المسيحية

إعتراضات على سفر نشيد الأنشاد



إعتراضات على سفر نشيد الأنشاد

إعتراضات
على سفر نشيد الأ
نشاد

الجزء الأول

القمص زكريا بطرس

مقدمة

 الواقع إن الاقتراب من
سفر نشيد الأناشيد، يشبه الاقتراب من الشجرة المشتعلة بالنار المقدسة، التي رآها
موسى النبي، حيث قال
له الرب: “يا
موسى! اخلع نعل رجليك لأن الموضع الذي أنت واقف
عليه أرض مقدسة” (أع7: 33)

وهذا ما ذُكِر في
القرآن أيضا: “أن ياموسى اخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى” (سورة طه20:
12)

والواقع أن الإنسان
يلبس نعلاً في قدميه للحماية من شوك الأرض الملعونة، التي قال الرب عنها لآدم
“ملعونةٌ الأرضُ بسببك … وشوكا وحسكا تنبت لك” (تك3: 17و18)

ولكن إذا ما ترك
الإنسان الأرض الملعونة بشوكها، وبدأ يقف على الأرض المقدسة بطهرها، وجب عليه أن
يخلع ذلك النعل، من أجل قداسة المكان، من جهة، تماما مثلما يحدث في الدخول إلى
أماكن العبادة. وأيضا ليترك لحواسه أن تستشعر قداسة هذه الأرض المباركة، دون ما
عائق. فخلع النعلين يشير إلى التحرر من العوامل
المادية
التي تقيد انطلاقة الروح في هذا الطريق الروحي. ومن هنا نستطيع
أن نفهم ما قصده السيد المسيح بقوله: “الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة” (يوحنا 6: )، وكذلك ما قاله
بولس الرسول: “الانسان الطبيعي لا
يقبل ما لروح الله لأنه عنده جهالة، أما الروحي
فيحكم في كل شيء ..” (1كورنثوس 2: 14) ولعل هذا هو ما دعى السيد المسيح أن
يحذر قائلا: “لا ترموا درركم قدام الخنازير
لئلا تدوسها بأقدامها، وتلتفت فتمزقكم” (متى7: 6)

لهذا فعندما نقترب من
سفر نشيد الأناشيد، بسمو معانيه ورموزه، علينا أن نخلع نعل المادية، والأفكار
الشهوانية، ونتقدم في قداسة الفكر ونقاوة القلب، لأن: “كلَّ شيء طاهر
للطاهرين، أما للنجسين وغير المؤمنين، فليس شيء طاهر، بل قد تنجس ذهنهم أيضا
وضميرهم” (تيطس1: 15)

وأحب أن أطمئن إخوانَنا
المسلمين أن علماء الكتاب المقدس سواء في اليهودية أو في المسيحية منذ أقدم العصور،
لم تكن تنقصهم الفطنة التي يدَّعيها المتطرفون من المسلمين، بخصوص ما يقولونه عن
سفر نشيد الأناشيد، فلو كانوا قد وجدوا أن في هذا السفر شُبْهَةَ خزي، كما يدعي
المتطرفون، لما كانوا قد وضعوه ضمن الأسفار المقدسة، في مجامع ضمت صفوة العلماء
والفهماء والروحانيين!! أم أن علماء الديانتين كانوا أغبياء إلى هذا الحد، فلم
ينتبهوا إلى ما اكتشفه متطرفو الدين الإسلامي!!! وكيف يدَّعى هؤلاء المتطرفون ذلك؟
بينما نبي الإسلام ذاته، لم يعترض على هذا السفر أو على غيره من الأسفار المقدسة،
بل على العكس شهد للكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد قائلا: “قل فأتوا
بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه” (القصص28: 49)

ومهما ادعى المتفلسفون
بأكذوبة تحريف الإنجيل والتوراة، فليس من المعقول أن يأتي المحرِّفون بكتاب معيب
كما يظن المدعون، بل كان من الأولى بهم أن يغيروا ما يثير الشبهات التي ينتقدها
غير الفاهمين. ولكن إصرارَ رجال الديانتين، دون ما اتفاق بينهما، على الاحتفاظ
بهذا السفر النفيس ضمن الكتب المقدسة الموحى بها، يجعلنا نقف موقف طالبي العلم
والمعرفة، لندرك المعاني السامية المتضمنة فيه. وسوف يشمل حديثنا في هذه الحلقة
والحلقات القادمة الأمور التالية:

1 سفر
النشيد والشعر الصوفي الروحي.

2 الألفاظ
المعترض عليها في سفر النشيد.

3 سفر
النشيد وجنة الخلد، مقارنة موضوعية.

هذه مقدمة موجزة ونفتح
المجال لأسئلة أحبائنا المستمعين، وخاصة إخواننا المسلمين إن كانوا يريدون أن
يستفسروا عن شيء.

الأسئلة

س (1) ماذا تقول عن
أسلوب العشق الفاضح واللغة المبتذلة التي كُتِبَ بها نشيد الأناشيد؟

س (2) ما هو المقصود من
التصوف الذي تتكلم عنه؟

س (3) وما
علاقة هذا الطرح بنشيد الأناشيد؟

س (4) أليس نشيد
الأناشيد رسالة من الملك سليمان موجه إلى عشيقة له؟

س (5) تقول أن نشيد
الأناشيد هو علاقة عشق، فهل ممكن أن توضح لنا من هو العاشق ومن هي العشيقة؟

س (6) ألست معي أن ما
يقال عن الحب الإلهي أو العشق الإلهي إنما هو بدعة في الدين؟

 

س (1) ماذا
تقول عن أسلوب العشق الفاضح واللغة المبتذلة التي كتب بها نشيد الأناشيد؟

الإجابة:

الواقع أن أسلوب نشيد
الأناشيد ليس هو عشقا فاضحا كما تقول، ولكنه عشق مقدس.
وربما تندهش من هذا التعبير: (العشق المقدس)! ولكن لكي يزول اندهاشك يا عزيزي دعني
أذكرك بشخصية لها مقامها المكرم بين النساء المسلمات وهي رابعة العدوية. هل تعرف
لقبها الذي تشتهر به؟ اقرأ ما كتبه عنها الأستاذ الدكتور عبد الرحمن بدوي أستاذ
الفلسفة بكلية الآداب جامعة عين شمس، وقد دَعَى كتابه عنها بإسم “شهيدة العشق الإلهي” وعندها ستفهم لقب عروس
النشيد المتيمة بالعشق الإلهي.

وإن أردت أن تعرف
المزيد عن [العشق الإلهي أو الحب الإلهي] في الإسلام اقرأ عن المذاهب الصوفية أو مدراس الحب الإلهي، وإليك
بعض تلك الكتب:

1 كتاب “المذاهب
الصوفية ومدارسها” تأليف الأستاذ عبد الحكيم عبد الغني قاسم، مكتبة مدبولي
بالقاهرة.

2 كتاب “التصوف
الإسلامي” للدكتور عبد الله الشرقاوي كلية دار العلوم بالقاهرة.

3 كتاب “الأدب
الصوفي في مصر [ابن الصباغ]” للدكتور على صافي حسين نشر دار المعارف بالقاهرة.

4 كتاب ” الكنز في
المسائل الصوفية” للأستاذ صلاح الدين التجاني، نشر الهيئة المصرية العامة
للكتاب.

5 كتاب “الحلاج الأعمال
الكاملة” تأليف قاسم محمد عباس، نشر مؤسسة رياض الريس للكتب والنشر بلبنان.

6 كتاب “شهيدة
العشق الإلهي” للأستاذ الدكتور عبد الرحمن بدوي، نشر مكتبة النهضة المصرية.

7 كتاب “رابعة
العدوية في محراب الحب الإلهي” تأليف الأستاذ مأمون غريب، نشر دار غريب
للطباعة والنشر بالقاهرة.

8 “الموسوعة العربية
الميسرة” إشراف الأستاذ محمد شفيق غربال [تحت كلمة: التصوف، تحت اسم كل رائد
من رواد التصوف]

وتذخر هذه الكتب
بالحديث عن الحب الإلهي أو العشق الإلهي، الذي يماثل كلمات نشيد الأناشيد، وليس في
ذلك ابتذال، أو كما تقول عشق فاضح. واسمع كعينة بسيطة مما قالته رابعة العدوية:

أُحِبُّكَ
حبين، حبُّ الهوى
    وحبٌّ لأنك
أهلٌ لذاكا

فأما الذي
هو حب الهوى
   فشغلي بذكرك
عمن سواكا

وأما الذي
أنت أهل له
       فكشفك للحجب
حتى أراكا

قارن هذا بما أنشدت به
عروس نشيد الأناشيد قائلة:

اسمك دهن
مُهراق
           لذلك أحبتك العذارى

اجذبني
وراءك فنجري
      أدخلني
الملك إلى حجاله

نبتهج
ونفرح بك
            بالحق
يحبونك

تلاحظ في كلا النصين
نغمة الحب الراقي المعبرة عن العشق الإلهي المقدس، وليس العشق الفاضح المنجَّس،
كما تدعي.

 

س(2) ما هو
المقصود من التصوف الذي تتكلم عنه؟

الإجابة:

كلمة تصوف مأخوذة من
الصوف، والمقصود بذلك هو اللباس المصنوع من الصوف، الذي كان يلبسه المتقشفون
الناسكون: وهم الرهبان في المسيحية، والزاهدون الصوفيون في الإسلام.

وبخصوص هؤلاء الصوفيين
في المسيحية والإسلام فقد جاء عنهم في الموسوعة العربية الميسرة (ص525) الآتي:

[التصوف مسيحيا كان أو
إسلاميا
هو مراتب، يبدأ المتصوف فيه بتطهير نفسه من الدنس والأقذار
والأهواء والنزعات المنحرفة، بحيث يصبح أهلا
للتجلي
. وما التجلي إلا شعور يزيد من محبة الله والقرب منه،
وكلما قوي هذا الشعور اطَّرَد رقيُّ النفسِ حتى تحس
بوجود الله في قرارها، بل باتحادها به اتحادا كليا
…] (الموسوعة
ص527)

هذا هو كلام الموسوعة
العربية الميسرة عن التصوف الروحي، وهو العبادة المبنية على الحب المقدس أو العشق الإلهي. ويتضح هذا الاتجاه
في كتابات الصوفيين ودواوينهم الشعرية التي تتشابه كثيرا مع ما كتب في سفر نشيد
الأناشيد، بل أستطيع أن أقول أن ما كتبه الصوفيون المسلمون في العشق الإلهي، ما هو
إلا انعكاس لما تأثروا به من سفر نشيد الأناشيد.

ومما يثبت لك أن التصوف
الإسلامي قد أخذ عن التصوف المسيحي، أسوق إليك هذه الأدلة:

1 الدليل الأول: ما قاله
الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتاب “شهيدة العشق الإلهي رابعة العدوية” (ص
10و11) قال:

[عندما نبحث عن مصدر
التأثير الواعي أو اللاواعي في التصوف الإسلامي، يجب
أن يتجه البحث إلى التأثير المسيحي إذ
تغلُب عليه هذه الفكرة، فكرة المحبة الإلهية]

2 دليل آخر: يقول أيضا
الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتاب “شهيدة العشق الإلهي رابعة العدوية” (ص
6) إذ ذَكَر أنه في كوخها المتواضع كان يوجد مشجب “أي شماعة” تضع عليه
أكفانها، فكانت تستخدم هذا المشجب بما عليه من أكفان، لتضع أمام عيونها موضوعا
للتأمل أثناء الذكر العقلي، مثل القديسة تريزا والصوفية المسيحيين عامة في
استخدامها نموذج الصليب، فكان صليبها هو مشجبها المجلل بأكفانها. وما أقوى الشبه
كما سنرى بين هذه الصوفية المسلمة وبين تلك الصوفية المسيحية!” (ص6)

4 ودليل ثالث: ما قاله
الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتاب “شهيدة العشق الإلهي رابعة العدوية” (ص
12) نقلا عن كتاب “تَذْكِرَةِ الأولياء” لكاتبه فريد الدين العطار، الذي
قال: “… لقد هبطت عليها رسالتها الروحية، عندما كانت تسير ذات يوم، فشاهدت
رجلا غريبا يرمقها بنظره مضمرا لها الشر، فهربت وسارت
في طريق دمشقها
هي الأخرى (أي مثل بولس
الرسول
الذي رأى نفس الرؤية وهو في الطريق إلى دمشق). ثم ارتمت على
التراب وظلت تناجي ربها قائلة: “إلهي أنا غريبة يتيمة،مكبلة بقيود الرق
والعبودية، ولكن همي الكبير هو أن أعرف: أراض أنت عني أم غير راض؟ فسمعت صوتا يقول:
“لا تحزني! ففي يوم الحساب يتطلع المقربون إلى السماء إليك ويحسدونك على ما
ستكونين فيه” فلما سمعت هذا الصوت عادت إلى بيت سيدها، وصارت تصوم وتخدم
سيدها وتصلي لربها طوال الليل”. ويكمل حديثه قائلا:

 “إن رابعة
العدوية لم تجد خلاصا أو بالأحرى عزاءً لها إلا في الإيمان والثقة بالله والتعزي
بالآخرة، وهي ظاهرة طالما حدثت في النفوس النبيلة … ونراها في الجيل الأول للمسيحية … ومن هنا تنصرف هذه النفوس
النبيلة إلى طلب الملكوت الأعلى” (ص12)

3 ودليل رابع: عندما
اتُّهِم الحسين ابن منصور الحلاج بالكفر،
وهو أحد رواد التصوف الإسلامي بالعراق في القرن التاسع الميلادي، [هل تدري ماذا
فعلوا به؟] جاء في (الموسوعة العربية الميسرة ص 732) أنهم صلبوه، ثم قطعوا رأسه، ثم أحرقوه!! ونسأل لماذا
صلبوه؟ نجد الإجابة في أحد أبيات شعره التي عبر بها عن تأثره بالمسيحية إذ قال:

ألا
أَبلِغْ أحبائي بأني ركبت البحر وانكسر السفينة

على دين
الصليب
يكون موتي ولا البطحا أريد ولا المدينة

هذه يا عزيزي فكرة
مبسطة عن التصوف الروحي في المسيحية والإسلام، والتصوف موجود في كل أديان العالم: الديانة
الفارسية، والهندية، واليهودية، وطبعا المسيحية والإسلام، وتوجد في الإسلام مدارس
متعددة للتصوف منها: المدارس الحجازية، والعراقية، والشامية، والمصرية، والمغربية،
والسودانية، وغيرها ولكل مدرسة روادها. وتتفق هذه المدارس فيما بينها في أمور،
وتختلف في أمور أخرى. وعن هذا يحسن أن تقرأ كتاب “المذاهب الصوفية ومدارسها
للإستاذ عبد الحكيم عبد الغني قاسم”.

 

س (3) وما علاقة هذا الطرح بنشيد الأناشيد؟

الإجابة:

 الواقع إن العلاقة
وطيدة بين ما وضحته عن التصوف الروحي وسفر نشيد الأناشيد، وسر هذه العلاقة يكمن في
أن جميع الاتجاهات الصوفية الروحانية لها قاعدة واحدة وهي الحب الإلهي أو كما يفضلون أن يسموه العشق الإلهي.
وإذ لم يسعفهم النثر للتعبير عن التجربة الوجدانية العميقة، فعبروا عن شعورهم
الجارف بما يعرف بشعر الغزل المقدس.
وهذه هي التهمة الموجهة إلى سفر نشيد الأناشيد، فإذا ما عرف المعترض أساس شعر
العشق الإلهي بطل استعجابه.

 فسفر
نشيد الأناشيد
في الكتاب المقدس هو قصيدة شعر
باللغة العبرية، شعر صوفي روحاني، تماما
مثل ما في التصوف الإسلامي من قصائد الشعر الصوفي، أمثال قصائد رابعه العدوية،
وابن عربي، وابن الفارض، وذي النون المصري، وغيرهم.

وقصائد الشعر الصوفي
كما قلت تتحدث عن العلاقة الحبيَّة والعشق الإلهي
بين الإنسان وبين الله.

 ولا يخفى على
السامعين أن الشعر عموما، والشعر الصوفي خصوصا، يتميز بالصور البلاغية، والتعبيرات
الرمزية المجازية، أي أنه مملوء بالتشبيهات والاستعارات والكناية والتورية، وهي
كلها أساليب أدبية بلاغية راقية، للتعبير عن المحبة
الإلهية
السامية. ولا تؤخذ كلمات الشعر بالمعنى الحرفي المادي، وإلا ما
كان شعراً.

فإذا ماوضعنا هذا
الاعتبار في قراءتنا لسفر نشيد الأناشيد، بطل الادعاء بأنه شعر غزل فاضح، فلا يقول
هذا القول سوى متخلف عن ركب الثقافة والمعرفة.

 

س (4) أليس
نشيد الأناشيد رسالة من الملك سليمان موجه إلى عشيقة له؟

الإجابة:

هذا كلام غير صحيح. ولا
يقول به إلا إنسان ساذج، لا يعرف معنى العشق. فالعشق تشوق واشتياق، والاشتياق رجاء،
والرجاء رغبات بعيدة المنال يسعى الوَلْهان جاداً
ليحققها،
أما الملوك فلا ينطبق عليهم ذلك، فليس شيء بعيد المنال
بالنسبة لهم، إذ هم قادرون أن يحققوا كل ما يرغبون، وأن يبلغوا بالقوة إلى كل ما
يرجون، وشعارهم: “وما ملكت أيمانكم”.
فأيمانهم طائلة، بل متطاولة حتى إلى زوجاتِ أبنائهم، فليس لديهم مشكلة، لتُدْخلَهم
في دائرة العشق والتلهف والوَلَه. فالواقع هو أن الملوك لا يعشقون، ولكنهم عندما
يشتهون يملكون. ومن هنا جاء تعدد زوجاتهم وسراريهم وما ملكت أيمانُهم.

وعندما نرى ملكا عاشقا
كسليمان، فمن المؤكد أن عشقه ليس موجها إلى إمرأة يستطيع أن ينالها، فلابد أن عشقه
موجه إلى محبوب بعيد المنال: إلى الله ذاتِه. فأشواقه البعيدة المنال التي يصبوا
إليها، ويسعى متلهفا حتى تتحقق، هي اللقاء الحبي مع من تحبه نفسه. اسمعه يقول في
هذا السفر الروحي: “أنا لحبيبي وإليَّ اشتياقه … اجعلني كخاتم على قلبك،
كخاتم على ساعدك، لأن المحبة قوية كالموت، الغيرة قاسية كالهاوية، لهيبها لهيب نار
لظى الرب، مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئ المحبة، والسيول لا تغمرها، إن أعطى
الإنسان كلَّ ثروة بيته بدل المحبة تحتقر احتقارا” (نشيد 7: 10، نشيد8: 6و7)

هذه النغمة العاشقة
الولهانه نراها تلون أيضا شعر العشق الإلهي الصوفي
بكل وضوح، فاسمع هذه الأبيات لشاعر صوفي مسلم عن شوقه للقاء الله، وهو يقول:

أنت سؤلي
وبغيتي وسروري قد أبى القلبُ أن يَحِبَّ سواكا

يا حبيبَ
القلبِ من لي سواكا فارحمَ اليومَ مذنبا قد أتاكا

يا مناي
وسيدي واعتمادي
طال شوقي متى يكون لُقاكا

ليس سؤلي من
الجِنان نعيمٌ غيرَ أني
أريدُها لأراكا

 

هذا هو العشق المقدس
للمحبوب بعيدِ المنال، وهذه هي الأشواق المشبوبة المتوقدة لرؤيته.

ويقول في ذلك أيضا
الدكتور عبد الرحمن بدوي: يُحكى عن رابعة العدوية أنها كانت تنوح باستمرار، فسئلت:
لماذا تنوحين وأنت لا تشكين ألما؟ فأجابت: وا حسرتاه! الْعلَِّةُ التي أشكوها ليس
مما يستطيعُ الطبيبُ علاجَه. إنما دواؤها الوحيد رؤية
الله. وما يعينني على احتمال هذه العلة إلا رجائي أن أحقق غايتي هذه في العالم
الآخر.” (ص76)

أفبعد هذا يجرؤ من يقول
أن سفر نشيد الأناشيد رسالة من الملك سليمان إلى عشيقة له؟ حاشا، فسفر نشيد
الأناشيد كما قلنا هو قصيدة شعر صوفي
روحاني كتبها بالوحي سليمان الحكيم المتيم بالعشق الإلهي، يصف خلجاتِ نفسه في
علاقتها بحبيب الروح وخالقِها، وهو رغم جبروته وحكمته وغناه، لكنه يقف عاجزا
وفقيرا أمام أشواقه المتعطشة إلى حب الله والتمتع برؤياه.

 

س (5) تقول
أن نشيد الأناشيد هو علاقة عشق، فهل ممكن أن توضح لنا من هو العاشق ومن هي
العشيقة؟

الإجابة:

سفر النشيد يمثل العلاقة الحبية المقدسة بين الله والنفس البشرية المتيمة بعشقه،
فهذه العلاقة الحبية هي موضوع الشعر الصوفي عموما
، وموضوع سفر نشيد
الأناشيد على وجه الخصوص.

هذه العلاقة الحبية قد
وُضِعَت في قالب مجازي بليغ، قالب العلاقة الشرعية التي توحد وتؤلف بين العريس وعروسه. فشبهت النفس البشرية بعروس وشبه
الله بالعريس. وهذا ما قال يوحنا المعمدان: “من له العروس فهو العريس”
(يوحنا 3: 29) وبولس الرسول قال: “خطبتكم
لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح
(2كو11: 2).

وبنفس الصورة البليغة
كانت علاقة رابعة العدوية المتصوفة المسلمة
بالله، إذ يقول الدكتور بدوي عنها في كتابه [شهيدة العشق الإلهي: رابعة العدوية ص
26] “لقد بدأت رابعة تستشعر الحب لله،
وإنه لينمو، وتواكبه مشاعر مختلفة، لعل من بينها، ومن أقواها الشعور بأنها نذرت
نفسها لهذا المحب الأسمى” ويواصل حديثه قائلا: “وعما قليل ستعلن خطبتها إليه، ولعل ذلك أن يفضي في النهاية
إلى الزواج الروحي بينها وبين الله” الدكتور
عبد الرحمن بدوي في كتاب “شهيدة العشق الإلهي رابعة العدوية” (ص26)

ألا ترى معي أن هذا
تعبير غريب وصعب أن يقبله أي إنسان؟

بالتأكيد هو في غاية
الصعوبة، وهذا ما دعى الدكتور بدوي أن يعلق قائلا: “هذا نص على أكبر درجة من الخطورة لأنه يتحدث عن وجود فكرة الزواج من الله والاقتران به لدى الصوفيات المسلمات
حتى منذ القرن الثاني الهجري أو الثامن الميلادي، وهي الفكرة التي لعبت دورا خطيرا
في التصوف المسيحي” الدكتور عبد
الرحمن بدوي في كتاب “شهيدة العشق الإلهي رابعة العدوية” (ص 27) وتصديقا
لكلام الدكتور بدوي نقول أن آباء الكنيسة كانوا يسمون العلاقة الحبية مع الله بالزيجة الروحانية.

هل فطنت الآن لتعرف من
هو العاشق ومن هي العشيقة؟ إنها النفس البشرية في عشقها المقدس لله السامي غير
المحدود. وهذا ما كتبه الأستاذ مأمون غريب عن
رابعة العدوية بهذا الشأن فقال “
فإذا مستها هذه الشرارة المقدسة
شرارة الإغاثة لتتجه إلى نور الهداية فإذا بها تنقاد نحو هذا النور .. وتغرق فيه ..
وتشدو بحبيبها الذي لا يعادله حبيب .. إنه الخالق
العظيم
.. (كتاب رابعة العدوية في
محراب الحب الإلهي
ص5)

 

س (6) ألست
معي أن ما يقال عن الحب الإلهي أو العشق الإلهي إنما هو بدعة في الدين؟

الإجابة:

 لا ياعزيزي أنا لست
معك في ذلك، وأسوق إليك كلمات رجل مسلم متمسك بدينه هو
الأستاذ مأمون غريب في
(كتاب رابعة
العدوية في محراب الحب الإلهي
ص 19) حيث يقول: “لم يكن الصوفية مبتدعين وهم يريدون من تعبدهم لله أن تشرق عليهم
الأنوار الإلهية”. ويعود ليؤكد هذه الحقيقة في (نفس الكتاب ص80) بقوله
“الحب الإلهي إذن هو غاية الصالحين، وليس بدعة
أو اختراع

واسمع
الدكتور علي صافي حسين في كتابه الأدب الصوفي في مصر 221)
يقول: “وكان
ذو النون المصري أول شاعر صوفي تحدث في
شعره عن العشق الإلهي أو المحبة الربانية … ولم يكن يختلف في شيء ذي بال
عما كان عليه شعر الغزل بمعناه العام”. (ص221)

 وأسوق إليك شعر محمد
الكيزاني أحد الصوفيين الكبار، من (كتاب الأدب الصوفي في مصر ص (20)

ولقد أودعَ
الغرامُ بقلبي زفراتٍ أضحى بها مصدوعا

وإذا أطنب
العزول فقد عاهدت سمعي ألا أكون سميعا

وحرامٌ
علَىَ التلهفِ ألا يري حَ أويحرقَ الحشا والضلوعا

 

ومن الشعر الحديث في
العشق الإلهي أنشد قداسة البابا شنودة الثالث قصيدته العصماء التي بعنوان
“همسة حب” أقتطف لك بعض أبياتها:

قلبي الخفاق
أضحى مضجعك في حنايا الصدر أخفي موضعك

ليس لي فكر
ولا رأي ولا شهوة أخرى سوى أن أتبعك

قد نسيت
الأهل والأصحاب بل قد نسيت النفس أيضا في هواك

قد نسيت
الكل في حبك يا متعة القلب فلا تنسى فتاك

في سماء أنت
حقا إنما كل قلب عاش في الحب سماك

عرشك الأقدس
قلب قد خلا من هوى الكل فلا يحوي سواك

 

هذه عينات من قصائد
العشق الإلهي. ونشيدُ الأناشيد في الواقع هو الينبوع الذي نهل منه كل هذا الكمِّ
من عشاق الحب الإلهي. إنه المشعل الوقاد الذي ألهب مشاعرهم، وأنار دروبهم، وسبى
قلوبهم، وأسكر عقولهم، فانطلقت أرواحهم معبرة عن مذاقة الملكوت الحلوة، لتعزف
سيمفونية العشق الإلهي الخالدة، والمتجددة على مدى الأزمان.

العشق الإلهي ياعزيزي
درجة سامية في العلاقة مع الله، لا ينكرها إلا من لم يتذوقها. وهل يستطيع الأعمى
أن ينكر ضياء الشمس لأنه لا يراها؟؟؟!!!

 

لعلي بهذا قد أجبت
تساؤلك يا عزيزي السائل عن هوية العاشق والعشيقة في سفر نشيد الأناشيد، السفر
المعبر عن الحب الإلهي الخاص لوجه الله، الذي ينبغي أن يكون ركيزة العبادة لله،
فالعبادة في مفهومها هي أسمى درجات الحب كما نقول في لغتنا أن فلان يحب فلانا
لدرجة العبادة، أي أنه لا يستطيع مفارقته.

والواقع أن المشكلة
الأساسية في قصور الإنسان عن إدراك أبعاد العلاقة مع الله تكمن في أن الدين أصبح
عند العامة هو مجرد فروض وواجبات، دون علاقة حبية بين القلب بينه وبين الله.
فكتابنا المقدس يقول: “”الله محبة” و “نحن نحبه (نحب الله)
لأنه هو أحبنا أولا” (1يو4: 8و19)

هل تريد يا عزيزي أن
تراجع علاقتك بالله هل هي مجرد عبادة الفرض وعلى رأي المثل: يعمل الفرض وينقب
الأرض”؟ أم تريد أن تكون علاقة حبية من الآن مع الله. قل له يارب علمني أن
أحبك، واسكب حبك في قلبي.

والواقع أنني أعرف
كثيرين من أحبائنا المسلمين يعجبون بفكرة المسيحية في الحب الإلهي، وأعلم أيضا أن
كثيرين لهم موقف من الإسلام، ويعلنون عدم اقتناعهم به، وفي نفس الوقت يخشون
الانضمام إلى المسيحية، حتى لا يتعرضوا للعذاب أو السجن أو حتى القتل، ولهذا
يكتفون بإعلان إلحادهم أهون لهم من انضمامهم للمسيحية.

وأحب أن أؤكد أنني لا
أدعو أحباءنا المسلمين المستنيرين والمعترضين على الإسلام، إلى ترك الإسلام، ولا
أن يلجأوا إلى الاحتماء بالإلحاد، بل أدعوهم أن يظلوا في موقعهم، وبأسمائهم كما هي:
محمد ومحمدين، وحسن وحسين. وأن يتجهوا بقلوبهم إتجاها روحيا حبيا في علاقتهم مع
الله، تماما مثلما فعل الصوفيون المسلمون أمثال: رابعة العدوية، ومحيي الدين ابن
عربي، وابن الفارض، وغيرهم.

وبالمناسبة أقول أن
الصوفية المسلمة مع إتجاهها الروحي، تسمح بالزواج، فلا تظن أنك بالاتجاه الروحي
إلى الله يلزم أن تكون راهبا أو متبتلا! فلا تعارض بين حب الله وممارسة جوانب
الحياة المختلفة. ومن خلال الاتجاه الروحي والعلاقة الحبية مع الله سيعلن الرب لكل
واحد الطريق السليم الكامل، لأن الكتاب المقدس يقول: “المقوم طريقه أريه خلاص
الرب” (مز50: 23). فقط كن طائعا لله واقرأ من بين ما تقرأ الكتاب المقدس،
لتعرف الطريق الحقيقي، وتدخل الحياة المرضية والمقبولة لدى الله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار