علم

المناظرة الثامنة



المناظرة الثامنة

المناظرة
الثامنة

الرئاسات[1]
للأب سيرينوس

 

في
المناظرة السابقة تم الحوار الأول مع الأب سيرينوس بخصوص ضبط الفكر، ورأينا دور
الشياطين في تشتيت الفكر. وقد تحدث الأب عن قوة الشيطان وإمكانياته، لكنه لن
يستطيع أن يغلب المؤمن الملتصق بالله، لأن الذي معنا أعظم من الذي علينا. أما في
هذا الحوار الذي يحوي 25 فصلاً، فتحدث فيه عن وجود رتب متنوعة بين الشياطين.

 

فصل
1: تحدث فيه عن كرم الأب سيرينوس (فصل 1)

فصل
2: سأل جرمانيوس عن أصل القوات المتنوعة جدًا المقاومة للإنسان، وعن الفروق بينها،
إذ يقول الرسول بولس: “فإن مصارعتنا ليس مع دمٍ ولحمٍ، بل مع الرؤساء، مع
السلاطين، مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر، مع أجناد الشر الروحية في
السماويات” (أف 12: 6). و”لا ملائكة ولا رؤساء ولا قوات ولا خليقة أخرى
تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا” (رو 38: 8، 39). يسأل
أيضًا: من أين جاءت كل هذه العداوة المملوءة حسدًا ضدنا؟ هل لنا أن نؤمن أن هذه
القوات قد خلقها الرب لهذا الأمر، أي لتحارب ضد البشر بهذه الرتب التي لها؟

فصل
3: أجاب الأب سيرينوس بأن ما ورد في هذا الشأن في الكتاب المقدس هو سرّ مخفي يحتاج
إلى دراسة واجتهاد. فكلمة الله هي طعام يلزم طبخه لكي يؤكل. لكلمة الله المعنى
الظاهري الحرفي، وأيضًا المعنى الخفي (فصل 4).

فصل
6: يؤكد أن الله لم يخلق شيئًا شريرًا، بل كل ما خلقه هو حسن جدًا (تك31: 1).

فصل
7: أوضح أن الله خلق السمائيين قبل خلقه العالم. “عندما صُنعت الكواكب معًا
سبحتني الملائكة بصوٍت عالٍ” (أي 7: 38
LXX).
فقد كانت الملائكة موجودة في بدء خلقة العالم تسبحه على أعمال خلقته للعالم
المنظور لنا.

يقول
الإنجيلي يوحنا: “به كان كل شيء، وبغيره لم يكن شيء مما كان” (يو3: 1)،
ويعدد الرسول بولس الخليقة قائلاً: “فإن فيه (في المسيح) خُلق الكل، ما في
السماوات وما على الأرض، ما يُرى وما لا يُرى، سواء كان عروشًا أم سيادات أم
رياسات أم سلاطين، الكل به وله قد خُلق” (كو 16: 1).

فصل
8: تحدث عن سقوط الشيطان وملائكته وقد رثاهم النبيان حزقيال وإشعياء:

“يا
ابن آدم ارفع مرثاة على ملك صور وقل له:

هكذا
قال السيد الرب: أنت خاتم الكمال ملآن حكمة وكامل الجمال.

كنت
في جنة الله.

كل
حجر كريم، ستارتك عقيق أحمر وياقوت أصفر وعقيق أبيض وزبرجد وجزع ويشب وياقوت أزرق
وبهرمان وزمرد وذهب.

 أنشأوا
فيك صنعة صيغة الفصوص وترصيعها يوم خلقت.

أنت
الكروب المنبسط المظلل وأقمتك.

على
جبل الله المقدس كنت.

بين
حجارة النار تمشيت.

أنت
كامل في طرقك من يوم خُلقت حتى وُجد فيك إثم.

بكثرة
تجارتك ملأوا جوفك ظلمًا فأخطأت.

فأطرحك
من جبل الله، وأبيدك أيها الكروب المظلل من بين حجارة النار.

قد
ارتفع قلبك لبهجتك.

أفسدت
حكمتك لأجل بهائك.

سأطرحك
إلى الأرض، وأجعلك أمام الملوك لينظروا إليك.

قد
نجست مقادسك بكثرة أثامك بظلم تجارتك” (حز 11: 28-18).

ويقول
إشعياء عن شيطان آخر:

 “كيف
سقطت من السماء يا زهرة بنت الصبح؟!

 كيف
قُطعت إلى الأرض يا قاهر الأمم؟!

 وأنت
قلت في قلبك:

أصعد
إلى السماوات، أرفع كرسيَّ فوق كواكب الله،

وأجلس
على جبل الاجتماع في أقاصي الشمال.

 أصعد
فوق مرتفعات السحاب،

 أصير
مثل العلي” (إشعياء 12: 14-14).

يخبر
الكتاب المقدس أن الشيطان لم يسقط وحده من حالته المباركة، بل يسقط التنين ومعه
ثلث الكواكب (رؤ4: 12).

في
أكثر وضوح يقول أحد الرسل: “والملائكة الذين لم يحفظوا رياستهم، بل تركوا
مسكنهم حفظهم إلى دينونة اليوم العظيم بقيود أبدية تحت الظلام” (يهوذا 6).

هذا
أيضًا وقد قيل لنا: “لكن مثل الناس تموتون وكأحد الرؤساء تسقطون” (مز7: 80).
على من ينطبق هذا القول بأن كثيرين من الرؤساء قد سقطوا؟

يرى
الأب سيرينوس أن الرؤساء هم الملائكة، سقطوا عن رتبهم المتنوعة من مواضعهم
السمائية كثمرة شرهم، وأنهم أيضًا حملوا رتبًا حسب درجة شرهم. وكأنهم كما حملوا
رتبًا متنوعة في حياتهم الملائكية، نالوا في سقوطهم رتبًا مضادة حسب درجة شرهم.

ف
9: يقول جرمانيوس إنهم اعتادوا أن يعتقدوا أن الحسد هو علة سقوط الشيطان وبدء
سقوطه، الذي بسببه طرد من السماويات، وذلك عندما خدع آدم وحواء باحتيال.

ف
10: أوضح الأب سيرينوس أنه ظاهر من سفر التكوين أن بدء سقوط الشيطان ودماره كان
قبل هذا الخداع. فقد قيل عن الحية (الشيطان) أنها أحكم من كل حيوانات الأرض، وجاءت
كلمة “أحكم” في العبرية تعني “أحيل”. كان أكثر خداعًا ليس من
الملائكة، لأنهم ليسوا مخادعين، ولا من البشر، لأنهم لم يكونوا بعد قد خلقوا (بل
من ملائكته الساقطين معه). هذا الخداع الذي فيه كبرياء نزل به ليحمل اسم
“الحية”، ويحمل حسدًا.

إنه
لم يعد بعد يقدر أن يمشي بل يزحف، ولا أن يتطلع إلى فوق، بل يلتصق بالأرض يزحف
عليها، وينحط ليزحف على بطنه يأكل طعامًا ترابيًا أي أعمال الخطايا، بهذا يحمل روح
العداوة ضد كل الخليقة. هذه العداوة وإن كانت قد دفعت به ليخدع آدم وحواء، لكن كما
يقول الأب سيرينوس أنها لنفعنا، وهذا الخلاف لفائدتنا، فيقف البشر في حذر منه كعدو
خطير، فلا يقدر بعد أن يضرنا بأن يخدعنا بإظهاره الصداقة معنا.

هنا
يمكنني خلال كلمات هذا الأب أن أضع مقارنة بين التصاق الإنسان بالحية القديمة
إبليس وبين التصاقه بالسيد المسيح:


يوجد صراع بين السيد المسيح كلمة الله وإبليس، كل منهما يريد أن يضم الإنسان إليه
ويهبه ما عنده.


التصاق الإنسان بإبليس يجعله متشبهًا بالحية التي لا تقدر أن تمشي في الطريق
الإلهي الملوكي بل تزحف على الأرض، فيصير الإنسان ترابيًا. أما الالتصاق بالسيد
المسيح، الطريق الحق، فيهبنا جناحي الروح القدس لكي تنطلق النفس كحمامة وتطير إلى
السماوي. بهذا تجلس النفس كما في السماويات وتنعم بالجنسية السماوية .


التصاق الإنسان بإبليس يجعله يزحف على بطنه فيأكل التراب، ويجعل من بطنه إلهًا
كقول الكتاب: “آلهتهم بطونهم”، يعيش الإنسان ليأكل، وليس يأكل لكي يعيش.
يقتات الإنسان مع إبليس على الخطية كطعام داخلي له. أما السيد المسيح فيهبنا جسده
ودمه مأكلاً ومشربًا لكي ننعم بالحياة الأبدية. يصير السيد المسيح “البر
الإلهي” طعامًا للنفس التي تقتات به، أما طعام الجسد فضرورة لأجل الحياة.


التصاق الإنسان بإبليس يسكب فيه روحه، الذي هو روح العداوة، أما التصاقه بالسيد
المسيح فيسكب فيه روحه الذي هو روح الحب والصداقة على مستوى أبدي.

ف11:
إن كان المخادع إبليس يسقط تحت العقوبة والدينونة التي يستحقها، فإن من يقبل
الخداع لا يُعفى من العقاب، وإن كان عقابه أخف من العقاب الذي يسقط تحته المخادع
نفسه.

يقول
الرسول أن حواء لا آدم هي التي خُدعت، لكن آدم قبل مشورتها. لذا يليق بنا أن نحذر
من كل مشورة شريرة، هذه التي تجلب عقوبة على من صدرت عنه ومن قبلها.

ف12:
جماهير الشياطين وما تثيره من اضطرابات في جو حياتنا.

يرى
الأب سيرينوس أن الجو ما بين الأرض والسماء مكتظ بجموع من الأرواح الخفيفة، تطير
لا في هدوء ولا في خمول.

من
عناية الله الفائقة أنه حجب هذا المنظر عن الأعين البشرية. لأنه لو كشف عن عينيْ
الإنسان ليرى هذا المنظر لسقط في حالة رعب شديدة وانهيار، وفسدت حياته يومًا
فيومًا، وعجز عن ممارسته لعمله اليومي وتحقيق رسالته. فالرؤيا تجعله يدخل في علاقة
مباشرة منظورة خلالها يرى في كل لحظة ما يمارسونه من شر، مما قد يدفع الإنسان إلى
الخطأ.

فصل
13: صراع الشياطين ليس فقط ضد الإنسان، وإنما حتى ضد بعضهم البعض، فإنهم لن
يتوقفوا عن الخلافات والصراعات بسبب ما يحملونه من شر.

في
دانيال 12: 10-14 نرى رئيس الملائكة ميخائيل يُقاوم رئيس الفارسيين لمدة 21 يومًا
لكي يحفظ دانيال منه. كما يتحدث عن رئيس لليونانيين… وإن الشيطان الذي يعهد
بالفارسيين يصارع ليس فقط ضد أولاد الله، بل وضد الشيطان الذي يعهد باليونانيين.
هذا في رأي الأب سيرينوس هو سرّ الصراعات المستمرة بين الأمم بروح الحسد الذي لا
ينقطع. إنها صراعات بين الشياطين وبعضها البعض التي تثير الأمم ضد بعضها.

فصل
14: كيف نالت قوات الشر الروحية ألقاب القوات والرئاسات؟

لأنها
تحكم وتسيطر على أمم مختلفة، ولها تأثيرها على أرواح أقل منها، وعلى شياطين، وقد
شهدت الأناجيل عن وجود “لجيئون”.

فما
كان يمكن دعوتهم أرباب ما لم يوجد من يمارسون عليهم الربوبية،

ولا
يدعون قوات وسلاطين ما لم يكن لهم من يمارسون عليهم هذا السلطان.

فالفريسيون
في تجديفهم على السيد المسيح قالوا: “ببعلزبول رئيس الشياطين يخرج
الشياطين” (لو15: 11)، كما دُعيت الشياطين: “ولاة العالم على ظلمة”
(أف12: 6)، ودُعي أحدهم: “رئيس هذا العالم” (يو30: 14). ويتحدث الطوباوي
بولس عن هؤلاء الرئاسات والقوات كيف يبطل سلطانهم على هذا العالم حين يخضع الكل
للسيد المسيح فيقول: “متى سُلم المُلك لله الآب متى أبطل كل رياسة وكل سلطان
وكل قوة” (1كو24: 15).

فصل
15: ليس بدون سبب حملت القوات المقدسة السمائية ألقاب الملائكة ورؤساء الملائكة.

دعوا
“ملائكة” ومعناها “رسل”، لأن عملهم هو حمل رسائل إلهية.

ودعوا
“رؤساء ملائكة” لأن لهم سلطان على الملائكة.

و”سلاطين”
لأن لهم سلطان على أشخاص معينين.

و”رئاسات”
إذ لهم أشخاص هم رؤساء عليهم.

و”عروش”
لأنهم قريبون جدًا من الله وأخصاء وملتصقون به، فتستريح العظمة الإلهية فيهم كما
في عرش إلهي بطريقة كمن يتكئ عليهم.

فصل
16: ندرك خضوع الشياطين لرؤسائهم ليس فقط مما ورد في الكتاب المقدس (لو19: 11)، بل
نراه أيضًا خلال خبرات القديسين المتنوعة.

روى
الأب سيرينوس قصة أحد الاخوة (الرهبان). إذ كان في رحلة في تلك البرية وجد كهفًا
فتوقف هناك ومارس صلاة الغروب فيها، مسبحًا بالمزامير. بعد الصلاة جلس قبل أن يأكل
وكان جسده منهكًا، فرأى عددًا لا يحصى من فرق الشياطين، اجتمعت معًا من كل جانب.
جاءوا كجموع لا تُحصى في طابور طويل، البعض يسبق الآخرين، وآخرون يتبعون رئيسهم،
وهو أطول منهم وأكثرهم رعبًا. ووُضع عرش عليه كرسي للقضاء عالٍ، وبدأ يفحص أعمال
كل واحدٍ منهم.

فإذا
ما قال أحدهم أنه لم يستطع بعد أن يغلب منافسيه يصدر أمر بطرده في خزي وعار بكونه
كسلانًا وخاملاً، ويوبخ بغضب شديد لأنه أضاع وقتًا طويلاً وأن عمله لم يُثمر.

أما
الذين يقولون بأنهم خدعوا منافسيهم فيمتدحهم الرئيس ويمجدهم فوق الكل كمصارعين
شجعان وأنهم صاروا نماذج مشهورة أمام البقية.

من
بين هؤلاء ظهر أكثر الأرواح شرًا وقدم نفسه ليروي نصرته العظيمة. لقد أشار إلى
راهب معروف جدًا، وأنه بعد صراعٍ ضده استمر 15 عامًا أخيرًا غلبه الليلة بخطية
الزنا مع فتاة مكرسة، وأنه أغواها لكي يتزوجها. عندئذ صدرت صرخات فرح مدوية، ونال
مديحًا عظيمًا بواسطة رئيس الظلمة، ووجهت إليه كرامات عظيمة.

إذ
ظهر النهار اختفت كل الشياطين من أمام عيني الأخ، وكان متشككًا من جهة الأرواح
الدنسة متذكرًا كلمات الإنجيل: “لم يثبت في الحق، لأنه ليس فيه حق، متى تكلم
بالكذب فإنما يتكلم مما له، لأنه كذاب وأبو الكذاب” (يو 44: 8).

كمل
الأخ طريقه إلى البلسم حيث يعلم أن هذا الإنسان يقطن هناك، هذا الذي تحدث عنه
الروح الشرير بأنه قد حطمه، إذ كان الأخ معروفًا جدًا لديه. وعندما سأل عنه وجده
بالفعل إنه في تلك الليلة ترك ديره وضل ساقطًا في خطيته مع الفتاة السابق ذكرها.

فصل
17: يقول الأب سيرينوس:

[يشهد
الكتاب المقدس عن وجود ملاكين، أحدهما صالح والآخر شرير، يكونان ملاصقين لكل واحدٍ
منا. يقول المخلص عن الملاك الصالح: “لا تحتقروا أحد هؤلاء الصغار، لأني أقول
لكم إن ملائكتهم في السموات كل حين ينظرون وجه أبي الذي السموات” (مت10: 18).
وأيضًا: “ملاك الرب حال حول خائفيه وينجيهم” (مز7: 34). وأيضًا ما قيل
في أعمال الرسل عن بطرس: “إنه ملاكه” (أع15: 12).

أما
عن وجود كلا النوعين من الملائكة فيعلمنا كتاب الراعي هذا بطريقة كاملة[2].

إن
كنا نفكر في ذاك الذي هاجم الطوباوي أيوب فإننا نتعلم أنه كان يخطط ضده لكنه لم
يقدر قط أن يجتذبه إلى الخطية، لذلك كان يطلب سلطانًا من الرب، إذ كان مربوطًا لا
بفضيلة (أيوب)، بل بحماية الرب التي كانت تحميه دومًا.

قيل
أيضًا عن يهوذا: “ليقف الشيطان عن يمينه” (مز6: 19).]

فصل
18: درجات الشر الموجودة في الأرواح المعادية كما ظهرت في حالة فيلسوفين.

تحدث
عن مثال لفيلسوفين كان لهما خبرة عظيمة في أعمال السحر مع الكسل والجسارة والشر.
لقد حاولا أن يؤذيا الطوباوي أنطونيوس وإذ لم يستطيعا حاولا أن يخلعاه من قلايته
بخيالات السحر وأكاذيب الشياطين، فأثارا ضده الأرواح الشريرة المملوءة عنفًا،
ليهاجموه في حسدٍ لكونه خادم الله. وإذ لم يقدروا حتى على الاقتراب منه، إذ كان
يرشم صدره وجبهته بعلامة الصليب مكرسُا وقته للصلوات والتوسلات، عادت الشياطين إلى
من قاما بتوجيههم. قام الساحران بإرسال أرواح شريرة أكثر شرًا، وإذ عادوا خائبين
لم يحققوا رسالتهم، أرسلا من هم أكثر قوة لمقاومة جندي المسيح الغالب، ولم
يستطيعوا أن يصنعوا شيئًا ضده.

هكذا
كل الحيل والخطط وفنون السحر نافعة في تأكيد التقدير العظيم لعمل المسيحيين، حتى
إن هذه الخيالات العنيفة والمتسلطة التي تظن أنها قادرة على حجب الشمس والقمر إذ
اتجهت نحو الطوباوي أنطونيوس لم تستطع أن تصيبه بضرر، ولا أن تسحبه من ديره للحظة
واحدة.

فصل
19: لن تستطيع الشياطين أن تغلب البشر إلا إن امتلكوا أولاً أذهانهم.

أكمل
الأب حديثه قائلاً:

[إذ
دُهش الفيلسوفان انطلقا فورًا إلى الأب أنطونيوس، وكشفا له عن هجماتهما وخطتهما ضده،
وطلبا أن يصيرا مسيحيين. وعندما سألهما عن اليوم الذي فيه مارسا هذا العمل اكتشف
أنه في هذا اليوم كان محاربًا بأفكارٍ مرة. بهذه الخبرة أكد الطوباوي أنطونيوس
وثبت الفكرة التي قلناها بالأمس في مناظرتنا إن الشياطين لا تستطيع أن تجد لها
مدخلاً إلى ذهن أحد أو جسده، وليس لها سلطان أن تسيطر على نفس أحدٍ ما لم تنزع
عنها كل الأفكار المقدسةوتجعلها فارغة فاقدة التأمل الروحي.

 يليق
بكم أن تعرفوا أن الأرواح الدنسة تطيع البشر بطريقين:

•       إما
بالنعمة الإلهية والسلطان الذي لقداسة المؤمنين.

•       أو
أن يكونوا مأسورين بذبائح الخطاة ويمارسون تلاوات معينة كعابدين للشياطين.

لقد
ضل الفريسيون بفهم خاطئ وتخيلوا أن الرب المخلص أعطى الأوامر للشياطين بهذه
الطريقة (أعمال السحر) إذ قالوا: “إنه ببعلزبول رئيس الشياطين يخرج
الشياطين”. هذا يتفق مع تلك الخطة التي عرفوا أن سحرتهم والعرّافين الذين لهم
– إذ يمارسون تلاوات لإبليس ويقدمون له الذبائح التي يُسر بها ويبتهج يصيرون له
كخدام يهبهم السلطان حتى على الشياطين الخاضعة له.

فصل
20: سأل جرمانيوس عن ما ورد في سفر التكوين عن الملائكة الساقطين إن كانوا قد
مارسوا علاقات جسدية مع بنات الناس (تك2: 6)، وما ورد في الإنجيل عن الشيطان أنه
كذاب وأبو الكذابين (يو44: 8)، ماذا يعني بقوله أب الكذابين؟

فصل
21: الإجابة عن السؤالين السابقين.

أجاب
الأب سيرينوس على السؤالين السابقين قائلاً:

[لا
يمكننا أن نعتقد بأن هذه الكائنات الروحية يمكن أن تمارس علاقات جسدية مع النساء.
لو كان هذا ممكنًا أن يتحقق حرفيًا، فلماذا لا يحدث الآن أيضًا، فإننا لا نرى
بطريقة ما أن نساء يحملن بواسطة شياطين بدون علاقة جسدية مع رجال؟ خاصة عندما يظهر
بوضوح أن الشياطين تجد لذة في إثارة الشهوة التي بالتأكيد كان الأفضل لها أن
تحققها بواسطتها مباشرة عن أن تتم خلال الرجال، لو كان ذلك ممكنًا لهم أن يمارسوه.
وكما يقول سفر الجامعة: “ما كان فهو ما يكون، والذي صُنع فهو الذي يُصنع فليس
تحت الشمس جديد. إن وجد شئ يُقال عنه: انظر، هذا جديد. فهو منذ زمان كان في الدهور
التي كانت قبلنا” (جا9: 1-10).

لكن
السؤال الذي طُرح يمكن أن يُحل بالطريقة التالية: بعد موت هابيل البار، لكي لا
يخرج كل الجنس البشري من صلب إنسان قاتل لأخيه وُلد شيث بدلاً من أخيه الذي قتل
(هابيل) ليحتل مكانه، ليس فقط بخصوص إنجاب الأجيال، بل وفي ممارسة العدالة والصلاح.
وجاء نسله يتبعون مثال صلاح أبيهم، صاروا دائمًا في عزلة عن الدخول في علاقات
(زيجية) مع قايين. فقد ظهر الاختلاف بين السلسلتين في الأنساب كما قيل لنا بوضوح: “آدم
ولد شيثًا، وشيث ولد أنوش، وأنوش ولد قينان، وقينان ولد مهللئيل، ومهللئيل ولد
يارد، ويارد ولد أخنوخ، وأخنوخ ولد متوشالح، ومتوشالح ولد لامك، ولامك ولد
نوحًا” (تك5). وجاءت سلسلة أنساب قايين منفصلة: “قايين ولد حنوك، وحنوك
ولد عيراد (قينان)، وعيراد ولد محويائيل، ومحويائيل ولد متوشائيل، ومتوشائيل ولد
لامك، ولامك ولد يابال ويوبال” (تك17: 4-21). وهكذا بقي خط الأنساب النابع من
صلب شيث البار يختلط مع بعضه البعض مستمرًا إلى فترة طويلة في قداسة آبائهم
وأسلافهم، لا يتلامسون مع تجاديف وشرور النسل الشرير المغروس فيه بذرة الخطية كما
لو كانت تتنقل من الأسلاف.

طالما
بقي هذا الانفصال بين الخطين: زرع شيث كمن صدر عن جذر ممتاز، دُعي بسبب قداسته
“ملائكة الله”، أو كما نسخها البعض “أبناء الله” (تك 2: 6
LXX). وعلى العكس دُعي الآخرون بسبب شرهم وشر آبائهم وتصرفاتهم
الأرضية “بنات الناس”.

بالرغم
من وجود الانفصال المقدس والنافع بينهما حتى هذا الوقت، فإنه بعد ذلك رأى أولاد
شيث الذين هم أبناء الله البنات اللواتي من نسل قايين، فالتهبت فيهم الشهوة بسبب
جمالهن، واتخذوا لهم منهن زوجات. علّمت الزوجات رجالهن شر آبائهن، واقتدن إياهم
بعيدًا عن القداسة الموروثة وبساطة الذهن التي لآبائهم. فانطبق عليهم بكل دقة هذا
القول: “أنا قلت إنكم آلهة وبنو العلي كلكم، لكن مثل الناس تموتون وكأحد
الرؤساء تسقطون” (مز 6: 82-7). هؤلاء سقطوا من الدراسة الحقيقية للفلسفة
الطبيعية التي تسلموها من أسلافهم، حيث تتبع الرجل الأول (آدم) دراسة كل الطبيعة
واستطاع أن ينالها بوضوح، وسلّمها إلى خلفه على أسس أكيدة، وذلك قدر ما رأى العالم
في بدء نشأته، حيث كان لا يزال الإنسان في رقته وبساطته كمن فيه ليس فقط كمال
الحكمة هذه، بل ونعمة النبوة التي وهبت له بالوحي الإلهي، حتى أنه بينما كان
ساكنًا في هذا العالم غير متعلم أعطى أسماء لكل الكائنات الحية، ولم يعرف فقط ثورة
كل أنواع الحيوانات والثعابين وسمومها، بل وميّز بين أنواع النباتات والأشجار
وطبائع الأحجار وتغيير الفصول التي لم يكن بعد قد اختبرها. استطاع أن يقول حسنُا: “الرب
وهب لي علمًا يقينًا بالكائنات حتى أعرف نظام العالم، وفاعلية العناصر، ومبدأ
الأزمنة ومنتهاها وما بينها، وتعاقب الاعتدالات وتغيير الفصول، ودوائر السنة
ومراكز النجوم، وطبائع الحيوانات وغرائز الوحوش، ونغمات الأرواح وخواطر البشر،
وأنواع النبات وخواص الجذور، فعرفت كل ما خفي وكل ما ظهر” (حك 17: 7-21).

تسلم
نسل شيث هذه المعرفة الخاصة بكل الطبيعة خلال تعاقب الأجيال التي تسلمتها من
الآباء، طالما بقيت الأجيال معتزلة الخط الشرير، إذ تتقبلها في قداسة، وتستخدمها
لمجد الله ولإشباع احتياجاتها اليومية.

لكن
إذ امتزجت بالجيل الشرير انسحبت نحو اقتراحات الشياطين وأفسدت استخدامها بطريقة
ضارة. فقدت المعرفة التي تعلمتها في براءة، وصارت تتعلم في حب استطلاع مع جسارة
بلا تعقل فنون السحر والتلاوات والخرافات. تعلمت الأجيال المتعاقبة أن تترك عبادة
الله المقدسة، وأن تكرم وتسجد للعناصر أو النار أو شياطين الهواء.]

يروي
بعد ذلك الأب سيرينوس كيف انتقلت فنون السحر وعبادة الأصنام والشياطين حتى بعد
الطوفان خلال الزيجات الخاطئة بين أولاد الله وبنات الناس.

فصل
22: اعتراض جرمانيوس على اعتبار الزواج بين أولاد الله من نسل شيث وبنات الناس من
نسل قايين خطية حيث لم تكن هناك شريعة تمنع ذلك.

فصل
23: يوضح الأب سيرينوس أن الناموس الطبيعي من البداية يمنع ذلك، لهذا تعرضوا
للعقوبة.

فصل
24: بعدل سقط أولاد الله الذين تزوجوا بنات الناس في العقوبة بالرغم من أنهم
أخطأوا قبل الطوفان.

فصل
25: أوضح الأب سيرينوس معنى ما ورد في الإنجيل عن الشيطان أنه كذاب وأنه أبو
الكذابين (يو44: 8).

[إنه
لأمر سخيف أن تتخيل هذا (أن الشيطان يلد أبناء) ولو على سبيل حب الاستطلاع. فإنه
كما قلنا منذ قليل أن الأرواح لا تلد أرواحًا، كما أن النفس لا تقدر أن تصدر نفسًا،
مع هذا لا نشك أن الجسد بصغره من زرع الإنسان. يميز الرسول بوضوح بين الحالتين، أي
بين الجسد والروح … “ثم قد كان لنا آباء أجسادنا مؤدبين وكنا نهابهم؛ أفلا
نخضع بالأولى جدًا لأبي الأرواح فنحيا؟!” (عب9: 12). أي شيء يمكن أن يكون
أكثر وضوحًا من هذا التمييز، حيث يوضح أن البشر هم آباء أجسادنا، ولكنه دائمًا
يعلِّم أن الله هو وحده أب النفوس.

مع
أن الأمر الأصغر الخاص بهذا الجسد… يُنسب للبشر، بينما الجزء الرئيسي لتكوين
الإنسان يشكله الله خالق الكل، يقول داود: “يداك خلقتاني وكوّنتاني” (مز
73: 119). ويقول الطوباوي أيوب: “ألم تصبني كاللبن، وخترتني كالجبن، كسوتني
جلدًا ولحمًا، فنسجتني بعظام وعصب؟!” (أي 10: 5،11). ويقول الله لإرميا: “قبلما
صورتك في الرحم عرفتك” (إر 5: 1). لكن سفر الجامعة يجمع بوضوح شديد ودقة
طبيعة بين العنصرين وبدايتهما… ونهاية كل منهما، فاصلاً بين الجسد والنفس بقوله: “فيرجع
التراب إلى الأرض كما كان، وترجع الروح إلى الله الذي أعطاها” (جا 7: 7).

هكذا
إذ خُلق الشيطان أيضًا روحًا، أو ملاكًا صالحًا، لم يكن له أب إلا الله خالقه. لكنه
عندما انتفخ بالكبرياء، وقال في قلبه: “أصعد فوق مرتفعات السحاب، أصير مثل
العلي” (إش14: 14) صار كذّابًا ولم يثبت في الحق (يو44: 7)، بل ولد كذبًا من
مخازن شره. صار ليس فقط كذابًا بل أبًا للكذب العملي. عندما وعد الإنسان بالألوهة
وقال: “تصيران كالله” تك5: 3 لم يثبت في الحق، بل كان منذ البدء قتّالاً
يجلب آدم إلى حالة الموت، وقتل هابيل بيد أخيه بناء على اقتراحٍ منه.

___________________

[1]
أرجو أن يسمح لنا الرب بنشر تعريب هذه المناظرة مع بقية نصوص كتابات القديس يوحنا
كاسيان التي لم تُعرب بعد في مجلد آخر.

[2]
الراعي لهرماس: ك2 وصية 6.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار