المسيحية

دعوة إلى التفكير



دعوة إلى التفكير

دعوة
إلى التفكير

إنّني في
هذا الباب الأخير، واستخلاصاً لكل ما جاء في هذا الكتاب، أدعو القارئ إلى تفكير
منطقي وتأمّل هادئ في رسالة النبي محمد إلى الملك هرقل، يدعوه فيها إلى الإسلام،
وفي حسن استقبال نجاشي الحبشة ورؤسائها المسيحيين للمسلمين اللاجئين إليهم من مكة.

 

(1) الرسالة إلى هرقل

“بسم
الله الرحمن الرحيم. من محمد عبد الله، إلى هرقل عظيم الروم. سلام على من اتّبع
الهدى. أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام. أسلم تسلم، يؤتيك الله أجرك مرتين.
فإن تولّيت، فإنما عليك إثم الأريسيين. يا أهل الكتاب، تعالوا إلى كلمة سَواء
بيننا وبينكم، ألاّ نعبد إلاّ الله، ولا نشارك به شيئاً، ولا نتّخذ بعضنا بعضاً
أرباباً من دون الله. فإن تولّوا، فقولوا: اشهدوا بأنا مسلمون”.

 

لنتأمل
في نقطتين:

 (أ) يؤتيك الله أجرك مرتين:

لقد
كرّر هنا محمد ما أنزل في سورة القصص عن أهل الكتاب المؤمنين أيضاً بالقرآن
والقائلين: (إنّا كنّا من قبله مسلمين). فيقول الله عنهم: (أولئك يؤتون أجرهم
مرتين) (القصص: 53-54). إن أجرهم الأول هو لأجل إيمانهم بالمسيح والإنجيل، وأجرهم
الثاني هو لأجل إيمانهم بالقرآن، المصدّق للتوراة والإنجيل.

 

ماذا
يترتب على المسيحيين المؤمنين اليوم بالإنجيل وبالقرآن سوياً؟ إنه في مفهوم النبي
محمد، وخلافاً لما يعتقده مسلمون تقليديون كثيرون، لا يترتب عليهم التخلّي عن
مثقال ذرّة من الإنجيل وتعاليمه، فمحمد لم يطلب منهم سوى القول: (إشهدوا بأنّا
مسلمون)،
ومسلمون من قبل القرآن، كما أنزل في سورة القصص. وذلك لأن تعاليم
القرآن من التوراة والإنجيل. فعندما سمع النجاشي وبطاركة الحبشة شهادة اللاجئين
المسلمين عن تعاليم النبي محمد، قالوا: “هذه الكلمات تصدر من النبع الذي صدرت
منه كلمات سيدنا يسوع المسيح”.

 

ويشهد
الوحي القرآني ايضاً أن مفهوم الإسلام وُجد قبل القرآن، وأنه يعني الإيمان بالله
وبعيسى مسيحاً: (فلما أحسّ عيسى منهم (من اليهود) الكفر (به) قال: من أنصاري إلى
الله؟ قال الحواريون: نحن أنصار الله واشهد بأنا مسلمون) (آل عمران: 52).
ويقول الله في القرآن أيضاً: (وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي (عيسى)
قالوا: آمنّا واشهد بأننا مسلمون) (المائدة 111).

 

وعلى
ذلك، فإن كل من يؤمن بالمسيح، في مفهوم القرآن الكريم، هو مسلم من قبل القرآن، أي
قد (أسلم وجهه لله) (لقمان 22). بعد ظهور النبي محمد للإنجيل مصدقاً، فمن يكذّب
محمد، يكذّب الإنجيل، ومن يؤمن بمحمد، يصدّق معه على الإنجيل، و(يُؤتى أجره
مرتين). وكذلك، فإن المسلم المُؤمن بالقرآن وبمحمد، إذا أسلم للإنجيل في نصّه
الحاليّ، فهو يصدّق عليه مع القرآن؛ إنّما إذا افترى على الإنجيل بَطُلَ إسلامه
وأمسى شاهد زور على الإنجيل والقرآن معاً، ووقع عليه “إثم الأريسيين”.

 

 (ب) إثم الأريسيين:

ظهر
في الاسكندرية بمصر، في القرن الميلادي الثالث (280-336م)، كاهن مسيحي اسمه
“أريُس” (
Arius)، نفى ألوهية المسيح. وقد لحقه أتباع كثيرون، عرفوا ب
“الأريسيين” على اسم الكاهن. لقد قضى على تعاليم “أريس”،
الرؤساء الدينيون المسيحيون المجتمعون في بلدة “نيقيا” (بتركية) سنة
325م، بفتوى منهم أعلنت رسمياً أن تعاليم الأريسيّين أثيمة.

 

إن
بدعة الأريسيين إثم مشهور في تاريخ المسيحية، فقد ظلّ يعمل طويلاً بعد فتوى مجمع
نيقيا، وقد وُجد أريسيّون حتّى زمن النبي محمد وبعده.

 

وإن
لفي ذكر محمد إثم الأريسيين، حكمة لا تفوت العقل الذكي السليم المتيقّظ. فالنبي
يصدّق، من بيئة الجاهلية التي أوجده الله فيها، على فتوى مجمع نيقيا، بذكره الإثم
الذي قضت عليه، ومعتبراً إيّاه إثماً حقاً. هذا الإثم ينكر ألوهيّة السيّد
المسيح والثالوث الإلهيّ
. ألا يدلّ هذا على اعتراف ضمني من قبل النبي محمد
بهاتين الحقيقتين الإلهيّتين؟

 

(2) لجوء المسلمين إلى الحبشة

لمّا
هجر الفريق الأول من المسلمين إلى الحبشة هرباً من اضطهاد أهل قريش، أرسل بنو
قريش، أعداء محمد اللّدودين، رسولين هما عمرو بن العاص (قبل إسلامه طبعاً) وعبد
الله بن أبي ربيعة، إلى النجاشي أحمصة، ومعهما هدايا ثمينة، لطلب تسليم المهاجرين
المسلمين وإعادتهم إلى مكة، بحجة أنهم “سفهاء فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا
في دينك، وجاؤوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت..”.

 

فأبى
النجاشي تسليمهم إلى أن يسمع منهم. فكلّمه جعفر بن أبي طالب، في حضور بطاركة
الحبشة (رؤسائها الدينيين). ومما قال: “أيها الملك، كنّا قوماً جاهلين نعبد
الأصنام.. حتى بعث الله إلينا رسولاً منّا نعرف نسبه وصدقه وأمانته. فدعانا إلى
الله لنوحّده ونعبده..”
فقال النجاشي: “هل معك مما جاء به عن الله من شيء تقرأه
عليّ؟” قال جعفر: “نعم!”، وتلا عليه سورة مريم من أولها إلى قول
عيسى فيها: (والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا) (مريم 33).

 

فلمّا
سمع البطاركة تلك الآيات قالوا: “هذه كلمات تصدر من النبع الذي صدرت منه
كلمات سيدنا يسوع المسيح”. وقال النجاشي للرسولين: “هذا والذي جاء به
موسى، ليخرج من مشكاة واحدة. انطلقا! والله لا أسلّمهم إليكما”. إلاّ أن
الرسولين عادا يقولان للنجاشي: “إن المسلمين ليَقولون في عيسى ابن مريم قولاً
عظيماً (قبيحاً). فأرسل إليهم، فسلهم عما يقولون فيه”. فلما دخل المسلمون على
النجاشي، قال جعفر بن أبي طالب: “نقول فيه الذي جاء به نبينا. يقول هو عبد
الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول”. يجب
ملاحظة إيمان المسلمين بأن عيسى وحده “روح الله وكلمته”.

 

ولذلك،
عندما سمع النجاشي كلام جعفر، أخذ عوداً ورسم به على الأرض خطاً وقال: “ليس
بين دينكم وديننا أكثر من هذا الخط”. ولو كان النجاشي قد تعرّف على محمد
شخصياً وفهم تعاليمه، ولو لم يعكّر صفو الجو رسولا بني قريش، لما رسم النجاشي هذا
الخط الفاصل الذي لم يرده محمد ولم يفكّر به، فهو الذي أوحى الله إليه أن يقول
لأهل الكتاب: (إلهنا وإلهكم واحد) (العنكبوت 46). فأين خط الفصل هذا عند محمد؟!

 

لقد
آن الوقت ليتخطّى كل مؤمن بلغ سنّ الرشد في الإيمان، الخطوط والحواجز النفسانية
التي وضعها الإنسان مدى القرون. لقد آن الوقت ليعانق المؤمن اخاه المؤمن. فلا
مسيحي ولا مسلم. فكلنا مسيحيون وكلنا مسلمون إذا تجاوزنا الحرف لنتعانق بروح
الوحي. “لماذا لا تحكُمون أنتم بما هو حقّ؟” (لوقا 12: 57) كما وصّانا
المسيح. هذا هو (الصراط المستقيم) الوارد في القرآن.

 فلنكن
مُؤمنين مُتحرّرين!

 

الخاتمة

لماذا
سميّتُ كتابي هذا “نظرة إيمان بالقرآن الكريم”؟ لأنّي في نظر الناس
مسيحي. والمسيحي، في نظرهم، لا يُؤمن بالقرآن الكريم.

إلاّ
أن مسيحيّتي أصدق إسلاماً من مسلمين كثيرين، ويشهد لي بذلك القرآن ونبيّه المصطفى،
فهما يمنحاني (أجري مرّتين).

 

إن
القرآن الكريم ليس حكراً لأحد، فهو وحي الله لكل من يعشق الحياة الروحية، ويصبو
إلى السموّ لمجالسة ربّ العالمين، ليحيا من نفحته تعالى وبحضرته أبدياً.

 

إنني
مؤمن بالله وبإبراهيم خليل الله وبيسوع مسيح الله وبمحمد رسول الله. أنا مُؤمن
مُتحرّر. لا يهوديّ ولا مسيحيّ ولا مسلم أنا. وأنا يهوديٌّ ومسيحيٌّ ومسلمٌ. فإني
أؤمن أن هناك طائفتين، لا ثالث لهما: طائفة المؤمنين المباركين وطائفة المتعصّبين
المرذولين من كل أمّة ومن كل دين.

ولذا
فإنّي أختم، وبمسك الختام، بهذه الآية القرآنيّة المنيرة الواردة في سورة آل عمران
199: (وإنّ من أهل الكتاب) – وأنا منهم – (لَمَن يؤمن بالله وما أُنزِل إليكم
وما أُنزِل إليهم
، خاشعين لله، لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً، أولئك لهم
أجرهم عند ربِّهم، إن الله سريع الحساب). صدق الله العظيم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار