المسيحية

الشورى والخلافة



الشورى والخلافة

الشورى
والخلافة

القارئ
للتاريخ العربي قبل الإسلام لابد وأن يلاحظ تلك البدايات الأولى للشورى التي نشأت
على يد كعب بن لؤي جد النبي البعيد؟ فكعب- كما تذكر كتب التاريخ الإسلامي- هو أول
من جمع العرب في يوم الجمعة وكان يسمى قبله العروبة؟ ولم يكن هذا الإجتماع في يوم
الجمعة يحمل الكثير من مواصفات الحكومة القبلية؟ ولكنه كان تتويجاً لما صنعه
قُصَي- جد كعب- من قبل؟ فيذكر البغدادي ما كان من أمر مجتمعات قريش وأنهم ما كانوا
يفعلون شيئاً في سلم أو حرب إلا بعد أن يجتمع أهل الحل والعقد في محل مخصوص؟ وما
يستقر عليه رأيهم يُعمل به ولا يستطيع أحد التخلف عنه؟ وقد كان أكثر اجتماعهم في
دارقُصَي بن كلاب- دار الندوة- فما يتزوج رجل أو امرأة من قريش؟ ولا يتشاورون في
أمر نزل بهم؟ ولا يعقدون لواء حرب إلا فيها (بلوغ الأرب؟ البغدادي 1: 272). ونتيجة
للمقدمات كانت نهاية الأمر؟ فقد حدثت بضعة مواقف قبل بعث النبي بفترة وجيزة تبلورت
فيها صورة الحكومة العربية المركزية كما لم تتبلور من قبل. وأول هذه المواقف هو ما
يرويه ابن هشام من أن قُصَي لما كبر ورقّ عظمه؟ وكان عبد الدار بكره؟ وكان عبد
مناف وعبد العُزى وعبد شمس قد شرفوا في زمن أبيهم؟ قال قُصَي لعبد الدار: اما
والله يا بُني لألحقنك بالقوم؟ وإن كانوا قد شرفوا عليك: لا يدخل رجل منهم الكعبة؟
حتى تكون أنت تفتحها له؟ ولا يعقد لقريش لواء لحربها إلا أنت بيدك؟ ولايشرب بمكة
إلا من سقيانك؟ ولا يأكل أحد من أهل الموسم طعاماً إلا من طعامك؟ ولا تقطع قريش
أمراً من أمورها إلا في دارك؟ فأعطاه دار الندوة؟ التي لا تقضي قريش أمراً من
أمورها إلا فيها؟ وأعطاه الحجابة واللواء والسقاية والرفادة.. ثم ان قُصَي بن كلاب
هلك فأقام أمره في قومه وفي غيرهم.. ثم أن بني عبد مناف بن قُصَي: عبد شمس وهاشماً
والمطلب ونوفلاً أجمعوا على أن يأخذوا من أيدي بني عبد الدار بن قُصَي ما كان لهم
من السقاية والرفادة والحجابة واللواء؟ ورأوا أنهم أولى بذلك منهم لشرفهم عليهم
وفضلهم في قومهم فتفرقت عند ذلك قريش؟ فكانت طائفة مع بني عبد مناف على رأيهم؟
يرون أنهم أحق به من بني عبد الدار لمكانهم في قومهم؟ وكانت طائفة مع بني عبد
الدار؟ يرون أن لايُنزع منهم ما كان قُصَي جعله إليهم؟ وعقدت كل طائفة حلفاً على
ألا يتخاذلوا؟ ولا يُسلم بعضهم بعضاً؟ فكان حلف المطيبين يضم بني عبد مناف
وأحلافهم؟ وحلف الأحلاف يضم بني عبد الدار وأحلافهم؟ وعُبئت القبائل لبعضها ثم
قالوا: لتفنِ كل قبيلة من أُسند اليها. وكان من الممكن أن تكون هذه بداية لحرب
ضروس لا تُبقي ولا تذر؟ فالقوم قد جمعوا لها وتكفلت كل قبيلة بأن تفني من أمامها
من الحلف الأخر؟ إن الموقف- حتى هذه اللحظة- يعيد للأذهان صورة داحس والغبراء؟ وإن
كان أكثر عنفاً؟ فالحرب هذه المرّة لها سبب قوي- حُكم مكة- والمتحاربون هم سادة
مكة- بنو قُصَي بن كلاب- لقد كانت الحرب الوشيكة الوقوع كافية لإنهاء حلم قُصَي
بالإمبراطورية العربية؟ لكن إرادة آخرى فوق إرادة الجميع لم تشأ لهذه الحرب أن
تندلع؟ فيقول ابن هشام: فبينما الناس على ذلك قد جمعوا للحرب إذ تداعوا إلى الصلح؟
على أن يعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة؟ وتكون الحجابة واللواء والندوة لبني
عبد الدار كما كانت؟ وتحاجز الناس عن الحرب؟ وثبت كل قوم مع من حالفوا. فلم يزالوا
على ذلك حتى جاء الإسلام؟ فقال رسول الله: ما كان من حلف في الجاهلية؟ فإن الإسلام
لم يزده إلا شدة (السيرة النبوية؟ بن هشام؟ 1: 92 وما بعدها).

كانت
هذه أول خطوة صحيحة على طريق الإمبراطورية العربية؟ فبني عبد مناف قد أدركوا
استحالة انتزاع كل المآثر من أيدي بني عبد الدار؟ والآخرون أدركوا استحالة الحفاظ
عليها دون إراقة الكثير من الدماء؟ وما هي إلا فترة وجيزة حتى كان بنو عبد مناف
يضعون أيديهم على دار الندوة- بصورة أو بأخرى- وبذلك لم يبق لبني عبد الدار شئ سوى
وظيفتين شرفيتين وهما: الحجابة واللواء.

أما
الموقف الثاني فهو حلف الفضول؟ وكان أول من دعا له هو الزبير بن عبد المطلب؟ وسبب
ذلك كما يذكر ابن كثير أن رجلاً من زَبيد قدم مكة ببضاعة فاشتراها منه العاص بن
وائل فحبس عنه حقه؟ فاستعدى عليه الزبيدي الأحلاف؟ عبد الدار ومخزوم وجمح وسهم
وعدي بن كعب؟ فأبوا أن يعينوا على العاص بن وائل وانتهروا الزبيدي؟ فلما رأى الشر
أَوفى على أبي قُبيس؟ جبل بمكة؟ عند طلوع الشمس؟ وقريش في أنديتهم حول الكعبة؟
فنادى بأعلى صوته:

يا
آل فهر لمظلوم بضاعته– 2ببطن مكة نائي الدار والنفر

ومحرم
أشعث لم يقض عُمرته– ياللرجال وبين الحِجر والحَجر

إن
الحرام لمن تمَّت كرامته– ولا حرام لثوب الفاجر الغَدِر

فقام
الزبير بن عبد المطلب وقال: ما لهذا مَتْرك. فاجتمعت هاشم وزهرة وتيم بن مُرَّة في
دار عبد الله بن جُدعان فصنع لهم طعاماً؟ وتحالفوا في ذي القعدة في شهر حرام؟
فتعاقدوا وتعاهدوا بالله ليكوننّ يداً واحدةً مع المظلوم على الظالم حتى يؤدّى
إليه حقه ما بل بحرٌ صوفةً؟ وما رسى ثبيرٌ وحراء مكانهما؟ وعلى التآسي في المعاش.
فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول؟ وقالوا: لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر. ثم مشوا
إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه (السيرة النبوية؟ ابن
كثير؟ 1: 259). وقد حضر النبي هذا الحلف فيه يقول ما أحب أن لي بحلف حضرته بدار
عبد الله بن جدعان حُمر النَّعم وأنّى أغدر به؟ هاشم وزُهرة وتيم تحالفوا مع
المظلوم ما بل بحر صوفةً؟ ولو دُعيت به لأجبت وهو حلف الفضول (طبقات ابن سعد؟ 1: 129)؟
صوف البحر هو: شيء على شكل الصوف الحيواني؟ وواحدته صوفة؟ اللسان صوف).

لقد
كان هذان الموقفان من أهم المواقف التي توضح مراحل نمو الدولة الوليدة؟ فالتنازع
بين بني عبد الدار وبني عبد مناف؟ هو نزاع حول سيادة مكة وحكمها؟ والحلفان اللذان
عقدا يؤكدان قوة بني عبد مناف؟ فقد استطاعوا انتزاع أهم السلطات الفعلية من إخوتهم
والسير بالأمر في الطريق الذي يريدونه. وقد استطاع هاشم بن عبد مناف استثمار هذه
الأحلاف في صالح بنيه؟ فما هي إلا سنوات حتى وضع يديه على دار الندوة مقر الحكومة؟
وإن بقيت ملكيتها لبني عبد الدار؟ وتمكن فيما بعد من عقد عدة اتفاقيات مع القبائل
التي تقع في طرق التجارة بين مكة والشام؟ وبهذه الاتفاقيات مكّن أهل مكة من الذهاب
إلى الشام واليمن للتجارة؟ ولم يقتصر الأمر على التجارة فقط بل تعداها إلى حدوث
حالة من المزج الثقافي بين ما كان شائعاً في الشام وما كان موجوداً في الجزيرة؟
فبعد هذه الرحلات أصبح من الطبيعي ظهور جماعة الحنفاء- أو بالأحرى تأكيد وجودها-
وارتفاع صوت المنكرين لعبادة الأوثان والذبح لها؟ وأصبح من الطبيعي أن تتردد
مجموعة من المصطلحات الغير عربية الأصل والتي تتعلق بكنه ونظام العبادة في اليمن
والشام حتى لُقب عثمان بن الحويرث بالبطريق. وكنتيجة طبيعية لازدهار التجارة
ازدهرت الحركة الثقافية وأصبح سوق عُكاظ يمثل أكثر من مجرد منتدى تتفاخر فيه العرب
بمآثر الآباء؟ بل صار أشبه بمنتدى لعرض الأفكار المختلفة والدعوة إليها. ويأتي
الموقف الثاني الذي نرى أنه محاولة من سادة القبائل في قريش لإرساء شكل من أشكال
الحكومة البدائية التي تحاول الأخذ بيد المظلوم وإقامة العدل.

لقد
كان أهل مكة على الطريق الصحيح لتشكيل حكومة قوية؟ وهو ما حدث فيما بعد على يد
النبي محمد بن عبد الله؟ فقد بدأ قُصي بأهم جانب وهو جمع أهل مكة في مكان واحد
وهذا أدى إلى شعورهم بالاستقرار لأول مرّة في تاريخهم الطويل؟ ثم بعد ذلك تبعه
حفيده هاشم بإرساء شبكة من العلاقات مع القبائل والدول المجاورة لتمكينهم من تحسين
أوضاعهم الاقتصادية.

فكل
هذه المواقف كانت تمهد بشكل أو بآخر لقيام الإمبراطورية العربية؟ ولكن كان هناك
مانعاً قوياً بالنسبة للمكيين؟ وهو رأي العرب في أنهم قوم لقاح لا يدينون لملك؟
ولذلك كان من المستحيل على أي شخص أن ينفرد بحكومة مكة؟ اللهم إلا إذا كانت هذه
الحكومة آتية بأمر من لا يملك القوم رداً لأمره؟ ولعل ما يؤيد ما ذهبتُ إليه قول
النبي لعمه عبد المطلب يا عم؟ إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها؟ تدين لهم بها
العرب؟ وتؤدي إليهم بها العجم الجزية (تاريخ الطبري؟ 2: 325).

وبالفعل
دانت لقريش العرب بهذه الكلمة؟ وتحولت قريش من قبيلة ضمن قبائل العرب إلى حكام
للجزيرة العربية كلها؟ وعرفت الجزيرة نظام الحكومة؟ وإن كانت غير محددة الملامح؟
المستقرة القادرة على هزيمة الفرس والروم وإخضاع أجزاء كثيرة من المملكتين
لسلطانها في فترة وجيزة؟ واستقر نظام الخلافة في الجزيرة منذ وفاة النبي وحتى
نهاية عصر الراشدين؟ وعرفت الجزيرة معنى الشورى كما لم تعرفه من قبل. ولكي تتضح
الأمور لابد لنا من الإجابة على سؤال يحتاج منا إلى محاولة للإجابة عليه؟ وهو هل
كان نظام الخلافة والشورى في الإسلام نتيجة لنصوص مقدسة؟ أم إنه كان مجرد نتيجة
للموروث الثقافي للمسلمين في صدر الإسلام؟ إن الواقع التاريخي يؤكد أنه ليس هناك
شكل محدد للحكومة الإسلامية بدءاً من أبي بكر الصديق وحتى نهاية الدولة العثمانية.
بالإضافة إلى أن النصوص الواردة بشأن الخلافة؟ والتي تُنسب للنبي لا تُوضح الأمر؟
بل على العكس تزيده إبهاماً.

أما
من حيث الواقع التاريخي فلم يكن هناك شكل أو مفهوم محدد للخلافة؟ فتولية أبي بكر
تمت من خلال بيعة مباشرة في سقيفة بني ساعدة. وقد روى عمر بن الخطاب ملابسات هذه
البيعة فقال: قد بلغني أن فلاناً منكم يقول: لو مات عمر بايعت فلاناً فلا يغترن
امرؤ أن يقول: إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وتمَّت؟ ألا وإنها قد كانت كذلك إلا أن
الله وقى شرها؟ وليس فيكم اليوم من تُقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر؟ وإنه كان من
خيرنا حين تُوفى رسول الله؟ وإن علياً والزبير ومَنْ معهما تخلَّفوا في بيت فاطمة؟
وتخلّفت الأنصار عنّا بأجمعها في سقيفة بني ساعدة؟ واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر
فقلت له: يا أبا بكر؟ انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار. فانطلقنا نؤمّهم حيث
لقينا رجلان صالحان فذكرا لنا الذي صنع القوم؟ فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟
قلت: نريد إخواننا من الأنصار فقالا: عليكم ألا تقربوهم؟ واقضوا أمركم يا معشر
المهاجرين فقلت: والله لنأتينَّهم فانطلقنا حتى جئناهم في سقيفة بني ساعدة؟ فإذا
هم مجتمعون؟ وإذا بين ظهرانيهم رجل مُزَّمِّل فقلت: من هذا؟ قالوا: سعد بن عبادة
فقلت: ما له؟ قالوا: وَجِع فلما جلسنا قام خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله؟
وقال: أما بعد؟ فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام؟ وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا؟
وقد دفَّتْ دافة منكم تريدون أن تختزلونا من أصلنا وتحضنونا من الأمر- أي الخلافة-
فلما سَكَت أردت أن أتكلم وقد كنت قد زَوَّرْتُ مقالة أعجبتني أردت أن أقولها بين
يدي أبي بكر؟ وقد كنت أداري منه بعض الحد؟ وهو كان أحلم مني وأوقر؟ فقال أبو بكر: على
رِسْلِكَ فكرهت أن أغضبه؟ وكان أعلم مني؟ والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري
إلاّ قال في بداهته مثلها وأفضل منها حتى سكت؟ فقال: أما بعد فما ذكرتم فيكم من
خير فأنتم أهله؟ ولم تعرف هذا الأمر إلا هذا الحي من قريش؟ هم أوسط العرب نسباً
وداراً؟ وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين؟ فبايعوا أيهما شئتم. فأخذ بيدي وبيد أبي
عبيدة بن الجراح؟ وهو جالس بيننا؟ فلم أكره مما قال غيرها؟ وكان والله أن أقَدَّمَ
فتتضرب عنقي لا يقربني ذلك أحبُّ إلي من أن أتأمر على قومٍ فيهم أبو بكر. فقال
قائل من الأنصار: أنا جُذيلها المحكَّك وعُذيقها المرجب؟ (أي قد جَرَّبَتني الأمور
ولي رأيٌ وعلمٌيُشتفى بهما؟ اللسان؟ جذل) منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش. وكثر
اللغط؟ وارتفعت الأصوات؟ حتى خشيت الاختلاف؟ فقلت: أبسط يدك يا أبا بكر فبسط يده؟
فبايعته وبايعه المهاجرون؟ ثم بايعه الأنصار؟ أما والله ما وجدنا فيما حضرنا أمراً
هو أوفق من مبايعة أبي بكر؟ خشينا إن فارقنا القوم؟ ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا
بيعة؟ فإما أن نبايعهم على ما لا نرضى؟ وإما أن نخالفهم فيكون فيه فساد (تاريخ
الخلفاء؟ السيوطي؟ 78؟ 79).

هذا
الحديث من أطول وأوضح الأحاديث التي وردت في مسألة الخلافة؟ وقد رويته كاملاً؟ مع
طوله؟ لعدة أسباب منها:

1-
ورود هذا الحديث في صحيحي البخاري ومسلم؟ وهما أصح كتب الحديث بإجماع العلماء.

2-
راوي الحديث: هو عمر بن الخطاب؟ ثاني الخلفاء؟ وهو الذي قال فيه النبي: بينما أنا
نائم أُتيت بقدح لبن؟ فشربت حتى أنِّي لأرى الرَّيَّ يخرج من أظفاري. ثم أعطيت
فضلي عمر بن الخطاب قالوا: فما أوَّلته يا رسول الله؟ قال: العلم (اللؤلؤ والمرجان
3: 126).

3-
وقت رواية هذا الحديث: هو يوم موت النبي وهو مُسجى في البيت لم يدفن بعد.

4-
موضوع الحديث: هو مبايعة أول حاكم للمسلمين بعد موت النبي بما يحويه ذلك من أهمية
كبيرة للدولة الوليدة.

5-
المتواجدون: في هذا الموقف هم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة وغيرهم من كبار المهاجرين؟
وسعد بن عبادة وغيره من كبار الأنصار.

6-
الغائبون عن هذا الحدث: الزبير بن العوام حواري الرسول وعلي بن أبي طالب باب مدينة
العلم وغيرهم من كبار الصحابة.

7-
النتيجة: مبايعة أبي بكر الصديق.

من
المؤكد أن كل هذه الأحداث تستحق التأمل الشديد؟ ولكن أهم ما في الأمر هو نص هذا
الحديث ذاته؟ فهذا النص؟ لوضوحه الشديد؟ أثار عدة تساؤلات عند المستشار سعيد
العشماوي فيقول: لم يحدث في الجدل الذي حدث في سقيفة بني ساعدة بين المهاجرين
والأنصار؟ أن لجأوا إلى آيات من القرآن الكريم أو الحديث النبوي بشأن الأمر؟ أو
الحكم؟ وإنما كان الجدال بينهم يدور حول الأمر وهو اللفظ الذي يعني سياسة أمور
الناس؟ ولا يتعلق بشؤون الدين. وكان الاقتراح المقدم من أحد الأنصار أن يكون منهم
أمير؟ رئيس مدني؟ ومن المهاجرين أمير؟ رئيس مدني آخر. وهو نظام يشبه؟ أو يستعير؟
نظام تعيين قنصلين في روما؟ في بعض الفترات؟ وا قترح أبو بكر أن يكون من قريش
الأمراء؟ ومن الأنصار الوزراء. فالصراع كان يدور حول الأمر؟ وعمن يكون الأمير؟ ولم
يتعرض أحد أبداً بكلمة واحدة للدين أو الشريعة. وخلال الصراع الحاد؟ وتلك الفترة
الحرجة؟ لم يحتج أحد من المهاجرين بحديث الأئمة من قريش؟ وهو الحديث الذي صار بعد
ذلك من أسس الفكر الإسلامي وأحد عمد فقه الخلافة الإسلامية؟ مع أن تلك الفترة
الحرجة وذاك الصراع الحاد كانا المناسبة الهامة؟ وربما الوحيدة؟ التي كان ينبغي أن
يوضع فيها الحديث أمام الناس. فهذا الحديث لو كان ظهر آنذاك؟ لكان قد حسم الخلاف
من أصله وأنهاه قبل أن يبدأ؟ ولم يجعل من خلافة أبي بكر فلتة (الخلافة الإسلامية؟
المستشار العشماوي؟ ص96).

أحاديث
الخلافة:

إن
أغرب ما في موضوع الخلافة؟ في ظل وجود حادث السقيفة؟ هو وجود عدة أحاديث في هذا
الموضوع جُعلت عماد ما يُسمى بفقه الخلافة؟ وهذه الأحاديث إذا نُوقشت تاريخياً
(بغض النظر عن درجة صحتها) فسوف تضعنا في موقف صعب؟ حيث أنه في معظم فترات التاريخ
الإسلامي لم يُطبق من هذه الأحاديث حرفٌ واحدٌ. أما إذا نُقشت من حيث المتن والسند..
فهذا أمرٌ آخر. ولكي تتضح أمامنا الصورة قليلاً؟ فلنقرأ بعض الأحاديث التي وردت في
هذا الشأن.

أول
هذه الأحاديث هو ما يرويه البخاري عن محمد بن جبير: أنه بلغ معاوية وهو عنده في
وفد من قريش؟ أن عبد الله بن عمر يُحدث أنه سيكون مَلِكٌ من قحطان؟ فغضب؟ معاوية؟
فقام فأثنى على الله بما هو أهله؟ ثم قال: أما بعد فإنه بلغني أن رجالاً منكم
يحدثون أحاديث ليست في كتاب الله ولا تؤثر عن رسول الله؟ وأولئك جُهَّالكم؟ فإياكم
والأماني التي تُضل أهلها؟ فإني سمعت رسول الله يقول: إن هذا الأمر في قريش لا
يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين. ويروي البخاري هذا الحديث
بصيغة أخرى عن ابن عمر؟ لاحظ أن ابن عمر هو من اعترض عليه معاوية في الحديث
السابق؟ لأنه يقول بإمارة غير القرشي؟ قال: قال رسول الله: لا يزال الأمر في قريش
ما بقي منهم اثنان (البخاري؟ 9: 78). واضح أنه ليس من السهل تفسير الحديث السابق
في ظل وجود حادث السقيفة؟ وهل كل من كانوا في السقيفة وقتها يجهلون هذا الحديث وهم
من هم؟ ثم كيف تتفق محاولة أبي بكر أخذ البيعة لعمر أو لأبي عبيدة مع وجود حديث عن
عائشة تقول فيه: قال لي رسول الله في مرضه: ادعي لي أبا بكر أباك؟ وأخاك؟ حتى أكتب
كتاباً؟ فإني أخاف أن يتمنَّى متمنٍّ ويقول أنا أولى؟ ويأبى الله والمؤمنون إلا
أبا بكر (مسلم؟ بشرح النووي؟ 5: 248). ثم إذا كانت كل هذه الأحاديث التي وردت في
خلافة أبي بكر صحيحة؟ فكيف تتفق مع ما رواه ابن سعد في طبقاته عن فاطمة قالت: لما
تُوفى رسول الله قال العباس: يا علي قم حتى أُبايعك ومن حضر؟ فإن هذا الأمر إذا
كان لم يرد مثله؟ والأمر في أيدينا فقال علي: وأحدٌ؟ يعني يطمع فيه غيرنا؟ فقال
العباس: أظن والله سيكون! فلما بويع لأبي بكر ورجعوا إلى المسجد؟ فسمع علي التكبير
فقال: ما هذا؟ فقال العباس: هذا ما دعوتك إليه فأبيت عليّ! فقال علي: أيكون هذا؟
فقال العباس: ما رُدّ مثل هذا قط! فقال عمر: قد خرج أبو بكر من عند النبي حين
تُفيّ وتخلف عنده علي والعباس والزبير؟ فذلك حين قال العباس هذه المقالة (طبقات
ابن سعد؟ 2: 246). فهذا الحديث وعشرات غيره تؤكد أن الخلافة من حق علي دون غيره؟
كما نذكر مثلاً لاحصراً:

1-
عن جابر قال: قال النبي وهو أخذ بضبع علي؟ الضبع ما بين الإبط إلى نصف العضد؟ هذا
إمام البررة؟ قاتل الفجرة؟ منصور من نصره؟ مخذول من خذله (المستدرك 3: 129).

2-
عن ابن عباس قال: قال رسول الله لعلي: أنت ولي كل مؤمن بعدي (المراجعات؟ عبد
الحسين الموسوي 173),

3-
عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله لعلي: أنت مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلا
أنه لا نبي بعدي (المشكاة؟ حديث رقم 6078).

4-
عن زيد بن أرقم؟ أن رسول الله لما نزل بغدير خُمّ أخذ بيد عليِّ فقال: أَلستم
تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى؟ قال: أَلستم تعلمون أني أولى
بكل مؤمن من نفسه قالوا: بلى؟ قال: اللهمَّ من كنت مولاه فعلي مولاه؟ اللهم والِ
من والاه؟ وعادِ من عاداه فلقيه عمر بعد ذلك فقال هنيئاً يا ابن أبي طالب! أصبحت
مولى كل مؤمن ومؤمنة (المشكاة؟ حديث رقم 6094).

كل
ما سبق من أحاديث؟ وغيرها كثير؟ تؤكد أمراً واحداً؟ هو أن علي أحق الناس بالخلافة
بعد النبي. وقد يقول قائل: إن علي إنما ترك الخلافة تواضعاً؟ فنجيبه بما قاله علي
نفسه؟ وأوردناه سلفاً؟ في جوابه للعباس وأحدٌ؟ يعني يطمع فيها غيرنا.

إذن
فعلي لم يكن راغباً عن الخلافة؟ بل كان راغباً فيها؟ وبالرغم من هذه الرغبة في
الخلافة فإنه لم يحتج بأي من هذه الأحاديث لإثبات حقه الذي تركه له النبي. ولو
افترضنا أنه لم يرد أن يُحدث فتنة بعد بيعة الصديق؟ فلماذا لم يتكلم بعد موت أبي
بكر؟ أو حتى بعد موت عمر؟

الأحاديث
الموضوعة:

لم
تمضِ على وفاة النبي أكثر من خمس وعشرين سنة حتى بدأت الآراء المختلفة تظهر؟
والعصبيات القبلية القديمة تسود؟ وكانت الفتنة الكبرى والتي راح ضحيتها كثير من
المسلمين وعلى رأسهم عثمان بن عفان؟ بأيدي إخوانهم المسلمين؟ وكما شُرع وقتها قتال
أهل القبلة بالسلاح؟ دون تكفيرهم؟ فقد ظهرت وسائل أخرى أمضى من كل السيوف التي
رُفعت في الحرب؟ ألا وهي التوثيق الديني للآراء السياسية. ولتأكيد الآراء بدأ كل
فريق ينسب ما قاله للنبي, ويقول الأستاذ محمود أبو ريّة: وقد أجمع الباحثون
والعلماء المحققون على أن نشأة الاختراع في الرواية ووضع الحديث على رسول الله
إنما كان في أواخر عهد عثمان وبعد الفتنة التي أودت بحياته؟ ثم اشتد الاختراع
واستفاض بعد مبايعة علي؟ فإنه ما كاد المسلمون يبايعونه بيعة صحيحة حتى ذر قرن
الشيطان الأموي ليغتصب الخلافة من أصحابها ويجعلها حكماً أموياً (أضواء على السنة
المحمدية؟ محمود أبو ريّة؟ ص91). ولم تكن الأسباب السياسية هي فقط الدافع لوضع
الحديث النبوي؟ بل كان هناك أيضاً المكاسب المادية؟ والعصبية القبلية؟ بل إن البعض
وضع الحديث على النبي ظناً منهم أن هذا في صالح الإسلام؟ وهذا مثل ما يروى عن أبي
عمار المروزي: قيل لأبي عصمة نوح بن أبي مريم المروزي: من أين لك عن عكرمة؟ عن ابن
عباس في فضائل القرآن سورة سورة وليس عند أصحاب عكرمة شئ منه؟ فقال: إني رأيت
الناس أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي ابن اسحاق؟ فوضعت هذا
الحديث حسبة؟ وكان من هؤلاء الوضاع من يظن أن هذا جائز في الشرع لأنه كذب للنبي لا
علي (الآثار المرفوعة؟ اللكنوي؟ ص 14). وأما من جهة المكاسب المادية فيروى أن غياث
بن إبراهيم قال للمهدي حين رآه يلعب بالحمام: أن النبي قال: لا سبق إلا في نصل أو
خف أو حافر أو جناح فزاد فيه جناح؟ فأعطاه المهدي عشرة آلاف درهم؟ وأمر بذبح
الحمام وقال: أشهد على قفاك أنه قفا كذاب على رسول الله (السنة قبل التدوين؟ محمد
عجاج الخطيب؟ ص 217). وقد تُزال دهشتنا؟ أو تزيد؟ حينما نعرف أن البخاري قال: أحفظ
مائتي ألف حديث صحيح؟ ومائتي ألف حديث غير صحيح. ومسلم قال: أخرجت المسند الصحيح
من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة؟ ثم نجد أن ما أخرجاه في الصحيحين معاً حوالي عشرة
آلاف حديث (شروط الأئمة؟ ابن طاهر المقدسي؟ ص 19). وهذا يعني أن هناك آلاف
الأحاديث غير الصحيحة يرددها بعض الناس وهي تملأ بطون الكتب؟ وهذه الأحاديث لها
رواتها والمولعين بها حيث أنها غالباً ما تحوي كل عجيب وغريب. أما الوضع في الحديث
النبوي لأسباب سياسية مثل التشيع لعلي أو لمعاوية فكثير؟ بل إن البعض كان يضع
الحديث لمجرد إستحسانه لرأي ما؟ مثل ما قاله حماد بن سلمة: حدثني شيخ من الرافضة
قال كنا إذا اجتمعنا استحسنا شيئاً جعلناه حديثاً (الموضوعات؟ ابن الجوزي؟ 1: 39).
ويحدد الأستاذ عبد الرحمان عثمان في مقدمة كتاب الموضوعات لإبن الجوزي بعض الأسباب
التي ساعدت على انتشار الوضع في الحديث فيقول: مات الرسول الكريم؟ وكان عدد من بقي
بعد موته من أصحابه الذين رأوا وسمعوا منه؟ زهاء مائة ألف أو يزيدون؟ سمع منهم من
التابعين وتابعي التابعين من لا يحصى كثرة.. من مختلف الأجناس وفي مختلف البقاع؟
وفي غمرة هذه الكثرة؟ وافتقاد ضابط الصحة للرواية؟ في الزمان والمكان؟ غافل
الكذابون الناس ووضعوا ما شاءوا؟ وتعذر بل استحال حصر ما وضعوه. وانتهز الكذابون
فرصة كثرة ما رواه أمثال أبي هريرة من الأحاديث الصحيحة عن النبي؟ بلغ ما رواه أبو
هريرة عن النبي 5374 حديثاً؟ فوضعوا من الأحاديث المكذوبة شيئاً كثيراً ونسبوه
للنبي زوراً عن طريق أبي هريرة؟ ليتوه كثيرهم المكذوب في كثيره الصحيح؟ وليشق
تمييز صحيحه من سقيمهم..وقد كان (الموضوعات؟ ابن الجوزي؟ المقدمة؟ ص7).

إن
السبب الواضح لكل هذا الكم من الأحاديث هو كيفية جمعها.ففي بداية الإسلام وقبل موت
النبي لم يكن هناك من يقوم بكتابة الحديث النبوي؟ لأن النبي قال: لا تكتبوا عني؟
ومن كتب عني غير القرآن شيئاً فليمحه (مسلم بشرح النووي 5: 847). وكما لم يقم أحد
في عهد النبي بكتابة الأحاديث؟ كذلك لم يعن أحد بكتابتها في عهد الخلفاء الراشدين؟
وظل أمر جمع وكتابة الحديث لايتعدى محاولات فردية من بعض الفقهاء والمفسرين مثل: الزهري
ومالك بن أنس؟ وحماد بن دينار؟ وسفيان الثوري؟ والليث بن سعد؟ وكان كل هؤلاء في
فترة واحدة تقريباً وهي منتصف القرن الثاني الهجري؟ وكانت معظم كتبهم مقسمة لضعيف
وصحيح؟ على حسب درجاته؟ وكان كل منهم يأخذ برأيه فقط في رجاله؟ فربما صح عند أحدهم
ما هو ضعيف عند آخر. ولذلك قد نجد في بعض ما يرويه هؤلاء ما هو مردود أو ضعيف لا
يحتج به. وبدخول القرن الثالث الهجري بدأ بعض أهل الحديث في العناية بتدوين وتدقيق
الحديث؟ حتى وصلوا به إلى الصورة التي عليها كتب الحديث اليوم (أحاديث الرسول؟ عبد
المنعم النمر؟ ص 72 وما بعدها).

وكما
نرى فأول بداية حقيقية لجمع وتدوين الأحاديث كانت في منتصف القرن الثالث الهجري؟
أي بعد حوالي 240 سنة من وفاة النبي؟ وهذه الفترة حفلت بالكثير من أنواع البدع
التي ظهرت في بداية ظهور الإسلام؟ فقد ظهر في هذه الفترة: الخوارج؟ والشيعة؟
والمرجئة.. وغيرهم كثير من الطوائف الإسلامية. والنتيجة الطبيعية أن نرى في موضوع
الخلافة قدراً كبيراً من الأحاديث الضعيفة والموضوعة؟ بل قد نجد بعضاً من هذه
الأحاديث صحيحة سنداً ولكنها تخالف ما جاء في القرآن أو الأحاديث الصحيحة مثل ما
رواه الترمذي عن زياد بن كُسيب؟ قال: كنت مع أبي بكرة تحت منبر ابن عامر وهو يخطب؟
وعليه ثياب رِقاق. فقال أبو بلال: انظروا إلى أميرنا يلبس ثياب الفُساق. فقال أبو
بكرة: أسكت؟ سمعت رسول الله يقول: من أهان سُلطان الله في الأرض أهانه الله
(المشكاة؟ حديث رقم 3695). وعن أبي هريرة؟ قال: قال رسول الله: من أطاعني؟ فقد
أطاع الله. ومن عصاني؟ فقد عصى الله. ومن أطاع الإمام؟ فقد أطاعني. ومن عصى
الإمام؟ فقد عصاني (سنن ابن ماجة؟ حديث رقم 2859). والملاحظ على هذه الأحاديث أنها
اللبنات الأولى التي وضعت في تقرير فكرة الحكم بالحق الإلهي وهي الفكرة التي لاقت
رواجاً طوال فترة الحكم الأموي والعباسي؟ وهي الفكرة التي لانجد لها سنداً في كتاب
ولا سنة. وعن معاوية؟ قال: قال رسول الله: يا معاوية إن وليت أمراً فاتق الله
واعدل (المشكاة؟ حديث رقم 3715). وعن عبد الرحمان بن أبي عميرة؟ عن النبي أنه قال
لمعاوية: اللهم اجعله هادياً مهدياً؟ واهد به (المشكاة؟ حديث رقم 6235). عن جابر
بن سمرة؟ قال: سمعت رسول الله يقول: لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثنى عشر خليفةً؟
كلهم من قريش. وفي رواية: لا يزال أمر النَّاس ما وليهم اثنا عشر رجلاً كلهم من
قريش. وفي رواية: لايزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة؟ أو يكون عليهم اثنا عشر
خليفة كلهم من قريش (مشكاة المصابيح؟ 3: 1688؟ حديث رقم 5974). فهذه الأحاديث رغم
صحتها إلا أنها تتعارض مع نصوص أخرى صحيحة مثل ما رواه البخاري عن أنس أن رسول
الله قال: أسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة (المشكاة؟
حديث رقم 3663). إن وضوح وتعارض الرؤية السياسية في الأحاديث السابقة لأمر يبعث
على التساؤل حول مدى صحة هذه الأحاديث. إنني أعتقد أن الصواب قد جانب بعض
المتفقهين وهم يحاولون التوفيق بين كل هذه الأحاديث فقد وجدوا أنهم مضطرون إلى
تحميل الأحاديث ما لا تحتمله؟ مثل قولهم في حديث أسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم
عبد حبشي كأن رأسه زبيبة قال بن بطال عن المهلب: لا تجب الطاعة للعبد إلا إذا كان
المستعمل له إماماً قرشياً؟ لأن الإمامة لا تكون إلا في قريش (نيل الأوطار؟
للشوكاني؟ 8: 266). لقد تولى الخلافة الكثير من الحكام الذين ينتمون لقريش؟ فهل
كان الإسلام عزيزاً في ظل حكمهم؟ وبنفس الأسلوب يحاول البعض أن يوفق بين كل ما
يُروى من الأحاديث.

و
بالرغم من أن صحة سند وتسلسل رواة هذه الأحاديث؟ إلا أن هذا لا يعني بالضرورة صحة
المتن. لقد أنصف الإمام الغزالي الحديث بحق في كتابه السنة النبوية بين أهل الفقه
والحديث فقال فيه: ألم تر إلى ابن حجر على صدارته في علوم السنة قوَّى حديث
الغرانيق؟ وأعطاه إشارة خضراء؟ فمر بين الناس يفسد الدين والدنيا..وفي هذه الأيام
صدر تصحيح من الشيخ الألباني لحديث لحم البقر داء وكل متدبر للقرآن يدرك أن الحديث
لا قيمة له؟ مهما كان سنده ويقول: عيب بعض الذين يشتغلون بالحديث قصورهم في تدبر
القرآن وفقه أحكامه فلم الغرور مع هذا القصور؟ ولماذا يستكثرون على غيرهم من رجال
الفكر الإسلامي الرحب أن يكتشفوا علة هنا أو شذوذاً هناك؟ (السنة النبوية ص 20
و21).

لعل
الأمر اتضح الآن أمامنا. إن من ينادون بالتطبيق الفوري للشريعة ويدعون أنها موجودة
في بطون الكتب لم يكلفوا أنفسهم عناء قراءة هذه الكتب؟ ولو هم فعلوا لأراحوا
واستراحوا؟ فلعلهم يعلمون؟ إن هم أرادوا؟ إن الأمر كان محض ملك وسياسة أُلبست
عباءة الدين؟ وادعى أصحابها أنهم حكام بأمر الله وأنهم ظل الله في أرضه. وفي هذه
الأيام عادت الدعوة من جديد للحكم بالحق الإلهي؟ وهي دعوة ظاهرها الرحمة وباطنها
الخلافة العباسية؟ فالذين يريدون هذا الشكل من الحكم لا يريدون حكم الإسلام؟ بل
يريدون حكم الإسلام كما يفهمونه هم. وينسى هؤلاء أو يتناسون أن هناك دائماً وجه
النظر الأخرى والاجتهاد الآخر. إنهم يقررون تكفير من يحدد عقوبة أخرى غير التي وردت
في كتب الفقه. أما وجه النظر الآخرى هنا فهي ليست لأحد الذين يمكن أن يتهموا
بالعمالة والخيانة؟ بل هي للخليفة العادل عمر بن الخطاب؟ فعمر لم يعطل الحد عام
الرمادة فقط؟ بل إنه قام بإلغاء سهم المؤلفة قلوبهم من الزكاه؟ وهو ثابت بنص قرآني
لم يُنسخ (الإجتهاد؟ عبد المنعم النمر ص 93 وما بعدها). والسؤال: هل ما فعله عمر؟
وحجته في ذلك؟ كافيان لإقناع هؤلاء بوجود اجتهاد آخر مع وجود نص أم لا؟ إن الأمر
الغائب عن هؤلاء هو وجود نصوص مرتبطة بواقع البيئة والزمن الذي قيلت فيه؟ وإن كل
الأوامر والنواهي ليست واجبة التنفيذ؟ يحسن بنا أن نفسر ما نقصده هنا قبل أن نتهم
بالكفر والمروق من الدين؟ إن هناك كثيراً من الأخبار الصحيحة الثابتة عن النبي
ليست ملزمة التطبيق؟ مثل ما يرويه البخاري عن أبي هريرة قال: إن رسول الله قال: إذا
وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كلَّه ثم ليطرحه؟ فإن في أحد جناحيه شفاء والآخر
داء (البخاري؟ 4: 158). فهذا الحديث رغم صحته؟ إلا أن هناك كثيراً من العلماء من
رفضه جملة وتفصيلاً؟ فقد أثبت العلم الحديث أن الذباب كله أضرار؟ وهذا مما لايشك
فيه عاقل؟ ورفض هذا الحديث تنزيهاً للنبي أن يقرر مثل هذا الكلام. وهناك حديث آخر
أثبت صحته بعض رجال الحديث؟ وهو ما رواه إبن ماجة في باب الديات عن أبي جُحفة؟ قال:
قلت لعلي بن أبي طالب: هل عندكم شئ من العلم ليس عند الناس؟ قال: لا. والله ما
عندنا إلا ما عند الناس. إلا أن يرزق الله رجلاً فهماً في القرآن. أو ما في هذه
الصحيفة؟ فيها الديات عن رسول الله؟ وأن لا يقتل مسلم بكافر (إبن ماجة 2: 887؟
حديث رقم 2658). الحديث قد صححه أكثر من واحد من رجال الحديث؟ ورفضه أكثر من واحد
من رجال الفقه؟ وقال فيه الغزالي: إن المتن معلول بمخالفته للنص القرآني النفس
بالنفس (السنة النبوية ص 25).

هذا
ما قصدناه من أن هناك أحاديث غير واجبة التنفيذ وإن صحّت سنداً؟ فهل اتضحت الرؤية؟
أم أننا ما زلنا ندفن رؤسنا في الرمال. معتبرين أن فهمنا للإسلام هو الإسلام؟ وأن
من يخالفنا الرآي إما كافر أو مخدوع! إن مشكلتنا القديمة التي ما توشك أن تختفي
إلا لتظهر من جديد هي: أننا لا نعرف كيف نختلف؟ فضلاً عن أن نتفق؟ ففي هذا الزمن
لا نكاد نعرف أن هناك شيئاً ما يسمى الرأي الآخر؟ فمن يختلف معنا في الدين..كافر.
ومن يختلف معنا في تفسير الدين..كافر. ومن يختلف معنا في وجهة النظر السياسية..عميل.
لقد صرنا لا ننظر إلا لأنفسنا؟ ولا نسمع إلا أصواتنا. ولكن الحمد لله؟ فهناك بقية
من الرجال الذين يعرفون كيف يختلفون وكيف يتفقون. إن من أمتع الجمل التي قرأتها في
الفترة الأخيرة هي تلك التي كتبها شيخنا الغزالي في كتاب السنة النبوية بين أهل
الفقه والحديث فيقول: إذا استجمع الخبر المروي شروط الصحة المقررة بين العلماء فلا
معنى لرفضه؟ وإذا وقع خلاف محترم في توفر هذه الشروط أصبح في الأمر سعة؟ وأمكن
وجود وجهات نظر شتى؟ ولا علاقة للخلاف هنا بكفر ولا إيمان؟ ولا بطاعة ولا عصيان
(السنة النبوية ص 34).

ما
أجمل هذا الكلام! وما أعقله! إن ما يقرره شيخنا الغزالي هنا؟ وما نصرخ ليل نهار
مطالبين به؟ هو وجود مساحة للخلاف المنطقي مع كل شئ؟ إذا ما توفرت وجهه نظر محترمة
لهذا الخلاف؟ حسب تعبير الغزالي. وإذا لم نفعل؟ فعلى أهلها جنت براقش!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار