اللاهوت الدفاعي

الفصل الرابع



الفصل الرابع

الفصل
الرابع

المرأة
عند بولس

يبدو
لنا بولس، من خلال نصوصه، رجل تناقض، فهي تظهر شبه متنافرة: من جهة، نرى فيه الرجل
الذي يعيد إلى الوراء المرأة التي عزّز يسوع دورها الاجتماعي، فاكتسب بالتالي صفة
المناهض للمرأة دون منازع، وأصبحت هذه الصفة ملازمة لشخصيّته (كور 11 و14)؛ ومن
جهة أخرى، نجد فيه المناصر الأول للمساواة الاجتماعيّة. فما أن نطمئنّ إلى غلا 3:
28 واعلان نهاية التمييز الاجتماعي والدينيّ الذي كان يفرّق بين الرجل والمرأة (لم
يعد هناك يهوديّ ولا يونانيّ، لا عبد ولا حرّ، لا رجل ولا امرأة)، حتى يفاجئنا
أمرُه بأن تصمت النساء في الكنائس (1كور 14: 34)، والتأكيد بأن (الرجل هو رأس
المرأة) (1كور 11: 2- 16). فمن هو بولس؟ هل هو قائد مسيرة التحرير أم إنه سيّد
المحافظين الأول؟ وهل يكفي قوله (لتصمت النساء في الكنائس) كي يكون هذا الرسول
ألدّ أعداء المرأة؟ أم هل يمكننا أن ننسب إليه ازدواجيّة في مبادئه الأخلاقيّة،
بحيث نلمس جوهر إيمانه في غلا 3: 28، ونكتشف ميوله الرافضة للمرأة في 1كور 14؟ أم
أننا نستطيع أن نعيد غلا 3: 28 إلى ثقافته اليونانيّة و1كور 14 إلى بيئته
اليهوديّة؟ إن التناقض أكيد، ومن غير الممكن تبرئة بولس من أبوّته لأيّ من الخطّين
فكيف نقرأه وكيف نفهمه إذًا؟

قبل
البدء في قراءة النصوص واستخلاص فكر بولس ورأيه حول موضوع النساء، لا بدّ لنا من
توضيح بعض النقاط الأساسيّة في قراءتنا لهذه النصوص الكتابيّة.

يجب
علينا أولاً الانتباه إلى المساحة الزمنيّة والاجتماعيّة التي تفصلنا عن نصوص
العهد الجديد التي تعود إلى 2000 سنة، وإلى اختلاف ثقافة ومبادئ وقوانين عصرنا
الحالي عن ثقافة ومبادئ وقوانين ذلك العصر، وبالتالي استحالة تفتيشنا في هذه
النصوص عمّا نريده نحن اليوم؛ من هنا ضرورة الفصل بين النصّ وتأثيره في التاريخ.

لا
بدّ من التأكيد ثانيًا، أن موضوع العلاقة بين الرجل والمرأة غير مطروح أبدًا
كموضوع محدّد ومستقل، لا في الانجيل ولا في كتابات بولس. أي إن كاتبي هذه النصوص
لم يعطوا هذا الموضوع ما نعطيه نحن اليوم من أهمّية. فالنصوص تأتي على وضع الرجل
والمرأة بطريق العرض (طلب شفاء، لقاء، مشكلة في الحياة الجماعيّة)، فلا يجوز تطبيق
رأي حول امرأة على المرأة بشكل عام. إن كتابات بولس، كما هو معروف، هي كتابات
رسوليّة ظرفيّة لا تهتمّ أساسًا بنقل معلومات عن بدايات الرسالة المسيحيّة.
فالأشخاص والأماكن والخلافات المذكورة فيها، تعود إلى حوادث مرتبطة بزمان محدّد
ومكان معيّن. من هنا لا يمكننا أن نأخذ النصوص ونعطيها قوّة البرهان، ذلك أن كل
فكرة تطال الرجل والمرأة يجب أن تُوضع في إطارها الاجتماعي والتاريخي.

 

المرأة
اليهوديّة والجديد المسيحي

نستطيع
أن نستنتج من غلا 3: 28 أن بولس كان يطالب بجماعات مؤلّفة من تلامذة متساوين، لكن
هذه الجماعات لم تكن اختراعًا جديدًا، فهي تستند إلى سابقة نجدها عند يسوع.

لقد
جمع يسوع النساء والرجال تحت راية الملكوت القريب، وبنى بولس التراتبيات على أساس
التبرير بالإيمان. فانطلاقًا من الاسكاتولوجيا بالنسبة للرسول، عرفت هويّة المرأة
تقييمًا جديدًا بالمشاركة بالإيمان. ولكن ما هو الجديد في مواقف يسوع من المرأة؟
من الأكيد أن يسوع أتى بالجديد، لكن يجب أن نضيف بأن وضع المرأة اليهوديّة في
القرن الأول لم يكن مثالاً للظلم. صحيح أننا لا نعرف الحياة اليهوديّة في فلسطين
أثناء القرن الأول إلاّ من خلال النصوص التشريعيّة، لكن هذه النصوص هي ذات طابع
متأخّر ويجب أن نلفت الانتباه إلى أن قسوة الشرائع لا تتطابق دائمًا مع بساطة
الحياة، وأن المشناة لا تعكس دائمًا يوميات الحياة الفلسطينيّة.

المرأة
بنظر الشريعة

يبدو
أن إطار تأثير المرأة يعود إلى دورها كأم، وإلى أمانتها لزوجها، وإلى مسؤولياتها
المنزليّة. فالفتاة لا يمكنها رفض زواج قرّره والدها، ويمكن للمرأة أن تطلّق بسبب
زنى (رابي شماي)، أو بسبب احتراق طبخة (رابي هلال)، أو لأن زوجها قد فضّل عليها
امرأة أخرى (رابي عقيبه)؛ ويجعل الدين من المرأة شخصًا قاصرًا: تُفصل عن الرجال في
صلاة المجمع، وتُحرم من تعلّم التوراة، وتُعفى من غالبيّة وصاياها(1). لكن هذه
الصورة الكلاسيكيّة تحتاج إلى توضيح: فالمرأة اليهوديّة ليست مُلكًا لزوجها. فقد
حمت الشريعة المرأة المطلّقة عن طريق اجبار الزوج على إعادة الدوطة (ك ت وب ه) حتى
ولو استدان (ندريم 9: 5). وفي الحياة الطقسيّة، تطبّق على المرأة ممنوعات أقلّ
بكثير مما تطبّق عليها اعفاءات معيّنة. فهي مثلاً معفاة من سكن الخيام أثناء
العيد، ومن ارتداء ال (ت ف ل ي م) (أي علبتان تحتويان أربعة نصوص بيبليّة)، ومن
ترداد صلاة (شماع): (اسمع يا اسرائيل) الخ. غالبًا ما توحّد الطقوس بين المرأة
والعبد والطفل. ويعتبر رابي العازر بأن (تعليم التوراة للابنة هو بمثابة تعليمها
التفلّت). لكن رابي بن عزاي يجيز لها ذلك (سوطه 3: 4). ويمكننا أن نتساءل إن لم
يكن الفصل بين الرجال والنساء في المجتمع لا يعكس ممارسة متأخّرة (2). إن عظمة
المرأة اليهوديّة تكمن إذًا بشكل عام في دورها كزوجة وأم كما يؤكّد رابي العازر: (رجل
بلا امرأة ليس رجلاً) (تلمود بابل، يبموت 36) لكن خارج المنزل وفي الحياة العامة
والدينيّة، سلطة الرجل هي الطاغية (3).

على
هذه الخلفيّة، تأخذ تصرّفات يسوع تجاه المرأة أهمّيتها. فقبول يسوع للنساء ليكنّ
بين مرافقيه (لو 8: 1- 3)، وليسمعن تعاليمه، وتأثّره العميق تجاه النساء المريضات،
ورفضه قبول سنّة الطلاق المحفوظة للرجل وحده (مر 10: 2- 9)، وقبوله الحوار معهن
(مر 7: 24- 30؛ يو 4)، هي علامات للاهتمام الذي أعطاه يسوع للنساء، وهذا ما يفسّر
أمانة النساء لعلاقتهن بالمعلّم بعد أن هرب التلاميذ (مر 15: 40ي). في كل الأحوال،
لم يكن يسوع تقليديًا بنظر معاصريه: فمن جهة تقلل البتوليّة التي عاشها من أهميّة
الجنس، ومن جهة ثانية تبدو طريقته بالتعامل وكأنها تخطّ لدور المرأة كأم إلى دورها
كتلميذة. (رفعت امرأة صوتها في وسط الجماعة وقالت له: طوبى للتي ولدتك وأرضعتك.
فأجابها قائلاً: بل الطوبى لمن يسمع كلمة الله ويعمل بها) (لو 11: 27- 28)(4).

 

ب
– المجتمع اليوناني – الروماني

بالعبور
مع بولس إلى المحيط الثقافي اليوناني-الروماني، دخلت المسيحيّة في مجتمع متساهل
أكثر مع النساء (الغنيّات منهن). فقد كانت هذه النساء يتمتّعن بمساحة اجتماعيّة
تُحسدن عليها (حياة متحرّرة، قادرات على القيام بعمل تجاري، ممارسة الفنون، تغيير
الأزواج، العمل السياسي). ونجد في نصّ (الزراعة) ل (كولومول) معلومات تنبئنا عن
تيارات التحرّر النسائيّة في ذلك الوقت وعن ردات فعل الرجال عليها، فيستهزئ الكاتب
بميل النساء الرومانيات للظهور، ويغضب لتركهنّ العمل المنزلي واليدوي، ولعدم
اهتمامهنّ بأزواجهنّ.

(عند
اليونانيّين ثم عند الرومان وحتى أيام آبائنا، كانت الهموم المنزليّة موكلة بشكل
عام للنساء المتزوّجات، في حين أن آباء العائلة، كانوا يعودون، مرتاحي البال، إلى
منازلهم ليستريحوا من الأعمال الخارجيّة. كان الاحترام الكبير يسود في جوّ من
التفاهم واليقظة، وكانت الزوجة الأجمل تتفانى بالحضور وتتمنّى أن تنمّي وتحسّن
أعمال زوجها بفضل اهتمامها(..). أما اليوم فقد أفسد الترف والكسل غالبيّتهن، فلم
تعد النساء يتنازلن للاهتمام حتى بشغل الصوف، بل رحن يزدرين الثياب المصنوعة في
المنزل، وبدافع من ميل فاسد أصبحن يجدن المتعة الكبرى في شراء الألبسة الأغلى
والتي تكلّف ثروة. فلم يعد من المستغرب أن نراهن يأنفن الاهتمام بالأدوات
الزراعيّة، وأن يعتبرن من غير اللائق قضاء بضعة أيام في المزرعة(5)).

يبدو
أن المسيحيّة قد تجاوبت مع حركة تحرّر المرأة، لكن الفرق يكمن بأن الحريّة
بالمعموديّة لا تقتصر على الأرستقراطيّة الاقتصاديّة، بل إن المساواة قد وصلت إلى
الجميع: (لا يهودي ولا يوناني، لا عبد ولا حرّ، لا رجل ولا امرأة). ولكن كان من
الطبيعي أن تظهر الصعوبات في مجتمع لا يعترف باختلاط الرجال والنساء الاجتماعي
(والديني). هذا ما حدث في كورنتوس في إطار الطقوس والعبادات، وهو ما سيسبّب
مداخلتان قويّتان من قبل بولس: الأولى بموضوع الحجاب (1كور 11: 2- 16)، والثانية
بموضوع صمت النساء في المجالس العامة (1كور 14: 34- 36).

 

المرأة
في الجماعات البولسيّة

تعكس
لنا نصوص العهد الجديد، – وهي الشاهد الوحيد على البشارة الأولى وعلى شكل الجماعات
التي نشأت في مختلف أنحاء حوض المتوسط – شكل الكنائس وهيكليّتها الليّنة التي لم
تحدّد تمامًا، والتي تأتي جوابًا على حالات حقيقيّة مختلفة بحسب الزمان والمكان.
نرى في كل الحالات، أن بين المؤمنين اخوة وأخوات بالإيمان، يقومون بوظائف،
ويتحمّلون مسؤوليّات خاصة بخدمة الانجيل أو الجماعة. فعدا الاثني عشر، نجد
التلامذة والرسل والأساقفة والشيوخ
(pre6buteroi) والشمامسة، لكننا لا نجد أبدًا الكهنة وهي وظيفة طقسيّة من
العهد القديم. ويبدو أن مميّزات كل من هذه الخدم لم تكن محدّدة تمامًا، فقد كانت
تتعلّق بالظروف والحاجات الرسوليّة. وإن تساءلنا اليوم حول المكان الذي كانت
الجماعات المسيحيّة الأولى تعطيه للمرأة، نجد أنه رغم الاطار الاجتماعي – الثقافي
الذي لم يكن ملائمًا لانطلاق المرأة، فقد أوكلت إليها خدمات
services
وخدمًا
ministères بالمعنى الكنسي الذي كان مفهومًا في ذلك الوقت. وبحسب الرسائل إلى
المدن الكبرى (روما، كورنتوس، تسالونيكي، فيلبي، وغلاطية)، نجد أنه رغم السمعة
التي اشتهر بها بولس كمناهض للنساء، غالبًا ما ننسى أنه يعترف بحق الرجال والنساء
بالتنبّؤ في الجماعات ولو بوضع الحجاب (1كور 11: 5). والنبي الذي يقيمه الله
-رجلاً كان أم امرأة- (1كور 12: 28) يقوم بين الرسل والمعلّمين، وهو صاحب موهبة
لبنيان الجماعة، وله دور خاص في قلب الجماعة هو اعلان اسم الله وسر مشروعه وإرادته
بحسب الظروف الحاليّة وذلك بوحي الروح (1كور 13: 2).

لقد
تألّفت الجماعات التي أسّسها بولس من تلامذة متساوين. فدراسة التحيّات التي
يوجّهها الرسول في خاتمة رسائله تمكّننا من الملاحظة بأن الجماعات البولسيّة قد
ضمّت مختلف الفرق الاجتماعيّة التي كانت موجودة في العالم الروماني، وأن النساء قد
أخذن فيها مكانًا مهمًا. في رو 16: 3- 16 يذكر بولس اسميًا 26 شخصًا منهم 16 رجلاً
و9 نساء، اضافة إلى اثنتين لا يذكر اسمهما (أم روفس وأخت نيريوس) اضافة إلى النساء
من أهل بيت أرستوبولس وأهل بيت نركيسوس (16: 10- 11)، وبين الاخوة القديسين (16:
15). والجدير بالذكر أن بولس يذكر زوجين هنا هما فيلولوغس وجوليا؛ ونيريوس وأخته
(ربما كانا زوجان رسوليان كما برسكيلا وأكيلا في حال كانت عبارة أخت تعني ما هي عليه
للجماعة). وأما بما يخصّ فيبة شمّاسة كنخرية (رو16: 1)، فيقول بولس (أوصيكم بأختنا
فيبة
diakonoV (خادمة) كنيسة كنخرية (مرفأ كورنتوس الشرقي).. لأنها أسعفت pro6tati6
كثيرًا من الاخوة وأسعفتني أنا أيضًا.

 

فيبة
خادمة كنيسة كنخرية

تكمن
أهميّة فيبة ك
ministre لكنيسة كنخرية في لقب pro6tati6 المترجم عادة بمساعدة أو حماية، مع أن أدب تلك الحقبة يعطيها معنى
المسؤول الأول، الحاكم. ومع أن بولس يؤكّد بأنها كانت
pro6tati6 للكثيرين ولبولس نفسه، فإن المختصّين ينفون عنها هذا المعنى، ولكن
في 1 تس 5: 12، يُستعمل الفعل
pro6tatein لأشخاص يمارسون السلطة في الجماعة؛ وفي 1 تم 3: 4؛ 5: 17 يدلّ على
مسؤوليّات الأسقف أو الشماس أو الشيخ. وإن كان من المبكر ربط لقب
diakonos (شماس)
بوظيفة خدماتيّة تراتبيّة في الكنيسة، فإنه من الواضح أن هذا الدور هو دور مميّز
وعام في الجماعة المحليّة(6). ففي حالة فيبة، يعكس لقب
diakonos
خدمة واقعيّة، ولا خدمة الله فقط، وهي خدمة تعني كل المسيحيّين بشكل عام. إن هذا
الدور له معنى بذاته كما يظهر من ارتباطه بالمكان: (خادمة كنيسة كنخرية)، فالخدمة
التي تبرّر هذا الدور معترف بها بحد ذاتها كخدمة في قلب الجماعة تستحق لتلك التي
تقوم بها، كلَّ احترام وتقدير. إن وصف فيبة ب
diakonos لكنيسة كنخرية هو بداية لتحوّل الموهبة إلى وظيفة ستصبح نقطة
ارتكاز الرسالة. ومع أن فيبة هي المرأة الوحيدة التي حصلت على رسالة توصية رسميّة
في كتابات بولس (رو 16: 1)، ومع أنها حصلت على ثلاث صفات مهمّة (أخت، شماسة،
pro6tati6 فإن
الرسالة المسيحيّة الأولى لم تعترف بمكانها ودورها المهم. ويميل الشّراح إلى تخفيف
هذه الصفات أو لاعطائها معانيّ مختلفة، لأنها تتعلّق بامرأة. ففي كل مرّة يستعمل
بولس لقب
diakonos ليتحدّث عن نفسه أو عن رجل آخر، فإن الشرّاح يترجمون العبارة ب ministre، رسول أو خادم. أما بما يخص فيبة، فإنهم يترجمون العبارة ب diaconesse كما للكلام عن بعض النساء اللطيفات اللواتي كنّ يتقدّمن للمساهمة
بعماد النساء، أو بخدمة النساء المريضات وخدمة الأصدقاء، وبذلك يعكسون على القرن
الأول صورة الخدم التي كانت النساء تقوم بها في القرون اللاحقة. فمسؤوليّة فيبة في
كنيسة كنخرية لم تكن محدودة بوظائف خاصة بجنسها، فهي ليست شمّاسة النساء، ولكن
diakonos
الكنيسة بأكملها. ويطبّق بولس العبارة على ذاته وعلى أبلس في 2 كور 3: 6؛ 4: 1؛ 5:
18؛ 6: 4؛ الخ. ويستعملها في 1كور 3: 5 و9 للتشديد على أن الله هو من دعا بولس
وأبلس وأعطاهما هذه الخدمة
ministère. وفي 2كور 6: 1 يرجع بولس إلى الجماعة ويوصي بنفسه على أنه diakonos
قد تألّم كثيرًا في خدمة البشارة (2كور 3: 1-6. وفي 1 تس 3: 2 يرسل تيموتاوس (أخانا
والعامل مع الله في بشارة المسيح). وبحسب الرسالة الأولى إلى الكورنثيّين 16: 15
فإن العاملين والمعاونين هم الذين (كرّسوا أنفسهم لخدمة القديسين) فأل
diakonos كما ال nnergo6 هو إذًا مرسل أوكلت
إليه البشارة ومسؤوليّة الكنائس. فيبدو إذًا أن ل
diakonoi الرسالة البولسيّة وظيفة رسميّة معترف بها كمرسلين ومبشّرين
ومعلّمين، وعلى هذا الأساس يوصي بولس كنيسة كنخرية بفيبة.

 

نساء
أخريات

بعد
فيبة يأتي الزوجان برسكيلا وأكيلا وهما زوجان يهوديان طُردا من ايطاليا وأقام بولس
عندهما وعمل معهما بالرسالة (أع 18: 2-3). تبعا بولس من كورنتس إلى أفسس (أع 18:
8). وبعد ذهابه أخذا على عاتقهما متابعة تنشئة أبلس المسيحيّة، والذي هو يهودي من
الاسكندريّة عارف بالكتب (18: 24-27). وبحسب النص الاسكندراني لكتاب الأعمال، كان
الاثنان يتحمّلان مسؤوليّة التعليم
didascale. ويسمّي النص برسكيلا أولاً، في حين لا يعطي النص الغربي صفة (didascale) إلاّ لأكيلا وحده. فهل يعني هذا الاختلاف أن المعطيات التاريخيّة
قد حذفت أثناء تناقل النص لأنها تتناقض مع ممنوعات 1 تي 2: 12؟ في كل الأحوال،
يسمّي بولس هذين الزوجين (معاونيّ في المسيح يسوع) (16: 3)، وهي صفة يعطيها عادة
لمعاونيه المباشرين في عمل الانجيل. ويذكر برسكيلا أولاً مما يدلّ على دورها المهم
والأساسي (راجع 1 كور 16: 19 حيث يسمّي أكيلا أولاً). ثم يذكر بولس أندرونيكس
ويونيا (نسيبيّ ورفيقيّ في السجن، وهما من المشهورين بين الرسل، بل اهتديا قبلي
إلى المسيح)، وهما زوجان لهما مع بولس روابط قرابة وأسر. وقد ذكر اسم يونيا
(يونياس) في عمليّة تناقل النصوص لأن الكتبة لم يكونوا قادرين ربّما على التصوّر
بأن القديس بولس قد أعطى لقب رسول لامرأة، وفي قول الرسول إنهما، (مشهورين بين
الرسل) يعني أن المرأة كما الرجل كانت تعلن الانجيل (16: 7). برسكيلا وأكيلا،
أندرونيكس ويونيا، كانوا من الشركاء في الرسالة إذًا. ويبدو أنهم لم يكونوا
الزوجين الوحيدين، بما أن بولس يقول في 1 كور 9: 5 أنه يحقّ له اصطحاب زوجة مؤمنة
مثل سائر الرسل وأخوة الربّ وبطرس(7).

ويحيي
بولس نساء أخريات. ففي رو 16: 12-16 يوصي بولس بمريم وتريفوسة وبرسيس وقد (تعبن
كثيرًا في خدمة الربّ)، علمًا بأن بولس يستعمل فعل
Kopian للدلالة على عمل التبشير الذي يقوم به بنفسه أو الذي يتمّمه غيره.
في 1كور 16: 16 يناشد بولس المؤمنين بأن (يسمعوا لهم ولكل من يعمل ويتعب معهم)؛
وفي 1 تس 5: 12. يناشدهم بأن (تكرموا الذين يتعبون بينكم ويرعونكم في الرب
ويرشدونكم)؛ فمن الضروري الانتباه إلى أن بولس يستعمل الفعل اليوناني
Kopian (عمل)، (تعب)
ليس فقط للكلام عن تبشيره وتعليمه، بل عن تعب النساء وعملهنّ أيضًا.

وبحسب
الرسالة إلى فيلبي، كان لأفودية وسنتيخة مكان بارزٌ في هذه الكنيسة المنظّمة وذلك (مع
الأساقفة والشمامسة) (1: 1). ويرى بولس أن السلطة التي تمارسها هاتان المرأتان في
جماعة فيلبي كبيرة. لذلك يشجّعهما على تخطّي الخلافات (في المسيح) والاتّفاق فيما
بينهما كي لا تتسبّبا بضرر للرسالة المسيحيّة، مع توصياته للمؤمنين بأن يساعدوهما (لأنهما
جاهدتا معي في خدمة البشارة هما وكليمندس وسائر معاونيّ) (4: 2-3). يبدو إذًا أن
في كنائس العالم الروماني – اليوناني كان هناك ميل إلى التخفيف من حدّة التمييز
الجنسي. يكتفي بولس بتكرار ذكر الخدمات العامة والثابتة التي تقوم بها النساء وذلك
بعبارات مميّزة، وهو بذلك يعطي هذه الوظائف شرعيّة رسوليّة تسمح للنساء بالقيام
بالخدم الكنسية
ministères مما يعطي دورهنّ اعترافًا كنسيًا.

لا
رجل ولا امرأة (غلا 3: 23-28)

فقبل
أن يأتي الايمان، كنا بحراسة الشريعة مغلقًا علينا من أجل المنتظر تجلّيه. فصارت
الشريعة لنا حارسًا يقودنا إلى المسيح لنبرّر بالإيمان. فلما جاء الإيمان، لم نبقَ
في حكم الحارس، لأنكم جميعًا أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع، فإنكم جميعًا، وقد
اعتمدتم في المسيح، قد لبستم المسيح: فليس هناك يهودي ولا يوناني، وليس هناك عبد
أو حرّ، وليس هناك ذكر وأنثى، لأنكم جميعًا واحد في المسيح يسوع. فإذا كنتم للمسيح
فأنتم إذًا نسل ابراهيم وأنتم الورثة وفقًا للوعد.

نحن
في خضم المشادّة بين لاهوت العودة إلى الشريعة التي يطالب بها المتهودون الذين
ظهروا بعد ذهاب الرسول عن غلاطية، والذين كانوا يمارسون ضغطًا كبيرًا على الكنائس
الغلاطيّة (غلا 1: 6-8؛ 3: 1)، وبين لاهوت التبرير بالإيمان الذي يدعمه بولس.
يناقش الرسول موضوع الشريعة ابتداء من 3: 19 فيعتبرها (مؤدّب) يقود إلى المسيح (3:
24)، وذلك ليُظهر للغلاطيين أن العودة إلى الشريعة هي بمثابة العودة بتاريخ الخلاص
إلى الوراء، أو محاولة لبعث مرحلة انتهت. إن التبرير بالإيمان يقود المؤمنين إلى
حالة جديدة أمام الله: حالة أبناء الله (3: 6). وتأتي الآيات 27 و28 لتأكيد ذلك:
بالمعموديّة نصل إلى هذا الوضع الجديد والهويّة الجديدة التي تترجَم عمليًا بسقوط
كل تمييز ديني (يهودي ويوناني)، أو اجتماعي (عبد وحرّ)، أو ديني – اجتماعي – طبيعي
(رجل وامرأة). فالفكرة إذًا واضحة: بنظر الايمان يفقد الأصل الاجتماعي أو الديني
بالمعموديّة كل قوّته (ليلبس المسيح). إن كل ما قبل المعموديّة يسقط إذًا ليدخل
المؤمن بشراكة مع المسيح. فالمعموديّة هي العبور من هيكليّة تراتبيّة إلى نظام المساواة.
فلا يبحثنّ المؤمن عن سلطة غير تلك التي تجعل منه ابنًا أو ابنة لّله، وليعتبر أنه
قد تخطّى روابط القوّة الموضوعة من قبل المجتمع أو الدين بين اليهود واليونانيين،
وبين العبيد والمواطنين، وبين الرجال والنساء(8). هنا يكمن التجديد الذي يُلغي
الامتيازات التي يعطيها الدين لليهودي، والتي تعطيها السياسة للمواطن، والتي
يعطيها الدين والمجتمع للذكور، وفي ذلك نهاية للشريعة، لأنه بالشريعة يأخذ اليهود
مكانًا يختلف عن مكان المتهوّد، ويأخذ العبد مكانًا مغايرًا لمكان السيّد، ويستأثر
الرجل بمكان لا يُعطى للمرأة(9). لكن إدراج شعار المساواة في العلاقة بين الرجل
والمرأة من خلال لاهوت الخلاص في الفصل 12، يجعلنا نظنّ أن انهاء علاقات القوّة لا
تعني الغاء الاختلافات. فبولس يوسّع موضوع الوحدة بالعودة إلى صورة الجسد الواحد
ولكن في تعدّدية أعضائه (1كور 12: 12-27). وهذا ما سنجده في النصّ التالي في 1 كور
11: 2-16 حول موضوع حجاب النساء.

 

حجاب
النساء 1 كور 11: 2-16

أثني
عليكم لأنكم تذكروني في كل أمر وتحافظون على السنن كما سلّمتها إليكم. ولكني أريد
أن تعلموا أن رأس كل رجل هو المسيح ورأس المرأة هو الرجل ورأس المسيح هو الله. فكل
رجل يصلّي ويتنبّأ وهو مغطّى الرأس يشين رأسه، وكل امرأة تصلّي وتتنبّأ وهي مكشوفة
الرأس تشين رأسها كما لو كانت محلوقة الشعر. وإذا كانت المرأة لا تغطّي رأسها
فلتقصّ شعرها، ولكن إذا كان من العار على المرأة أن تكون مقصوصة الشعر أو محلوقته
فعليها أن تغطّي رأسها. أما الرجل فما عليه أن يغطّي رأسه، لأنه صورة الله ومجده،
وأما المرأة فهي مجد الرجل. فليس الرجل من المرأة، بل المرأة من الرجل، ولم يخلق
الرجل من أجل المرأة، بل خلقت المرأة من أجل الرجل. لذلك يجب على المرأة أن تحمل
سلطة على رأسها من أجل الملائكة. إلاّ أنه لا تكون المرأة بلا الرجل عند الربّ ولا
الرجل بلا المرأة، فكما أن المرأة استلت من الرجل، فكذلك الرجل تلده المرأة، وكل
شيء يأتي من الله.

فاحكموا
آنتم بهذا: أيليق بالمرأة أن تصلّي وهي مكشوفة الرأس؟ أما تعلّمكم الطبيعة نفسها
أنه من العار على الرجل أن يغطّي شعره، على حين أنه من الفخر للمرأة أن يغطّي
شعرها؟ لأن الشعر جُعل غطاء لرأسها.

فإن
رأى أحد أن يجادل، فليس مثل هذا من عادتنا ولا من عادة كنائس الله.

يبدأ
بولس نصّه بمدح الكورنثيين (لأنكم تحافظون على تقاليد سلمتها لكم) وفي ذلك غرابة
لأن النص يبحث في خرق الكورنثيين للعادات. لكننا نفهم إرادة الرسول عندما نعرف أنه
إنما يبدأ حديثه بالتذكير أنه في كورنتوس كما في الكنائس الأخرى التي أسّسها
بنفسه، سلّم بولس التقاليد الطقسيّة التي تحكم الاحتفالات في الكنائس ولم يخترعها.
فموضوع الطقوس سيثار في كل الفصول 11 و12 و13 و14 من هذه الرسالة. والغريب أننا لا
نعرف حتى الآن بشكل قاطع عن أي تقليد يدافع بولس: هل عن عادة ارتداء المرأة
اليهوديّة للحجاب في بيتها أو عن موضة كورنثيّة ما بدأت النساء المسيحيات باتباعها
خلافًا للعادات في الجماعات المسيحيّة؟ ولكن الاطار طقسيّ بحت، والحجاب ليس للشارع
ولا للمنزل بل للصلاة، وفي ذلك عودة إلى العادات المتبعة في المجامع، والتي تقضي
بأن تغطّي المرأة رأسها عندما تصلّي أو تتنبّأ؟ الظاهر جليًا أن النساء (أو نساء)
في كورنتوس كنّ يرفضن هذه العادة، ويبدو أن ذلك لم يكن مجرّد نزعة عند بعض
الجاهلات وإلاّ لما استحقّ ذلك أطروحة عقائديّة حول علاقة السلطة بين الرجل
والمرأة.

لقد
كانت النساء اليهوديات (كما الرومانيات) تعطين أهميّة كبرى لشعرهنّ، فتجدّلنه بفنّ
وذوق وتعصبنه وتزيّنه بالذهب والجواهر والشرطة والأحجبة(10)، وكان الشعر المهدل
دون حجاب علامة نجاسة في الاطار اليهودي – المسيحي. فالمرأة المتهمة بالزنى كانت
تقدّم للجماعة بشعرها المهدل والمكشوف (تث 5: 18). ويعتبر لا 13: 45 الشعر المهدل
كاحدى علامات نجاسة الأبرص. فإن كان الشرّاح قد درجوا على تفسير هذا النص بالطلب
من النساء احترام عادة الحجاب كما تفترض التقاليد اليهوديّة(11)، فإن الآية 15
تعلن صراحة أن الشعر قد أعطي للمرأة كحجاب لها؛ فيبدو إذًا أن بولس يتكلّم هنا عن
طريقة تصفيف الشعر التي يجب على النساء والرجال اتباعها أثناء الصلاة
والتنبّؤ(12)، وذلك أمام ظاهرة بعض النساء الكورنثيات اللواتي يتنبّأن ويلعبن
دورًا مهمًا في الليتورجيا واللواتي كنّ يتركن شعرهنّ مهدلاً ومكشوفًا بدل تصفيفه
كما كانت تقضي العادة. وبالفعل، فقد أظهرت دراسة عبادات وطقوس ايزيس وقيباليس
القديمة أنه في حين كان الرجال يحلقون رؤوسهم، كان شعر النساء المهدل يدلّ من جهة
على عدم خضوعهنّ للرجال، ومن جهة ثانية على المقدرة النبويّة. فكن يهدلن شعرهنّ
ليستطعن التلفّظ بالكلمات السحريّة. فلكي تتحرّر زوجة فرجيليوس من سلطة زوجها
الملك، أرسلت في طلب نساء أخريات، وشاركتهنّ اهدال الشعر وكشفه؛ في حين كانت صديقة
الشاعر تيبول تسدل شعرها مرّتين يوميًا لتقول صلاة لايزيس(13).

فلربّما
اعتمدت بعض الكورنثيات المسيحيات هذه العادات من منظارهنّ للوحدة بين الرجال
والنساء بما يخصّ العبادات (تماما كما في عبادة ايزيس التي جعلت قدرة النساء
موازية لقدرة الرجال، خاصة وإن الجماعات التي كانت تتعبّد لإيزيس كانت كما
الجماعات المسيحيّة تقبل النساء والعبيد كأعضاء متساووين ومشاركين بشكل تام
وكامل(14)، فأصبح الشعر المهدل والمكشوف علامة لرفضهنّ التمييز بين الرجل والمرأة
في كل ما يخص العبادات والطقوس من جهة، وعلامة لتصرّفهنّ النبوي من جهة ثانية، وهو
ما استدعى تدخّل بولس وشرحه لهذه المفاهيم ولدورها في الجماعة.

 

علاقة
المرأة بالرجل

إذ
أراد بولس أن يشرح العلاقة بين المرأة والرجل في الجماعة المصليّة والمتنبّئة،
أعطى برهانين يظهران أن الخطر هو أبعد من أن يكون مجرّد رفض غطاء للشعر مكمّل لزيّ
المرأة، بل يتعدّاه ليطال من جهة علاقة الرجل بالمرأة، ومن جهة ثانية سلطة المرأة
النبويّة. البرهان الأول الذي يستعمله بولس في موضوع تصفيف النساء لشعرهنّ هو
التراتبيّة من أعلى إلى أسفل (11: 3-9): الله – المسيح – الرجل – المرأة؛ بحيث
يكون السابق رأس اللاحق أو مصدره. يلعب الرسول على عبارة
Kejalh التي تعني الرأس والرئيس: (أريد أن تعلموا أن رأس كل رجل هو
المسيح، ورأس المرأة هو الرجل ورأس المسيح هو الله). فترجمة العبارة بمعنى رئيس
تظهر معنى السلطة، في حين أن ترجمتها برأس لا تعني أبدًا التبعيّة. ف
Kejalh
هي بالوقت عينه الرأس (الأعلى) والأساس (ما يحمل)، فيكون بولس بالتالي قد وضع
هيكليّة لسلطة لا تجيز للواحد أن يقوى على الآخر بل تعطي معنى وأساسًا لكينونة
شريكين مختلفين ولو كانا متساويين.

لقد
رفضت نساء كورنتوس تصفيف شعرهنّ بشكل لائق (وضع الحجاب)، لأن في ذلك علامة تمييز
مبنيّة على الجنس، في حين أن الجماعة المسيحيّة قد تخلّت عن الامتيازات الذكريّة
بحيث أصبح الرجال والنساء يصلّون ويتنبّأون معًا. فيردّ بولس: باهدالكنّ شعركنّ
(وبرفضكنّ الحجاب) وهو علامة هويتكنّ كنساء، أنتنّ لا تنتزعن الامتيازات بل تبطلن
الفرق. فلا أحد يحيا خارج علاقة مع رأس، لا أحد يملك ذاته. إن إهدال الشعر ونزع
الحجاب (كما تفعل عابدات قيباليس) هو أبعد من أن يكون قضيّة شخصيّة، إنه يسيء إلى
الآخر ويهينه لأنه لا يعترف بوجوده وبالتالي فالأحرى بامرأة كهذه (أن تقصّ شعرها)
(كالرجال عابدي قيباليس) وهكذا تصبح المرأة مشابهة للرجل. المطلوب هو القبول بأن
علاقات مختلفة تجمع بين المسيح والرجل والمرأة والله؛ وبأن هناك إمكانيّة بل ضرورة
لقبول الذات ولمعرفة الذات باختلافها مع ذات الآخر، وبأن حياة كل شخص تأخذ معناها
ضمن الحوار مع الآخر. فالوعي للهويّة التي تولد من الاختلاف تجد أساسها في الخلق
حيث ولدت المرأة مميّزة عن الرجل (تك 2: 21). من هنا نستطيع أن نفهم قول بولس: (كل
رجل يصلي أو يتنبّأ وهو مغطّى الرأس يهين رأسه أي المسيح، وكل امرأة تصلي أو
تتنبّأ وهي مكشوفة الرأس تهين رأسها أي الرجل). أي إن الخطأ ليس في خرق العادة،
ولا في التطاول على أوليّة الذكور، بل بمحو الاختلاف، وبرمي كل ما يشير إلى فرادة
المرأة مقابل الرجل إن في النص عودة إلى لاهوت الاختلاف، لاهوت الهويّة ضدّ
الذوبان، لاهوت المنفصل ضدّ اللامختلف، لاهوت الاختلاف ضدّ التطابق، وذلك من خلال
العادات التي درجت الجماعات عليها.

 

مسألة
السلطة النبويّة

بعد
أن أكّد أهميّة عدم محو الاختلاف بين الرجل والمرأة، تطرّق بولس إلى برهان ثان
لضرورة وضع الحجاب هو مسألة السلطة المبنيّة على المساواة بين الرجل والمرأة (11:
10-12). (يجب على المرأة أن تحمل سلطة على رأسها من أجل الملائكة، فإنه لا تكون
المرأة بلا الرجل عند الربّ ولا الرجل بلا المرأة. فكما أن المرأة استلت من الرجل،
فكذلك الرجل تلده المرأة، وكل شيء يأتي من الله).

لقد
اعتمدت بعض الترجمات (يجب على المرأة أن تحمل على رأسها علامة تبعيتها
dépendance) أو (علامة السلطة التي تتبعها) TOB،
بينما العبارة المستعملة هي
exou6ia التي لا تحمل أبدًا معنى القوة المفروضة أو المحتملة، بل تصف
دائمًا القوّة التي يمارسها المعني: قوّته، مقدرته، حريته بالتحرّك. إن تحريف
المعنى يقلب رأي الرسول الذي لا يوافق الكورنثيات الرأي بأن الحجاب ليس إلاّ علامة
الاستعباد للرجل، فهو يدعم موقفًا معاكسًا: إن المرأة التي تصلّي وتتنبّأ تتلفّظ
بكلمات سلطة، وحقها بالسلطة النبويّة ليس موضع شك أبدًا. إن العهد الجديد لا يعرف
رجلا ولا امرأة، والجماعة لا تفرّق بين محظوظين يتمتّعون بامتيازات، وبين
مستعبدات. فبارتدائها الحجاب، تحمل المرأة على رأسها علامة قدرتها على المشاركة في
الجماعة المصليّة، وهي قدرة قبلتها من المسيح تمامًا كما الرجل. لقد درجت العادة
على ترجمة
cwri6 ب(دون، بلا) بحيث تعوّدنا قراءة الآية كالتالي (لا تكون المرأة cwri6
بلا الرجل عند الربّ ولا الرجل
cwri6 بلا المرأة). ولكن يمكن لهذه العبارة أن تأخذ معنى (مختلف، مغاير).
فيمكننا بالتالي ترجمة الآية كالتالي (فإنه لا تكون المرأة
 غير مساوية للرجل عند الربّ ولا الرجل cwri6 غير مساو للمرأة؛ فكما أن المرأة استلت من الرجل، فكذلك الرجل
تلده المرأة، وكل شيء يأتي من الله). (فإن كانت المرأة تأتي من الرجل، كما يقول
تك،2 فالحياة تعلّمنا أن الرجل يأتي من المرأة والكل يأتي من الله). فالرجل
والمرأة يتمتّعان بالكرامة عينها، وبالعلاقة عينها بالمعلّم الأوحد. وبما أن
الرجال والنساء هم متساوون في الجماعة أمام الربّ، فيجب أن يُفهم الحجاب كعلامة
ليتورجيّة لسلطة المرأة النبويّة، بغضّ النظر عن الاختلافات البيولوجيّة الطبيعيّة.
وهكذا يمكننا أن نفهم رأي بولس الذي يدافع من جهة عن لاهوت الاختلاف بحيث لا يقود
عدم انفصال الجنسين (بالربّ) إلى ذوبان الهويات؛ ومن جهة ثانية عن لاهوت المساواة
أمام الربّ، ويجد في الحالتين برهانًا على ضرورة احترام الحشمة والنظام ووقف
التصرّفات الفوضويّة واتباع تصرّفات غير لائقة بنساء، نبيّات الربّ.

الصمت
في الكنائس (1كور 14: 33ب-35)

(ولتصمت
النساء في الجماعات شأنها في جميع كنائس القديسين، فإنه لا يؤذن لهنّ التكلّم.
وعليهنّ أن يخضعن كما تقول الشريعة أيضًا. فإن رغبن في تعلّم شيء، فليسألن
أزواجهنّ في البيت، لأنه من غير اللائق للمرأة أن تتكلّم في الجماعة).

كل
ما تطرحه هذه الآيات هو الطلب من النساء الصمت. فهل كنَّ يثرثرن أثناء الصلاة؟ هل
كنَّ يلقين خطبًا نبويّة؟ هل كنَّ يقاطعن الواعظين؟ هل كنَّ يطرحن أسئلة؟ أو كنَّ
يبالغن في التكلّم باللغات؟ يستعمل بولس فعلاً واسعًا يقبل معاني كثيرة: النساء
يتكلّمن. وبما أن الرسول يطلب منهنّ العودة إلى البيت حيث يسألن أزواجهنّ، فالكلام
إذًا كان يتضمّن أسئلة. والبرهان الذي يظهر ضرورة صمتهنّ قاطع: يجب أن يكنّ خاضعات
كما تقضي الشريعة (اليهوديّة):

وقد
وجد الشرّاح في هذا النصّ صعوبات كثيرة:


يأمر بولس بالصمت ممّا يعارض صورة المرأة التي يظهرها بولس وهي تتنبّأ وتصلّي في
الكنيسة (1كور 11: 5)، بحيث يبدو دورُها هذا من المسلّمات. فكيف يمكن لبولس بأن
يقول لا لكلام النساء في الجماعة، في حين يقول نعم في الفصل 11 من الرسالة عينها؟


تستند الآية 34 إلى الشريعة لتفرض الصمت على النساء، في حين أن بولس يستند إلى
الشريعة لتوضيح دور النبوءة وأهميّتها في 14: 21. فكيف يناقض ذاته؟


تبدو الآية 36 وكأنها دخيلة. (ماذا؟ أمنكم خرجت كلمة الله، أم إليكم وحدكم بلغت؟).
والمخاطب هنا هو مذكّر
monou6، وكأن بولس يتكلّم مع الرجال في حين أن الآيات السابقة
(34-35) تتوجّه إلى النساء. فلمَ ينتقل بولس إلى الرجال؟

لقد
أعطى الشرّاح حلولاً أصبحت تقليديّة تعتبر أولاً أن النص هو ردّة فعل تجاه الحركة
النسائيّة الكورنثيّة المندفعة بقوّة وسرعة كبيرتين، حيث اعتبرت بعض النساء أن العماد
وعطيّة الروح قد خلقا المساواة بين كل المسيحيين، وأن هذه المساواة يجب أن تظهر في
أثناء الخدم الكنسيّة. فيكون نص بولس تفسيرًا لما في غلا 3: 28 على ضوء الخط
اليهودي التقليدي القاضي بأن تصمت النساء في الكنيسة، وأن تتعلّم من زوجها في
المنزل. واعتبر البعض أن هذه الآيات هي لبعض تلاميذ بولس وقد أدخلت في النص
البولسي بعد موت الرسول عندما فرضت ظروف كنسيّة معيّنة، فتغيّرت المساواة
المسيحيّة التي أتى بها المسيح وبولس من بعده وتحوّلت إلى ما نقرأه في 1 تم 2:
11-15(15).

محاولة
لشرح هذا النص نورد فرضيّتين:


يردّ بولس في 1 كورنتس على ما وصله بواسطة أهل كلوي 1: 11 وبواسطة الرسائل المرسلة
إليه 7: ،1 مما يعني أن آراه كثيرة كانت تصله بشكل دائم وهذا ما استدعى جوابه على
حالة الكنيسة الكورنثيّة بتفاصيلها (في 1: 12): (منكم من يقول أنا لبولس وأنا
لأبلس وأنا لصخر وأنا للمسيح..). فيجيب بولس بضرورة الوحدة؛ وفي 6: 12 و10: 23
يقولون (كل شيء يحلّ)، فيستعملون بالتالي كلمة بولس لتحليل ما لا ينفع، فيجيب
الرسول (كل شيء يحلّ) إن كان لا يعني الزنى ومشاركة ذبائح الأوثان؛ وفي 7: 1 يرفع
بعض الكورنثيين شعارًا ضدّ الزواج ليس فقط لغير المتزوّجين بل للمتزوّجين أيضًا،
فيجيب بولس على نقاط عديدة ودقيقة؛ وفي 8: 4 و11 يردّ بولس على من استعمل عبارات (المعرفة
لنا جميعًا) و(لا وثن في العالم) و(لا اله إلاّ الله الأحد) لممارسة الحريّة
المطلقة في تحليل كل شيء بما يخصّ الأكل، فيدعوهم للتصرّف بمحبّة وليس بحسب
المعرفة فقط؛ ويردّ في 15: 12 على من يقولون (لا قيامة للأموات).. فربّما كان 14:
34-35 يدخل في هذا الاطار مما يجعلنا نفهم النص على أنه ردّ على ما جاء على لسان
بعض الكورنثيين الذين يقولون (لتصمت النساء..). فيجيب بولس في 14: 36: (أعنكم خرجت
كلمة الله، أم إليكم وحدكم بلغت؟). وينهي مداخلاته كلها في 14: 37-40. هذا التفسير
يجعل بولس منطقيًا مع ما كتبه في 11: 5 وغلا 3: 28 كما يفسّر المذكّر غير المنتظر
في 14: 36.

2
– في إمكانيّة تفسير أخرى، يمكننا مقابلة هذا الطلب بنص نجده عند تيطس – ليفوس من
القرن الأول: (لو أن كل رجل من بيننا، أيها المواطنون الأحبّاء، أقرّ قانونًا يفرض
الزوج بموجبه سلطته على أم أولاده، لكنا واجهنا صعوبات أقلّ مع النساء عامة؛ فقد
أصبحت حرّيتنا مصادَرة اليوم من قبل النساء، إنها محتقرة ومدوسة بالأرجل هنا في
الساحة العامة (..) فكيف نصف تصرّفًا كهذا؟ المرور بالعلن، سدّ الشوارع والتكلم
إلى رجال النساء الأخريات؟ ألم يكن بامكانكنّ طرح الأسئلة عينها على أزواجكنّ في
البيت؟ (..). فهل تأملون بأن يضعن حدًا لحريّتهنّ؟ عليكم أن تقوموا بشيء ما، أقلّه
أن تفرضوا عليهنّ ما هو متعارف عليه، أو ما يفرضه القانون الذي يعتبرنه كإهانة.
إنهنّ يُردن الحريّة، بل التحرّر في كل شيء (..). وما أن يبدأن بأن يكنّ مساويات
لنا حتى يطلبن بأن يكنّ رئيستنا)(16).

ربّما
كان الاشكال يكمن في أن بعض النساء قد دأبن على طرح الأسئلة في الجماعات على رجال
نساء أخريات، أو إنهنّ بدأن بطرح كل ما يجول في فكرهنّ من أسئلة مما شكّل إزعاجًا
كبيرًا للجماعة. وبالفعل فإن الفصل 14 مخصّص بكامله لمعالجة الفوضى الطقسيّة. فمن
جهة تحوّل التكلّم باللغات إلى فوضى عارمة بحيث أصبح كل واحد يتكلّم لنفسه
والجماعة لا تسمع أحدًا (14: 23)، فيفرض الرسول قاعدة تقضي بأن يكون هناك ثلاث
مداخلات متتابعة، وإن لم يكن هناك من يترجم (فليصمت في الجماعة) من يتكلّم
باللغات، وليتكلّم لنفسه ولّله (14: 23)؛ ومن جهة ثانية يبدو أن النبوءات لم تعد
تبني الجماعة، فيتدخّل الرسول ويطلب أن يكون هناك ثلاث مداخلات على الأكثر. وإن
تلقّى آخر وحيا (فليصمت الأول) (14: 29-33أ)؛ أما بما يخصّ النساء اللواتي يكثرن
من الأسئلة في الجماعة، فيطلب منهنّ التخلّي عن ذلك لأنهنّ يستطعن أن يسألن
أزواجهنّ في البيت (14: 33ب-35). فالقواعد الثلاثة تتبع إذًا استراتيجيّة واحدة:
هناك حدود للتعبير الفردي وذلك من أجل التفاعل الجماعي. المطلوب هو أن يحدّ كل
مؤمن من حقّه من أجل الآخر. فتنظيم الكلام في الجماعة يعيد كل فئة لا إلى الصمت،
بل إلى مكان آخر للكلام: يدعو المتكلّم باللغات (رجلاً كان أم امرأة) للكلام
لنفسه، والمتنبئ (رجلاً كان أم امرأة) لانتظار دوره، والنساء لطرح السؤال على أزواجهنّ
في البيت. إن نساء القرن الأول مدعوات لارواء عطشهنّ ورغبتهنّ بالتعلّم في المنزل
وليس على حساب الجماعة. إن اهتمام بولس الأول لا يعني إذًا تصرّف النساء بشكل عام،
بل حماية الجماعة المسيحيّة، وتمييزها عن الجماعات التي تمارس عبادات شرقيّة بعيدة
عن النظام واللياقة والحشمة والبنيان المتبادل.

إن
انطلاقة الرسالة البولسيّة قد نقلت المسيحيّة من الاطار الفلسطيني القروي إلى اطار
المدن الهلينيّة الكبرى حيث تفاعلت وتداخلت ولعبت دورًا جذابًا في بيئة تتميّز
بالانقسامات الاجتماعيّة والثقافيّة والجنسيّة(17). إن المشادات والاضطرابات بين
الرجال والنساء في كورنتوس، هي علامة إضافيّة لأهميّة المشاركة النسائيّة في
المسيحيّة البولسيّة. فإن توفّر المسيحيّة مناسبات عامة للاختلاط بين النساء
والرجال، وهو ما كان نادرًا في المجتمع اليوناني – الروماني، جعل الكنائس تستنتج
أن تعلّم الحياة الجماعيّة وعيشها يمرّان بالنجاح وبالفشل. نستطيع إذًا أن نلخّص
نظرة بولس للمرأة بالتالي: لا يرتكز بولس على غلا 3: 28 ليكسر حالة التبعية
الاجتماعيّة التي تحياها المرأة، مع أنه لا يحط من كرامة المرأة ومن دورها. فحتى
ولو لم يدعم تمامًا سلطة الرجل كقوّة تسود المرأة، فإن بولس لا يشدّد على حريّة
المرأة تجاه الرجل والمجتمع كما يتمنّى عالم اليوم. إن هم الرسول الأول ليس العمل
على المطالبة بحقوق المرأة (أو الطفل أو العبيد الخ.)، لكنه حاول إدخال تصرّف
المؤمن ضمن هيكليّة المجتمع، كما نجح في إدخال المسيحيّة في عالم ثقافي غير يهودي،
لاقتناعه بأنه لا يمكن للمؤمن أن يكون شاهدًا للمسيح في مجتمع يرفض بنيته وثقافته.
وعليه فإن بولس يدعو المؤمنين للدخول في هيكليّة الدولة الرومانيّة التراتبيّة،
ليس لقبولها كما هي، بل لعيشها بطريقة مغايرة: (فليحترم المؤمن السلطة لأن السلطة
هي بخدمة الله) (رو 13)، وليقبل العبد حالته ولكن رأسًا بمفهوم المسيح الذي محى كل
علاقات القوّة، حينئذ يعلمان بأن الانسانيّة ستنمو من خلال علاقتهما. ولكن ماذا
حدث لموقف بولس بعد موته، وكيف تطوّر؟

من
الأكيد أن التراث البولسي توسّع وتوزّع في الجيل المسيحي الثاني. ويمكننا تمييز
ثلاثة مسارات لاهوتيّة مختلفة ومتنافسة انتسبت كلها بين السنوات 60 و90 إلى القديس
بولس ولكنها اختلفت جدًا حول صورة المرأة.

المسار
الأول: نجد التراث البولسي في عمل لوقا (الانجيل وأعمال الرسل). فمن المعروف أن
لوقا هو بين الانجيليين من يدافع عن الموقف الأكثر انفتاحًا تجاه المرأة، فهو
يقيّم إيمانهنّ (لو 1: 26-56؛ 7: 36-50؛ 10: 38-42)؛ ويتعاطف مع بؤس الأرامل (لو
7: 12ي؛ 18: 1-4؛ 20: 47؛ 21: 1-4؛ أع 6: 1؛ 9: 36-42)؛ نراه معجبًا بجرأتهنّ
باتباع يسوع وبنشر الانجيل (لو8: 1-3؛ 23: 27-31؛ 24: 10ت؛ أع 1: 14؛ 16: 14ي).
تعكس الصورة التي يعطيها لوقا للمرأة حالة المرأة اليونانيّة المتحرّرة: تمثّل
مرتا ومريم (لو10: 38-42) إمرأتين مسيحيّتين يونانيّتين أكثر منهما يهوديّتان في
فلسطين. وبالمقابلة مع إنجيل الطفولة عند متى والمتمحور حول الرجال (يوسف، هيرودس،
المجوس)، تبدو نصوص لوقا (لو 1-2) مليئة بالشخصيات النسائيّة (مريم، اليصابات، حنة
النبيّة). ولكن عندما نتساءل: أي معطيات تاريخيّة وصلت إلى لوقا حول دور النساء في
بدايات العمل الرسولي المسيحي، ولم يذكرها؟ حينئذ يأتينا الجواب: لا شيء. فلوقا لا
يذكر أي امرأة بين الرسل الأولين، ولا بين اليونانيّين في أورشليم ولا في كنيسة
انطاكيا. وتبدو المراجع الظرفيّة المتعلّقة بأسماء النساء والتي يأتي بولس على
ذكرها غير ذات أهميّة إن قابلناها مع مجمل النصّ المتعلّق ببدايات المسيحيّة كما
يقدّمها كتاب أعمال الرسل. فلا دور للنساء كرسولات أو مبشّرات عند لوقا، بل هنّ
مجرّد نساء غنيات مساعدات لبولس أو مناهضات لعمله، في حين أننا إن قرأنا بامعان
كتابات بولس وكتابات ما بعد بولس، نجد أنها تعترف بوجود نساء مسؤولات ورسولات
مشهورات وضعن ذواتهنّ بخدمة الانجيل، وقد كنّ ملتزمات في هذه الحركات الرسوليّة والمسؤوليّات
الكنسيّة قبل بولس وبمعزل عنه. كانت هذه النساء الرسولات تنتسب لجماعات في الجليل
وفي أورشليم وفي انطاكيا، كانت قد تأسّست ونمت في بدايات الحركة الرسوليّة. لكن ما
نستنتجه من كتاب أعمال الرسل هو أن العديدات لعبن دورًا بارزًا في الجماعات: فقد
كانت الكنيسة تجتمع في بيت مريم في أورشليم (أع 12: 12-17)، وأن طابيتا كانت تقوم
بخدم متعدّدة في يافا، وليديا هي أول مسيحيّة في أوروبا (أع 16: 14)، وأن نساء كنّ
يعبدن الله في انطاكيا اضطهدن بولس وبرنابا وطردنهم من ديارهن (أع 13: 50). في حين
أن العديدات من اليونانيات الفاضلات اللواتي جذبهنّ الدين اليهودي استمعن إلى
المبشّرين المسيحيّين، ومنهنّ من ارتد (17: 4). يذكر الكتاب منهنّ سيّدة في أثينا
هي ديميريس (17: 34). ونجد دروسيلا امرأة الملك أغريبا، التي كانت حاضرة إلى جانب
بولس أثناء أسره. لكنه يهمل الدور الذي قامت به هؤلاء النسوة كرسولات ومسؤولات في
الكنائس. يرسم كتاب أعمال الرسل صورة لشعب مسيحيّ يجمع الرجال والنساء بكرامة
ومساواة.

المسار
الثاني: نجده في كولسي وأفسس والرسائل الرعائيّة (تيموتاوس الأولى والثانية
وتيطس). عند قراءة قوانين الأخلاقيّة العائليّة التي تطرحها الرسائل المكتوبة بعد
موت بولس والمرسلة من قبل تلامذته باسمه (أفسس 5: 21-33 وكولوسي 3: 18-19)، يجد
القارئ نفسه في اطار مختلف تمامًا. وتعكس هذه الرسائل صورة كنائس منظّمة يلعب فيها
ال
presbytres والأساقفة دورًا طاغيًا، ولا تذكر هذه الرسائل موضوع مشاركة
النساء إلاّ في إطار الممنوعات.

في
الرسالة إلى تيموتاوس تمنع المرأة (من الكلام) في الجماعات، ومن أن تعلّم (1 تم 2:
8-15) لأن في ذلك خرقًا لنظام الخلق الذي أراده الله بحسب تك 2-3. وفي الخط عينه
تطلب قوانين الأخلاقيّة العائليّة من النساء أن يخضعن لأزواجهنّ أي أن يحترمنهم
بحسب نظام العائليّة القديم القائم على سلطة الأب، والذي أثّر على تنظيم الكنائس ك
(بيوت لّله): (أيتها النساء اخضعن لأزواجكنّ كما للربّ) (كو 3: 18؛ أف 5: 22-24).
فمن الواضح أننا ننتقل هنا من مبدأ المساواة بالمسيح الذي يحكم الفكر البولسي، إلى
القبول بالمثال العائلي المبني على سلطة الأب والتي يقوم على توزيع كلاسيكي
للأدوار. ونرى أن موضوع المساواة قد غاب على حساب الشراكة المرتكزة على الوصاية
الذكريّة، مع الانتباه إلى أن خاصيّتين تؤنسنان فكرة التبعية هذه:

الأولى
هي أن طلب الخضوع ليس من طرف واحد ولكنه طلب متبادل: (أنتم الذين تخافون الله،
اخضعو بعضكم لبعض) (أف 5: 21). ويرفض النص بناء سلطة الواحد على الآخر، بل يعطي
فكرة فريدة في العهد الجديد تقوم على الخضوع المتبادل.

الثانية
هي أن الخضوع ليس قيمة مطلقة بحدّ ذاتها. فلا معنى له إلاّ (بالربّ). أي إن سلطة
الزوج على زوجته ليست مبنيّة على قواعد اجتماعيّة، بل إن مثالها هو محبّة المسيح
لخاصته، محبّة تصل به حتى بذل الذات (أف 5: 25-30). ويقوم الكاتب بجهد كبير
ليتحاشى إمكانيّة فهم هذا الخضوع هنا أيضًا كصلاحيّة تعطى للقوي وتخوّله السيطرة
على الضعيف. هنا أيضًا نجد المثال العائلي الكلاسيكي ممسحنًا(18). بالمقابل فإنا
نجد في الرسائل الرعائيّة رفضًا تامًا للمساواة بين المرأة والرجل (1 تم 2: 9-15
و5: 3-16). فعلى المرأة أن تصمت في الكنائس، وممنوع عليها أن تعلّم، وهي مدعوّة
للخضوع للرجل وهي المسؤولة عن السقطة (وذلك بحسب تعليم يهودي قديم). إن التقهقر
واضح إذًا. فصورة النساء المدعوات إلى (محبّة أزواجهنّ وأولادهنّ، وأن يكنّ
متواضعات، عفيفات.. خاضعات لأزواجهنّ) (تي 2: 4ي) تندرج في خط التلمود أكثر منه في
خط الرسول بولس.

المسار
الثالث: وتمثّله الكتابات التي اعتبرتها الكنيسة في القرن الثالث كتبًا منحولة:
أعمال الرسل المنحولة (أعمال يوحنا؛ وأعمال بطرس؛ وأعمال بولس وتقلا؛ وأعمال
اندراوس؛ وأعمال توما). وما يلفت النظر في هذه الكتابات صورة المرأة المتناقضة
تمامًا مع الصورة التي تعكسها الرسائل الرعائيّة. تعطي هذه الكتابات صورة
للشخصيّات النسائيّة في العهد الجديد على أنها مثال الحكمة. فمريم المجدليّة هي
حافظة العلم السرّي الذي أعطاها إياه يسوع. واعتُبر كتاب بولس وتقلا قانونيًا في
القرون الثلاثة الأولى، وفيه تظهر تقلا كامرأة مرسلة من قبل بولس (لتعلّم كلمة
الله). وقد لعب كتاب بولس وتقلا دورًا شعبيًا كبيرًا في العصور الأولى، فتظهر تقلا
كالشهيدة الأولى وقد مارست دورين ما لبثت أن حرمت النساء منهما: العماد (وقد عمّدت
تقلا نفسها) والتعليم بناء على توكيل من بولس. وقد اعتمدت النساء في القرنين
الثاني والثالث على تقلا لتبرير حياة النسك أو للمطالبة بالحق بممارسة العماد.
ولكن من ناحية ثانية فإن صورة تقلا تخضع لصورة المرأة الكلاسيكيّة: تقع في غرام
بولس فتتبعه وتتعلّق به، لكن رفضها للزواج يضعها في موقف الصراع مع القيم
الاجتماعيّة السائدة. ورغم التفاصيل القصصيّة والرومانسيّة التي يعبق بها الكتاب،
فإنه يظهر تقلا والنساء المحيطات بها، كمرافقات لبولس ومحتفلات بمائدة المحبّة
وهذا ما نعرفه من خلال ترتليانس الذي عارض هذا الطلب النسائي في القرن الثاني،
والغريب أنه قد استشهد ب1كور 14: 33-35 (في العماد 17) ليُسند كلامه.

في
المسار الأوّل إذًا يورد لوقا ممارسات بولس المتحرّرة في جماعات التلامذة
المتساوين. ويخفي المسارُ الثاني المتمثّل بالرسالة إلى أفسس وبالرسائل الرعائيّة
موقف بولس الذي يعيد الأخلاقيّة المسيحيّة إلى القانون الآبائي. أما المسار الثالث
فيمنح المرأة الحق الذي اعترف به بولس، بأن تكون لها سلطة في الكنيسة، والحقّ
بالبتوليّة، وهو أمر أجازه بولس في 1 كور 7.

Bibliographie

– A. FEUILLET, (La dignité et le
rôle de la femme d’ après quelques textes pauliniens) in NTS 21 (1975), p.
157-191.

– A. JAUBERT, (Le voile des
femmes), New Testament Studies 18, 1972, p. 419-430.

– BROOTEN, Women Leaders in the
Ancient Synagogue. Inscriptional Evidence and Background Issues,
Chico 1982.

– B. Witherington III, Women in
the Earliest Churches. SNTS. MS,
Cambridge 1988.

– CLMENT d’ Alexandrie,
Stromates 3, 6, 53.

– C.K. BARRETT, The First Epistle
to the Corinthians,
New York: Harper and Row, 1968.

– COLUMELLE, De L’ agriculture,
XII, 7.9, cité dans la traduction de J. André (Les Belles letters, Paris 1988).

– E. SCHSSLER FIORENZA, En
mémoire d’ elle. Essai de reconstruction des origines chrétiennes selon la
théologie féministe (Cogitatio fidei 136),
Paris 1986.

– F. CLEARY, (Women in the New
Testament:
St. Paul and the Early Pauline Churches). Biblical Theology Bulletin. Vol 10, 1980, p. 78-82.

– H. CONZELMANN, 1 Corinthians, Philadelphia:
Fortress, 1975.

– KELLY HEYOB, The Cult of Isis among
Women in the Greco-Roman World, Leyde, Brill, 1975

– J. MURPHY O’ CONNOR, 1
Corinthians,
Wilmington: glazier, 1979

– J. MURPHY O’ CONNOR, (The
Non-Pauline Character of 1 Cor 11: 2- 16) jurnal of Biblical Literature. Vol
95, 1976, p. 615-621.

– J.P. MEIER, (On the veiling of
Hermeneutics (1 Cor 11: 2-16)). in CBQ(1978), p. 212-226

– L. COPE (1Cor 11: 2-16: On Step
Further). Journal of Biblical cal Literature. Vol 97, 1975, p. 435-436.

– M. BOUTTIER, (Complexio
Oppositorum: sur les formules de 1

Cor12,
13 ; Gal 3, 26-28;
Col 3, 10 11) New Testament Studies 23, 1976, p. 1- 13.

– M.F. LEFKOWITZ et M. FANT, éd.,
Women in
Greece and Rome, Toronto, Samuel-Stevens, 1977.

– R. FULLER, The Pastoral
Epistles, Philadephia: Fortess, 1978.

– R. HORSLEY, (Wisdom of Words
ans Words of Widsom) Catholic Biblical Quarterly Vol 39, 1977, p. 224-239

– R.HORSLEY, (Consciousness and
Freedom Among the Corinthians).

Catholic
Biblical Quarterly, Vol. 40, 1978, p. 574-589.

– W. KLASSEN, (Musonios Rufus,
Jesus, and Paul: Three FirstCentury Feminist), in From Jesus to Paul, Studies
in Honor of F. Wright Beare,
Waterloo (Canada) 1984, p. 185-206.

– W.O. WALKER, 1 Corinthians 11:
2-16 and Paul’s View Reading Women), in JBL 94 (1975), p. 94-110.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار