علم المسيح

عشاء الخميس



عشاء الخميس

عشاء الخميس

عن
نهار الخميس بالذات، لا يذكر الإنجيل شيئاً. وأكب الظن أن يسوع قد أمضاه ما بين
لفيف أصفيائه وأسرته. وكانت العذراء حاضرة، يوم ذاك، وسوف تكون ماثلة، في الغد،
أمام الصليب، ومع المساء ابتدأت تنطلق الأحداث الحاسمة. وقد رواها الإنجيليون
الأربعة، بكثير من التفصيل، يكمل أحدهم الآخر. وحتى القديس يوحنا – الذي لا يكرر
عادة رواية ما ورد في الإنجيل المؤتلفة – نراه بحاجة إلي الاسترسال في التدقيق
والاستفاضة في التفصيل.. وهكذا بإمكاننا – منذ الآن – أن نتبع سياق الأحداث، ساعة
بعد ساعة، وأن نتأثر خطي المسيح علي درب الآلام.

 

. كان
الفصح، في نظر الإسرائيليين، اعظم أعيادهم علي الإطلاق. فإذا بدا لنا أن نستوعب
مراميه ونفهم شعائره، وجب أن نطالع الفصل 12 من سفر الخروج، حيث ورد وصف تفاصيله
من عهد موسى. ويرجع تاريخ ذلك إلي أيام الجلاء في مصر، إذ أزمع مع الله – استجابة للنبي
– أ، ينزل بالشعب المصري الجائر، ” الضربة العاشرة “، فيفني، ليلاً،
جميع أبكار المصريين. وأما العبرانيون، فقد أوعز إليهم – لئلا تقترض إبكارهم – أن
يجعلوا علي عتبات أبوابهم علامة: دم حمل مذبوح.” وأ، يأكلوا لحمه، في تلك
الليلة، سواء نار بفطير، مع أعشاب مرة.. وأ، تكون.. مشدودة ونعالهم في أرجلهم،
وعصيهم في أيديهم ” كمن أزمع السفر، فيكون لهم ذلك ” فصحاً للرب ”
وتذكاراً ” لعبور ” الله وفريضة مقررة، من جيل إلي جيل، مدي الدهر.
وأمرهم الرب أن يمتنعوا عن الخمر مدة سبعة أيام، فلا يأكلوا إلا الفطير، ويقفوا
لعبادة الرب جميع أيام ذلك الأسبوع

 

و قد
حافظ التقليد اليهودي علي جميع تلك الشعائر حفاظاً شديداً، وقد كثرت في التلمود
تفاصيلها، فكان لا بد أن يشوي الحمل علي لنار حامية، من غير أن يكسر له عظم، وأن
ينفذوه قضيباً من زمان، وقد حدد عدد الكؤوس التي يجب شربها أثناء تلك المأدبة
المقدسة، وقرر أ، تحوي الكأس ثلثها خمراً وثلثيها ماء، وعددوا الأعشاب المرة، وأما
المرق الذي كانوا يغمسون فيه تلك الأعشاب فقد باتت له تتبيلة مدققة مفصلة. فهل هذه
هي المأدبة لتي اجتمع لها المسيح مع تلاميذه ليلة الخميس المقدس؟.

 


في اليوم الأول من الفطير، الذي فيه يذبح، دنا التلاميذ إلي يسوع، وقالوا: ”
أين تريد أن نعد لك فتأكل الفصح؟ ” (متي 26: 17-19، مرقس 14: 12، لوقا 22:
7-8). فأرسل يسوع أثنين من تلاميذه – بطرس ويوحنا – وقال لهما: ” أذهبا أنتما
فأعد لنا الفصح. اقصدا إلي المدينة فيلقاكما رجل يحمل جرة ماء، فاتبعاه، وحيث يدخل
تقولان لرب البيت: ” إن المعلم يقول: ” إن زماني قد اقترب، فعندك أصنع
الفصح مع تلاميذي؟ فأين الردهة التي نأكل فيها الحمل؟ “، فيريكما عليه كبيرة
مفروشة مهيأة فأعدا لنا هناك ” (متي 26: 18 – 19، مرقس 14: 13 – 15، لوقا 22:
7-12).لا ريب أن رب البيت كان من أصحاب المسيح أو من أتباعه، وقد جعل منزله تحت
تصرف المعلم. وأما علامة الاهتداء إلي البيت فهي أقل غرابة مما يبدو، إذا تذكرنا
أن الاستقاء، في بلاد الشرق، هو من أشغال المرأة، وأن ” رجلاً حامل جرة
” يمكن أن يلاحظ.

 

.
وصار التلميذان إلي المدينة ” من الباب المجاور لبركة سلوام، علي الأرجح
” فوقعا علي الرجل. فتعقباه، وتم كل شيء كما أراده المسيح. ” علية كبيرة
“؟.. لا شك أنه حرص علي أن يفرغ شيئاً من المهابة علي تلك المأدبة الأخيرة
التي بات يعلم معناها، فنحن لا نري أنه اقتضى مثل ذلك في مواسم الفصح السابقة.
إننا نجد – حتى اليوم = في البيوت الشرقية، وفي الدور الأول، عادة ردهة فسيحة،
يتدلى من سقفها – غالباً – مصباح مربع، وهي محفوظة للضيوف الطارقين – ولاسيما إذا
كان لا بد أن يطول بهم المقام – يجدون فيها متكآت وطنافس، وينزلون فيها منزل الرحب
والسعة

 

. ولكن
أين كانت تلك العلية التي أعدها التلميذان للعشاء الأخير؟.. أن الموضع الذي أقامت
فيه ” أولي الكنائس وأمها ” – علي حد تعبير المؤرخ غليوم الصوري – هو
اليوم، قاعة فسيحة، عند الزاوية الجنوبية من الأسوار، بنيت في الجبل الرابع عشر،
فوق آثار معبد قديم من الجبل الثالث وقد استقرت حنيتها الغوطية علي أعمدة ضخمة من
البرفير، تعلوها تيجان غليظة، مزينة بنقوش من العناقيد والسنابل.. مع هبوط الليل،
أي – يوم ذاك – في الساعة الخامسة والنصف، ابتدأ الفصح فاتكأ المدعون حول المائدة
{يؤخذ من التلمود أن اليهود قد أسقطوا السنة الموسوية ا لقاضية بتناول الفصح
وقوفاً، فكانوا يأكلونه متكئين، رمزاً إلي الحرية التي أحرزوها من بعد خروجهم من
مصر}، وسبحوا الله، أولاً، شاكرين له الخمر والنهار، ثم شرعوا في العشاء الفضي
الصحيح. ونجد في التلمود وصف التفاصيل التي كانت مرعية. حوالي سنة 150 بعد المسيح،
ولا شك أنها لم تكن لتختلف كثيراً عنها المسيح. فكانوا، أولاً، يغمسون الفطير في
صنف من المرق الأحمر، ثم يتناولون الكاسين الأوليين، يتخللها بعض قطرات ماء مالح،
تذكاراً لدموعهم في مصر، ثم كانوا يرتلون المزمور 113 ” في خروج إسرائيل من
مصر “، وانكفاء البحر الأحمر، بأمر العلي، وبعد ذلك كانوا يأكلون الحمل مع
” الأعشاب المرة “، من سعتر وغار وحبق وسائر تلك الأفاوية الحريفة التي
لا يزال الشرقيون يكثرون منها مع لحم الخروف. ثم كانوا يشربون الكأس الثالثة –
وتدعي ” كأس البركة ” ” لأنهم كانوا يصحبونها ترنيمة شكر “،
فكأس الرابعة ز ثم كانوا ينطلقون بنشيد ” هليل “، وهو مديح يتألف من
أربعة مزامير (114 – 117): ” لا لنا يا رب، لا لنا! لكن لاسمك أعط المجد،
لأجل رحمتك وحقك: .. إن إلهنا في السماء، كل ما شاء صنع، أما أوثانهم ففضة وذهب،
صنع أيدي البشر.. سحبوا الرب يا جميع الأمم، وامدحوه يا جميع الشعوب، لأن رحمته قد
عظمت علينا، وصدق الرب يدوم إلي الأبد!.. ” ألم يكن في لفقرات الأخيرة من
المزمور 117، آية ماسوية، لا بد أن الرسل قد أنشدوها بصوت أشد انطلاقاً: ”
مبارك الآتي باسم الرب! “؟

 

لقد
كان الفصيح عيداً بهيجاً جداً. وقد جاء عنه، في جاء عنه، في التلمود: ” إنه
طيب كالزيتون، وينبغي أن بتداعي السقف عند نشيد ” هليل “! وورد”
في” أعمال يوحنا ” – وهو كتاب غنوصي منحول من الجبل الثاني – أن الرسل
تحلقوا حول المسيح، وهبوا يرقصون علي وقع ألحان المزامير، ويسبحون مجد الله!.. بيد
أن الفرح، في قلب المسيح، كان يخامره حزن دفين، ” لقد اشتهيت جداً أن آكل هذا
الفصح معكم، قبل أن أتألم. فإني أقول لكم: ” إني لن آكله بعد إلي أن يتم
بكماله، في ملكوت الله ” (لوقا 22: 14 – 16). وشاء المسيح أن يجعل ذاك
العشاء، لأتباعه، درساً أخيراً، فاستهلة بعمل حافل بالعبر

 

.
” نهض عن العشاء، وخلع ثيابه، وأخذ منديلاً وائتزر به. ثم صب ماء في مغسل،
وطفق يغسل أرجل التلاميذ، ويمسحها بالمنديل الذي كان مؤتزراً به. وجاء إلي سمعان
بطرس، فقال له سمعان: ” أنت، يا رب، تغسل رجلي؟”: أجاب يسوع، وقال له:
” إن ما أفعل لا تفهمه الآن، ولكنك ستفهمه فيما بعد! “، فقال له بطرس:
” لا لن تغسل رجلي أبداً! “، أجابه يسوع: إن لم أغسلك فليس لك نصيب معي
“، فقال له سمعان بطرس: ” يا رب! لا رجلي فقط، بل يدي ورأسي أيضاً!
” (يوحنا 13: 8-9). بأي جلاء يبرز زعيم الرسل – من خلال هذه الصفحة – بمزاحه
الشديد الصلب، ينعشه إيمان عظيم! وواصل يسوع كلامه، قائلاً: ” أتفهمون ما
صنعت بكم؟ أنتم تدعمونني معلماً، ورباً، وحسناً تقولون، لأني كذلك. فإذا كنت أنا
الرب والمعلم، قد غسلت أرجلكم، وجب عليكم، أنتم أيضاً، أن يغسل بعضكم أرجل بعض
” (يوحنا 13: 12 – 16). درس في التواضع! وإنها لحظة من أسمي لحظات الليترجية،
في أسبوع الآلام، إذ ينعطف الأسقف إلي أقدم اثني عشر فقيراً يمثلون الرسل، والبابا
نفسه، في ذاك ليوم عينه، يقوم بنفس المهمة، أسوه بالرب والمعلم!

 

تلك
الأمثولة، هل أدرك الرسل مغزاها؟ وهل توفق يسوع، بذاك ا لصنيع المذهل، إلي تحطيم
دروع الكبرياء والحسد وكل تلك المعاقل التي تحصنت من ورائها الطيبة؟.. كان قد نشب
بينهم – منذ لحظة – نزاع في من هو الأعظم بينهم، وفي من ترجع إليهم المتكآت الأولي
بقرب المعلم. فاضطرب يسوع إلي استعادة الكلام، إرجاعاً للنظام: ” إن ملوك
الأمم يسودوهم، أما في ما بينكم، فلا يكن الأمر كذلك. بل فليكن الأكبر فيكم
كالأصغر. والمتقدم كالذي يخدم.. أنتم قد ثبتم معي في محنتي، وأنا أعد لكم الملكوت
كما أعده لي أبي، كني تأكلوا وتشربوا معي، علي مائدتي، في ملكوتى، وتجلسوا علي عروش
لتدينوا أسباط إسرائيل الأثني عشر ” (لوقا 22: 24 -29، متي 20: 25، مرقس 10:
42). ألا فليهتموا لملكوت السماوات وليس لإحراز ” مراكز ” علي الأرض!.

.
وكانوا قد أشعلوا السرج الخزفية الصغيرة فوق ذؤابات الشماعد: ففي الخارج كان الليل
قد أرخي سدوله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار