كتب

مدخل إلى نصوص قمران



مدخل إلى نصوص قمران

مدخل
إلى نصوص قمران

 

جماعة قمران وكتبها

جماعة
عاشت على شاطئ البحر الميت من القرن ق م حتى سنة 68 ب م ودخول الجيوش الرومانيّة
إلى أورشليم سنة 70. سمّاهم الأقدمون الاسيانيّين لارتباطهم بعالم الشفاء، وما هي
العلماء بين أهل قمران وهؤلاء الأسيانيين الذين اختفت آثارهم قروناً عديدة، قبل أن
تُكتشف عن طريق الصدفة سنة 1947 بواسطة بدو من قبيلة تعميرة.

بدأت
الحفريات بعد ذلك الوقت في ما يُدعى اليوم “خربة قمران”. لن نتوقّف عند
القرن الثامن أو القرن السابع ق. م. حيث دلّت التنقيبات على بقايا جدران وفخاريات،
وشحفة حُفرت عليها حروف فينيقية وختم ملكيّ يعود بنا إلى الملك عزّيا كما يُذكر في
2 أخ 16: 10. بل نصل إلى الربع الأخير من القرن الثاني ق. م. حيث حُفرت الآبار
وبنيت أفران من أجل صناعة الفخار. ومنذ سنة 100 ق. ق. حتى الزلزال الذي حصل سنة 31
ق. م.، وُجدت أبنية من طابقين أو ثلاثة مع آبار ارتبطت بعضها ببعض بواسطة الخزّان
والقنوات. وهذا ما يدلّ على وجود جماعة كبيرة ومنظّمة. أما الحقبة الأهم فهي التي
تمتدّ من بداية المسيحيّة حتى الدمار سنة 68 ب. م.

وقد
وُجدت نقود عديدة في هذا الموضع، فحدّدت حقبات الإقامة في خربة قمران. وهذه النقود
تعود إلى الحقبة اليونانية والرومانيّة، منذ أنطيوخس السابع السلوقي (139- 129 ق.
ق.) والملك الحشموني يوحنا حركانس (135- 104 ق. م.) حتى آخر ملوك حشموني أنطيغونس
(40- 3 ق. م.) مروراً باسكندر يناي. وتحدّثت خنس قطع نقود عن هيرودس الكبير وحكمه
الطويل (37 ق. م.- 4 ب. م.). وذُكر ارخيلاوس (4- 6 ب. م.) الذي أشار إليه الانجيل
في معرض الحديث عن طفولة يسوع، وإقامة العائلة المقدّسة في الناصرة، لا في بيت
لحكم اليهوديّة (مت 2: 22). كما ذُكر الولاة الرومان، وهيرودس اغريبا الأول (37-
44 ب. م.). ووُجدت نقود تعود إلى السنة الثانية من الحربّ ضدّ رومة (67- 68). في
ذلك الوقت اختفى “دير” قمران من الوجود. ولم يعض ينبض بالحياة إلا بعد
أن بدأت التنقيبات سنة 1947، فظهرت مكتبة كبيرة تحوي العدد الكبير من المخطوطات.

نجد
في مخطوطات قمران ثلاثة أنواع من الكتب: النصوص البيبلية أو نصوص الكتاب المقدّس
بعهده القديم. النصوص المنحولة. وأخيراً النصوص القمرانيّة التي تتحدّث عن نظام
الجماعة وحياتها.

ففي
أحدى عشر مغارة وُجدت فيها كتابات، اكتشف المنقبون 173 مخطوطاً تتضمن مقاطع كبيرة
أو صغيرة من جميع أسفار الكتاب المقدس ما عدا سفر استير. يزاد على ذلك مخطوطان
يحملان مقاطع من سفري اللاويين وأيوب في اللغة الآراميّة. كما وجدت نصوص يونانية
لأسفار الخروج واللاويين والعدد، وبعض رسالة إرميا التي تشكّل في بعض الترجمات
الفصل السادس من باروك. واكتشف العلماء أيضاً أربعة مخطوطات أرامية ومخطوطاً
عبرياً لسفر طوبيا، ومقطعين عبريين ليشوع بن سيراخ.

ووُجدت
في قمران كتب منحولة لم نكن نعرفها إلاّ في الينانية (وصيّات الآباء الاثني عشر)
أو الحبشيّة (كتاب أخنوخ. اليوبيلات). وُجدت نصوص من الأصل العبريّ أو الأراميّ من
هذه الكتب، كما اكتشفت نصوص لم تكن معروفة مثل صلاة نبونيد (المغارة الرابعة)،
نصوص حول ملكيصادق ورؤى عمرام (التي عرفها أوريجانس)، ومزامير يشوع…

أما
الكتابات القمرانية فتعلمنا بشكل دقيق عن تنظيم أخوّة برية يهوذا ومثالها. نذكر
منها: نظام الجماعة الذي نقلناه في هذا الكتاب. وثيقة صادوق أو وثيقة دمشق التي
عُرفت في مخطوطات تعود إلى القرنين العاشر والحادي عشر، وقد وُجدت في مخبأ القاهرة
سنة 1896. ثم، نظام حرب أبناء النور ضدّ أبناء الظلمة الذي تقلناه في هذا الكتاب.
نظام الحلقة أو الأخوّة الذي ارتبط بنظام الجماعة، مع كتاب المباركات. جميع هذه
الكتب وُجدت أصلاً في المغارة الأولى، مع بضعة مقاطع في مغاور أخرى. وأطول مخطوط
هو “درج الهيكل” وقد اكتشف في المغارة الحادية عشرة.

وهناك
“المدائح”، تلك المجموعة الشعرية (نقلناها في هذا الكتاب) التي فيها
يحدّثنا الكاتب عن خبرته الروحيّة في خطّ سفر المزامير. والتفاسير (بشر أو فسر): أشعيا،
هوشع، ميخا، ناحوم، حبقوق. ومز 37؛ 57؛ 68. وهناك ترجوم سفر التكوين…

كانت
الكتابات القمرانيّة كثيرة. بعضها ضاع. والبعض الآخر نعرفه في مقاطع ونتف، أو في
تلميحات نجدها في كتب أخرى. ونحن ننتظر عمل الباحثين لكي يجمعوا هذه النتف لنصل
إلى مقاطع مقروءة مثل نصّ “التطويبات” الذي نشر أخيراً.

والسؤال
الذي نطرحه الآن: ما هو المثال الروحيّ لجماعة قمران؟ لقد دلّت النصوص القمرانيّة
على وجود جماعة يهودية، ابتعدت عن الهيكل، بل انفصلت عن أورشليم وتنظّمت في أخوّة
فقدّمت نفسها على أنها جماعة العهد الجديد، الجماعة الحقيقيّة في نهاية الأزمنة.
وهذه النهاية هي المحور الذي حوله تنتظم خبرة جماعة قمران.

وإذا
عدنا إلى وثيقة صادوق (أو: وثيقة دمشق) والتفاسير البيبلية، نفهم أنّ مؤسّس
القمرانيين هو معلّم البرّ، وهو شخص يمتلك قوّة معنويّة خارقة. وقد طبع بشكل عميق
حياة الجماعة وتعليمها. كان له خصم في الكاهن الكافر الذي قد يكون عظيم الكهنة في
أورشليم.

إن
معلّم البرّ يرتبط بالتعليم المسيحانيّ في قمران. انقطع أهل قمران عن كهنة أورشليم
قبل أزمة سنة 174 ق. م.، فقدّموا تعليماً مسيحانياً برأسين: مسيح ملك أو مسيح
اسرائيل. مسيح كاهن أو مسيح هارون. هذا التعليم نجده أيضاً في وصيّات الآباء
الاثني عشر وكتاب اليوبيلات. في هذا الإطار اعتبر القمرانيون أنهم جماعة نهاية
الأزمنة، مع نظرة متطوّرة إلى التاريخ الوطنيّ الذي ظلّوا متضامنين معه رغم كلّ
شيء.

فأهل
قمران الذين هم في الحقيقة “أهل الكتاب” قد تركوا لنا المخطوطات العديدة،
ونحن إذ ننقلها إلى العربيّة نحاول أن نتعرّف إلى حياتهم وتنظيمهم وروحانيَّتهم
وما لكلّ هذا من علاقات مع العالم اليهودي والعالم المسيحيّ.

 

الأسيانيون وأهل قمران

1-
الإسم

الأسيانيّون
كلمة عرفناها في اليونانيّة عند فيلون الإسكندراني، ويوسيفوس المؤرّخ اليهوديّ،
وإبيفانيوس أسقف سلامينة (قبرص). وقد حاول العلماء أن يكتشفوا أصلها. فعادوا إلى
“ح س ي ا” أو “ح س ي و” أي التقيّ. وعادوا إلى الأرامية
“ح س ا” أي النقيّ. قيل هم “الحسينيّون” أو
“الأسينيّون” أو “الحسانيون”. أما نحن فعدنا إلى الجذر
السريانيّ “ا س ا” الذي يعني فيه الفعل المزيد (ا س ي) شفى، أصلح، واسم
الفاعل منه “اسيا” الشافي. ولهذا قلنا الأسيانيّين.

كان
بالإمكان أن نربط الأسيانيّين بفعل “س ح ا”، اغتسل وبالاسم “ا س ح
ا ي” المغتسلين. حُذفت الحاء في اليونانية فصار “اسايوي”. قال
غراتز: كانوا أنبياء وقد يكون إسمهم إرتبط بفعل “ح ز ا”، رأى. كانوا
يتأمّلون في الأمور المقدّسة، ويخضعون بعض المرّات لشريعة الصمت. فسمّوا
“الصامتين”.

 

2-
المراجع

حين
كتب مرشال مقاله عن الأسيانيّين، سنة 1934، قال: “لا نمتلك أيّ وثيقة مباشرة
تركها لنا الأسيانيّون”. لهذا نعود إلى أشخاص كتبوا عنهم مثل فيلون
الإسكندرانيّ، وفلافيوس يوسيفوس المؤرّخ اليهودي، وبلينوس الأكبر، المؤرخ
الرومانيّ.

تحدّث
فيلون عن الأسيانيّين في كتابه “كلّ كتاب صادق”، وذلك في نصّ ورد في
أوسابيوس القيصريّ (التهيئة الإنجيليّة، 8: 12). واحتفظ أوسابيوس أيضًا في التهيئة
عينها (8: 11) بمقطع من فيلون في كتابه “الدفاع” (وهو اليوم قد ضاع) عن
هذه الشيعة. وقد يكون فيلون كتب عن حياة الأسيانيّين اليوميّة كتابًا ثالثًا يقابل
“حياة المشاهدة”.

ونجد
عن الأسيانيّين مقاطع عديدة في “الحرب اليهوديّة” (1/3: 5؛ 2/7: 3؛ 2/8:
12-13) و”العاديّات اليهوديّة” (13/11: 2؛ 15/10: 4-5؛ 18/1: 5)
لفلافيوس يوسيفوس الذي عاش خلال القرن الأول المسيحيّ وشارك في الحرب ضدّ الرومان
قبل سقوط أورشليم سنة 70 ب.م. يقدّم نصّ “الحرب” الخبر الأساسيّ
والمفصّل عن هذه الشيعة التي قد يكون يوسيفوس عرفها. أما نصّ
“العاديّات” فقد لخّص المرجع السابق وزاد عليه بعض التفاصيل.

وكرّس
بلينوس للأسيانيّين نبذةً قصيرةً فأُعجب بهم. ويبدو أنه أستقى من يوسيفوس أو من
مرجع عاد إليه يوسيفوس. ونذكر أيضًا من الكتّاب المسيحيّين هيبوليتُس (ضدّ
الهراطقةً 1/9: 18-38)، وأوسابيوس في التهيئة الإنجيليّة (8: 11-12)، وإبيفانيوس
(ضدّ الهراطقة 1/1: 10) الذين استقوا من فيلون ويوسيفوس.

 

3-
تاريخ الأسيانيّين

تبدو
معلوماتنا حقيرة عن أصل الأسيانيّين ونموّهم ونهايتهم. قال يوسيفوس إنه منذ زمن
طويل وُجدت ثلاث شيعَ هي: الفريسيّون والصادوقيّون والأسيانيّون. وتحدّث عن هذه
المجموعات للمرة الأولى في أيام يوناتان حوالى سنة 150 ق.م.، كما ذكر اسم رجل
أسيانيّ اسمه يهوذا في عهد أرسطوبولس الأول (105-104). وهكذا يعود الأسيانيّون إلى
منتصب القرن الثاني. وهم يرتبطون بجماعة الحسيديم، جماعة الأتقياء، الذين تكوّنوا
في أيّام عزرا (القرن الخامس ق.م.) وتمرّدوا على يهوذا المكابيّ، ثم انفصلوا عن
الفريسيّين. كانوا أقليّة حارةً في تقواها، فرفضت سياسة الحرب ومنطق الجدالات.
تركت جماعة الفريسيّين واحتفظت لها باسم الحسيديم. وكان عدد أفرادها أربعة آلاف،
كما يقول فيلون ويوسيفوس. حدّد بلينوس موقع هذه الشيعة في الشمال الغربيّ للبحر
الميّت، فوق عين جدي. وتحدّث فيلون ويوسيفوس عن أسيانيّين أقاموا في مدن وقرى
فلسطين لكي يؤمّنوا لإخوتهم المسافرين مضافًا يوافق نوعيّة حياتهم. ويبدو أن هذه
الشيعة سارت في طريق الزوال سنة 68 ب.م. فقبل أن يصل الرومان إلى أورشليم، احتلّوا
خرائب قمران وقتلوا من قتلوا من قاطنيها، وهرب الباقون جاعلين كتبهم في مغاور
اكتُشفت، سنة 1947 وما بعد، على يد شاب ينتمي إلى عشيرة التعامرة.

إن
الأسيانيّين الذين أثاروا إعجاب الناس واحترامهم بحياتهم النسكيّة، انعزلوا عن
العالم وعاشوا في جماعات خضعت لتنشئة متدرّجة تمتدّ على ثلاث سنوات. ثم كانوا
يتعهّدون بطريقة احتفالية، كما في نذر رهبانيّ، بأن يتبعوا التأديب المعمول به،
وأن يحافظوا بشكل مطلق على تعاليمهم السريّة. ومن تجاوز هذا التأديب ناله العقاب
والطرد من الجماعة. قُسم “الناذرون” إلى أربع طبقات حسب أقدميّة كل واحد
ونظام التصدّر (من يمشي في المقدّمة، ومن يتبعه). في هذه “الديورة” التي
يديرها رئيس تنتخبه الجماعة، كانت الأموال مشتركة. كان لباس “الرهبان”
أبيض وبسيطًا. ويرأس مائدتهم كاهن يتلو الصلاة قبل الطعام وبعده. فيأخذ الطعامُ
طابعًا دينيًّا. ولهذا لم يكونوا يشاركون فيه إلاّ بعد أن تتأمّن الطهارة الطقسيّة.
وكانوا يستعبدون عنه كلَّ غريب عن الشيعة. ممّ كانوا يعيشون؟ من عمل الحقل وبعض
الصناعات. أما التجارة فكانت ممنوعة. وإذا وقعت منازعاتٌ داخليّة حلَّتها محكمة
محلّية، حفاظًا على السلام داخل الجماعة.

وانطلق
تعليمهم من العالم اليهوديّ فاشتمل على عبادة الله واحترام اسمه القدّوس. لهذا كان
يعاقَب التجديف بالموت. إستسلموا للعناية الإلهيّة وخضعوا لمقاصد الله، دون أن
يرتبطوا بالحتميّة والقدَر. إعتادوا أن يصلّوا في الصبح ووجههم إلى الشمس التي
يرون فيها تمثلاً لنور الله. آمنوا بالملائكة الذين احتلّوا مكانةً هامّة في
تفكيرهم، كما آمنوا بخلود النفس والقيامة. كانوا يرسلون تقادمهم إلى الهيكل،
ويرفضون تقديم الذبائح فيه. حافظوا بدقّة على راحة السبت واختاروا من بينهم كهنةً
يعودون إلى هارون أو لا يعودون.

 

4-
علاقة الأسيانيّين بقمران

 

أ-
عودة إلى التاريخ

نستطيع
القول، في الوضع الحاضر للأبحاث، إن أهل قمران هم جماعة من الأسيانيّين. فخربة
قمران التي هي، على ما يبدو، سكاكة المذكورة في يش 15: 61، ودرج النحاس في المغارة
الثالثة، هي مركز الجماعة. وهذا ما يتوافق كل الموافقة مع نبذة بلينوس الأكبر وما
تركته لنا المخطوطات من نصوص.

من
أين جاء الأسيانيّون؟ هنا لا بدّ من العودة إلى الوراء. فخلال الحقبة الهلنستيّة
(أي بعد دخول الإسكندر إلى الشرق، 333 ق.م.)، سيطر السلوقيّون الآتون من أنطاكية
على فلسطين. وبدأ أنطيوخس الرابع إبيفانيوس يضطهد اليهود، كما أنه أعلن قرارًا
يمنع شعائر العبادة في الهيكل. حينئذ تنظّمت حركة مقاومة قادها الحسيديم كما يقول
سفر المكابيّين. بدأت هذه الحركة حوالي سنة 170، فضمّت مجموعات مختلفةً وحّدتها
معارضتها المشتركة لسياسة أنطيوخس الرابع. ولكن في أيام يوناتان المكابيّ (160-143)
انشقّت مجموعة الأتقياء إلى إثنين: جماعة الأسيانيّين وجماعة الفريسيّين.

تمّ
الإنشقاق، سنة 152 ق.م.، ساعة عُيّن بوناتان عظيمَ كهنة على حساب الذي كان عظيمِ
كهنةٍ في ذلك الوقت والذي كان من عائلة يونيا (1 مك 10: 20 ي). سُمّي هذا الأخير
“الملفان الشرعيّ” أو “معلّم البّر”، في النصوص التي اكتُشفت
في قمران. فذهب إلى المنفى في البريّة مع عدد من المؤمنين “ليكفّر عن خطايا
البلاد ويهيّئ غرسًا أبديًّا هو الهيكل المقدّس”.

إن
“الميثاق الجديد الذي عُقد في أرض دمشق” لا يشير إلى بابلونية ولا إلى
قمران، بل إلى الأرض الواقعة في عبر الأردن والتي إليها لجأ عددٌ من الأتقياء مع
عائلاتهم. فموقع قمران لم يكن يقدر أن يستقبل عددًا كبيرًا من الناس لمدّة طويلة.
وإن استطاعت بعض الأسر أن تعيش في واحة عين الفشخة، جنوبي قمران، كما تشهد على ذلك
البقايا الأركيولوجيّة وبعض القبور في المدفن الكبير، فقد تأكد الباحثون، تقريبًا،
من أن أهل قمران كانوا غير متزوجين.

إن
“قاعدة الجماعة” لا تتحدّث أبدًا عن النساء والأولاد. ثم إن أقوال
يوسيفوس وبلينوس الأكبر تشهد على أن أهل قمران مارسوا العزوبيّة.

عرفت
إقامة الأسيانيّين في قمران ثلاث حقبات رئيسيّة. في حزيران 68، دمّرت الفرقة
الرومانيّة العاشرة الموقع قبل أن تصعد إلى أورشليم التي سقطت سنة 70. حينئذ أخفى
الأسيانيّون كتبهم في الملاجئ المجاورة قبل أن يبدأوا القتال ويهربوا إلى البرّيّة.
بعضهم لجأ إلى مصعدة ومعه بعض الأدراج (أو اللفائف) فمات سنة 73. وقد يكون البعض
الآخر انضمّ إلى جماعة يوحنا الإنجيليّ فترك بعض آثاره في تدوين الإنجيل الرابع،
ولا سيّمَا في ما يتعلّق بالنور والظلمة، بالكذب والحقّ…

 

ب-
إرتباط الأسيانيّين بمخطوطات قمران

نقدّم
اعتبارين إثنين يدلاّن على ارتباط الاسيانيين بمخطوطات قمران. الاعتبار الأول هو
موضع إقامة هذه الجماعة حسب بلينوس الأكبر. والاعتبار الثاني هو صورة عن مسيرة
قبول الطالبين، في مؤلّفات يوسيفوس، وفي “قاعدة الجماعة” التي اكتُشفت
في المغارة الأولى سنة 1947.

حدّد
بلينوس موضع الجماعة بين أريحا وعين جدي (“تحت” تعني إلى الجنوب، حسب وجهة
تصوير الأماكن). فالواحة الوحيدة بين أريحا وعين جدي هي عين فشخة. والحفريات في
قمران قد دلّت على أنه كان هناك موقع منذ منتصف القرن الثاني ق.م. حتى الاحتلال
الرومانيٌ -مع انقطاع بسيط-. إن حقبة الإقامة في قمران توافق الحقبة التي فيها
يذكر يوسيفوس الأسيانيّين.

ثم،
نجد توافقًا بين ما يقوله “نظام الجماعة” وما يقوله يوسيفوس عن
الأسيانيّين. فهذه الجماعة لا يمكن أن تكون قد أقامت إلاّ في قمران. والتوافق
الأهمّ هو طريقة قبول الطالبين في الجماعة.

وهناك
أيضًا المشاركة في الأموال والممتلكات التي يتحدّث عنها فيلون ويوسيفوس كما يتحدّث
“نظام الجماعة” فيقول: “وكل المتطوّعين المتعلّقين بحقيقته يحملون
كلَّ فهمهم وكلَّ قواهم وكلَّ خيراتهم إلى جماعة الله، لكي ينقّوا فهمهم في حقيقة
فرائض الله” (1: 11-12). “والطالب الذي أتمّ سنة في الجماعة يقدّم
خيراته ومدخول عمله في يد مراقب المداخيل” (6: 18-20). وهناك العزوبية
والعلاقات بالهيكل والأفكار والمعتقدات الدينيّة والاغتسالات المتواترة.

 

علاقات المسيحيّة بجماعة قمران

نبدأ
بما يجعل المسيحيّة قريبة من حركة قمران. ثم ننتقل إلى ما يجعلها بعيدة. أما دراسة
بعض النصوص القمرانيّة على ضوء العهد الجديد، فنتركها إلى فصل لاحق.

 

1-
المسيحيّة قريبة من قمران

تتوقف
المقابلة بين حركة قمران والمسيحيّة الفتيّة عند ثلاث نقاط. الأولى، لقد صرنا على
عتبة الأزمنة الإسكاتولوجيّة، فوجب علينا التوبة؛ الثانية، روح المشاركة وتقاسم
الخيرات؛ الثالثة، الخدَم في الجماعة وعلاقتها بالشيعة ككلّ.

 

أ-
ضرورة التوبة

بدأت
كرازة يسوع بنداء ملحّ: “تمّ الزّمان واقترب ملكوت السماء: فتوبوا وآمنوا
بالإنجيل” (مر 1: 15). إن ضرورة التوبة تميّز في الوقت عينه “نظام
الجماعة” (نج) والقسم الأول من “وثيقة دمشق” أو “وثيقة
صادوق” (وثص). هنا يجب أن نقرأ استعمال كلمة “شوب” (ثاب، تاب) كما
وردت مرارًا عند إرميا.

تكمن
التوبة في العودة إلى شريعة موسى كما تقول “وثيقة دمشق” (15: 14؛ 16: 1).
وحسب بيان التأسيس في المغارة الأولى (نج، 8)، قد ضلّ إسرائيل إجمالاً. فلا بدّ من
الانطلاق من جديد مع مجموعة من 12 رجلاً وثلاثة كهنة يذهبون إلى البريّة ليعدّوا
طريق الربّ. نقرأ في نج 8: 13- 16: “ينفصلون عن مسكن البشر الأشرار كما كتب: “في
البرية هيّئوا طريق ×××× (لا يذكر اسم يهوه بحروفه الاربعة). قوّموا في الفيافي
سبيلاً لإلهنا. هذا يعني درس الشريعة التي فرضها بواسطة موسى لكي نعمل بحسب ما
أوحى بها زمنًا بعد زمن، والتي كشفها الأنبياء بواسطة روحه القدوس”.

“الانفصال”
(ب د ل في العبريّة) هو متطلّبة أساسيّة في حركة قمران. وهي كلمةٌ ترد مرارًا.
نقرأ في وثص 6: 14: “يهتمّون بالعمل حسب تفسير الشّريعة في حقبة الإثم: فينفصلون
عن أهل الهلاك ويحفظون نفوسهم من غنى الإثم النجس… يميّزون بين النجس والطاهر
ويعلمون الفرق بين ما هو قدسيّ وما هو دنيويّ”.

كلّ
هذا المقطع يستلهم شريعة القداسة، وهو يفرض على جميع الأعضاء المتطلّبات عينها فلا
يميّز بين الكهنة والعوامّ. فالشعب كلُّه يمارس شرائع مفروضة على الكهنة حين
يخدمون في الهيكل: والآن، جماعة المنفيّن في قمران يشكّلون الهيكل الموقت. هذا
الموضوع يكوّن استباقًا لمقابلة بولس بين الكنيسة والهيكل. نقرأ في 1 كور 3: 16-17:
“أو ما تعلمون أنّكم هيكل الله، وأنّ روح الله ساكنٌ فيكم؟ من يُفسدْ هيكل
الله يفسدْه الله. لأن هيكل الله مقدّس، وهذا الهيكل هو أنتم”. وفي 2 كور 16:
6: “أيّ وفاق لهيكل الله مع الأوثان؟ فأنّا نحن هيكلُ الله الحيّ” (رج 1
بط 2: 4- 6). ونورد هذا المقطع من “نظام الجماعة” (8: 6- 8) الذي يقدم
الجماعة على أنها “بيت مقدّس لإسرائيل ورفقة مقدَّسة (إن قدس الأقداس يتميّز
عن القدس) لهارون… ليكفّر عن البلاد ويجازي الأشرار بشرّهم. إنها سور مجرّب وحجر
زاوية لا يتزعزع، وحجارته لا تتزحزح من مكانها”.

إن
التلميح إلى أش 28: 16 واضح: “ها أنا أضع في صهيون حجرًا مختارًا، حجر زاوية
كريمًا، أساسًا راسخًا. فمن آمن به فلن ينهزم”. وقد توسّع 1 بط 2: 4- 10 في
هذا النص وطبّقه على الكنيسة: “أدنوا إليه، هو الحجرُ الحيّ… وأنتم أيضًا،
أبنوا من أنفسكم، كمن حجارة حيّة، بيتًا روحيًّا…”.

ويترافق
النداء إلى التوبة مع احتقار الخطأة بل بغضهم. هذا هو معنى مطلع نظام الجماعة (1: 9-
10): “ليحبّوا جميع أبناء النور… وليبغضوا جميع أبناء الظلمة، كلاً حسب
خطيئته وحسب انتقام الله”. فمن هم هؤلاء الملعونون؟ هم أولاً الوثنيّون الذين
ينظر “نظام الحرب” إلى 40 سنة من الحرب ضدّهم. وهم ثانيًا بنو إسرائيل
الذين “تجاوزوا العهد” (نظح 1: 2). فحين مالوا عن الطريق (وثص 1: 13)
خسروا امتياز الاختيار.

إن
البحث القلق عن طهارة طقسيّة جعلت أهل قمران يرذلون كلّ أصحاب العاهات الجسديّة: العُرجَ
والعميانَ والصُمَّ والخرسَ والكسحان. كل هؤلاء يُستبعدون من الجماعة المقدّسة،
“لأن ملائكة القداسة هم فيها”. ويرى بولس أيضًا أن الملائكة يشاركون في
الاجتماع الليتورجيّ (1 كور 11: 10) وهذا ما يفرض على النساء الحشمة. ولكن تجاه
قساوة الأسيانيّين يأتي المثل الإنجيليّ عن المدعوّين فيتّخذ الخطَّ المعاكس: “قال
السيد لغلامه: أخرج سريعًا إلى السّاحات وشوارع المدينة، وائتِ إلى ههنا بالمساكين
والجدع والعميان والعرج” (لو 14: 21؛ رج آ 13).

شدّدت
الجماعة القمرانيّة على الطهارة الطقسيّة والعشور، أما يسوع فعلى شريعة المحبة
والقاعدة الذهبيّة (مت 7: 12). وكلمتا الشريعة والعهد اللتان تردان عند
الأسيانيّين مرارًا، لا تجدان مكانًا لهما عند يسوع. وموضوع ملكوت الله الذي هو
مركزيّ في الكرازة الإنجيليّة، لا يجد إلا مكانة ضئيلة في الترانيم من أجل محرقة
السبت. وفي خط حزقيال سنجد تركيزًا على تسامي الله الذي يتخذ شكل إله صارم يصب
غيظه على أجيال البشر المتعاقبة. وتتوزّع تحريضات “وثيقة دمشق” في ردّة تتكرّر:
“اشتعل غضب الله” (1: 21؛ 2: 31؛ 3: 8…). وفي كل حقبة لا يترك الله
إلا بقيّة صغيرة.

أما
الإنجيل فيقدّم وحيًا مختلفًا كلَّ الاختلاف: فالله هو الآب السماويّ الذي يُشرق
شمسه على الأبرار والأشرار (مت 5: 45). الذي يذبح العجل المسمّن حين يعود ابنه
الضالّ (لو 15: 23). وهناك مثل موجّه ضدّ أصحاب الفكرة الخاطئة في إسرائيل: “هل
عينك شرّيرة لأني أنا صالح” (مت 20: 15)؟ إن يسوع هو بكلّ حياته وتصرّفاته
الشهادة الحيّة لحنان الله المشعّ هذا.

وهكذا
نكون على نقيض من نظرة قمران وما فيها من قساوة تجاه الخطأة والضعفاء وأصحاب
العاهات.

وهكذا
نقول في ملاحظة أولى: قد يكون هناك تشابه في الصوَر، ولكن روح الإنجيل بعيدٌ كل
البعد عن روح قمران. وإن جعلنا من يسوع “معلّم البرّ” جدّفنا على اسمه
ولم نفهم شيئًا من هذا الخبر السعيد الذي جاء يحمله إلينا.

 

ب-
المشاركة وتقاسم الخيرات

برّر
معلّم البرّ ذهابه من أورشليم بانتقادات عنيفة ضد الكاهن الكافر الذي أخطأ حين
كدّس أموال الظلم ونجّس الأمور المقدسة (وثص 17؛ تفسير حبقوق 8: 8- 13). هذا ما
يذكّرنا بأقوال عاموس ضد أمصيا، كاهن بيت إيل (عا 7: 10- 11). ما يكوّن أصالة
جماعة قمران هو أنها تعتبر نفسها “جماعة في الشريعة وفي القسمة”،
وتتوسّع في برنامج حياة مشتركة: هذا ما سبق وقاله عنها فيلون ويوسيفوس. وهناك
إيراد من نظام الجماعة يبيّن كيف ينتقل هذا المثال الاتحاديّ في كل أويقات الحياة:
“يطيع الصغير الكبير في كل ما يتعلّق بالعمل والمال. يأكلون معًا. يتشاورون
معًا” (نظام الجماعة 6: 2- 3). هنا نجد لفظة “ي ح د” (واحد) التي
ترد 67 مرة في نظام الجماعة.

ونميّز
وجهتين من هذا المثال في الحياة “الرهبانيّة”. “كل شيء يؤول إلى
الوحدة والتوافق التامّ بين أعضاء المجموعة في تحقيق مثالهم المشترك وممارستهم
الدينيّة. من هذا القبيل، نستجمع اللوائح الطويلة من الفضائل المطلوبة من أعضاء
الجماعة. نمارس معًا “الحقيقة والبرّ والعدل والمحبة والرحمة والسلوك
المتواضع الواحد تجاه الآخر” (نج 8: 2). نقابل هذا الكلام مع تحريضات القديس
بولس مثلاً في فل 2: 1- 4: “أناشدكم بما في المسيح من دعوة ملحّة، وفي المحبة
من قوة مقنعة، وفي الروح من شركة، وبالحنان والرحمة أن أتمّوا فرحي بأن تكونوا على
رأي واحد…”. ولكن تبقى اللوحة في قمران محجّرة، وبالتالي بعيدة عن المثال
المسيحيّ. سمّى أهل قمران نفوسهم في خط المزامير “جماعة كلّ الفقراء إلى رضى
الله”. وهناك عبارة “الفقراء بالروح” التي نقرأها في مت 5: 3.

والحياة
المشتركة تفترض تقاسمًا للخيرات ولو كان جزئيًّا. هناك فقر تامٌّ في نظام الجماعة
حيث يضع المبتدئ ما يملك في يد القيّم. أما في “وثيقة دمشق”، فيقدّم
أجرة يومين في الشهر (14: 12- 13). ولكننا لا نستطيع أن نتكلّم عن الفقر في حدّ
ذاته. فهم حين يعودون إلى أورشليم سينعمون بأسلاب الأمم.

هل
نعتبر أن تقاسم الخيرات في الجماعة المسيحيّة في أورشليم يستلهم النموذج
الأسيانيّ؟ نقرأ في أع 2: 44- 45: “كان جميع المؤمنين يعيشون معًا، وكان كل
شيء مشتركًا في ما بينهم. وكانوا يبيعون أملاكهم ومقتنياتهم، ويوزّعون أثمانها على
الجميع بحسب حاجة كل واحد منهم”. وفي 4: 32- 35: “لم يكن أحد يقول عن
شيء يملكه، إنه له، بل كان كل شيء مشتركًا في ما بينهم…”. ويروي لوقا خبر
برنابا الذي “كان له حقل، فباعه وأتى بثمنه وألقاه عند أقدام الرسل” (أع
4: 37). كان البعض يقدّمون، ولكن لم تفرض عليهم الفريضة، بل كانت نصيحة ومشورة: “إن
شئت أن تكون كاملاً فبع ما تملك” (مت 19: 21). فحنانيا وسفيرة كانا حرّين في
أن يبيعا أو لا يبيعا، في أن يقدّما المال كله أو بعضه. ولكنهما لم يكونا حرّين في
أن يكذبا على الروح القدس (أع 5: 1 ي). وكانت أم يوحنا مرقس صاحبة بيت كبير تلتئم
فيه الجماعة الأولى (أع 12: 12)، فلم يجبرها أحدٌ على بيعه. في قمران فرضٌ وإكراه.
في المسيحيّة حريّة أبناء الله.

لسنا
في قمران أمام روحانيّة الفقر كما دعا إليها المسيح مع مشاركة في الحياة على كلّ
الصعد. هذا ما اهتّم به بولس حين جمع بعض المال من أجل كنيسة أورشليم التي عرفت
المجاعة. قال: “إذا كان الوثنيّون شاركوا (مسيحيّي أورشليم) في خيراتهم
الروحيّة، فعليهم أن يشركوهم في خيراتهم الماديّة” (روم 15: 27).

 

ج-
تنظيم الجماعات

نبدأ
فنلاحظ في قمران المكانة المحفوظة للكهنة. “لينفصلوا عن مجموعة الآثمين
ليكونوا مجموعة على مستوى الشريعة والخيرات، وليسلّموا نفوسهم إلى قرار أبناء
صادوق، والكهنة الحافظي العهد” (نج 5: 2- 3).

فالذي
نظّم الجماعة كان ابن صادوق (وثص 1: 10) وقد أمضى 20 سنة يتلمّس طريقه.
“الكهنة هم المرتدّون في إسرائيل الذين خرجوا من أرض يهوذا. واللاويّون هم
الذين ينضمّون إليهم، وأبناء صادوق هم مختارو إسرائيل وأناس معروفون يقفون منتصبين
في نهاية الأيام” (وثص 4: 2- 3). فالكهنة يعطون الجماعة ميزتها الكهنوتيّة.
ولكن ما يدهشنا أننا لم نجد في قمران عبارة خر 19: 5 “مملكة كهنة”.

وتظهر
أولوية الكهنة ساطعة في الحديث عن الأزمنة المسيحانيّة. فرئيس الكهنة يكون أمام
المسيح، ابن داود، ما يقول “نظام الجماعة” (2: 11- 15): “إذ كان
الله قد ولد المكرّس (المسيح الداوديّ) معهم، فالكاهن يأتي في رأس كل جماعة
إسرائيل. ثم كل إخوته الكهنة أبناء هارون، ثم الشرفاء”. “يُدعون إلى
الاجتماع ويجلسون أمامه (رتب الكهنة) كل بما يناسب كرامته، حسب موضعهم في
المخيّمات وفي التنقّلات”. نشير هنا بشكل عابر إلى مسائل الأولويّة
والسبَقيّة. من يمشي في المقدّمة؟ من يكون أعظم من الآخرين؟ تجادل التلاميذ في من
هو الأعظم. أما يسوع فكان قاسيًا في هذا المجال: “إن أراد أحد أن يكون الأول،
فعليه أن يكون آخر الكل، وخادمًا للكل” (مر 9: 35).

هناك
بنية مثلّثة في قمران قد تكون انتقلت إلى الجماعة المسيحيّة الأولى: الكهنة،
الشيوخ، المعلّمون (رابيم). وفي الكنيسة: الرسل، الشيوخ، الشعب (مجموعة الإخوة)
(أع 15: 6- 12). الإخوة هم المؤمنون الذين يشاركون في التشاور واتخاذ القرار داخل
الجماعة. وإن ضمّت الجماعة المسيحيّة في صفوفها كهنة يهودًا ارتدّوا إلى المسيحيّة
(أع 6: 7)، إلاّ أنهم لم ينعموا بأية كرامة خاصة بفعل كهنوتهم: فالرسل، شهود
القيامة (أع 1: 22)، هم الذين يوجّهون الجماعة بمعاونة الشيوخ (أع 11: 30؛ 5: 14؛
1 بط 5: 1- 4).

ظهرت
ثلاث كلمات تدلّ على تنظيم جماعة قمران: المتفقّد الذي يبدو قريبًا من معلّم
الابتداء في الديورة. المبقّر أي الراعي الذي بيده الصندوق العام. هو قيّم على
الخيرات الماديّة. ولكن دوره لا ينحصر في الأمور الماديّة. هذا ما تقول فيه وثص 13:
7- 10: “هذه هي القاعدة للوكيل في المخيّم. يعلّم العديدين عن أعمال الله،
ويخبرهم بمآثره العجيبة، ويروي أمامهم أحداث الماضي… يكون رؤوفًا تجاههم كالأب
تجاه أولاده، ويردّ الطالبين كما يفعل الراعي مع قطيعه. ويحلّ السلاسل التي
تقيّدهم بحيث لا يبقى مضايق أو مظلوم وسط الإخوة”. قد يكون
“المبقّر” قريبًا من السبعة في مسؤوليّاتهم في الاهتمام بالموائد (أع 6:
1 ي). ونقابل هذه الإشارات الرعائيّة بتحريض بولس لشيوخ أفسس (أع 20: 17- 35)، أو
بطرس للشيوخ الذين يعملون معه: “وأما الكهنة فيكم فأحرّضهم، أنا الكاهن مثلهم
والشاهد لآلام المسيح، والشريك أيضًا في المجد المزمع أن يتجلّى، أن ارعوا رعيّة
الله التي أقمتم عليها، لا قسرًا بل عن رضىً بحسب مشيئة الله، لا طمعًا في مكسب
خسيس بل عن بذل ذات، لا كمتسلّطين على نصيب خاص بل كمن يكون مثالاً للرعيّة”
(1 بط 5: 1- 3).

والكلمة
الثالثة: مسكيل. هو الحكيم والعاقل والفهيم. استعملت اللفظة في دا 12: 3 فدلّت على
الحكماء الذين يعلّمون شعب الله ويحرّضونه على الأمانة للعهد.

في
قمران، مسكيل هو المعلم والمدرّب بالنسبة إلى “جميع أبناء النّور” (نج 3:
13). وقد تحدّدت وظيفته التعليميّة في نج 9: 12، 21: التنبّه إلى الأزمنة وتنّوع
الأرواح. إخفاء التعليم عن الأشرار وتفقيه الأخبار. “يعلمهم بكلّ ما وُجد
ليمارسوه في ذاك الوقت ولينفصلوا عن كل إنسان لم يمل بطريقه عن كل شرّ” (رج
وثص 12: 21؛ 13: 22). إلى مسكيل أهديت الترانيم من أجل محرقة السبت، وقد قال عن
نفسه: “أنا معلّم الحكمة، عرفت إلهي بالروح الذي جعلته فيّ”. وهكذا تكون
وظيفة مسكيل التعليمية امتدادًا لعمل المؤسس في الجماعة.

لم
نجد عند قمران “وضع اليد” كطقس يولي المعلّم وظيفة “رابي”.
هذا الطقس الذي مارسه الرابينيّون قد أخذت به الكنيسةُ وأعطته منحًى خاصًّا فدلّ
على انتقال الروح القدس. قال بولس لتيموتاوس: “لا تهمل الموهبة التي فيك
أوتيتها عن طريق النبوة وبوضع أيدي الكهنة” (1 تم 4: 14). وطلب إليه بأن لا
يتسرّع بوضع يديه على أحد (1 تم 5: 22؛ رج 2 تم 1: 6).

 

2-
المسيحيّة بعيدة عن قمران

بعد
هذا الحصاد السريع، بدت الاختلافات أكثر عددًا من المشابهات. وهناك فرق أساسيّ
يكمن في انقطاع المسيحيّة الحاسم عن الكهنوت بحسب رتبة هارون. فالعلاقة مع المسيح
الداودي بوساطة الروح، هي غير العلاقة بين معلّم البرّ وجماعة قمران. وفي أي حال،
نحن نجهل من هو معلّم البّر هذا.

لا
شك في أن المدائح الخاصة تجعلنا نستشف طابع المعلّم وروحانيّته، ولكننا لا نجد
خبرًا يروي لنا أعماله وحركاته. قد نستطيع أن نكتشفها من خلال التعليمات التي
نقرأها في “نظام الجماعة” وفي “وثيقة صادوق”، في المعطيات
التي تقدّمها المدائح، في اللغة السرّية للتفاسير التي تجعلنا نستشفّ نزاعه مع
الكاهن الكافر. لم يُحط الناس ذكراه بإكرام خاصّ، وهذا ما نفهمه حين نعلم أن لا
فيلون ولا يوسيفوس لمّحا إليه حين تحدّثا عن الأسيانيّين.

هذا
الصمت اللافت يجب أن يعلّمنا التحفظ الفطن حين نقابل بين يسوع ومعلّم البر. نحن لا
نستطيع أن نقابل الحركة الأسيانيّة بالمسيحيّة، بل بالحركة العماديّة التي تجلّت
بشكل خاصّ في شخص يوحنا المعمدان وعمله. تحلّوا بغيرة بطوليّة وذهبوا إلى البريّة
لكي يهيّئوا طريق الربّ. بحث الأسيانيّون في الكتب المقدسة ليكتشفوا إرادة الله
ويُشعلوا حرارة الانتظار لمجيئه القريب متدخّلاً من أجل شعبه. وجماعة يوحنا
المعمدان دعت إلى التوبة والاعتراف بالخطايا وتبديل الحياة لكي تنجو من الدينونة
الآتية. حركتان روحيّتان هيّأتا الطريق للمسيح الذي جاء يقدّم الخلاص، لا بصرامة
يوحنا المعمدان الذي انتظر أن تقطع الفأس كل شجرة رديئة، ولا بخاصيّة الأسيانيّين
الذين حصروا النور في فئة قليلة من الناس، فنسوا الشموليّة التي دعا إليها يسوع
حين أرسل تلاميذه إلى العالم أجمع.

عرف
يوحنا المعمدان قمران، كما عرف جماعة العماديّين في وادي الأردن، واعتقد، شأنه شأن
يهود عصره، ولا سيّمًا الأسيانيّين، بالدينونة القريبة. فدعا الناس إلى توبة
جذريّة. ومعهم انتظر تنقية أكمل بفعل روح القداسة. وكما في قمران حيث الاغتسالات
الطقسيّة كانت تشير إلى تطهير أكمل في الحقبة الإسكاتولوجيّة، جعل من عماد يمارسه
بسلطان، العلامة السابقة لعماد الروح الذي يمارسه المسيح الذي سمّاه يوحنا الأقوى.
إبتعد العماديّون والأسيانيّون عن العالم اليهوديّ الرسميّ، ولكنّهم لم يرذلوا
ليتورجيّة الهيكل. أما في المسيحية، فالهيكل الجديد هو جسد يسوع المسيح. وعبادتنا
هي عبادةٌ بالروح والحقّ، كما قال يسوع للسامريّة.

إن
وثائق قمران ألقت بعض الضوء على المحيط الذي عاش فيه يوحنا المعمدان. ولكنها أبرزت
أصالة شخصه وتعليمه. تركّز تعليمُ معلّم البرّ على ممارسة الشريعة بشكل حصريّ
وصارم. أما يوحنا فوضع نفسه في خط الأنبياء الذين جعلوا الأولوية لمتطلّبات العهد
الدينيّة والأخلاقيّة. ترك مثال “الانفصال” عن الخطأة، ودعا الجميع إلى
توبة جذريّة، فهيّأ شعبًا جديدًا يستعدّ لمجيء المسيح. من هذا القبيل يبدو التعارض
كبيرًا مع قمران الذي وعى أنه يشكّل البقية المختارة، فجعل سائر الشعب عرضة للغضب
الإلهيّ كما تفعل اليوم شيعة شهود يهوه. استقبل يوحنا الخطأة وأعلن الغفران
للعائشين على هامش المجتمع في عصره فوقف على حدود العهد الجديد. ولهذا سمّاه
الإنجيل الرابع “الشاهد” الأرفع للمسيح. سيجد قسم من جماعة يوحنا ملءَ
طلبهم في يسوع فيتبعونه. ويبدو أن قسمًا من أهل قمران التحقوا بيوحنا الرسول
وجماعته فحملوا غنى العالم الأسيانيّ إلى الإنجيل الرابع، ولكنهم طوّروا هذا الغنى
ليكون مفتوحًا على البشارة الجديدة، على شخص يسوع المسيح.

إذا
كان الأسيانيّون لم يصلوا إلى مستوى العماديّين في الاستعداد لمجيء المسيح، فكيف
نشبّههم بالمسيحيّين؟ وإذا كان معلّم البرّ بعيدًا جدًّا عن يوحنا المعمدان، فكيف
نشبّهه بالمسيح، والمعمدان قال عن نفسه حين رأى يسوع: لا أستحقُّ أن أحلّ سيور
نعليه. لا شك في أن المسيح كلمة الله وابن الله أرفع من إدراك البشر. لهذا فهم
يحاولون أن يجعلوه على مستواهم لكي لا يزعجهم بحضوره ومتطلّباته. هو شخصٌ حكيمٌ
مثل سائر الأشخاص الذين أسّسوا ديانات في العالم. هذا هو الوجه الخارجيّ والسطحيّ
ليسوع المسيح. ولهذا، فكل تشبيه به يبقى بعيدًا بعد السماء عن الأرض، والله عن
الانسان. لقد خلق الله الإنسان على صورته ليرفعه إلى مستوى الألوهة. ولكن الإنسان
يحاول أن يحطّ الله فيجعله على مستواه، فيجعله صنمًا يعبده أو فكرة يسجن نفسه فيها،
أو إيديولوجيّة يؤلّهها ويدخل فيها الأمور العديدة فتكون أبعد ما يكون عن الحقيقة
التي نبحث عنها.

 

النصوص القمرانيّة والعهد الجديد

 

1-
قراءة الكتاب المقدّس

يعرف
الشرق تيّارين: واحدًا يرفض العهد القديم ويودّ أن يفصله عن العهد الجديد. هذا ما
فعله مرقيون منذ القرن الثاني المسيحي فانتهى به الأمر إلى الإبقاء على إنجيل لوقا
وبعض الرسائل البولسيّة، واستبعاد سائر أسفار العهد الجديد بدءًا بمتّى. وآخر
يحاول باسم إلغاء الطائفية أن يقرّب بين الديانات على مستوى قاسم مشترك، فيخلق
ديانة خاصة تشرف على الديانات السماويّة. وكما أن التيار الأول يخلق التعصّب
والبغض للآخر والانغلاق على تفكير ضيّق يحسب نفسه مرتكز الكون، فالتيّار الثاني
يخلق دوغماتية متحجّرة لا ترضى بالآخر ولا بأفكاره، فتصبح أكثر ذمًّا من الطائفيّة.
فانفتاح الواحد على الآخر في حقيقة تنمي الإنسان، وكلَّ إنسان، رجلاً كان أو امرأة،
غنيًّا كان أو فقيرًا، متعلّمًا كان أو أميًّا… ما زال بعيدًا عنا. نريد أن نفرض
حقيقتنا على الآخر، ولا نريد أن نتقبَّل الآخر، فتكون النتيجة هذا الوضع الذي نعيش
فيه.

ويعرف
الغرب الدينيّ تيارًا أصوليًّا يحمل خطرًا كبيرًا على المسيحيّة. هو يريد أن
يتعلّق بيسوع المسيح تعلّقًا على مستوى الجسد. ولكن بولس يقول: “إن كنا قد
عرفنا المسيح بحسب الجسد، فالآن لا نعرفه كذلك” (2 كور 5: 16). لا شك في أن
أناسًا عرفوا يسوع في الجسد، ولكنهم رذلوه وصاروا خارج رعيّته. أما الذين قبلوه،
فبالإيمان قبلوه، وبالإيمان صاروا أبناء الله.

هذا
التيار يحاول أن يجعل الإنجيل حرفًا ميتًا مسجّلاً خرج من فم يسوع ودوّنته
الأناجيل الأربعة بطريقة “حرفيّة”. ولكنهم ينسون أن الأناجيل تختلف في
تفاصيل عديدة. فما يسند صحة الإنجيل ليس قرب “الكتاب” من يسوع، بل الروح
القدس الذي حلّ على المسيح وعلى الرسل وعلى الجماعات ولا يزال حاضرًا معنا. بل
الكنيسة التي هي جسد المسيح وتعرف كلَّ المعرفة كلام المسيح الحقيقيّ الذي هو روح
يحيي لا حرف يقتل (2 كور 3: 6).

وكما
يشوّه أبناء الشرق قراءة النصوص من أجل أغراضهم الخاصة وهي أبعد ما تكون عن منطق
الإيمان والديانة الحقة، يشوّه بعض الباحثين قراءة الوثائق لكي يسندوا تفكيرهم
الخائف من عاصفة الروح القدس الذي ما زال ينفخ في الكنيسة ويطلقها على طرق العالم
المعروف. أرادوا أن يجعلوا المسافة قريبة بين يسوع وإنجيله، فقالوا إن هناك نصًا
إنجيليًّا وُجد في قمران. وتوخّى آخرون أن يعودوا ببولس والكنيسة إلى عالم يهوديّ
متحجّر، فأعلنوا أنهم اكتشفوا لدى الأسيانيّين مقاطع من رسائل القديس بولس. فبدل
أن نكون خاضعين لكلام الله، نُخضع كلام الله لمفهومنا ونعجب إن رأيناه مشوَّهًا.

قدّمنا
جوابًا موجزًا للذين يجعلون يسوع إنسانًا من البشر وينسون أنه إله وإنسان معًا.
قدمنا جوابنا منطلقين من نصوص نُشرت أكثر من مرّة. وسنحاول أن نقدّم الوثائق التي
يستند إليها بعض الباحثين ليدلّوا على قدم إنجيل مرقس وغيره من كتابات العهد
الجديد.

 

2-
آيات من العهد الجديد في قمران

في
سنة 1972، اعتبر الأب جوزيه أوكلاغان أنه وجد في المغارة السابعة نص مر 6: 53 الذي
يقول: “لأنهم لم يفهموا شيئًا من أمر الأرغفة، بل كانت قلوبهم عمياء. ولما
أفضوا إلى البرّ جاؤوا إلى جنسارت وأرسوا هناك”. ماذا كان في يد الباحث؟ بضعة
حروف. حاول أن يزيد ويصحّح حتى بلغ إلى الجملة المطلوبة. في العبارة الأولى هناك
حرفٌ واحد من أصل عشرين حرفًا، وفي العبارة الثانية نجد خمسة حروف من أصل 23 حرفًا،
وفي الثالثة، 6 من 20، وفي الرابعة 4 من 20، وفي الخامسة 4 من 21. وهكذا تكون مجمل
الحروف الموجودة 20 حرفًا من أصل 105 حروف. وجاء الردّ سريعًا من الأب بنوا: يبدو
لي أن القراءة ليست أكيدة ولا تصحيح الحروف، لاسيَّما وأن الأب أوكلاغان لم يصل
إلى الأصل، بل إلى صور عن الأصل. ومع ذلك راحت مجلّة فرنسية تعلن وتكرّر: ما وُجد
في قمران يتطابق تمامًا مع نص مر 6: 52-53. يكفي أن ننظر إلى الصورة لكي يكون
البرهان واضحًا. وكانت المجلة نفسها قد قالت على الغلاف: “إن مرقس كتب حالاً
(بعد موت يسوع). إن فتيتة قديمة تبرهن أن مرقس دوّن إنجيله بضع سنوات فقط بعد موت
يسوع المسيح وقيامته. وهكذا، ردّت على التأويل الحديث. غير أن هناك صمتًا سريًّا
يحوم فوق هذا الاكتشاف”. وفي الداخل نقرأ: “اكتشاف مزعج. التحديد القديم
لزمن كتابة الأناجيل ليس بصحيح. فبين المخطوطات التي وُجدت في منطقة البحر الميت،
هناك فتيتة لإنجيل مرقس تدل على أنه كتب قبل سنة 50”.

وسُئل
الأب بيار غرالو عن رأيه فقال: “ظن هذا الأب اليسوعي البسيط أنه وجد في فتيتة
مبعثرة نصّ مرقس. هي فرضية عبثيّة. ونحن نستطيع أن نكوّن من هذه الحروف خمسة أو
ستة نصوص من العهد القديم. والهدف من كل هذه الضجة هو دفاعيّ. يريد صاحبُها أن
يبيّن أن الأناجيل كُتبت في وقت مبكّر…”.

واعتبر
الأب أوكلاغان أنه وجد مر 4: 28: “فالأرض من ذاتها تثمر، تخرج الساق أولاً،
ثم السنبلة، ثم الحنطة ملءَ السنبلة”. في يد الأب اليسوعي خمسة حروف من أصل
55 حرفًا. لهذا قال الأب بنوا: تعب الأب أوكلاغان، ولكن قراءته ليست بأكيدة. واستنكف
التوقف عند 7 ق 8 (أي: المغارة السابعة في قمران، الوثيقة الثامنة) حول يع 1: 32-24:
“فإن من يسمع الكلمة ولا يعمل بها يشبه إنسانًا ينظر في مرآة وجه…”.
معنا سبعة حروف. ويجب أن ننطلق منها لكي نجد 69 حرفًا. الإمكانيّات عديدة ولا
إمكانية تفرض نفسها.

وفي
مقال ثان، قدم الأب أوكلاغان نص 1 تم 3: 16؛ 4: 1-3؛ أع 27: 38؛ مر 12: 17؛ روم 5:
11-12؛ 2 بط 1: 15. فاجاب بنوا بأن قراءة الحروف مشكوك فيها إن لم تكن مستحيلة،
لأن الحروف الموجودة هي قليلة جدًا لكي تتيح لنا أن نجد نصًّا يفرض نفسه.

على
مثل هذه الأمور الواهية ارتكز بعضهم ليتحدّثوا عن خوف الكنيسة من قراءة نصوص قمران.
لنفترض أن تكون هذه النصوص حقيقة وواقعًا، فهي لا تتضارب ونصّ الكتب المقدّس. أما
البحث في المخطوطات فيرتبط بالعلماء لا بالوحي والإلهام. وليتناقش العلماء ما
شاؤوا حول هذا المقطع أو ذاك، حول زمن كتابة وثيقة من الوثائق. فكلام الله يبقى
كلام الله، وليس على المؤمنين أن يضطربوا من هذا المناقشات التي قد تساعدنا على
التعرّف إلى المحيط الذي فيه دُوّنت أسفار العهد الجديد.

 

3-
أفكار من العهد الجديد في قمران

منذ
أن نُشرت مخطوطات البحر الميت، ظهر أنها تفتح الطريق لدراسة أصول المسيحيّة، وأنها
تتيح لنا أن نتعرّف بشكل أفضل إلى التيارات الدينيّة في العالم اليهوديّ
الفلسطينيّ الذي منه انطلقت الديانة الجديدة.

 

أ-
الملك الأخير بألقابه المسيحانية

وُجد
في المغارة الرابع (4 ق 246) نصٌّ أراميٌّ يُنسب إلى دانيال. إن هذا الملك الأخير
هو المسيح، هو الربّ وابن الله. وقد استند هذا الكلام إلى مز 2 و110 اللذين هما
مزموران مسيحيّان نقرأ فيهما: “انت ابني. أنا اليوم ولدتك”. هل ترك هذا
النصّ أثرًا في إعلان ميلاد المسيح في لو 1: 32-33: “إنه يكون عظيمًا، وابن
العلي يُدعى، وسيعطيه الرب الإله عرش داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الدهر،
ولن يكون لملكه انقضاء”؟ إن هذه الألقاب المسيحانية لشخص إسكاتولوجيّ هي في
أساس ما كتبه بولس في روم 1: 3-4 و1 كور 12: 3.

ثم
إن الأصل الداوديّ للمسيح موجودٌ في نصوص أخرى من قمران. مثلاً، تستعيد 4 ق 174
نبوءة ناتان حول السلالة الداوديّة (2 صم 7: 12) ثم تفسّر مز 2: 1-2 الذي يتحدّث
عن بنوّة المسيح الإلهيّة.

واليك
نصَّ دانيال المزعوم (4 ق 246). “حلّت عليه مخافة عظيمة، فسقط أمام العرش
وقال دانيال للملك: أنت تغضب من زمان بعيد وتسير سنوك في المخافة. سأفسّر لك
الرؤية وكل شيء. عش إلى الأبد. بسبب الملوك المقتدرين سيحلّ ضيق بالأرض. ستكون حرب
بين الشعوب ومجازر كبيرة في المقاطعات. ويقوم الملوك ويتحالف ملك أشورية وملك مصر.
ويقوم ملكٌ آخر عظيم، وهو يكون عظيمًا على الأرض. تسالمه الشعوب والملوك، والجميع
يخدمونه. يسمّى ابن الربّ العظيم السامي، يسمّى باسمه. يقال فيه إنه ابن الله
ويدعى ابن العلي. ومثل كواكب الرؤية هكذا يكون ملكهم. يملكون سنوات على الأرض
ويدوسون كل شيء”.

 

ب-
التطويبات

هل
من مقابلة بين “التطويبات” في قمران وما نقرأ في مت 5: 3-10 “طوبى
للمساكين بالروح، طوبى للودعاء. طوبى للحزانى…”؟

نشر
بواش الباحث المعروف مقالين من المغارة الرابعة يقدّمان خلفيّة تساعدنا على فهم
أصل التطويبات ومعناها حسب مت 5: 3-10. يستند البرهان إلى مديح نجده في 4 ق 525
والتطويبة الطويلة في سي 14: 20-27 التي تبدأ ب “طوبى” واحدة تتبعها
ثمانية أبيات شعرية: “هنيئًا لمن يهتم بالحكمة، وبعقله يفكّر فيها. لمن يراعي
طرقها ويكشف أسرارها. يسعى وراءَها كالصيّاد…”.

وإليك
نصّ التطويبات كما نسّقه بواش: “طوبى للذي يقول الحقّ بقلب نقيّ ولا يفتري
بلسانه. طوبى للذين يفرحون به (= الحق) ولا يسيرون في خطى الجهل. طوبى للذين يطلبونه
بيدين طاهرتين لا بقلب معوجّ وملتو. طوبى للرجل الذي أدرك الحكمة، الذي يسير في
شريعة العليّ ويربط قلبه بخطاها ويتعلّق ببرّها ويرضى دومًا بتأديبها. فلا يرذلها
حين تؤلمه النكبات ولا يتخلّى عنها في وقت الضيق ولا ينساها في أيام الربّ ولا
يندّد بها في تواضع نفسه”.

حتى
الآن عرفنا في العهد القديم عددًا من التطويبات (مز 1: طوبى للرجل الذي لا يسير في
طريق الخاطئين) منعزلة أو مجموعة. أما نصُّ ابن سيراخ فجاء في ثمانية أبيات. كل
هذا يجعلنا مع نصّ قمران في خطّ ما دوّنه مّتى. والفقراء في الروح تترجم عبارة ترد
مرارًا في وثائق قمران، ولكنها تعني بالأحرى المتواضعين والحافظين للشريعة الذين
يعيشون في مهبّ الروح. هم أبناءُ النور تجاه أبناء الظلمة. هكذا نفهم “سعادة
المساكين بالروح”، هؤلاء الأبناء، أبناءِ ملكوت الميثاق الجديد الذي دشّنه
يسوع، موسى الجديد وحكمة الله.

ولكننا
نتوقف عند الجديد الجذريّ في نصّ متّى: لقد أعلن اجتياح الملكوت مع يسوع بهذه
الخطبة التدشينيّة التي ستجد جوابًا في الخطبة الأخيرة (مت 25: 31-46) التي تعلن
مشاركة المؤمنين مشاركة تامة في السعادة، في الدينونة الأخيرة. حينئذ يفصل الأبرار
عن الأشرار، المباركين الذين عملوا بشرعة الملكوت كما حدّدتها التطويبات،
والملعونين أو أبناء الشرير.

 

ج-
الأزمنة المسيحانيّة والقيامة

في
منتصف القرن الخامس ق.م. أعلن ملاخي عودة إيليا النبي ليهيّئ الشعب للتوبة وممارسة
الشريعة قبل مجيء يوم الربّ (ملا 3: 23). واستعاد ابن سيراخ هذا الموضوع في بداية
القرن الثاني فزاد التطويبة التالية: “طوبى لمن يراك قبل أن يموت، لأنك تردّ
إليه الحياة فيحيا” (سي 48: 11 حسب العبريّة). وهكذا بيّن ابن سيراخ أن
اليهوديّ الذي يموت ميتة الأبرار في المحافظة على الشريعة قبل مجيء يوم الرب، يقوم
في ذلك اليوم.

لقد
كانت حيّة في محيط الحكماء فكرة قيامة اليهود الأبرار في الدينونة، مكافأة على
سلوكهم. ولكن مجيء هذه الأزمنة الجديدة التي سيدشّنها يوم الربّ كما يهيّئه إيليا
الجديد، يرتبط بمجيء الملك المسيح. وهكذا وُلد تقليدٌ يرى في إيليا الجديد مرافق
المسيح وسابقه. وقد ترك هذا التقليد آثاره في العهد الجديد: مر 9: 11-13 (سؤال
التلاميذ عن عودة إيليا وجواب يسوع)؛ يو 1: 19-27 (سؤال اليهود وشهادة يوحنا
المعمدان)؛ مت 11: 2-15 ولو 6: 18-30 (سؤال يوحنا المعمدان وشهادة يسوع)؛ مر 6: 15
و8: 28 (رأي هيرودس والشعب في يسوع). ونجد أثرًا عن ذلك في البشارة بمولد يوحنا
المعمدان الذي يسبق يوم الربّ (لو 1: 16-17؛ رج ملا 3: 23؛ سي 48: 10).

إن
هذا التقليد اليهوديّ عن إيليا الجديد وسابق المسيح، يجد سندًا له في المغارة
الرابعة. فتيتة أولى دُوّنت بالأرامية (منتصف القرن الأول ق.م.) فعادت إلى ابن
يسّى الثامن (= داود) ولمّحت إلى إرسال إيليا أمام مختار الله واشتعال الأرض،
وفتيتة ثانية (4 ق 521) دوّنت بالعبريّة فتحدّثت عن الملك المسيح والفرح المسيحاني
على الأرض.

نجد
في هذا النص الثاني إطار أش 40-41 ومز 146: توبة، أمانة، انتظار مجيء المسيح أو
المسيحَين. ولكننا نعلم أن المسيح الملك لن يسبق المسيح الكاهن عند الأسيانيّين.
فالربّ سيجازي “الفقراء، والمتواضعين الذين يحلّ روحه عليهم، فيكرمهم على عرش
ملك أبدي… يحرّر الأسرى، ويردّ النظر إلى العميان، ويقوّم المنحنين. ولا يستطيع
أحدٌ أن يؤخر ثمرة عمله. وكما سبق له وقال، فهو يشفي الذين جُرحوا جرحًا مميتًا.
ويعيد الحياة إلى الموتى ويبشّر المساكين ويغدق نعمه على المساكين، ويقود
المطرودين ويغني الجائعين (أو يدعوهم إلى وليمته)، وينير الحكماء في المجد (أو: في
النور)”.

تشوّهت
الفتيتة في الأسفل فلم تسمح لنا بأن نعرف إن كانت هذه الخيرات سترافق مجيء المسيح.
غير أن التقارب مع مت 11: 3-6 ولو 7: 22-23 هو واضح. سأل تلاميذ يوحنا المعمدان
يسوع: “أأنت هو الآتي أم ننتظر آخر”؟ فأجاب يسوع بكلام مأخوذ من المراجع
التي استقى منها هذا النصُّ من قمران وحدّثنا عن الخيرات المسيحانيّة.
“إذهبوا وقولوا ليوحنا…”. وهكذا دلّ يسوع أنه ليس ذاك الديّان الذي
يفصل الأشرار عن الأخيار، ولا محرّر شعبه من الضيق الأجنبيّ، بل ذاك الذي يدشّن
الأزمنة المسيحانيّة. حين أتمّ بنفسه أعمالاً خاصة بالله دلّ على أنه مساوٍ لله.

إن
إقامة ملكوت الله لا تكون الحقبَةَ الأخيرة في يوم الربّ، مع خراب للبعض ونور
للآخرين. فالفتيتة السابعة في 4 ق 521 تصوّر المجازاة والعقاب في الدينونة: الموت
الأبديّ للملعونين. وللمباركين قيامة الموتى التي تبدو كخلق جديد. “إفرحوا يا
صانعي الخير أمام الربّ، أيها المباركون. لا مثل هؤلاء الملعونين الذين سيذهبون
إلى الموت حين يقيم (الله) المحيي موتى شعبه”.

لسنا
في هذه النصوص أمام القيامة العامة. فالأبرار (الأسيانيّون) وحدَهم يقومون
ويتجلّون في النور الذي فيه يتحوّل الأبرار وهم بعد أحياء. هذه النظرة موجودة في
الرسائل البولسيّة (1تس، 2 تس، 1 كور 15). هي نظرة ضيّقة بدأت في عالم قمران
ولكنها ستتوسّع في المسيحيّة لتتحدّث عن الله الآب الذي لا يريد أن يهلك أحدٌ بل
أن يُقبل الجميع إلى التوبة ويخلصوا.

 

خاتمة

هذا
بعض ما نستطيع أن نقول عن الأسيانيّين وجماعة قمران، وارتباطهم بالمسيحيّة. أعطينا
فكرة عن الوثائق التي أخفتها هذه المغارات، كما أشرنا إلى الصعوبات في جمع الفتائت
وقراءتها بعد أن لعبت بها أيدي الزمن وعبث العابثين. ونبّهنا إلى ضرورة قراءة هذه
النصوص ومقابلتها بأسفار العهد الجديد بروح تتوخّى البحث عن الحقيقة، لا بآراء
مسبقة ومغرضة تحاول أن تفرض نفسها على الحقيقة وعلى كلمة الله.

وفي
النهاية، يبقى أن تقديم الأناجيل للمسيح يختلف كل الاختلاف عمّا تقدّمه نصوص
الأسيانيّين والفريسيّين. فيسوع الأناجيل يحقّق في شخصه صورة ابن الإنسان السماويّ
والمتسامي، وصورة ابن الله الذي عمل بقدرة الله وبالروح القدس.

إن
البعد الشامل لصورة يسوع المسيحانيّة، ذاك الذي أُسلم من أجل خلاص الكثيرين، يختلف
عمّا في التيار الأسيانيّ من انغلاق وتحجّر. فالعماد باسم يسوع لغفران الخطايا
وعطيّة الروح، لا يقابل بالاغتسال الطقسيّ الذي يدلّ على تطهير عابر يجب أن يتكرّر.
فالعماد كدخول في الكنيسة هو فعل إيمان بيسوع ابن الله الذي مات وقام، الذي صار
ربَّا ومسيحًا، موسى الجديد وآدم الجديد، الإنسان الجديد وبكر الخليقة وباكورة
العالم الآتي.

على
هذا المستوى، وعلى هذه المستوى وحده، نستطيع أن نقرأ النصوص القمرانيّة فنرى
المسافة التي تفصلها عن الأناجيل وسائر أسفار العهد الجديد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار