى أمام الله أبيه دخل كسابق من أجلنا فهو يُعتبر
المتقدِّم عنَّا في كل شيء، ولما دخل دخل كباكورة لنا فوجد لنا فداءً أبدياً.
وحينما قال لتلاميذه: “أنا أمضي لأُعِدَّ لكم مكاناً، وإن مضيتُ وأعددت.. آتي
أيضاً وآخذكم إليَّ” (يو 14: 2و3)، كان هذا المكان هو عن يمين عرش الله، الذي
احتفظ به لنا وحجزه لنا بجلوسه بالجسد لكي نكون معه حيث يوجد ونرى مجده، وأسماؤنا
مَعْروفٌ موضعُها كالعربون، حينما نذهب نجد نصيبنا هناك محجوزاً، لأنه كالميراث
الذي للابن لا يَفْنَى ولا يتدنَّس ولا يضمحل، محفوظ في السموات مع المسيح لأجلنا.
نعيشه منذ الآن بالرجاء الحي رفيق الإيمان بالقيامة من بين الأموات: “فإن
كنتم قد قمتم مع المسيح فاطلبوا ما فوق” (كو 1: 3)
لأنه صار لنا ما فوق ملكاً أبدياً حيث المسيح جالس بجسدنا بانتظارنا، لأن
المسيح أصعدنا بجسده معه إلى السموات، فصار ذهابنا إلى فوق طريقاً محجوزاً بالاسم،
نحمل قوة صعودنا إليه بجسده ودمه اللذين بهما اتحدنا به. فجسده هو هو الحجاب
الذي كان في القديم يفصل الإنسان عن
الله
الذي صار لنا طريقاً حيًّا
حديثاً، ودمه بطاقة الدخول إلى الأقداس، لأنه دم كفَّارته الذي انسكب من أجلنا
خارج أُورشليم.

فباختصار،
علينا أن نعلم أن المسيح قدَّم بشريتنا فيه: “محرقة كفَّارة” عظمى
كفَّرت عن كل خطايانا، فنحن الذين متنا مع المسيح وقبلنا اللعنة على الصليب في
الجسد، لم تَعُدْ علينا عقوبة ولا ضدنا لعنة، فالكل دفعه المسيح في جسدنا وبجسدنا
لكي يحصل لنا وفي جسدنا على براءة أبدية، ضمَّ إليها برَّه وقداسته وحياته
الأبدية، فصرنا مبرَّئين ومبرَّرين!! مجداً لله.

وحينما
قال المسيح مشيراً إلى سر الإفخارستيا: “الحق الحق أقول لكم: إن لم تأكلوا
جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه فليس لكم حياة فيكم” (يو 53: 6)، كشف أعمق أسرار
اتحاد لاهوته ببشريته، لكي إذا تناولناها في سر كسر الخبز نكون قد تناولنا اللاهوت
فيها ونصير إلى ذات الاتحاد.وهكذا يعبِّئ لنا المسيح بهذا اللقب
المعاني والأسرار التي رفعت البشرية إلى مستوى التبنِّي لله والاتحاد. والحقيقة
الإلهية القائمة عليها هذه الأسرار جميعاً هي أن لقب ابن الإنسان ملتحم بلقب ابن
الله، فالتعامل مع ابن الإنسان هو هو التعامل مع الله!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار