علم المسيح

الفصل الثامن



الفصل الثامن

الفصل
الثامن

العودة إلى
الجليل والعظة على الجبل

مما
يؤسف له أن هذا الصدام العنيف مع الفرِّيسيين في أُورشليم سريعاً ما امتد في طول
بلاد اليهودية وعرضها. لذلك فالجولة الثانية في اليهودية والجليل لم تكن بالروح
الأُولى، إذ بدأ الفرِّيسيون التربُّص بالمسيح للمقاومة وإثارة الشعب، إذ أشاعوا
في الجليل عن كسر السبت والتجديف والخروج عن التقليد. مما جعل المسيح يبدأ بشرح
علاقة العهد الجديد والملكوت الذي جاء ليفتتحه، بالعهد القديم: توراته وناموسه
وتقاليده البالية. وهذا هو مضمون العظة على الجبل! التي استطاع المسيح أن يصيغها
غاية في الإتقان وعلى مستوى عقول الشعب بما يناسب الوضع والزمن، وأرجأ استعلانات
الروح فيها إلى عمل الروح القدس الذي سيأتي زمانه بعد أن يكون قد أكمل الكل فيما
يخص التعليم.

 

35- العظة
على الجبل: ظروفها وخصائصها

[صعد موسى على الجبل
ليستلم لوحي الشهادة والوصايا العشر المكتوبة بأصبع الله، وصعد المسيح على الجبل
لينقش الوصايا الجديدة على قلب الإنسان، ويستودع الاستعلان وعي الإنسان].

مقدِّمة:

[تعتبر
العظة على الجبل ذات قيمة أساسية في العهد الجديد، فهي إحدى الوثائق الهامة
القائمة بذاتها ذات الاتصال المباشر والشمولي بالحياة المسيحية في العالم. وهي
محسوبة أنها المعيار الأول لكيفية الحياة والسلوك للإنسان المسيحي، لأنها تحمل
الأصول ذات الوزن العالي جداً للأخلاق المسيحية. لذلك فهي ينبغي أن تكون الهدف
الأول لللاَّهوتيين لفحص محتوياتها وتقييمها.](
[1])

وبالحري
يتحتَّم أن تكون موضع دراسة مكثَّفة لكل مسيحي طامع في حياة مسيحية فُضلى.

[وهي
تقدِّم لنا الرب جالساً ومعلِّماً، وكان السامعون يؤمنون، وكذلك القارئون الأوائل،
أن الذي يتكلَّم هنا ليس مجرَّد معلِّم ولكن مخلِّص وفادٍ. فالكلام ليس كلام حكمة
يَسرُّ السامع، ولكنه استعلان مقدَّم ليس من رابِّي، ولكن كرسالة من فم الله.
والكنيسة أخذت بهذا الكلام بكل إيمان ووقار. وبهذا يمكن لنا أن نبلغ إلى التعليم
والفهم الصحيح للعظة على الجبل. ولهذا نشعر أن واجب اللاهوتي الأول أن يشرح لمن
يقرأ هذه الوثيقة قيمتها الأُولى عند المسيحيين الأوائل حتى يكون في مأمن من
تيارات العالم الحاضر.](
[2])

[والذي
يهمنا الآن هو هل لا نزال نعتبر العظة على الجبل أنها تقدِّم لنا الشروط الإلهية
للحياة اليومية كرسالة من الله.](
[3])

[والعظة
على الجبل تحوي وصايا ودعاوي نبوية وأقوال حكمة، فهي تُقرأ كناموس إلهي. والقديس
متى يقدِّمها بترتيبها الحالي دون تحديدات زمنية لتكون فرضاً أو شريعة تحكم
الجماعة. على أن طبيعتها المنهجية تقدِّمها كنموذج للحياة المسيحية
ويقدِّمها ق. متى باعتبارها القاعدة
الأخلاقية للحياة المسيحية في الكنيسة على مدى الدهور. وحينما قُدِّمت التطويبات
في مطلعها فهي لكي تستعلن الفضائل التي على المسيحي أن يتمسَّك بها باعتبارها
ميراث الحياة الأبدية، كرد على سؤال: مَنْ الذي يدخل ملكوت الله؟ بل، وما هو حال
الذي يبشِّر بالملكوت؟ وذلك في قوله: “فليضئ نوركم هكذا قدَّام الناس، لكي
يروا أعمالكم الحسنة ويمجِّدوا أباكم الذي في السموات” (مت 16: 5). وهكذا
تكشف العظة عن شخصية المواطن السماوي وهي تستعرض إرادة ومشيئة الله من وراء وصايا
متعدِّدة. ومن لهجة المسيح فيها تبدو أنها تتطلَّب الأمانة المطلقة في تنفيذها
وتكميلها باهتمام.](
[4])

(أ)
المكان والظروف:

كان الوقت صيفاً وكان المسيح عائداً من رحلة طويلة في
الجليل، وإذا بجمع كثير يتبعه طمعاً في السماع والتعليم، وكان قريباً من كفرناحوم
ومعه تلاميذه. ولمَّا رأى الجموع انتقى مكاناً عالياً وصعد نحو القمة والتفَّ
تلاميذه من حوله، والجموع افترشوا الأرض بغاية النشاط والفرح، وابتدأ المسيح يعلِّم
ما كانوا يتوقَّعون سماعه، وكان المسيح حريصاً أن يفنِّد دعاوي الكتبة
والفرِّيسيين كلما اقتضى الأمر ذلك.

(ب)
موضوع العظة الأساسي:

كان
قصد المسيح أن يبدأ العهد الجديد ليكشف بذور ملكوت الله التي وضعها الله بعناية في
كل تعاليم العهد القديم، والتي بدورها تمهِّد الطريق إلى افتقاد الله الجديد. لذلك
كان محور العظة هو الانتقال الدائم من الناموس إلى الإنجيل أي البشارة الجديدة
المفرحة. وهكذا كان المسيح يصوِّر المسيحية باعتبارها الوجه الروحي لليهودية
مستعلَناً بالنعمة. والموضوع الأساسي هو ملكوت الله ومن ورائه شخص المسيَّا الذي
جاء ليستعلنه على أصوله الأُولى.

وجاءت
العظة على هيئة موضوعات مطروقة بحكمة وتدبير ودراية، لكي توقظ الوعي الروحي
للسامعين، وتنقله من جمود الحرف إلى رحب الروح المتسعة والفَرِحة، مع اهتمام
المسيح الشديد أن يُصيغ الكلمات لتكون بمثابة محفوظات مفردة تُحفظ في القلب
ليتلوها المؤمنون عن ظهر قلب على مستوى: “اسمع يا إسرائيل”، وكأنها بنود
الحياة الجديدة، لتبقى بذاراً حيَّة في قلوب الناس على مدى الأجيال. وهذا ما تمَّ
بنعمة فائقة على التصوُّر. ولكن صاغها أيضاً المسيح وإنجيل ق. متى لتكون موضوعاً
واحداً يجمع شمل التعليم كله كجسمٍ حيٍّ يُحفظ من الزيادات والتخريجات.

(ج)
تخصُّص إنجيل ق. متى وإنجيل ق. لوقا في العظة:

والمصدر
الذي يمكن أن نرجع إليه نحن لهذه العظة مسجَّل في إنجيل ق. لوقا (20: 649)،
وإنجيل ق. متى (الأصحاحات 5،6،7)، وكل منهما أعطى جسم العظة أن تكون ذات بداية
ووسط ونهاية، علماً بأنها جُمعت بلا شك من مصادر وأفواه متعدِّدة بل وتقاليد أيضاً
متعدِّدة. فإذا قارنّا العظتين في كلٍّ من الإنجيلَيْن، نجد أن العظة عند إنجيل ق.
متى أكمل وأكثر دقة في التفاصيل وتفصح عن أصلها الأرامي. ولكن إذا أخذنا المشترك
بينهما نحصل على جسم العظة كاملاً رائعاً.

(د)
المنبع الذي تستمد منه العظة التعاليم:

والعظة
في الإنجيلَيْن تنضح بالاهتمام في جعل الملكوت لا يأخذ جذوره من اليهود، بل من
الله رأساً، كمصدر أساسي حي للتعليم والمعرفة. كما جاءت في القديم مئات المرَّات:
“يقول الرب” “أنا هو تكلَّمت” فالتوراة أصلاً خرجت من قلب
الله، وليس من الجنس اليهودي. وهكذا ينبغي ويتحتَّم أن يلتصق فكر الإنسان بها على
هذا الأساس. لذلك تشير العظة إلى القلب اللائق للتعليم بحسب متطلبات ملكوت الله.
وكذلك يتَّجه المسيح إلى قلع كل الجذور التي أدَّت إلى المفاهيم الخاطئة للتوراة
متخطية المقاصد الإلهية الواضحة في التعليم(
[5]).

(ه)
الأساس الذي تقوم عليه العظة:

لا يقدِّم المسيح في العظة على الجبل منهجاً للتعليم ولا
مدرسة ذات مبادئ، بل يقدِّم ملكوته
الذي جاء ليؤسِّسه على الأرض. وملكوته يؤسَّس على أُخُوَّة
أو أخويَّة ذات طابع معيَّن مرتبطة به تصلح للحياة الأبدية. ولو نلاحظ نجد أن
المسيح بدأ بهذا المفهوم باختيار تلاميذه ليصنع منهم أُخُوَّة أو أخويَّة متصلة به
أشد الصلة: “ليكون هو بكراً بين إخوة كثيرين” (رو 29: 8). ومن هذه الأُخُوَّة
تنبثق التعاليم التي تهيِّئ روح هذه الإخُوَّة إلى الملكوت. وبين التلاميذ
والملكوت يقع المسيح كصلة أساسية. لمَّا رأوه
أولاً أحبُّوه، ولمَّا أحبُّوه تعلَّقوا به ثم آمنوا به، وبهذا بدأوا يتعلَّمون
الحقائق المتصلة
به.

ومن
هنا تختلف العظة على الجبل عن أي نوعية من التعاليم قاطبة قديماً وحديثاً، صحيح أن
تعليم المسيح فيها يعطي حدوداً جديدة للأخلاق، ولكن أي تعليم أخلاقي يكون مقصده أن
يُصْلِح بالتمرينات والاختبارات لكي يبلغ بالإنسان إلى حد معيَّن أو غاية ونهاية.
ولكن المسيح يبدأ بهذه الغاية والنهاية ليضع تلاميذه والمؤمنين به في هذه الغاية
والنهاية (الملكوت).

وهنا
يُثار السؤال: وأين الطريق؟ الجواب: هو المسيح، الطريق والحق والحياة، وبواسطته
يصل المؤمنون إلى صميم غايته ونهايته “إلى الملكوت”. فإن كان كل تعليم
وتدريب واختبار وتحفيظ وتسميع ينتهي إلى غاية هامة، فالمسيح يضع محبِّيه في هذه
الغاية الهامة.

كل
معلِّم وكل تعليم مسيحي في العادة يكون غايته الوحيدة أن يصنع من التلاميذ أبناءً
للملكوت، إلاَّ المسيح فهو يُعطي حق البنوَّة مجَّاناً بلا تعليم، بلا مدرسة، وذلك
بعمل نعمته: “اليوم تكون معي في الفردوس” (لو 43: 23). هذا هو الملكوت
عند المسيح: كل ما يشقى الإنسان سعياً من أجله، يعطيه له المسيح بدون شقاء ولا
سعي.

كل
معلِّم يبدأ تعليمه بأن يطلب طلبات، والمسيح يبدأ بالعطاء، لأنه جاء ومعه غفران
مجاني ورحمة مجانية وخلاص مجاني. لذلك لا نستطيع أن نقول إن في العظة على الجبل
ناموساً جديداً ولا منهجاً أخلاقياً، ولكن عرضاً للدخول المجاني إلى ملكوت الله.

فلو
انتبهنا إلى قول المسيح للمعمدان حينما أراد أن يمنع المسيح من العماد: “اسمح
الآن لأنه هكذا يليق بنا أن نكمِّل كل برٍّ” (مت 15: 3)، وكيف أن غاية
تعليم المسيح ابتدأ بها عندما قال: “
قد كَمَلَ الزمان واقترب ملكوت الله
(مر 15: 1)، فهذان الأساسان: الأول: البر، والثاني: ملكوت الله؛ هما كل تعليم
المسيح. والبر هنا تعبير عن إرادة الله، فنحن نصنع البر لأنه إرادة الله
خلواً من زمان ومكان وغاية وظروف. غير أن هذا البر سيبلغ منتهى تجلِّيه وصدقه في
الملكوت. وواضح هنا أن إرادة الله لا تعتمد على رجاء قادم أُخروي، فإرادة الله
بالخلاص والملكوت والحياة الأبدية قائمة بذاتها خلواً من أي عوامل أخرى زمانية أو
غير زمانية. لأن إرادة الله أزلية البدء وأبدية النهاية، أي لا بداية لها ولا
نهاية. فإرادة الله كالله. هذه هي تعاليم المسيح: التصاق بإرادة الله، وهذا هو
البر والملكوت والحياة الأبدية.
وعلى سبيل المثال نجده لا يُعلِّم طريق
الكمال، ولكن يأمر به لأنه يعطيه كاملاً: “فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم
الذي في السموات هو كامل” (مت 48: 5). هنا يُثار السؤال بلهفة: كيف نكون
كاملين؟ يقول المسيح آمنوا بي! وكل مَنْ اختبر هذا الإيمان الحي بالمسيح يعرف كيف
تمَّ له هذا!!

وإن
أراد السامع والقارئ المزيد يقول له المسيح: “فمَنْ يأكلني فهو يحيا بي”
(يو 57: 6)، أي تكون له الحياة الأبدية التي هي الشركة الكاملة مع الآب ويسوع
المسيح
بحسب القديس يوحنا (انظر 1يو 3: 1).

لذلك حينما يقول المسيح: “طوبى للمساكين بالروح لأن
لهم ملكوت السموات”
لتلاميذه
ولكل الذين على شاكلتهم
(في إنجيل ق. متى يخاطب
التلاميذ)، ومعها التطويبات الأخرى، فهي بحسب ما شرحنا أعلاه لا يمكن أن تُحسب هذه
التطويبات كجزاء لعمل سابق!! أو كنتيجة لتعليم سابق. والمعنى أنه لا يكون بحسب هذه
الطوبى أن الإنسان مجرَّد أن يكون مسكيناً بالروح يصير له ملكوت الله، أي أن
المسكنة بالروح تؤدِّي إلى ملكوت الله، هذا ليس من تعليم المسيح؛ إذ لا يزال بين
المسكين بالروح والملكوت وَصْلَة ذات أهمية عظمى هي المسيح. إذن، فليفهم
القارئ أن المسيح لا يقدِّم منهج تعليم، بل يفتتح ملكوت الله عبوراً بشخصه.
فالمسيح يقف بين حاضرنا ومستقبلنا الروحي، بين عجزنا وقصورنا الفاضح، وبين الكمال
المسيحي الذي يرضيه ويفرِّح قلب الآب.

والمعنى
هنا أن المؤمن بالمسيح يصير مِسْكيناً بالروح حقا، فالمسيح يحمله على كتفيه ويدخل
به الملكوت. والمعنى بأكثر وضوح أن وعد المسيح للمسكين بالروح لمن يؤمن به
 وبقية التطويبات أن يكون له ملكوت الله، وهذا هو وعد
نعمته ومحبته وصليبه(
[6]).

المسيح
هنا في العظة على الجبل يكشف حياة صالحة لمَنْ يؤمن به مهيَّئة للملكوت، تبنَّاها
بنعمته وختمها بدم صليبه.

ولكن بعد التطويبات الثمانية (مت 5: 312)، أعطى المسيح تعقيباً هاماً
للغاية على التطويبات التي كشفها فيما يخص تلاميذه، إذ أوضح ضرورة استمرارهم في
وضعهم الطوباني هذا لامتداد صورة الملكوت على مدى الأجيال. فقال لهم: ” أنتم
ملح الأرض”،” أنتم نور العالم”،” فليضئ
نوركم هكذا قدَّام
الناس، لكي يروا أعمالكم الحسنة، ويمجِّدوا أباكم الذي في السموات”
(مت 5: 13و14و16)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار