اللاهوت النظري

تاريخ الفلسفة اليونانية



تاريخ الفلسفة اليونانية

تاريخ
الفلسفة اليونانية

قد
أطال الباحثون النظر في أقوال فليون عن اللوغوس لقرب عهده من المسيحية، واحتمال
تأثيرة فى القديس يوحنا الإنجيلي. ولكن هذه أقوال متعددة ومتباينة. فاللوغوس تارة
الوسيط الذي به خلق الله العالم كما يصنع الفنان بآله، والذي به نعرف الله والذي
يشفع لنا عند الله. وهو طورا ملاك الله الذي ظهر للآباء وأعلن إليهم أوامر الله
على ما تذكر التوراة. وهو مرة قانون العالم وقدرة على مذهب هيراقليطس والراقيين.
ومرة أخرى ابن الله البكر. ومرة ثالثة مثال الإنسان أو الإنسان الأعلى، إلى أخرى
ذلك من الصور. وما بصفة قاطعة هو أنه لا يوجد عند فيلون قول بالثالوث ولا قول قريب
منه. وإذا كان يسمى الكلمة إلها في بعض المواضع فذلك منه تمشيا مع الكتاب المقدس
دون أن يدرك كل مدلول التسمية، بل انه يجتهد في تخفيف مدلولها فيقول ” يمكن
تسميته بإلهنا نحن الناقصين ” و” بإله ثانوي “. وهو على ذلك يطلق
التسمية على موجودات هي عنده أقل استحقاقا لها من اللوغوس، كالعالم والكواكب، على
ما يفعل فلاسفة اليونان. فاللوغوس وسيط بين الله والعالم ” ليس غير مولود
كالله ولا مولودا كالبشر ” ولكننا لا نتبين طبيعة هذا التوسيط. والنظرية
برمتها تنطوى على تناقض: إذا كانت المسافة بين الله والخليقة غير متناهية، أي وسيط
يستطيع الوصل بينهما. إذا كان إلها كان الله فوق متناوله. لذا كان فهم العقيدة
المسيحية في الكلمة على طريقة فيلون معارضة للمسيحية.

ويقول
أيضا في موضع آخر: اصطنع المسيحيون المصطلحات اليونانية وحملوها على جديدة. فلفظ
” اللوغوس ” وارد عند هيرقليطس والفيثاغوريين والراقيين وفيلون، وقد
اصطنعه يوحنا الإنجيلي. ولكن اليونان عنوا به مبدأ معنويا أو قانونا عقليا ز وعني
به فيلون موجودا أدني من الله. وكذلك حال جوستين (يوستينوس)، يقول اللوغوس، ويعرض
رأيه فيه بألفاظ رواقية والفرق كبير بين مقصود الرواقيين.

ويتناول
الدكتور عبد الرحمن بدوي، فى معرض حديثه عن افلوطين مناقشة الصلة بين الفكر
المسيحي والفلسفة اليونانية، فيقول:

الذي
يحتاج إلي النظر الدقيق هو الصلة بين المسيحية وبين الأفلاطونية المحدثة. فالناس
مختلفون بإزاء هذه المسألة اختلافا شديدا، خصوصا وأنها مسألة شائكة تتصل بنشأة
المسيحية خاصة، كما هي معروضة في كتبها المقدسة. فالبعض يقول أن المسيحية هي التي
أثرت ل التأثير في نشأة هذه الفلسفة الأفلاطونية (اوريجينوس). ولكن هناك رأيا آخر
يمثل الرأي العلمي الصحيح، وهو الذي يعرضه لنا تسلر فيقول: إن الأحوال التي نشأت
فيها المسيحية وتلك العالم اليوناني الروماني،إبان ذلك العصر، قد توزع القلق نفوس
كل الذين يقطنون به، إذ فقدت الممالك الرومانية استقلالها، ولم يعد ثمة شعور
بالحرية ولا بالاستقلال الذاتي، وأصبح الناس من أجل هذا يائسين من كل شئ ويطلبون
الخلاص بأي ثمن. أو بعبارة أدق، بأرخص الأثمان. ولهذا كان لابد أن تلعب المذاهب
القائلة بالخلاص، الدور الأكبر في تشكيل هذا الاتجاه الجديد. وكانت الأحوال
الروحية التي يعانيا الناس في ذلك العصر، من شأنها أن تدفع إلى إيجاد مذاهب تدعو
إلى التخلص من الوجود الخارجي، من حيث أن هذا الوجود الخارجي شر لا خير فيه ولا
حاجة إلى التعلق به أدني تعلق، بل يجب علي الإنسان أن يعزف عزوفا تاما عن الوجود
الخارجي المادي وينشد الخلاص بعد هذا في حقيقة دينية عليا، يفني فيها الإنسان،
ويجعل غايته في هذا الحياة، هذا الفناء لكن إذا كانت الأحوال والظروف التي نشأت
فيها كل من المسيحية والأفلاطونية واحدة متشابهة، فليس معني هذا أنه لابد أن يؤثر
الواحد في الآخر. فقد يكون الحق وحده الدافع لإيجاد هذا التشابه بين كل من
المسيحية والأفلاطونية المحدثة. وأننا لنجد في الواقع أن هناك اختلافا بينا حتى في
هذه الأشياء المتشابهة بين المسيحية والأفلاطونية المحدثة. فالمسيحية وان كانت قد
نشدت كالأفلاطونية سواء بسواء، الفناء في حقيقة عليا يجب علي الإنسان ان يعتمد
عليها بل ويفني فيها، فإنها فهمت هذه الحقيقة العليا علي أساس عيني تاريخي، فربطت
هذه الحقيقة بأحداث تاريخية معينة وأشخاص معينين أما الأفلاطونية المحدثة فقد نظرت
إلى المسألة من الناحية العقلية الصرفة، وأقامت من أجل هذا مذهبها في جو من الحرية
التي لا تتعلق بفرد أو بحادث. ثم إننا نجد الاتجاه في المسيحية مضادا للاتجاه في
الأفلاطونية المحدثة فيما يتصل في الصلة بين الله وبين الفاني المحسوس. فالمسيحية
تريد أن تنزل بالله إلى المستوي الفاني بأن تجعل ” الأول ” أو الله يلبس
ثوب الإنسانية. والحال علي العكس من هذا في الأفلاطونية المحدثة، فإنها تبدأ من
الإنسان كي ترتفع به إلى مقام الألوهية. فالسبيل أذن صاعد بالنسبة إليها هابط
بالنسبة إلي المسيحية.

ومن
أجل ذلك شعر الأفلاطونية المحدثون منذ البدء بما هنالك من اختلاف كبير بين اتجاهات
المسيحية واتجاهاتهم هم أنفسهم، حتى أننا لنجد أ، كثيرا من الجهد قد انفقه هؤلاء
الأفلاطونية المحدثون من أجل الرد علي المسيحية. وإنا لنجد هذا ظاهرا منذ اللحظة
الأولي، إذ نجده عند امونيوس سكاس، وقد كان مسيحيا، فيما يقال، أول الأمر،ثم انتقل
من المسيحية إلى الأفلاطونية المحدثة وبالتالي إلى الشرك. ويكاد يكون المجهود الذي
بذلته الأفلاطونية المحدثة خصوصا فيما ورد لنا عن فورفوريوس، منهجا إلى الدفاع عن
الشرك ضد المسيحية، حتى أنه ليمكن أن يقال أن الأفلاطونية المحدثة قد كونت أصول
مذاهبها كنتيجة لردها علي المسيحية. ثم أن الاختلاف يتضح كذلك في التشابه الذي
كثيرا ما يحاول أن يقول به المؤرخون، بين فكرة التثليث في المسيحية، وبين ما نجده
من التثليث في الأفلاطونية المحدثة، فكما يقول جيل سيمون في كتابه عن ” تاريخ
” مدرسة الإسكندرية: ليس هناك من تشابه إلا في اللفظ فحسب بين التثليث
المسيحي والأقانيم الثلاثة عند افلوطين، وذلك لأن افلوطين لا يقول بأن الأقانيم
الثلاثة هي الله، وانما يجعل هذه الأقانيم منفصلة عن المبدع الأول أو الواحد. ثم
أن الصفات التي تضاف إلى الأقانيم المركبة للتثليث المسيحي، تختلف اختلافا بينا
فيما يتعلق بنسبتها بعضها إلى بعض، عن تلك التي تضاف إلى الأقانيم عند افلوطين.
فليس ثمة تشابه في الواقع إلا في الألفاظ فحسب.

وفي
دراستنا لمفهوم ” الكلمة ” عند القديس يوحنا، وهل تأثر بفلسفة فيلون،
كتبنا الآتي:

السؤال
الهام هو: هل مفهوم ” اللوغوس ” الذي قدمه القديس يوحنا عن السيد المسيح
هو ترديد لمفهوم ” اللوغوس ” كما شاع في الفكر الفلسفي اليوناني، وعند
فيلون الفيلسوف اليهودي السكندري، وهل يمكن القول – كما ادعي البعض – أن فيلون
اليهودي – لقرب عهده بالمسيحية، قد أثر في كتابات القديس يوحنا، فيما قدمه عن
المسيح اللوغوس؟

بلا
شك، فإن القديس يوحنا في تلقيبه للسيد المسيح باللوغوس، قد استعمل الاصطلاحات التي
سادت في ذلك العصر. وفي إقامته في أفسس، لابد أنه تعرف علي صور ومصطلحات الفكر
اللاهوتي السكندري. ولكن أليس من الصواب أن يقال أن القديس يوحنا استعمل كلمة
” لوغوس ” لكي يقدم المفهوم السليم عن طبيعة الله وعن علاقته بالعالم،
ويصحح النظريات الخاطئة التي سادت في عصره عن مفهوم العلاقة بين غير المحدود أو
بين الله والعالم؟ أن تعاليم القديس يوحنا عن اللوغوس، تختلف عن فلسفة فيلون ولا
تستند إليها. والاختلافات بينهما واضحة جلية. وإذا كان حقا أن كلا الاثنين
يستعملان نفس اللفظ، لكن مفهوم اللفظ عند كل منهما يغاير مفهومه عند الآخر أن
طبيعة الكائن الذي يطلق عليه اللوغوس، يختلف تماما من الواحد عند الآخر. وان
اللوغوس عند يوحنا هو ” شخص ” يشعر بذاته، بينما هو عند فيلون لا شخصي.
وتحت تأثير الفكر اليهودي، يدعو فيلون اللوغوس بالملاك الرئيس، وتحت تأثير الفكر
الأفلاطوني يدعوه مثال المثل. وتحت تأثير الرواقيين يدعوه ” العقل اللا شخصي
“. ومن المشكوك فيه أن يكون فيلون قد تصور اللوغوس كشخص. أن جميع الألقاب
التي يعطيها له، تشير إلى أنه يتمثل اللوغوس، بالعالم المثالي، الذي عليه صيغ أو
صنع أو شكل العالم الحسي. وعند فيلون، أكثر من ذلك، فإن وظيفة اللوغوس تنحصر في
خلقه العالم وفى الحفاظ عليه، فهو لم يربطه أو يوحده بالمسيا. لقد نظرية فيلون إلى
حد كبير استبدالا فلسفيا للرجاء المسياني. وربما يكون قد أدرك أن اللوغوس يعمل من
خلال المسيا لكنه لم يوحد بين اللوغوس والمسيا. وان اللوغوس عنده مبدأ عام، أما
عند القديس يوحنا، فإن المسيا هو اللوغوس نفسه، يوحد نفسه مع الإنسانية ويتجسد
ليخلص العالم.

أن
الفكرتين تختلفان في الأصل. أن إله فيلون غير الشخصي لا يمكنه أن يصل إلى الخليقة
المحدودة دون أن يتلوث جوهره الإلهي. ولأجل ذلك، فلا بد من تدخل عامل أقل متوسط،
أما إله يوحنا من الجهة المقابلة، فهو شخصي، وشخصيته محبة، وهو آب (1: 18) أن
جوهره هو المحبة (3: 6، 1 يو 4: 8، 16) وهو يدخل في علاقة مباشرة مع العالم الذي
يرغب في خلاصه. واللوغوس هو الله نفسه وقد ظهر في الجسد. وبحسب فيلون، فإن اللوغوس
لم يكن يوجد مع الله الأزلي. أن المادة الأزلية توجد قبل اللوغوس. أما حس القديس
يوحنا، هو مع الله جوهر واحد منذ الأول (1: 2) وهو الذي يخلق كل الأشياء، بما في
ذلك المادة (1: 3). ولما كان اللوغوس يتضمن في مدلوله كلا من الفكر والكلام الذي
يعبر عن الفكر، هكذا فإن السيد المسيح يرتبط بالله كما يربط الكلام بالفكر. علي أن
الكلام هنا ليس مجرد اسم يعبر عن الفكر، بل الفكر نفسه يعبر عنه. أن الفكر هو
الكلمة الباطلة. أن اللوغوس عند يوحنا هو الله الشخصي الحقيقي (1: 1).

أنه
الكلمة الذي كان أصلا مع الله قبل خلق العالم، وكان هو الله. انه واحد مع الأب في
الجوهر وفي الطبيعة، وان كان يتميز عن الأب اقنوما (1: 1، 18). أن اللوغوس هو
المعلن والكاشف للكيان الإلهي غير المرئي. أنه صورة الله غير المنظور، وهو بهاء
مجده ورسم جوهره وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته (عب 1: 3) وهو ” الذي إذ كان
في صورة الله لم يحسب خلسه أن يكون معادلا لله، لكنه أخلي نفيه آخذا صورة عبد
صائرا في شبه الناس (في 2: 6، 7) وذلك من أجل فداء البشرية.

أن
استعمال لفظ ” الكلمة ” عن السيد المسيح، هو من أهم الألقاب التي تعبر
عن طبيعته، ومن أجل ذلك فإن القديس يوحنا عندما يسمي الأقنوم الثاني في الثالوث
القدوس (1 يو 5: 7) فإنه يختار أن يسميه ” الكلمة ” فيقول: فإن الذين
يشهدون في السماء هم ثلاثة: الأب والكلمة والروح القدس، وهؤلاء الثلاثة هم واحد
“، ذلك لأن لفظ ” الكلمة ” له مدلول واسع في مجال العلاقات.
فبالإضافة الى ا،ه يشير الي علاقة السيد المسيح بالأب الذي ولده، فهو أيضا يسير
الي الخليقة التي خلقت بواسطته، والي التعليم الذي جاء به، والذي لا يزال يعيش في
قلوب الذين أطاعوه واستمعوا اليه. ولقد اقتصر استعمال ” الكلمة ” علي
السيد المسيح فقط. أما بالنسبة لأي شخص آخر، سواء كان نبيا أو كارزا، فهو مجرد
” صوت ” وليس ” كلمة ” أي ليس الفكر الباطني أو الداخلي للعقل.
الصوت هو مجرد علامة علي القصد أو النية. فيوحنا المعمدان لم يكن ” الكلمة
” بل كان صوتا. أما السيد المسيح فهو التصور الداخلي للعقل ” في أحضان
الأب “.

ويقول
ابن الصليبي في تفسيره للإنجيل حسب القديس يوحنا: ويسأل لأي سبب سماه يوحنا ”
كلمة “؟ فالجواب ان الابن سمي كلمة لأنه مولود الأب ن كما أن كلمتنا العقلية
يلدها عقلنا الذي هو روحي محض. ثم كما أنه بوجود العقل يوجد فينا الكلمة، لأن
العقل أن لم يدرك ويعقل لا يكون عقلا، كذلك منذ وجود الأب وجد الابن أي الكلمة،
بحيث لا يمكنك أن تدل علي زمن أو تتصوره نحن دون ان يكون الابن الكلمة. وان فرضت
كون الأب عليهم الكلمة مدة، فإنه يكون بلا ريب عديم الحكمة والمعرفة لأننا نعني
بالابن الكلمة: حكمة الله. وحاشا لله تعالي ان نتصور فيه مثل هذا العيب. وأعلم أن
كلمة العقل يمكن إظهارها بالخطوط أو بالأحرف فتراها إذ ذاك الأعين، كذلك الابن
الكلمة أمكنه أن يظهر بالجسد ويتأنس مثلنا من دون أن يفقد شيئا ما مما له في الأب.
وأيضا كما أن كلمة مقلنا تبقي كلها في قائلها وتصل كلها إلى أذن السامعين وتتجسم
كلها في الكتابة، وتبقي مع ذلك روحانية ولو أخرجت إلينا من النفس، كذلك الابن
الكلمة باق كله في أبيه، وكله في الجسم في العالم ولا يحصره حد. ثم أن كلمتنا
الصادرة عن نفسنا تكشف عما في ضمائرنا، ومثلنا أيضا الابن الكلمة كشف لنا الغطاء
عما كان في الأب مختفيا وهو شهد بذلك، وما أصدقه شاهدا بقوله: كلما سمعته من الأب
عرفتكم به.

نخلص
من هذا كله إلى القول:

ان
الكلمة التي تطلق علي الأقنوم الثاني من الثالوث القدوس، تعني ان العلاقة بين الأب
والابن، كالعلاقة بين العقل والكلمة. والكلمة لا يقصد بها هنا الحديث أو القول،
لأن الكلام في هذا المعني، يصدر عن المتكلم في زمن متأخر عنه، وليس هكذا المسيح
” كلمة الله ” ن والكلام مجموع مقاطع وحروف خالية من الحياة، وليس هكذا
” الكلمة ” وكذلك لا يمكن أن توصف الأقوال ” إنها كانت الإنسان
” علي نحو ما قيل عن الكلمة ” وكان الكلمة الله “، ذلك لأن المسيح
” الكلمة ” هو الله ذاته، هو الله كله، لأن الله كله عقل ولا يمكن أن
يوجد دون كلمته، إذ كما أنه لا يمكن أن يوجد العقل دون الصور الذهنية التي تؤلف
ذاته وكيانه، لأن العقل ليس هو إلا مجموع هذه الصور الذهنية، هكذا من غير الممكن
أن يوجد الله بدون كلمته من حيث أن الكلمة هو صورة الله الذاتية.

وكتب
الايغومانس ميخائيل مينا في ذلك يقول:


الكلمة ” نوعان: كلمة العقل وكلمة الفم. أما المراد بالكلمة هنا (رأي عندما
تطلق علي السيد المسيح) فكلمة العقل لا الفم. فكما أنه عندما نفكر في شئ تحدث في
عقولنا صورة تسمي ” كلمة العقل “، وهى موجودة غير مفارقة، هكذا الأب
الأزلي بإدراكه ذاته، برز هذا الكلمة الذي وجوده مساو لوجود الأب في أزليته، لا
فرق بينهما في الجوهر لكن في الخواص، إذ أن إحداهما والد والآخر مولود (علم
اللاهوت – المجلد الأول – الطبعة الرابعة 1948 ص 225).

وإذا
عدنا إلى بداية الإصحاح الأول من الإنجيل للقديس يوحنا، نجده يكتب عن السيد المسيح
علي النحو التالي: في البدء كان الكلمة (يو 1: 1).

والواقع
أن هذه العبارة التي افتتح بها القديس يوحنا إنجيله، هي نفس العبارة التي افتتح
بها موسى النبي سفر التكوين عندما قال ” في البدء خلق الله السموات والأرض
” تك 1: 1. علي أن القديس يوحنا قد ارتفع بالعبارة من مدلولها الزمني المرتبط
ببدء خلقة العالم إلى الوجود المطلق السابق قبل أية خليقة أو قبل كون العالم. أي
أن البدء الذي يشير إليه القديس يوحنا لا يقصد به الإشارة إلى بدء الخليقة أو بدء
المخلوقات أو أول المخلوقات أو الحديث عن تسلسل المخلوقات من بدايتها حتى نهايتها،
ذلك لأن القديس يوحنا لم يتحدث عن الخليقة والمخلوقات إلا ابتداء من العدد الثالث
حيث قال: كل شئ به كان (صار) وبغيره لم يكن شئ مما كان (صار) يو 1: 3

هذا
البدء أذن المرتبط بالكلمة، ليس هو بدء زمني ولا يرتبط بالزمن. وهنالك آيات كثيرة
تتحدث عن هذا البدء دون أن تربطه بالزمن، بل تجعله قبل الزمن أو تغوص به في أعماق
الأزلية: فالآية الثالثة من الإصحاح الأول تتحدث عن وجود الكلمة قبل أن تخلق
المخلوقات أو قبل أن يكون للمخلوقات وجود أو الكلمة باعتباره علة واصل المخلوقات،
وبدونه ما كان يمكن أن يوجد شئ منها ” كل شئ به كان (صار) وبغيره لم يكن شئ مما
كان (صار). وعن هذا الوجود المطلق للسيد المسيح تتحدث أيضا الآيات التالية:


وآن مجدني أنت أيها الأب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم ”
يو 17: 5


الذي كان من البدء ” 1 يو 1: 1

“كما
اختارنا فيه قبل تأسيس العالم ” أف 1: 4


منذ الأزل مسحت. منذ البدء أوائل الأرض ” م 8: 23


من قبل أن تولد الجبال أو أبدأت ارض والمسكونة، منذ الأزل الي الأبد أنت الله
” مز 9: 2

علي
ان هذا السمو في مفهوم البدء الأزلي للكلمة، لا يبدو في عبارة ” في البدء
” بقدر ما يبدو في استعمال فعل الكينونة ” كان – صار) فهذا الفعل يشير
إلى الوجود المطلق.

وفي
نفس هذا المدلول، استعمل هذا الفعل في الإصحاح الثامن عشر من نفس الإنجيل، عندما
أراد السيد المسيح أن يؤكد وجوده الأزلي، بينما كان اليهود ينظرون إليه كما ينظرون
إلى أي إنسان مخلوق في زمن، فقال له اليهود ” ليس لك خمسون سنة بعد أفرأيت
إبراهيم، فقال لهم يسوع: الحق الحق أقول لكم قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن ”
يو 8: 57 – 58، فعبارة ” أنا كائن ” تشير إلى الوجود المطلق للسيد
المسيح، بينما كان اليهود ينظرون إلى وجوده نظره زمنية، وحاولوا ان يحددوه بأقل من
خمسين سنة، فوضع السيد المسيح الوجود المطلق في مقابل الوجود الزمني، ووضعت
الأزلية في مقابل الزمن.

ولقد
ظهرت دقة القديس يوحنا في كتاباته في اختياره للأفعال بما يناسب المعني الذي أراد
أن يؤكده. فعندما أراد أن يتحدث عن أزلية السيد المسيح كان دقيقا في استعماله
للفعل ” كان ” ولم يستعمل الفعل صار الذي استعمله في الأعداد 3 و14،
ليشير إلى بداية وجود الخليقة وبداية التجسد، فقال عن بداية الخليقة ” كل شئ
به صار، وقال عن بداية التجسد ” والكلمة صار جسدا ” يو 1: 14. ومعني ذلك
أن القديس يوحنا، ليؤكد الوجود المطلق الأزلي للسيد المسيح استعمل الفعل ”
كان ” بينما عندما أراد أن يشير إلى الوجود في زمن، استعمل الفعل ” صار
“. فإذا قال القديس يوحنا ” في البدء كان الكلمة ” فمعني ذلك كما
قلنا، أنه يؤكد الوجود الأزلي للسيد المسيح، وإذا قال ” والكلمة صار جسدا
” فإنه يتحدث عن السيد المسيح عندما تجسد في الزمن. ومن هنا قيل أن للسيد
المسيح ميلادين: ميلاد أزلي نعبر عنه في قانون الإيمان بعبارة ” المولود من
الأب قبل كل الدهور “، وميلاد زمني، نعبر عنه في قولنا ” نزل من السماء
وتجسد من الروح القدس ومن مريم العذراء “.

كذلك
يجب أن نلاحظ الفرق بين عبارة ” في البدء ” التي قيلت عن الوجود الأزلي
للسيد المسيح، وعبارة ” من البدء ” التي لا تشير مطلقا إلى فكرة الوجد
الأولي السابق، كما يبدو من الآيات التالية:


أنتم من أب هو إبليس وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا، ذلك كان قتالا للناس من البدء
” يو 8: 44


أيها الأخوة لست أكتب إليكم وصية جديدة، بل وصية قديمة كانت عندكم من البدء ”
1 يو 2: 7


وأما أنتم فما سمعتموه من البدء فليثبت أذن فيكم ” 1 يو 2: 14 ” من يفعل
خطية فهو من إبليس لأن إبليس من البدء يخطئ ” 1 يو 3: 8

هذه
المقارنة تكشف عن دقة التعبير، وتؤكد ما قصده القديس يوحنا، وهو يتحدث عن الكلمة،
من حيث إبراز ألوهية السيد المسيح ووجوده الأزلي.

في
سفر التكوين أذن، يبدو التاريخ المقدس من بداية الخليقة ويصعد بنا مع الزمن يوما
فيوما، فيذكر التسلسل الذي تمت فيه الخليقة وتعدد المخلوقات الواحدة بعد الأخرى،
بحسب زمان خلقتها، إلى أن ينتهي إلى خلقة الإنسان. ومن أجل ذلك فهو يقول ” في
البدء خلق ” أي أنه ينحصر في دائرة الزمن. أما في الإنجيل للقديس يوحنا، فهو
أيضا يشير إلى البدء، لكنه البدء الأزلي الذي يدخل بنا إلى أعماق الأزلية قبل أن
يكون زمن (أنظر كو 1: 15)

نعود
فنقول: إن هذه الفكرة السامية عن البدء الأزلي تتضح أيضا في الإشارة إلى علاقة
الكلمة بالله السرمدي. إن كلمة ” البدء ” يجب أن تشير إلى الخليقة.. إلى
التكونات الأولي للأشياء. ولكن إذا كان ” الكلمة ” موجودا وقت هذا البدء
كما تدل على ذلك عبارة القديس يوحنا ” في البدء كان الكلمة ” فالسيد
المسيح أذن لا يتبع بدء المخلوقات ولكنه كان يرتبط بنظام الأزلية. والحق أن الكلمة
لم يكن فقط موجودا وقت هذا البدء ولكن كان أيضا المبدأ الفاعل في هذا البدء، أي
أنه بدء البدء.

وتضيف
إلى ذلك فنقول:

أن
فكرة ” الله ” الذي هو في ذاته غير مرئي ولكنه يكشف عن نفسه في خليقته،
هي أصل فكرة ” اللوغوس ” أو ” الكلمة “. هذه الفكرة تنمو في
العهد القديم علي مستويات ثلاث:

1-
الكلمة من حيث أنها تتضمن إرادة الله، تشخص في الشعر العبري وتوصف بالصفات
والخصائص الإلهية، من حيث أنها التعبير المتصل عن الله في الناموس والنبوة،كما
يبدو من الآيات التالية:


بكلمة الرب صنعت السماوات ” مز 33: 4


يبس العشب، ذبل الزهر، وأما كلمة إلهنا فتثبت إلى الأبد ” 1 سن 40: 8


سراج لرجلي كلامك ونور لسبيلي ” مز 119: 105

والكلمة
” شافية ” في مز 107: 20 ” أرسل كلمته فشفاهم ” وهي رسول في
مز 147: 5 ” يرسل كلمته، في الأرض، سريعا جدا يجري قوله “. وهي المنفذة
لأوامر الله في أش 55: 11 ” هكذا تكون كلمتي التي تخرج من فمي، لا ترجع إلى
فارغة، بل تعمل ما سررت به وتنجح فيما أرسلتها له “.

2-
الكلمة من حيث أنها الحكمة المشخصة (أيوب 28: 12) وما بعده، أم 8: 9

وهنا
أيضا تكمن فكرة كشف ما هو مخبوء. ذلك لأن الحكمة مخبوءة عن الإنسان ط لا يعرف
الإنسان قيمتها ولا توجد في أرض الأحياء الغمر يقول ليست هي في والبحر يقول ليست
هي عندي. لا يعطي ذهب خالص بدلها.. فمن أين تأتي الحكمة وأين هو مكان الفهم. إذا
خفيت عن عيون كل حي وسترت عن طير السماء ” أيوب 28: 12 – 21. وحتى الموت الذي
يعرف كثيرا من الأسرار، يكشفها كخبر (28: 22). فقط، الله هو.. الذي يفهم طريقها
وهو عالم بمكانها (28: 23) وهو الذي جعل للريح وزنا ويعاير المياه بمقياس، وجعل
المطر فريضة ومذهبا للصواعق (28: 25، 26)

 

+
وتقول الحكمة: الرب قناني أول طريقة. من قبل أعماله منذ القدم منذ الأزل مسحت. منذ
البدء. منذ أوائل الأرض، إذ لم يكن غمر ابدئت.

إذ
لم تكن ينابيع كثيرة المياه. من قبل أن تقررت الجبال قبل التلال ابدئت. إذ لم يكن
قد صنع الأرض بعد ولا البراري ولا أول أعفار المسكونة. لما ثبت السماوات كنت هناك
أنا. لما رسم دائرة علي وجه الغمر، لما اثبت السحب من فوق. لما تشددت ينابيع الغمر.
لما وضع للبحر حده فلا تتعدى المياه تخمنه. لما رسم أسس الأرض كنت عنده صانعا وكنت
كل يوم لذته فرحة دائما قدامه، فرحة في مسكونة أرضه ولذاتي مع بني آدم أم 8: 22 –
31

+
وهذا التشخيص للحكمة، يعني أن الحكمة ليست مغلقا عليها في الله ولكنه أيضا تصير
واضحة وظاهرة في العالم ” عند رؤوس الشواهق، عند الطريق بين المسالك تقف.
بجانب الأبواب عند ثغر المدينة، عند مدخل الأبواب تصرخ ” أم 8: 2، 3 (أنظر
أيضا ام 9: 1 – 6) أن الحكمة تظهر كواحد يقود إلى الخلاص ويفهم كل إعلانات الله،
وتقدم كخاصية تحتضن وتضم جميع الخصائص الإلهية الأخرى.

3-
ملاك يهوه، أن رسول الله الذي يتصرف كوكيله في العالم المحسوس , وفي بعض الأحيان
يميز عن يهوه، وأحيانا أخري يوحد معه (انظر تك 16: 7 – 13، 32: 24 – 28، هو 122: 4،
5، خر 23: 20،21، ملا 3: 1).

الحديث
عن الكلمة في سفر الحكمة:

إن
الأسفار الحكيمة كالأمثال والجامعة وحتى أيوب، إذ منحت الحكمة صفة الذاتية، بنوع
يشتم منه عن بعد، لاهوت ” الكلمة ” عند القديس يوحنا، إنما امتدحتها
بذلك كصفة إلهية، ومثال أعلي للرجل المتدين. وهذه النظرية تحتل مكانا أكبر في
السفر الذي اتخذ الحكمة كاسم خاص به (الكتاب المقدس – الطبعة الكاثوليكية – مقدمة
سفر الحكمة).

إن
الحكمة في هذا السفر، ينظر إليها كاسم آخر لملء الطبيعة الإلهية. وهي توصف ككائن
نوراني يخرج جوهرها من الله. أنها الصورة الحقيقة له. هي مبدأ حقيقي مستقل يكشف
الله في العالم ويتوسط بين الله والعالم. وأطلق علي الحكمة لقب ” المولود
الوحيد ” 7: 22

واليك
بعض العبارات التي وردت في هذا السفر عن الحكمة: ” لأن الحكمة مهندسة كل شئ
هي علمتني. فإن فيها الروح الفهم القدوس الولود الوحيد ذا المزايا الكثيرة اللطيف
السريع الحركة الفصيح الطاهر النير السليم المحب للخير.. المحب للبشر، الثابت
الراسخ المطمئن القدير الرقيب الذي ينفذ جميع الأرواح الفهمة الطاهرة اللطيفة. لأن
الحكمة أسرع حركة من كل متحرك فهي لطهارتها تلج وتنفذ في كل شئ، فإنها بخار قوة
الله، وصدور مجد القدير الخالص، فلذلك لا يشعر بها شئ، نجس، لأنها ضياء النور
الأولي ومرآة عمل الله النقية وصورة جودته. تقدر علي كل شئ وهي واحدة فتنشئ أحباء
الله وأنبياء، لأن الله لا يحب أحدا إلا من يساكن الحكمة. إنها أبهي من الشمس
وأسمي من كل مركز للنجوم، وإذا قيست بالنور تقدمت عليه، لأن النور يعقبه الليل،
أما الحكمة فلا يغلبها الشر ” (سفر الحكمة 7: 22 – 30)

 

وجاء
أيضا في الإصحاح التاسع من نفس السفر:


هب لي الحكمة الجالسة الي عرشك.. إن كان في بني البشر أحد كامل فما لم تكن معه
الحكمة التي منك لا يحسب شيئا.. أن معك الحكمة العليمة بأعمالك والتي كانت حاضرة
اذ صنعت العالم، وهي عارقة المرضى في عينيك والمستقيم في وصاياك، فأرسلها من
السماوات المقدسة وابعثها من عرش مجدك حتي إذا حضرت تجد معي وأعلم ما المرضي لديك،
فإنها تعلم وتفهم كل شئ فتكون لي في أفعالي مرشدا فطينا وبعزها تحفظني، فتغدو
أعمالي مقبولة وأحكم لشعبك بالعدل وأكون أهلا لعرش أبي. فأي إنسان يعلم مشورة الله
أو يفطن لما يريد الرب. إن أفكار البشر ذات أحجام وبصائرنا غير راسخة.. ومن علم
مشورتك لو لم تؤت الحكمة وتبعت روحك القدوس من الأعالي.. والحكمة هي التي خلصت كل
من أرضاك يارب منذ البدء ” (سفر الحكمة 9: 4 – 19)

وجاء
في الإصحاح السادس عشر عن الحكمة ” وما شفاهم نبتت ولا مرهم بل كلمتك يارب
التي تشفي الجميع ” (16: 12).

 

وفي
الإصحاح الثامن عشر، جاء عن الحكمة ما يلي:


هجمت كلمتك القديرة من السماء، من العروش الملكية علي أرض الخراب بمنزلة مبارز
عنيف وسيف صارم يمضي قضاءك المحتوم، فوقف وملأ كل مكان قتلا وكان رأسه في السماء
وقدماه علي الأرض ” 18: 15، 16

 

وفي
سفر يشوع بن سيراخ، جاء عن الحكمة ما يلي:

الحكمة
تسكب المعرفة وعلم الفطنة، وتعلي مجد الذين يملكونها ” (1: 24)

أما
ما يزعمه البعض – علي نحو ما أشرنا سابقا – من ان الإنجيل حسب القديس يوحنا، لم
يكتبه يوحنا الرسول، بل أحد فلاسفة مدرسة الإسكندرية، وأنه كتب في القرن الثاني
الميلادي، فقد دحضنا هذا الزعم الخاطئ، في دراسة مفصلة، وقدمنا الأدلة الكافية
التي تثبت أن القديس يوحنا قد أقام من أفسس، حيث كانت فلسفة اللوغوس، أنه هو
الكاتب للإنجيل الذي يحمل اسمه فنرجو من القارئ أن يعود الي ما كتبناه في هذا
الشأن، حيث أثبتنا ما يلي:

1-
إقامة القديس يوحنا في أفسس. وتضمنت دراستنا الاعتراضات التي تثار ضد إقامة القديس
يوحنا في آسيا الصغري، والرد عليها.

2-
شهادة الكنيسة بصحة نسبة الإنجيل الي يوحنا الرسول، وقد أشرنا الي الشهادات
التالية:

أ-
شهادة اوريجبينوس – اكليمنضس الإسكندري – بوليكراتس – ديونيسسيوس الإسكندري –
ترتليانوس – ايريناوس – ثثيؤفيلس أسقف انطاكية – ابوليناريوس – اثيتاغوراس – وثيقة
موراتوري – يوسابيوس- كتاب الراعي لهرماس – الرسالة الي ديوجينيتوس.

ب-
شهادة الهراطقة والوثنيين.

ج-
شهادة النسخ القديمة.

 د-
شهادة ترجمات الكتاب المقدس.

3-
وبالنسبة للأدلة الداخلية علي صحة نسبة الإنجيل الرابع الي القديس يوحنا الرسول،
تحدثنا عن شهادة الإنجيل ذاته، وأشرنا الي النقاط التالية:

أ-
كاتب الإنجيل لابد أن يكون يهوديا

ب-
كاتب الإنجيل يرجع الي النص العبري للعهد القديم

ج-
الكاتب يعرف جغرافية فلسطين

د-
يذكر الكاتب يعرف الكثير من عادات اليهود وتقاليدهم

ه-الكاتب
يعرف موضوع رجاء الشعب اليهودي

و-
الكاتب يتحدث كشاهد عيان وشاهد سمع.

 

ولقد
أقام
Kittel في قاموس الخاص بالعهد الجديد، والذي أشرنا إليه سابقا – مقارنة
بين مفهوم ” اللوغوس ” في الفكر اليوناني، ومفهومه في العهد الجديد،
وأبان النقاط التالية:

 

1-
إن مفهوم اللوغوس في الفلسفة اليونانية، من حيث أنه يشير بوجه مطلق للمعاني
التالية: الكلمة – الحديث – العقل – القانون، هذه المدلولات ليست هي الأمر المهم
في المسيحية، ذلك لأن الأمر المهم في المسيحية هو استعمال الكلمة لتشير الي ما
يقوله الله للإنسان، او الي كلام الله للإنسان، وهو ما لا يتفق مع الفكر اليوناني
في فكرته عن الله. في المسيحية، الله يتجه نحو الإنسان ” والكلمة حل بيننا
” يو 1: 14. وبلا شك فإن الإنسان عليه أن يتخذ موقفا من جهة ” الكلمة
” وأن يسلك في حياته بما يتفق معه.

2-
اللوغوس عامل انسجام واتساق في الطبيعة في الفلسفة اليونانية (الراقية
والافلاطونية المحدثة). ولكنها ليست كيانا مستقلا يقف بين الله والإنسان.

3-
في المسيحية – وهو ما لا يوجد في الفلسفة اليونانية – فكرة التجسد وفكرة الثالوث
(حسب المفهوم الخاص بالمسيحية من حيث تساوي الأقانيم في الجوهر وتميز كل اقنوم
بصفة ذاتية)

وبوجه
عام، تحدثنا في مقدمتنا لتفسير رسالة رومية، ردا علي من يزعم بأن بولس الرسول يعود
في أصول تفكير هي الي الفلسفة اليونانية، فقلنا الآتي.

إن
الرسول كانت له معرفة ما بالفلسفة الراقية، بطريق غير مباشر، عن طريق اطلاعه علي
مؤلفات اليهود اليونانيين علي أن الرسول بولس وأن كان يستعين في بعض الأحيان
باصطلاحات الفلسفة اليونانية، إلا أنه يعطينا مضمونا جديدا مغايرا لاستعمال
الفلسفة. فإذا صادفنا اصطلاحات في رسائل بولس الرسول، استعملتها الفلسفة اليونانية،
فليس معني ذلك أن الرسول بولس قد استعار تفكيره من فلاسفة اليونان. لأن الرسول
بولس يقدم تعاليمه التي أوحي بها إليه الروح القدس، وبروح تعاليم العهد الجديد
التي هي امتداد وتكميل لتعاليم العهد القديم.

إن
علينا أن نبحث عن تفسير لتعاليم الرسول بولس، لا فيما كتبه فلاسفة اليونان، بل
فيما كتبه الوحي في كتب العهد القديم ومن الخطأ كل الخطأ أن نبحث عن تأثير مباشر
للفلسفة اليونانية في كتابات الرسول بولس، ويحاول أن نفسر تعاليمه عن ”
الكلمة ” أو ” الروح ” أو ” الجسد ” في ضوء الفلسفة
اليونانية مثل هذه المحاولة تؤدي الي انحراف كبير في فهم تعاليم الرسول بولس وفي
فهم المسيحية بوجه عام إن المسيحية لا تستمد تعاليمها من أي مذهب أنساني، مهما سما
هذا المذهب، ولكن من الله مباشرة في إعلانه لنا في شخص الرب يسوع وكتب جلسون
(اتين) يقول:

لم
تكن المسيحية عند القديس بولس فلسفة قط، وإنما هي دين، فهو لا يعرف شيئا ولا يعلم
ولا يكرز ولا يعظ بشيء اللهم إلا بشيء واحد هو يسوع المسيح مصلوبا ومخلصا ومفتديا
الخطاة بنعمة منه ومن ثم فلابد أن يكون الحديث عن فلسفة للقديس بولس حديثا بغير
معني وإذا وجدنا بعض الشذرات من الفلسفة اليونانية مطمورة في كتاباته، فإما أن
تكون هذه الشذرات قد جاءت عرضا في كتاباته، أو أنها في أغلب الأحوال، قد أصبحت
عناصر متكاملة في مركب ديني يحور معناها تحويرا تاما. فمسيحية القديس بولس ليست
فلسفة تضاف إلى الفلسفات الأخري، كلا ولا هي فلسفة لابد أن تحل محل الفلسفات
الأخري عن فلسفه ما. ذلك لأن المسيحية هي طريق للخلاص، ولذلك هي شئ آخر غير
المعرفة، وهي أكثر من أن تكون تخطيطا لها. جاءت المسيحية بفكرة الخلاص عن طريق
الإيمان بالمسيح المصلوب. وعلي ذلك فإن تأثير الفلسفة اليونانية لم يكن خطيرا علي
الرسول بولس، ولم يمس المبادئ الرئيسية في معتقداته وتعاليمه، التي وإن كان قد
استعان في صياغتها بأساليب التأليف الرواقية في ذلك الوقت، إلا أنه يأخذها من
الفلسفة اليونانية، بل جاءت امتدادا لوحي العهد القديم، وكشفت له مباشرة بإعلان من
الرب يسوع. والرسول بولس يشير بكل وضوح إلى هذه الحقيقة فيقول: وأعرفكم أيها
الأخوة الإنجيل الذي بشرت به أنه ليس بحسب إنسان لأنه لم أقلبه من عند إنسان، ولا
علمته، بل بإعلان يسوع المسيح غلا 1: 11

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار