علم التاريخ

العباسيون والكنيسة 750-969



العباسيون والكنيسة 750-969

العباسيون
والكنيسة 750-969

الثورة
العباسية: ونشأت أحزاب سياسية في الدولة الأموية كالزبيريين والخوارج والشيعة ففتت
في ساعد الأمويين وأضعفتهم فطمع فسهم الخصوم وقاموا يكيدون. ودان للأمويين شعوب
كثيرة ولكن الأمويين لم يحسنوا السياسة فأثقلوا الجزية والخراج واستاقوا الأسرى
واستعبدوا وأذلّوا. فلم تنم هذه الشعوب على الضيم. وانصرف الأمويون إلى اللهو
والخمر والمجون ولمس عمّالهم غفلة وإهمالاً فأصبح لا هم لهم سوى ابتزاز الأموال
وحشدها. وقيل لبعض الأمويين” “ما كان سبب زوال ملككم” فقال:
“اختلاف فيما بيننا واجتماع المختلفين علينا”!

وكانت
الشيعة قد قابلت نزول الحسن عن الخلافة بالسخط. وبايعت الحسين فكان يوم كربلاء
فاستفظعت مقتل ابن بنت الرسول وازدادت حماساً وتعصباً. ثم تقسّمت فرقاً. فناصر
بعضهم محمد ابن الحنفية وعبدالله أبا هاشم بعده فمحمد ابن عباس. وعباس عم الرسول
وإليه ينتسب العباسيون. وناصر آخرون وكانوا كثراً عبدالله ابن حسين ابن الحسن ابن
علي. فتخوف العباسيون منه فعقدوا مؤتمراً هاشمياً يضم العلويين والعباسيين في مكة.
فتشبّث العلويون فسايرهم العباسيون ريثما تتهيأ لهم الأسباب ووافقهم على مبايعة
“النفس الزكية”.

وفي
حوالي السنة 718 ألّف محمد ابن عباس جماعات سرّية وأرسل معظمهم إلى خراسان لأنها
كانت في نظره أصلح من غيرها لنشر الدعوة ففرسها كانوا شيعيين ويكرهون العرب
والأمويين ولا يطمعون في الخلافة. وتوفي محمد ابن عباس وتزعّم الحركة العباسية بعد
ابنه إبراهيم الأمام. فأرسل هذا أبا مسلم الخراساني في السنة 746 إلى خراسان.
فأقام في مرو وبدأ يدعوا الناس إلى مبايعة آل محمد بدون تعيين. فتبعه أناس كثيرون.
واشتدت شوكته فهرب عامل خراسان فألقى الخليفة مروان القبض على الإمام إبراهيم في
مركزه في الحميمة في شرق الأردن. فأوصى هذا بالخلافة إلى أخيه ابن العباس السفّاح.
ومات إبراهيم الامام فدعا أبو مسلم أهل خراسان إلى مبايعة السفاح. وكانت ثورة
وكانت معركة حاسمة عند الزاب الأعلى في الثامن والعشرين من تشرين الثاني سنة 749.
وتعقّب السفاح مروان فأدركه في مصر وحزَّ رأسه. فزالت دولة الأمويين واستتب الأمر للعباسيين
في الشرق كلّه.

 

السياسة
العباسية: وكان العباسيون في عصرهم الأول أصحاب قوة وعزم وتدبير. ولكنهم لم يحجموا
عن الفتك بكل من يُخشى شرّه. وتعليل ذلك أنهم كانوا حريصين على الملك يستحلّون كل
شيء في سبيل تأييده. فقد تجدهم أعدل خلق الله وأعظمهم تسامحاً وقد تجدهم شديدين
مشددين. فالحرية عندهم كانت مكفولة ما دامت بعيدة عن سياسة الأحزاب. والتساهل كان
مباحاً ما دام لا يؤثر في الملك.

 

العباسيون
والمسيحيون: وهكذا فإننا نرى الموالي الفرس الذين نظّموا حكومة العباسيون ورتبوا
دوواينها يقرّبون أهل الذمة في العراق والشام فيطمعونهم بالرواتب والجوائز
ويكرمونهم. فجهابذة العباسيين -(جهبذ: ج: جَهَابِذَةُ. “عَالِمٌ جِهْبِذٌ
مِنَ الجَهَابِذَةِ العِظَامِ”: العَارِفُ، الْمُتَضَلِّعُ مِنَ
الْمَعَارِفِ، الخَبِيرُ النَّاقِدُ “معجم الغني”)- أكثرهم من اليهود
والكتّاب من المسيحيين. وتقلّد هؤلاء ديوان الجيش أيضاً وتسابق أكابر رجال الدولة
من المسلمين أنفسهم إلى تقبيل أيديهم. وممن تقلد هذا الديوان ملك ابن الوليد قلّده
إيّاه المعتضد بالله (892-902) “وكان المعتضد شهماً عاقلاً فاضلاً وكان
شديداً على أهل الفساد” وقلّد المتقي بالله (940-944) أبا العلاء صاعد ابن
ثابت خلافة الوزارة وكان نصرانياً. واستخدم العباسيون الأطباء من أهل الذمة
والحكماء والتراجِمة والكتّاب فأكرموهم وراعوا جانبهم وقدّموهم. وقد حفظ لنا ابن
أبي اصيبعة في كتاب طبقات الأطباء الشيء الكثير من هذه المحاسنة. ولعل أفضل ما
ينقل عنه كلامه عن علاّمة الخليفة المنصور بجورجيس ابن بختيشوع وكان جورجيس آنئذ
رئيس أطباء مارستان جنديسابور. فلما انقطعت شهوة المنصور من الداء الذي أصابه في
معدته استقدم جورجيس فدرس علّته ووصف الدواء فاشتفى الخليفة وطابت نفسه ومنع
جورجيس من الرجوع إلى بلده. وكان المنصور قد علم أن جورجيس خلف امرأته في
جنديسابور فارسل إليه ثلاث جوار روميات وثلاثة آلاف دينار. فقبل جورجيس الدنانير
وردَّ الجواري فلما عاتبه المنصور أجابه: “إننا معشر النصارى لا نتزوج إلا
بامرأة واحدة وما دامت حية لا نأخذ غيرها”. وبذل المأمون وغيره جهدهم في نقل
الكتب من اليونانية والسريانية إلى العربية وأنفقوا بسخاء فكان السوريون المسيحيون
ساعدهم الأقوى وفيهم الحمصي والبعلبكي والدمشقي والحيري والحراني.

وأكرم
بعض الخلفاء الأساقفة وجالسوهم. فالهادي كان يستدعي إليه الأسقف تيموثاوس في أكثر
الأيام ويحاوره في الدين ويبحث معه ويناظره ويطرح عليه كثيراً من القضايا. وله معه
مباحث طويلة ضمنها كتاباً ألّفه الأسقف المذكور في هذا الموضوع. وكان هارون الرشيد
يفعل مثل هذا أيضاً. وغض بعض الخلفاء النظر عن إذلال بعض المسيحيين فسهّلوا لهم
الاختلاط وأظهروا احترام مذهبهم حتى أصبح هؤلاء المسيحيون يهدون الخلفاء أيقونات
القديسين فيقبلونها منهم. وكثيراً ما كان الأساقفة يطلبون من الخلفاء تثبيتهم في
مناصبهم للاعتزاز بذلك على أخصامهم أو منازعيهم.

ولكن
بعض هؤلاء الخلفاء والوزراء العادلين المتسامحين كانوا في بعض الظروف أشد الناس
تعنتاً. فالمهدي (775-785) “قوّض الكنائس التي ابتناها النصارى في عهد العرب
وأخرب كنيسة الخلقيدونيين (الروم) في حلب” وأمر أن لا يقتني النصارى عبيداً.
وفي السنة 779 أقبل المهدي على حلب فخرج إلى لقائه التنوخيون ممتطين خيولاً مطهمة
رافلين بالحلل. فقيل له هؤلاء هم نصارى “فاحتدم المهدي سخطاً واضطرهم أن
يسلموا. فأسلم زهاء خمسة آلاف رجل. ولم تسلم النساء. واستشهد منهم رجل جليل اسمه
ليث”.

وفي
السنة 797 مرّ هارون الرشيد فواجهه المسلمون وشكوا النصارى مدّعين أن ملك الروم
يزورهم كل سنة سرّاً ويصلي في كنائسهم. “فبحث الخليفة فاستبان له افراؤهم
فأوسعهم ضرباً. وفي هذا الزمان كان رجل قرشي اسمه رويح. وكان بيته مجاوراً
للكنيسة. وكان يضايق الكاهن يزعجه وقت الصلاة ويطرح عليه من الكوة كرات من طين.
ولما كان يحدق فيه يوماً وقت ذبيحة القداس شاهد في الطبق على مائدة الحياة حملاً
مذبوحاً. فانحدر إلى الكنيسة وشاهد أمام الكاهن خبزاً مكسوراً. فعاد إلى الكوة
وحدق ثانية فشاهد الحمل. فجاهر حالاً بالنصرانية وترك بيته وقصد أحد الأديار
واصطبغ بالمعمودية. ولما بلغ هارون الرشيد خبره استحضره ولاطفه ليعود إلى الإسلام
فأبى. فأوثقه وألقاه في السجن، وظل سنتين كاملتين راسخاً في عقيدته”.

وفي
السنة 807 أمر الرشيد بهدم الكنائس بالثغور وأخذ أهل الذمة بمخالفة هيئة المسلمين
في لباسهم وركوبهم.

وفي
السنة 812 في عهد الأمين (809-813) اتفق ناصر وعمر الخارجيان وعبروا الجزيرة وجعلا
أصحابهم الخوارج يقتلون دون شفقة ويسبون ويغزون ويفحشون. وفيما كانا يحاصران حران
كتب إليهما الرهاويون يقولون: إن أرسلتما من يدمر كنيسة النصارى فإنهم يضحون
بأموالهم كلّها حرصاً عليهاً. فهلع الرهاويون وأوصوا بالصوم واعتكفوا على السهر
والصلاة. فسمع الرب طلباتهم وألهم شيخاً من العرب يُقال له يحيى ابن سعيد فخرج يريد
مواجهة ناصر وعمر والخارجين وأشار عليهما أن يعدلا عن قصدهما. فلبيا مشورة الشيخ
وأدى لهما الرهاويون خمس مئة ألف درهم.

وفي
عهد المأمون (813-834) تداعت قبة القيامة في أورشليم فأرسل بكام المصري إلى توما
البطريرك الأورشليمي بمال كثير يستعين به إصلاح القبة. فأصلحها البطريرك.

 

تحاسد
المسيحيون: ولو دققنا في كان يلحق بالمسيحيين من الأذى لرأينا سببه في بعض الأحيان
وشايات بعضهم على بعض. فإن عيسى ابن شهلا لما تولى الطبابة في دار الخلافة اغتنم
تلك الفرصة وبسط يده على المطارنة والأساقفة يأخذ أموالهم لنفسه وكتب مرّة إلى مطران
نصيبين يلتمس أشياء عظيمة المقدار من أواني الكنيسة. وهدد قائلاً: ألست تعلم أن
أمر الملك بيدي إن شئت أمرضته وإن شئت عافيته فبعث المطران بالكتاب إلى الخليفة
فانتقم منه.

وحسد
بختيشوع ابن جبرائيل الطبيب حُنين ابن اسحق المترجم الشهير لما رأى من منزلته عند المتوكل
فعمل على الكيد به من طريق الدين. فاصطنع أيقونة للسيدة العذراء وفي حجرها السيد
المخلص. وأوعز إلى بعض خاصته أن يحملها هدية إلى الخليفة. وكان هو المستقبل
للأيقونة من يد حاملها. فاستحسنها المتوكل. وجعل بختيشوع يقبلها. فقال له الخليفة
المتوكل لمَ تقبلها؟ فقال له يا مولانا إذا لمْ أُقبّل صورة سيدة العاملين فمن
أُقبّل؟ فقال المتوكل: وكل النصارى يفعلون ذلك. فقال نعم يا أمير المؤمنين وأفضلُ
مني. ولكني أعرف رجلاً في خدمتك يتهاون بها ويبصق عليها. وهو زنديق ملحد لا يقرّ
بالوحدانية ولا يعرف آخرة يستتر بالنصرانية وهو معطل مكذب بالرسل. فقال المتوكل:
من هذا الذي هذه صفته؟ فقال له: حُنين المترجم. فأمر المتوكل باحضار حنين فاستمهله
بختيشوع ساعة. ثم خرج توّاً إلى حُنين وقال له: أهديت إلى الخليفة أيقونة وقد
استحسنها. وإن نحن تركناها عنده مدحناها بين يديه احتقرنا وقال لنا هذا ربكم وأمه
مصوران. وقد سألني عن رأيي فيها فقلت مثله يكون في الحمامات والكنائس. فطلب إليّ
أن أبصق عليها فبصقت. فإذا دعا بك فافعل. فصدّقه حُنين ولما دعاه الخليفة فعل كما
قال له بختيشوع. فحالما بصق على الأيقونة أمر الخليفة بحبسه. ووجّه إلى ثيودوسيوس
الجاثليق فأحضره. فلما رأى الأيقونة وقع عليها وقبّلها ولم يزل يقبّلها ويبكي
طويلاً. ثم أخذها بيده وقام وقائماً فدعا لأمير المؤمنين وأطنب في دعائه. فدعاه
إلى الجلوس. ثم سأله عم يستحق الذي يبصق عليها. فقال: “إذا كان مسيحياً
عارفاً فإني أحرمه دخول الكنيسة ومن القربان وأمنع النصارى من ملامسته وكلامه
وأُضيّق عليه”. فأعطى الخليفة الأيقونة للجاثليق مع جائزة وأمر بحُنين فجلد
بالسياط والحبال وأمر بنقض منازله وحبسه. ولم ينجُ من ذلك حتى اعتل المتوكل واحتاج
إلى مشورته فأفرج عنه.

 

الشرع
والمسيحيون: وأظهر العباسيون في دعوتهم أنهم يريدون إحياء السنة وتقويم ما اعوج من
سبل الدين في عهد الأمويين. فلما استتب لهم الأمر قرّبوا الفقهاء والعلماء والزهاد
وأكرموهم. وكانوا إذا لقوا فقيهاً أو زاهداً طلبوا إليه أن يعظهم فإذا وعظ بكوا.
وأشهر المتعظين منهم المنصور والرشيد والمعتسم والواثق. ولا غرو فالمسلمون انقادوا
إلى فقهائهم فاستعان الخلفاء بهؤلاء على إخضاع العامة وامتلاك قلوبهم. واكتسب
الفقهاء بتقرّبهم مالاً وجاهاً فرسخ احترامهم في قلوب العامة وتمسكوا بهم وعظّموهم
باسم الدين.

ويستدل
مما تبقى من آداب العصر العباسي أن الفقهاء والعلماء جعلوا “عهد عمر”
أساساً لاجتهادهم في معاملة أهل الذمة. وقد سبق لنا القول أن نص هذه
“العهد” اتصل بالفقهاء بطريق الإسناد إلى عبد الرحمن ابن غنم الأشعري
الراوي القديم الذي توفي في السنة 78 للهجرة. ونضيف هنا أن أكثر مواد هذا العهد
واردة في كتب الفقه والإدارة في العصر العباسي ويكاد لا يخلو منها أو من بعضها
مصنف.

واختلف
الأئمة في قيمة حياة الذمّي. فإنها كانت عند أبي حنيفة (696-767) وابن حنبل
(780-855) تكافئ حياة المسلم وديّة المسلم. أما عند مالك (715-795) فديّة اليهودي
أو النصراني نصف ديّة المسلم. وعند الشافعي (767-820) ثلثها. أما المجوسي فديّته
جزء من خمسة عشر جزءاً من ديّة المسلم. واستحق التأديب عند هؤلاء من قال للمسلم يا
يهودي أو يا نصراني. وذهب بعض فقهاء هذا العصر إلى أنه لا تُقبل شهادة الذمي على
أهل دينه. فحزّ هذا في صدور النصارى حزّاً عميقاً. وذهب البعض مذهباً آخر. وكان
على قضاة النصارى أن يقبلوا شهادة المسلم على النصراني فزاد هذا الموقف في كرههم
وحقدهم.

واجتهد
الفقهاء في هذا العصر اجتهاداً شاقاً في أمر تسلط أهل الذمة على المسلمين ففي
السنة 849 أمر المتوكل ألا يُستعان بأهل الذمة في الدواوين وأعمال السلطان التي
تجري أحكامهم فيها على المسلمين. ولكنه بعد ذلك بعشر سنين أنشأ قصره الجعفري وأجرى
إليه نهراً وجعل النفقة عليه إلى دليل ابن يعقوب النصراني وفي السنة وفي السنة 909
علا أمر النصارى وغلبوا على الكتّاب فأمر المقتدر بما أمر به المتوكل وأضاف ألا
يستخدم احد من اليهود والنصارى إلا في الطب والجهبذة. ولكن هذه الأوامر كانت ضعيفة
الأثر فإن وزيره أبا الحسن علي ابن الفرات كان يدعوا أربعة من النصارى إلى طعامه
كل يوم. وكانوا في جملة الكتّاب التسعة الذي اختص بهم. ولما أراد المقتدر أن
يستوزر الحسين ابن القاسم في السنة 931 أشار عليه بأن يجتهد في إصلاح أعدائه.
فابتدأ ببني رائق فكان يمضى إلى كاتبهم النصراني ويضمن لهم الضمانات. ثم فعل ذلك
باصطفن ابن يعقوب كابت مؤنس وقال له: “إن تقلدت الوزارة فأنت قلدتنيها”.
وكان الحسين هذا يتقرّب إلى النصارى الكتّاب بأن يقول لهم: “إن أهلي منكم
وأجدادي من كباركم. وإن صليباً سقط من يد عبيد الله ابن سليمان جدي فلما رآه الناس
قال: هذا شيء تتبرك به عجائزنا فتجعله في ثيابنا من حيث لا نعلم” ومثل هذا
كثير فليراجع في محله (الحضارة الإسلامية للدكتور آدم متز ج1 ص 68-70). وعالج
الفقهاء هذه الفضية فاختلفوا وأفتى بعضهم بأنه يجوز بأن يكون وزير التنفيذ لا وزير
التفويض من أهل الذمة. ووزير التنفيذ لا يباشر الحكم ولا يقلّد العمال ولا يدبر
الجيش. أما وزير التفويض بهو الذي يفوض السلطان إليه تدبير الدولة برأيه.

ومنع
الفقهاء في العصر العباسي تغيير الدين إلا إذا كان دخولاً في الإسلام. فانفصلت
الطوائف بعضها عن بعض. وعوقب المرتد عن الإسلام بالقتل. وقل التزاوج بين المسلمين
وغير المسلمين. أما زواج المسيحي من مسلمة فإنه كان مستحيلاً. ومنع الفقهاء أيضاً
أهل الذمة من تعلية بيوتهم على أبنية المسلمين. فإن ملكوا بيوتاً عالية أقروا
عليها ومنعوا من الإشراف منها على المسلمين.

ولم
يُغلق الفقهاء دون أهل الذمة أي باب من أبواب الرزق. فكانوا مزارعين وتجّاراً
وصنّاعاً وصيارفة وأطبّاء. وكان معظم الصيارفة والجهابذة يهوداً وأكثر الأطباء
والكتبة نصارى. وكان رئيس النصارى في بغداد طبيب الخليفة.

 

القضاء
بين المسيحيين: ولم بفصل الإسلام بين السلطتين القضائية والتنفيذية فالنبي كان
رئيس الدولة الإسلامية وقاضيها في آن واحد. وكان أيضاً “مبلّغاًَ
لشريعتها”. وكذلك كان خلفاؤه من بعده. وكان محمد يعهد بالقضاء إلى بعض الولاة
ضمن توليتهم أمور الولاية فاقتفى خلفاؤه أثره واتبعوا الخطة نفسها فقضى ولاتهم بين
الناس بالنيابة عنهم. ثم كثرت الأعمال فاضطر الولاة إلى تعيين القضاة. ولم يحدد
الوالي اختصاص القاضي فاحتفظ لنفسه بما كان “يعجز عنه القاضي”. ثم خرج
القاضي من سلطان الوالي فخضع للخليفة مباشرة. وكان أبو جعفر المنصور أول خليفة
ولّى قضاة الأمصار من قبله.

وكان
هذه القاضي قاضي المسلمين (يحضر مجلسه المسلمون دون أهل الذمة). ولا غرابة في ذلك
فالمسلمون الفاتحون كانوا قد أقروا الناس على ما كانوا عليه من قبل فلم يتعرضوا
لهم في شيء من معاملاتهم أو أحكامهم. ومن هنا اهتمام النصارى بعد دخولهم في دار
الإسلام بالقوانين البيزنطية ونقلها إلى السريانية والعربية. ومن هذه كتاب الهدى
وقد سبقت الإشارة إليه. وأجاز بعض الفقهاء تقليد الذمي القضاء بين أهل دينه
واعتبروا هذه التقليد تقليد زعامة ورئاسة لا حكم وقضاء. ولكنهم رأوا أنه إذا امتنع
أهل الذمة عن التحاكم أمام قضاتهم لا يجبروا على ذلك. فإذا رجعوا إلى قاضي الإسلام
قضى بينهم بحكم الإسلام “لأنه يكون عليهم أنفذ ولهم ألزم”.

والذي
نعلمه من أمر هذه المحاكم المسيحية أنها كانت محاكم كنسيّة يقوم فيها الرؤساء
الروحيون مقام كبار القضاة. ولم تقتصر الأحكام فيها على مسائل الزواج بل كانت تشمل
مسائل الميراث وأكثر المنازعات التي قامت بين المسيحيين وحدهم. ولم ينظر الرؤساء
بعين الرضا إلى من لجأ من النصارى إلى المحاكم الإسلامية. ولذلك صنف الجاتليق
النسطوري تيموثاوس في السنة 800 كتاباً في الأحكام القضائية المسيحية “لكي
يقطع كل عذر يتعلل به المسيحيون الذين يلجأون لى المحاكم غير المسيحية بدعوى النقص
في القوانين المسيحية”. ولخصّ ابن العبري القوانين الكنسية والمدنية في كتابه
الهدايات وأبدع في أبواب الشرع المدني. وجعل الآباء القضاة العقوبات دينية منها
التكدير والتوبيخ ومنها القطع والندامة ومنها البذل والغرامة.

 

الخلفاء
والبطاركة: وبعد انتقال مركز الحكم من دمشق إلى بغداد أصبح “الجاثليق”
النسطوري ذو مهابة نظراً لكثرة أبتاعه في العراق وفارس وما وراءهما إلى الشرق.
وكانت تنتخبه كنيسته فيصدّق الخليفة على انتخابه ويكتب له عهداً كما كان يكتب
لكبار العمال. ولم يبقَ من نصوص هذه العهود سوى نص واحد صدر عن الخليفة المستنجد
في السنة 1139. وكذلك كان يكتب لبطريرك اليعاقبة وبطريرك الروم. وكان للمسيحيين
النوبيين دون سائر المسيحيين مكانة ممتازة في الدولة الإسلامية. فكانوا يدفعون
الضرائب لملكهم وكان للضرائب عامل من قبله في بلاد الإسلام.

وكان
لليهود رئيس في بغداد يدعى “رأس الجالوت” ورئيس آخر في القاهرة بعد قيام
الدولة الفاطمية يلقّب “سرهساريم” أي أمير الأمراء. وكان هذا يعيّن
أحبار اليهود في مصر والشام. فاحتج أحد بطاركة اليعاقبة فقال في مجلس له مع
الخليفة: إن رؤساء المجوس واليهود حكام دنيويون وأنه هو رئيس روحي لا يستطيع إلا
فرض العقوبة الروحية كأن يحكم بخلع أسقف أو قطع كاهن أو منع علماني من حضور
الاحتفالات الكنسية.

وظل
انتساب بطاركتنا إلى الكنيسة الجامعة واستمساكهم باللغة اليونانية وتعلقهم بآدابها
الكنسية سبباً لاتهامهم بالميل إلى الروم والتجسس لهم ومطالعتهم بأخبار المسلمين.
وظلوا هم بعيدين عن زميلهم الكبير بطريرك القسطنطينية لا يتصلون به ولا يجرأون على
ذكره في الذبتيخة. فقد جاء في تاريخ افتيخيوس تحت أخبار السنة (937-938) إن الروم
والمسلمين تهادنوا وتبادلوا الأسرى فوجّه ثيوفيلاكتوس بطريرك القسطنطينية رسولاً
إلى افتيخيوس نفسه بطريرك الإسكندرية وإلى ثيودوسيوس بطريرك أنطاكية وإلى
خريسوذوللس بطريرك أورشليم يسألهم “أإن يذكروا اسمه في صلواتهم وقداساتهم
فأجابوه إلى ما سأل. وهذا كان قد انقطع عن وقت خلافة بني أميّة”.

فثيودوروس
(774-797) خالف كنيسة القسطنطينية وامبراطورها وواظب على احترام الأيقونات وقطع
قوزما متروبوليت حماه لأنه ماشى القسطنطينية في أمر الأيقونات ولكنه على الرغم م
هذا الموقف المعادي للقسطنطينية اضطر أن يتحمل عذاب النفي والاضطهاد عندما غزا قسطنطين
الخامس حدود الخلافة فأُبعد إلى موآب.

وكان
أيوب الأول البطريرك الأنطاكي (813-844) قد طوى فوآده على التعاون مع الخلفاء
لاسقاط التهم ورفع الشبهات فتوّج توما الصقلي الثائر في وجه الأمبراطور ميخائيل
الثاني إرضاءً للمأمون. ورافق المعتصم إلى حصار أنقرة فكلّم حاميتها
“بالرومية وقال أطيعوا السلطان وأدّوا الجزية” فقوبل بالشتم والحجارة.
ورأى خريستوفوروس البطريرك الأنطاكي (960-967) أن يبعد عن أنطاكية في أثناء الحرب
بين سيف الدولة والروم فسار إلى دير سمعان وأقام فيه. وعندما عاد الروم إلى بلادهم
قصد خريستوفوروس سيف الدولة في حلب فأحسن قبوله وشكره على ما فعل. وعاد البطريرك
إلى أنطاكية. ثم توفي سيف الدولة فتألبت العامة على خريستوفوروس واتهمه صديقه ابن
مانك بمكاتبة الروم واستنهاضهم. “فحلف البطريرك أنه ما كاتب الروم قط فوثب
عليه قوم من الخراسانيين وأقامه واحد منهم وضربه آخر بالخنجر فأنفذه في بطنه فسقط
فقطع رأسه وطرح في أتون حمام وحملت جثته وطرحت في النهر. وأنفذ ابن مانك قبل الصبح
قوماً إلى كنيسة القسيان وقبضوا على ما وجدوه في منزل البطريرك وفي خزانة الكنيسة
وأخذوا كرسي مار بطرس وهو من خشب النخل مصفح بالفضة وحفظوه في دار شيخ يعرف بابن
عمر. وما زال في داره إلى أن ملك الروم المدينة. وبعد ثمانية أيام ظهرت جثة
البطريرك على جزيرة النهر فخرج قوم من المسيحيين وأخذوها سراً ودفنوها في الدير
المعروف بإرسانة خارج المدينة”.

 

هيرارخية
أنطاكية: وتختلف المراجع في تتابع البطاركة وتعاقبهم على السدة الرسولية وتتابين
آراؤهم في تعين مدة الرئاسة لكل منهم. وإليك ما جاء في لائحة قسطنديوس القسطنطيني
وما دونه افتيخيوس البطريرك الإسكندري وما دونه بعده يحيى ابن سعيد الملحق لتاريخ
افتيخيوس.

 

بطاركة
أنطاكية

 

لائحة
قسطنديوس

 

لائحة
افتيخيوس

(1) 748-810

ثيوفيلاكتوس

748-762

 

ثيوفيلاكتوس

754-762

ثيودوروس

767-787

 

ثيودوروس

774-797

يوحنا
الرابع

797-810

 

يوحنا

798-811

 

(2)
810-902

أيوب
الأول

810-826

 

أيوب
الأول

813-844

نقولاووس

826-834

 

نقولاووس

848-871

سمعان

834-840

 

اسطفانوس

871-871

الياس

840-852

 

ثيودورسيوس

852-860

 

ثيودورسيوس

871-892

نقولاووس
الثاني

860-872

 

ميخائيل

879-890

 

زكريا

890-902

 

سمعان

892-904

 

(3)
902-966

جاورجيوس
الثالث

902-917

 

الياس

905-930

أيوب
الثاني

917-939

 

ثيودوسيوس

934-943

افستراتيوس

939-959

 

ثيوخريستوس

944-948

خريستوفوروس

960-966

 

خريستوفوروس

960-967

 

ويستدل
من التنقيح الذي أُدخل في القرن العاشر على لائحة انسطاسيوس البطريرك الأنطاكي أن
المؤمنين الأرثوذكسيين آثروا آنئذ التكتل في السواحل على الانتشار في الداخل وأن
أهم أبرشيات الكرسي الأنطاكي الساحلية أمست في القرن العاشر كما يلي:

 

أبرشية
عكة من نهر الكرمل حتى نهر الزيب بما في ذلك دير القديس جاورجيوس اللبناني.

أبرشية
صور من نهر الزيب حتى نهر الليطاني.

أبرشية
صيدا من الليطاني حتى الدامور.

أبرشية
بيروت من نهر الدامور حتى نهر إبراهيم. ويضاف إليها برج الهري
Trieris وبرج المسيحة Gigarta.

 

أبرشية
جبيل من نهر إبراهيم حتى سيل قانونيت
Kanonit.

أبرشية
البترون من هذا السيل حتى وجه الحجر
Lithoprosopon.

أبرشية
طرابلس من رأس وجه الحجر (الشقعة) إلى سير ستروثيون
Strouthion.

أبرشية
عرطوز
Orthosias من سيل الستروثيون حتى خريسوبوتاموس Chrysopotamos.

أبرشية
عرقة من الخريستوبوتاموس حتى نهر السوسية
Sousie (الحصن).

أبرشية
طرطوس من نهر السوسية حتى نهر المرقية. وكانت تدعى أبرشية هنتارغوس
Hentargos.

أبرشية
بانياس من نهر المرقية حتى نهر بانياس. وهي خاضعة لمتروبوليت أبامية.

أبرشية
البلدة
Paltos من نهر بانياس حتى النهر الكبير. وهي مستقلة.

أبرشية
جبلة من النهر الكبير حتى نهر صهيون.

أبرشية
اللاذقية من جسر نهر صهيون حتى نهر تراسكية
Thrascaia.

أبرشية
أبامية من نهر تراسكية حتى النهر الكبير (العاصي).

أبرشية
سلفكية من النهر الكبير حتى الكيروبوتاموس بما في ذلك دير القديس سمعان.

أبرشية
موبسوستة من الكيروبوتاموس حتى نهر الفيسي الكبير
Phisi.

أبرشية
أدنة حتى نهر الروسوس
Rhosos وهو الحد الفاصل بين الكرسيين الأنطاكي والقسطنطيني.

 

وتشير
هذه اللائحة المنقحة نفسها إلى كاثوليكوسين تابعين للكرسي الأنطاكي أحدهما
كاثوليكوس روماغيريس
Romangyris والآخر كاثوليكوس ايرينوبوليس Irenoupolis. وقد أبان الأب فاهي Vailhe أن ورماغيريس هو حي الروم في نيسابور وأن ايرينوبوليس هي مدينة
السلام أي بغداد. وكان الداعي لسيامة الكاثوليكوس الأول كثرة التجّار اليونانيين
في نيسابور. أما بغداد فإنها كانت عاصمة العباسيين وكانت تضم عدداً لا يستهان به
من أبناء الكنيسة الجامعة وجاء في تاريخ ابن العبري أن البطريرك الأنطاكي الياس
سام أول كاثوليكوةس أرثوذكسي في بغداد في السنة 910.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار