علم

المناظرة الثالثة



المناظرة الثالثة

المناظرة
الثالثة

مراحل
الزهد الثلاث وعمل النعمة في جهادنا للأنبا بفنوتيوس [1]

 

1-
سيرة الأنبا بفنوتيوس

في
وسط تلك الجوقة من القديسين الذين يتلألأون في ليل هذا العالم كنجوم لامعة، رأينا
الطوباوي بفنوتيوس مثل كوكب عظيم يضيء بنور المعرفة. يقطن هذا الشيخ في برية
الإسقيط في قلاية سكن فيها منذ صباه، تبعد خمسة أميال عن الكنيسة، ولم يتركها.
وبالرغم من شيخوخته إلا أنه لم يكف عن الذهاب إلى الكنيسة يومي السبت والأحد، بل
ويعود إلى قلايته حاملاً علي كتفيه إناء مملوءً ماءً يستخدمه طول الأسبوع. ولم يكن
يثقل علي الصغار بإحضار الماء له بالرغم من بلوغه التسعين من عمره.

سلك
هذا الأب في الرهبنة منذ صباه المبكر بغيرة متقدة، واقتنى الاتضاع في فترة قصيرة،
وصارت له معرفة بكل الفضائل الحميدة. وباتضاعه وطاعته أمات كل شهواته قامعًا
أخطائه، متمتعًا بالفضائل التي يتطلبها النظام الرهباني وتعاليم الآباء الأولين،
ملتهبًا بالغيرة علي مداومة النمو.

كان
أيضًا تواقًا نحو الانسحاب في داخل البرية منفردًا من غير أي صحبة بشرية تقلقه
وتعوق التصاقه بالله… وبغيرته المتزايدة فاق النساك في الفضيلة، كما برز في شوقه
نحو حياة التأمل الإلهي المستمر، متجنبًا رؤية الاخوة. ولقد كان يختفي عن الاخوة
فترات طويلة في مناطق قاحلة شديدة الوحشية والقسوة، حتى أن النساك أنفسهم كانوا
يقتدون به من وقت إلى آخر بكل مشقة… وكان يسود الاعتقاد بأن هذا الأب يتمتع
بالوجود في مجمع ملائكي يبتهج معهم يوميًا، لهذا لقبه البعض
Bufflo.

 

2-
حديثنا معه

وإذ
كنا مشتاقين إلى الاستماع إلى تعاليمه جئنا باهتمام إلى قلايته مساءً. وبعد فترة
وجيزة من السكون بدأ الشيخ يمدح اهتمامنا لأننا بسبب محبتنا لله تركنا منازلنا
وقمنا بزيارة الكثير من المواضع، محاولين أن نحتمل بكل طاقتنا متاعب البرية، مقتدين
بحياتهم القاسية التي يندر أن يقبلها حتى من بين أولئك الذين يولدون وينشأون في
حالة من العوز والاحتياج.

لقد
أحببنا المجيء بقصد الإنصات إلى التعاليم والإرشادات لنتعرف علي مبادئ رجل عظيم
كهذا، وندرك الكمال الذي سمعناه عنه من شهود قائمين معه. فنحن لم نأتِ لنسمع
مديحًا لا حق لنا فيه، أو لكي نزهو بغرور عقلي… من أجل هذا توسلنا إليه أن يقدم
لنا تعليمًا نتعلم به الاتضاع والتوبة لا أن نسمع ثناء ينفخنا.

 

3-
أنواع التكريس

قال
الطوباوي بفنوتيوس: للتكريس ثلاثة أنواع، كما نعرف أن هناك ثلاثة أنواع للزهد (أو
الترك) الذي هو لازم للراهب أيا كان تكريسه.

يلزمنا
أولاً: أن نختبر باجتهاد أن السبب في قولنا بوجود ثلاثة أنواع من التكريس، هو أنه
إذ نتأكد أننا قد دعينا لخدمة الله نتنبه ونحن في الدرجة الأولي من التكريس إن
كانت حياتنا تسير مع العلو الشاهق الذي دعينا إليه، لأنه باطلاً أن نبدأ بدءً
حسنًا ما لن نتطلع تجاه النهاية التي نُرسل إليها.

ثانيًا:
علي أي الأحوال من المفيد لنا أن نتعرف علي الجوانب المثلثة للزهد. لأنه لا يمكننا
بلوغ الكمال ما لم نتعرف عليها، أو إذا عرفناها ولم نعمل بها.

 

4-
أنواع الدعوة

الفارق
الرئيسي بين أنواع الدعوة الثلاثة هو أن النوع الأول مصدره الله، والثاني عن طريق
إنسان، والثالث بطريق الإلزام.

الدعوة
التي من الله تأتي خلال الوحي الذي يملك علي قلوبنا… إذ تتحرك فينا الرغبة في
الحياة الأبدية والخلاص فتأمرنا أن نتبع الله ونلتصق بوصاياه بقلب منسحق في حياة
مقدمة لله. ففي الكتاب المقدس نجد إبراهيم يدعوه صوت الله أن يترك أرضه وعشيرته
وبيت أبيه (تك1: 12). وسمعنا أيضًا عن الطوباوي أنطونيوس أنه دُعي بنفس الطريقة إذ
سمع صوت الله وحده… لأنه عندما دخل إلى الكنيسة سمع الإنجيل فيه يقول الرب: “إن
كان أحد يأتي إليَّ ولا يبغض أباهُ وأمَّهُ وامرأتهُ وأولادهُ واخوتهُ وأخواتهِ
حتى نفسهُ أيضًا فلا يقدر أن يكون لي تلميذًا” (لو26: 14)، “إن أردت أن
تكون كاملاً فاذهب وبِعْ أملاكك وأعطِ الفُقَرَاءَ فيكون لك كنز في السماءِ وتعال
اتبعني” (مت21: 19). لقد شعر في انسحاق قلبي أن هذا الحديث الإلهي موجه إليه
هو شخصيًا، ففي الحال ترك كل شيء وتبع السيد المسيح من غير أن ينتظر نصيحة أو
تعليم من إنسان.

والنوع
الثاني من التكريس وهو الذي يحدث عن طريق إنسان، أي عندما نسير مقتادين بآثار بعض
القديسين ونصائحهم فتلتهب فينا الرغبة في الخلاص. وإن كنا نثار بنصائح القديسين
الطيبة ونقتدي بهم، إلا أنه يجب ألا ننسى أن نعمة الله هي التي تدعونا وتعمل فينا
لنكرس نفوسنا ونقدمها للدعوة…

أما
النوع الثالث من التكريس فهو الذي يأتى بطريق الإلزام. فبينما ننشغل بغنى هذه
الحياة وأطايبها فجأة تلحق بنا تجربة فتهددنا بخسارة أو موت أحد أعزائنا… وهذا
يدفع بنا إلى الاقتراب نحو الله الذي استهنّا بالسير معه خلال أيام ترفنا…

 

5-
أهمية التطلع إلى الدرجة العالية من الزهد

وبالرغم
مما يبدو أن النوعين الأولين للدعوى متأسسين علي مبادئ أعظم، إلا أننا نجد أن
النوع الثالث (الذي مصدره الإلزام) ولو أنه أقل منهما لكن عن طريقه صار البعض
كاملين ومجتهدين في الروح… بينما نجد البعض ممن هم من النوع الأعلى أصيبوا
بالفتور وانتهت حياتهم بصورة محزنة…

مثال:
فالأب موسى الذي كان يقطن في برية
Calamus اضطر إلى الهرب إلى الدير خوفًا من الموت (الأبدي) بسبب جرائمه
مقدمًا توبة إجبارية، لكنه باختياره تسلق أعلي مرتفعات الكمال.

ومن
الجانب الآخر هناك كثيرون لا أستطيع أن أذكر أسماءهم دخلوا خدمة الله بأفضل بداية،
لكن تسلل الكسل والقسوة إلى قلوبهم، وسقطوا في جمود خطير، وانحدروا إلى عمق هاوية
الموت. ويظهر ذلك بوضوح في دعوة الرسل، لأنه أي نفع ناله يهوذا الذي احتضن بمحض
اختياره نعمة الرسولية العظمى، بنفس الطريقة التي سار فيها بطرس وغيره من الرسل
المدعوين، لكنه سمح لهذه البداية الرائعة لدعوته أن تُختم بنهاية مهلكة بسبب الجشع،
وصار مجرمًا قاسيًا حتى اندفع نحو خيانة الرب.

وما
الذي عاق بولس الذي صار أعمى فجأة، والذي كما لو كان قد سُحب بغير إرادته إلى
الخلاص، إذ تبع الله بغيرة روحية كاملة؟! وهكذا ابتدأ مجبرًا وكمل تكريسه بحرية
اختياره، بالغًا إلى نهاية مدهشة، متمتعًا بمجد أعمال مجيدة.

فالأمر
إذن يتوقف علي النهاية، فقد يبدأ شخص بتقديم توبة فائقة، لكنه يفشل خلال إهماله.
وآخر قد يسلك طريق الرهبنة جبرًا لكنه يبلغ الكمال خلال جهاده ومخافة الله.

 

6-
دعوة إبراهيم وأنواع الزهد

والآن
لنتحدث عن الزهد الذي أعلنه الكتاب المقدس والتقليد في أنواع ثلاثة. ليتأمله كل
إنسان بدقة لكي يصير كاملاً.

النوع
الأول هو الذي يختص بالجسد، فيزهد الإنسان الثروة والممتلكات التي في هذا العالم.

والنوع
الثاني فيه ننبذ أساليب السلوك والرذائل القديمة الخاصة بالروح والجسد.

والنوع
الثالث فيه تتحرر الروح من كل الحاضرات والمرئيات متأملة في الأبديات، فينشغل
القلب بغير المنظورات.

لقد
سمعنا أن الله طلب من إبراهيم أن ينفذ هذه الأنواع الثلاثة (من الزهد) دفعة واحدة
إذ قال له: “اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك” (تك1: 12). قال له
أولاً: “اذهب من أرضك”، أي من ممتلكات هذا العالم وغناه الأرضي. ثانيًا:
“من عشيرتك”، أي من حياتك السابقة بما فيها من عادات وخطايا تعلقت بك
منذ الميلاد الأول وارتبطت بك كما لو كانت رباطة صداقة وقربى. ثالثاً: “من
بيت أبيك”، أي من كل ما في العالم وتراه عينيك، فعن الأبوين[2] ينبغي ترك
أحدهما والبحث عن الآخر. إذ يقول داود في شخص الرب: “اسمعي يا بنت وانظري
وأميلي أذنكِ وانسَي شعبكِ وبيت أبيكِ” (مز10: 45)، فالذي يقول “اسمعي
يا بنت” بالتأكيد هو أب… ذاك الذي يطلب منها أن تترك شعبها (عاداتها
القديمة) وبيت أبيها، وهذا يحدث بالموت مع المسيح عن هذا العالم. وكما يقول الرسول:
“ونحن غير ناظرين إلى الأشياءِ التي تُرَى بل إلى التي لا تُرَى، لأن التي
تُرَى وقتيَّة وأما التي لا تُرَى فأبديَّة” (2كو18: 4). محوّلين عيوننا عن
هذا المسكن الزمني المنظور، رافعين عيون قلوبنا نحو الأمور الأبدية النافعة لنا.
وهذا يُمكِّننا النجاح فيه عندما لا نضاد الله ونحن في هذه الحياة، معلنين
بتصرفاتنا وأعمالنا عن طريق الحق الذي يقول عنه الرسول الطوباوي: “فإن سيرتنا
نحن هي في السموات” (في20: 3).

لقد
وُضعت الأسفار الثلاثة (الأمثال والجامعة ونشيد الأنشاد) بطريقة متناسبة مع أنواع
الزهد الثلاثة…

سفر
الأمثال يتفق مع النوع الأول من الزهد، حيث فيه نضغط علي شهوات الأمور الجسدية
والخطايا الأرضية.

وسفر
الجامعة يتناسب مع النوع الثاني إذ يعلن أن كل شيء تحت الشمس باطل.

وسفر
نشيد الأناشيد يناسب النوع الثالث حيث تسمو الروح عن كل المنظورات ملتصقة بكلمة
الله عن طريق التأمل في السماويات.

 

7-
خطورة التوقف عند الدرجة الأولي

إذا
نفذنا النوع الأول من الزهد بكل إخلاص وأمانة، فإننا لا ننتفع كثيرًا ما لم نكمله
بالنوع الثاني بنفس الغيرة والاشتياق. فإذا ما نجحنا في هذا يمكننا أن نبلغ النوع
الثالث حيث نخرج من “بيت أبينا” القديم، إذ “كُنَّا بالطبيعة
أبناءَ الغضب كالباقين أيضًا” (أف3: 2)، مثبتين أنظارنا تجاه العلويات.
ويُحدّث الكتاب المقدس أورشليم – التي احتقرت الله الأب الحقيقي- عن الأب القديم
قائلاً “أبوكِ أَموريّ، وأمك حثّيَّة” (حز2: 16). وفي الإنجيل جاء: “أنتم
من أبٍ هو إبليس وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا” (يو24: 8).

فإذ
نترك هذا الأب عابرين من المنظورات إلى غير المنظورات نستطيع أن نقول مع الرسل: “لأننا
نعلم أنهُ إن نُقِض بيت خيمتنا الأرضي فلنا في السموات بناء من الله بيت غير
مصنوعٍ بيدٍ أبديّ” 2(كو1: 5)، ونقول أيضًا: “فإن سيرتنا نحن هي في
السموات التي منها أيضًا ننتظر مخلّصًا هو الربُّ يسوع المسيح الذي سيغيّر شكل جسد
تواضعنا ليكون علي صورة جسد مجدهِ” (في20: 3،21)، وننطق بما يقوله داود
الطوباوي: “غريب أنا في الأرض” مز19: 119…

يلزمنا
أن نكون مثل أولئك الذين يُحدّث الرب أباه عنهم قائلاً في الإنجيل: “ليسوا من
العالم كما أني أنا لست من العالم” (يو16: 17)، وأيضًا محدثًا التلاميذ
أنفسهم قائلاً: “لو كنتم من العالم لكان العالم يحبُّ خاصَّتهُ. ولكن لأنكم
لستم من العالم بل أنا اخترتكم من العالم لذلك يبغضكم العالم” (يو19: 15).

إذن
يمكننا النجاح في بلوغ الكمال عن طريق النوع الثالث من الزهد حيث لا تتلطخ الروح
بوَصمات أثقال الجسد، إنما تنفضها عنها بكل عناية، متحررة من كل رغبة أو أمر أرضي،
فترتفع إلى غير المنظورات عن طريق التأمل المستمر في الأمور الإلهية.

وفي
بحثها عن العلويات والروحيات لا تعود تشعر بانجذاب إلى ذلك الجسد الضعيف وهيئته،
إنما تُمسك في “الذهن”، حتى أنه ليس فقط لا يسمع الإنسان بأذنيه
الخارجتين، أو لا ينشغل بالأمور الحاضرة، إنما لا يرى حتى ما في يديه ولو كانت
أمور ضخمة واضحة.

لا
يقدر أحد أن يدرك قوة ما أقوله ما لم يختبر ويتعلم هذا بالتجربة. فلا تتطلع عينيّ
روحه إلى الحاضرات، إنما ينظر إليها كأمور سريعة الزوال، بل ويراها أنها فعلاً قد
انتهت وباطلة وتشبه البخار المعتم. وبهذا يكون كأخنوخ الذي “سارمع الله”
(تك24: 5)، ولم يوجد في الحياة البشرية وعاداتها، أيّ لم يعد بين أباطيل هذه
الحياة.

هذا
ما حدث بالفعل بصورة مادية لأخنوخ كما يعلمنا سفر التكوين “وسار أخنوخ مع
الله ولم يوجد لأن الله أخذهُ” (تك24: 5). ويقول الرسول أيضًا “بالإيمان
نُقِل أخنوخ لكي لا يرى الموت” ذاك الموت الذي تحدث عنه السيد المسيح في
الإنجيل قائلاً: “وكلُّ مَنْ كان حيًّا وآمن بي فلن يموت إلى الأبد”
(يو26: 11).

فإن
كنا نتوق إلى بلوغ الكمال الحقيقي، يلزمنا أن نتطلع إلى الأبديات. فإن كنَّا حسب
الخارج لنا جسد، (لهذا ننشغل بآبائنا ومنازلنا وجاهنا ومباهج هذه الحياة)، لنترك
بقلوبنا من الداخل هذه الأمور ولا نعود نشتاق إلى ما قد تركناه، فلا نصير كأولئك
الذين قادهم موسى. لأن هؤلاء إن لم يرتدّوا بالجسد (حرفيًا)، غير أن قلوبهم قد
ارتدت إلى مصر، وذلك بتركهم الله الذي قادهم بعلامات قوية، وعودتهم إلى عبادة
تماثيل مصر التي حسبوا أنهم قد احتقروها. ويقول الكتاب: “ورجعوا بقلوبهم إلى
مصر قائلين لهرون اعمل لنا آلهة تتقدَّم أمامنا” (أع39: 7،40). وهكذا نسقط في
نفس اللعنة التي سقطوا فيها في البرية بعدما أكلوا المَنْ النازل من السماء،
مشتهين طعام الخطية النجس، أو بالأحرى راغبين في الانحطاط متذمرين معًا في نفس
الطريق (عد5: 11،18، خر3: 16)…

ويحدث
معنا نفس الأمر في سلوكنا وحياتنا، فالبعض بعدما يترك هذا العالم يعود مرة أخرى
إلى شهواته الأولي، متحولاً إلى ميوله السابقة الكائنة في قلبه، صانعًا ما صنعه
أولئك…

وإنني
أخشى أن يتزايد عددهم ليبلغ ذلك العدد المتخلف وراء موسى[3] إذ كانوا ثلاثة آلاف
وستمائة رجل مجنّد قد خرجوا من مصر ولم يدخل منهم إلى أرض الموعد سوى اثنين فقط.

ويلزمنا
أن نكون حذرين في ضرب الأمثلة الخاصة بالصالحين لأنهم قليلون ونادرون، إذ يتحدث
الإنجيل عن عددهم قائلاً: “لأنَّ كثيرين يُدعَون وقليلين يُنتَخبون” مت
14: 22.

فالترك
المادي (الجسدي) ومجرد تغيير المكان… (أي الخروج من العالم إلى الدير) ليس له أي
فائدة ما لم ننجح في أن يكون الترك من القلب، الأمر الأسمى والأقيم.

فعن
الترك الجسدي المجرد – الذي تحدثنا عنه – يقول الرسول: “وإن أطعمت كلَّ
أموالي، وإن سلَّمت جسدي حتى احترق، ولكن ليس لي محبة فلا أنتفع شيئًا” (1كو3:
13). فيتنبأ الرسول الطوباوي بأن بعضًا من الذين يقدمون كل أموالهم لأجل إطعام
الفقراء لا يستطيعون بلوغ الكمال الإنجيلي ومرتفعات المحبة الشاهقة. لأنه بينما
يحكم الكبرياء وعدم الصبر علي قلوبهم لا يحرصون علي نقاوة أنفسهم من جهة خطاياهم
السابقة وعاداتهم غير المضبوطة. وبذلك لا يقدرون أن يحصلوا علي محبة الله التي لا
تسقط. هؤلاء بفشلهم في بلوغ المرحلة الثانية من الترك لا يقدرون أن يصلوا إلى
المرحلة الثالثة التي هي بالتأكيد أكثر علوًا.

لتأخذ
في اعتبارك بحرص عظيم أنه لم يقل باطلاً: “إن أطعمت كلَّ أموالي”، لئلا
يظن أحد أنه يتحدث عمن لا ينفذ وصايا الإنجيل محتفظًا لنفسه بنصيب كأولئك الذين
يعرِّجون بين الفِرقتين. لذلك قال: “وإن أطعمت كلَّ أموالي”، بمعنى أن
تركه للعالم تركًا كاملاً. ويضيف إلي هذا الزهد أمرًا في منتهى الأهمية وهو
“وإن سلَّمت جسدي حتى احترق ولكن ليس لي محبة فلا أنتفع شيئًا”. بمعنى إذا
أطعمتُ كل أموالي للفقراء طبقًا لوصايا الإنجيل الذي يخبرنا: “إن أردت أن
تكون كاملاً فاذهب وبِعْ أملاكك وأعطِ الفُقَرَاءَ فيكون لك كنز في السماءِ”
(مت21: 19). أيّ تترك كل شيء من غير أن تترك لنفسك شيئًا، وهذا التوزيع للأموال
يضاف إليه الاستشهاد، باحتراق جسدي واعطائه للمسيح. فإنه إن كنت حاسدًا أو متكبرًا،
أو منجذبًا بخطايا أخرى، أو أنانيًا، أو منغمسًا في الأفكار الشريرة، أو غير مستعد
ولا صابر علي ما يحلّ بي، فإن هذا الترك أو الاحتراق الخاص بالإنسان الخارجي لا
ينفع شيئًا، لأن الإنسان الداخلي لا يزال مشغولاً بالخطايا السابقة.

لأنه
خلال غيرتك التي في الأيام الأولي للتوبة اهتميت بترك المادة (أي الخروج إلى الدير
والعطاء المادي)… هذه الغيرة ليست خيِّرة ولا شريرة في ذاتها، وهذا أمر ليس بذي
أهمية (ما لم يتبعه ترك داخلي في القلب). أي ما لم أهتم بطرد القوة الشريرة التي
للقلب الرديء بنفس الاهتمام (الخاص بالترك المادي)، وأهتم أن أنال محبة الله، وهي
أن أصبر وأترفق، ولا أحسد، ولا أتفاخر، ولا أنتفخ، ولا أطلب ما لنفسي، ولا أظن
السوء، وأحتمل كل شيء وأصبر علي كل شيء… (1كو4: 13-7)، وأخيرًا فإن المحبة لا
تترك من يتبعها لئلا يسقط في خداعات الخطية.

 

8-
ضرورة ممارسة الدرجة الثانية من الزهد

يجب
علينا أن نحرص تمام الحرص أن نطرد كل تلك الممتلكات التي للخطية في إنساننا
الداخلي ونقتلعها، تلك التي كانت مرتبطة بحياتنا المادية وملتصقة علي الدوام
بالجسد والروح. فإن لم ننبذها ونحن بعد في هذا الجسد، فإنها لا تكف عن الالتصاق
بنا حتى الموت.

فكما
أن الفضائل الجميلة والمحبة التي هي مصدر هذه الفضائل يمكننا أن نقتنيها في هذه
الحياة، فإنها تبقى مع من اقتناها بعد هذه الحياة وتجعله محبًا وممجدًا، هكذا
أيضًا أخطاؤنا تنتقل إلى حياتنا فتظلم عقلنا وتلطخه بصنوف القاذورات.

فجمال
الروح أو قبحها هو نتيجة فضائلها أو رذائلها. فباللون الذي تصطبغ به تصير ممجدة
حتى تسمع من النبي: “فيشتهي الملك حسنكِ” (مز11: 45)، أو يجعلها سوداء
وقبيحة وقذرة، وتتأكد من نتانة عارها قائلة: “قد أنتنت قاحت حُبُر ضربي من
جهة حماقتي” (مز5: 38). ويحدثها الله ذاته قائلاً: “فلماذا لم تُعصَب
بنت شعبي؟” (إر22: 8).

وبهذا
تبقى معنا ممتلكاتنا في روحنا علي الدوام، هذه التي لا يستطيع أن يغتصبها منا أي
ملك أو عدو.

هذه
هي الممتلكات التي لا يستطيع حتى الموت أن ينزعها عن أرواحنا…

 

9-
أنواع الممتلكات والغنى

يذكر
الكتاب المقدس ثلاثة أنواع من الغنى أو الممتلكات ما هو صالح، وما هو رديء، وما هو
ليس بالصالح ولا الرديء.

فالممتلكاتالرديئة
تلك التي قيل عنها: “الأشبال احتاجت وجاعت” (مز 10: 34)، “ولكن ويل
لكم أيُّها الأغنياءُ، لأنكم قد نلتم عزاءَكم” (لو24: 6). انتزاع هذا الغنى
فيه سمو في الكمال، إذ يقول الرب عن الفقراء (الذين ليس لهم هذا الغنى): “طوبى
للمساكين بالروح، لأن لهم ملكوت السماوات” (مت3: 5)، وجاء في المزمور: “هذا
المسكين صرخ والربُّ استمعهُ” (مز 6: 34)، وأيضًا “الفقير والبائس
ليسبحا اسمك” (مز 21: 74).

والغنى
(الممتلكات) الصالح هو ما يمتلكه مقتنى الفضائل… صانع البر الذي يمدحه النبي داود
قائلاً: “نسلهُ يكون قويًّا في الأرض. جيل المستقيمين يُبارَك. رغد وغنًى في
بيتهِ وبُّرهُ قائِم إلى الأبد” (مز 2: 112، 3). وأيضًا “فدية نفس رجلٍ
غناهُ” (أم 8: 13). ويتحدث سفر الرؤيا إلى المفتقر والمُعدم من هذا الغنى
قائلاً: “أنا مزمع أن أتقيَّأَك من فمي. لأنك تقول إني أنا غنيّ وقد استغنيت
ولا حاجة لي إلى شيءٍ ولست تعلم أنك أنت الشقي والبئس وفقير وأعمى وعريان. أشير
عليك أن تشتري مني ذهبًا مصفًّى بالنار لكي تستغني. وثيابًا بيضًا لكي تلبس فلا
يظهر خزي عريتك” (رؤ 16: 3-18).

هناك
أيضًا الغنى الذي ليس بصالح ولا رديء، فيمكن أن يكون صالحًا أو رديئًا حسب رغبة
مُستخدمه وشخصيته. وفي ذلك يقول الرسول الطوباوي: “أَوصِ الأغنياءَ في الدهر
الحاضر أن لا يستكبروا ولا يُلقوا رجاءَهم علي غير يقينيَّة الغنى بل علي الله
الحي الذي يمنحنا كلَّ شيءٍ بغنًى للتمتُّع. وأن يصنعوا صلاحًا، وأن يكونوا
أغنياءَ في أعمالٍ صالحة وأن يكونوا أسخياءَ في العطاءِ كرماءَ في التوزيع.
مدَّخرين لأنفسهم أساسًا حسنًا للمستقبل لكي يمسكوا بالحياة الأبدية” (1 تى
17: 6-19). هذا الغنى احتفظ به الغني المذكور في الإنجيل ولم يقبل أن يُعطي
للفقراء، بينما كان لعازر المسكين ملقيًا عند بابه يرغب أن يقتات بالفتات الساقط
من مائدته، لذلك عوقب بالنيران غير المحتملة ولهب جهنم الأبدية.

 

10-
حاجتنا لله كمعين في الترك

في
ترك الأشياء المنظورة التي في هذا العالم لا نترك ما هو ليس لنا بالرغم من أننا
استحوزنا عليه بمجهودنا أو ورثناه عن أجدادنا. وكما أقول أنه ليس هناك شيء مِلك
لنا فيما عدا ما يملكه قلبنا وما تلتصق به روحنا، الأمر الذي لا يقدر أحد أن ينزعه
عنا.

لقد
نطق السيد المسيح بعبارات اللوم بالنسبة للأغنياء، الذين يتمسكون بالغنى المنظور،
كأنه مِلك لهم، رافضين أن يساهموا بنصيب منه للمحتاجين، فيقول: “وإن لم
تكونوا أمناءَ في ما هو للغير فَمنْ يعطيكم ما هو لكم؟!” (لو12: 16). واضح
إذن أنه ليس فقط خبرتنا اليومية، تعلمنا بأن هذا الغنى ليس مِلكًا لنا، بل هذا ما
ينطق به إلهنا أيضًا…

ويقول
بطرس للرب عن هذا الغنى المنظور: “ها نحن قد تركنا كلَّ شيءٍ وتبعناك. فماذا
يكون لنا؟” (مت27: 19)، مع أنهم لم يتركوا شيئًا سوى الشباك البالية. لذلك
فإن عبارة: “تركنا كل شيء” يفهم منها ترك الخطايا التي هي بالحقيقة أهم
وأخطر. فإن ترْك التلاميذ لممتلكاتهم الأرضية المنظورة تركًا تامًا، ليس سببًا
كافيًا لينعموا بالمحبة الرسولية، ويتسلقوا بشوق واجتهاد المرحلة الثالثة من الترك،
التي هي شاهقة وتخص قليلين.

كم
بالأحرى يلزم أن يفكر في أنفسهم أولئك الذين لم يستطيعوا أن يسيروا في الخطوة
الأولي السهلة بطريقة كاملة، محتفظين بضعف إيمانهم بجانب غناهم السابق الدنيء،
ظانّين في أنفسهم أنهم يفتخرون لمجرد تسميتهم رهبانًا؟!

فالنوع
الأول من الترك، هو ترك ما هو ليس لنا (أيضًا الممتلكات الأرضية)، وهذا لا يكفي
لمنحنا الكمال ما لم نسمو إلى النوع الثاني الذي فيه ترك الأمور التي تخصنا (أيضًا
العادات والرذائل الملتصقة بالنفس). وإذ ننبذ كل أخطائنا نصعد إلى مرتفعات النوع
الثالث أيضًا حيث نسمو لا علي مجرد الأشياء التي في هذا العالم أو التي تخص البشر،
بل نسمو علي العالم كله الذي هو حولنا والذي يبدو مجيدًا، ناظرين إليه بقلبنا
وروحنا أنه باطل وسريع الزوال، فنتطلع إليه كقول الرسول: “ونحن غير ناظرين
إلى الأشياءِ التي تُرَى بل إلى التي لا تُرَى. لأن التي تُرَى وقتيَّة وأما التي
لا تُرَى فأبديَّة” (2 كو18: 4).

يلزمنا
أن ننصت إلى النصيحة العظمى التي قُدِّمت لإبراهيم: “اذهب إلى الأرض التي
أُريك” (تك1: 12). وهذه تعلن بأنه ما لم ينفذ الإنسان الأنواع الثلاثة من
الزهد بكل شوق لا يقدر أن يصل إلى هذه المرحلة الرابعة التي توهب كإكليل وحق من
أجل ما نزهده بالكامل. فيصير الإنسان مستحقًا أن يدخل أرض الموعد (السماويات) التي
من أجلها يحتمل شوك الخطية وحسكها. فعندما تزول الآلام (الخطية) بواسطة نقاوة
القلب حتى وهو في الجسد حينئذ يربح أرض الموعد، لا من أجل أعماله الفاضلة
ومجهوداته البشرية، بل كوعد الله نفسه أن يرينا إياها قائلاً لنا: “اذهب إلى
الأرض التي أُريك”. مُظهرًا بهذا أن بداية ثمار الخلاص تأتي من وعد الله
القائل: “اذهب من أرضك” وأيضًا هي عطية منه حيث يتم الكمال والنقاوة
ويتحقق القول: “اذهب إلى الأرض التي أُريك” (تك1: 12). فهي أرض لا تقدر
أن تعرفها أو تكتشفها بمجهودك الذاتي بل الأرض التي “أُريك إياها” أي
التي تجهلها ولم ترها.

بهذا
يتضح أننا نسرع في طريق الخلاص، خلال تفاعلنا بوحي الله، حتى أنه بواسطة إرشاد
توجيهاته وعمله فينا ننال كمال البركة العظمى.

 

11-
سؤال: عن حرية الإرادة

جرمانيوس:
إذن أين هي حرية الإرادة؟ وكيف يمكن أن نكون مستحقين للكرازة كثمرة للجهاد ما دام
الله هو الذي يبتدئ وهو الذي يختم كل شيء فينا بخصوص خلاصنا؟

 

12-
بفنوتيوس: …نحن نعرف أن الله يخلق لنا فرصًا للخلاص بشتى الطرق، لكن يمكننا أن
نستخدم هذه الفرص باجتهاد أعظم أو أقل. فالله يقدم فرصة كقوله: “اذهب من
أرضك”، لكن الطاعة من اختصاص إبراهيم الذي أطاع وذهب منها. ففي القول: “اذهب
إلى الأرض” تحمل معنى العمل، عمل ذاك الذي أطاع، وفي القول: “التي أُريك
” تحمل نعمة الله الذي أوصاه أو وعده.

من
المفيد لنا أن نتأكد أنه بالرغم من أننا نجاهد في كل الفضائل جهادًا غير باطل،
لكننا لا نستطيع بلوغ الكمال بجهدنا وغيرتنا، فلا يكفي نشاط الإنسان وجهاده المجرد
للبلوغ إلى عطية النعمة الغنية ما لم يصن جهاده بالتعاون مع الله، وتوجيهات الله
لقلبه نحو الحق.

لهذا
ينبغي علينا أن نصلي في كل حين قائلين مع داود: “تَمَسَّكَتْ خطواتي بآثارك
فما زلَّت قدمايَ” (مز 5: 17)، “وأقام علي صخرةٍ رجليَّ. ثبَّت
خطواتي” (مز 2: 40). الله هو المدبر لقلوبنا غير المنظورة، والذي يقدر أن
يوجه رغباتنا نحو الفضيلة، لأن لديها الاستعداد للانحراف نحو الرذيلة، إما بسبب
نقص معرفتها للخير أو للذتها بالألم (الشهوة). ويظهر ذلك بوضوح في قول النبي: “دحرْتني
دحورًا لأسقط”، معلنًا ضعف إرادتنا الحرة. ثم يقول: “وأما الرب
فعضدني” (مز 13: 118)، معلنًا عون الله لإرادتنا.

هكذا
نحن لا نهلك إذ لضعف حرية إرادتنا، لأن الله يعضدنا ويعيننا باسطًا يديه لنا.
فبالقول: “إذا قلت قد زلّت قدمي” يقصد زلّت إرادتي، وبالقول: “فرحمتك
يا رب تعضدني” (مز18: 94) يظهر عون الله لضعفنا، معترفًا أنه ليس بمجهودنا
الذاتي بل برحمة الله لنا لا تزل أقدام إيماننا.

كذلك
“عند كثرة همومي في داخلي” تلك الهموم التي تنبع بالتأكيد من إرادتي
الحرة، “تعزياتك تلذذ نفسي” (مز19: 94)، بدخول التعزيات في قلبي عن طريق
الوحي، معلنة صورة البركات العتيدة التي أعدها الله للذين يعملون في اسمه، هذه
التعزيات ليس فقط تنزع الهموم من القلب بل، وتنعم عليه بالابتهاج العظيم.

وأيضًا
“لولا أن الرب معيني لسكنت نفسي سريعًا أرض السكوت” (مز17: 94). هنا
يعلن أنه بسبب ضعف إرادتنا الحرة نسكن في الجحيم (أرض السكوت) لو لم ينقذنا عون
الله وحمايته…

هذا
أيضًا يقال بخصوص النقاوة الكاملة، فإنه لا يقدر أحد بذاته أن يطلب البر، ما لم
تمد الرحمة الإلهية يدها، وتعينه عند تعثره وسقوطه في كل لحظة، وإلا سقط وهلك وذلك
عندما يزلّ بسبب ضعف إرادته الحرة.

 

13-
الله هو المعين في حياة الفضيلة

بالحق
إن القديسين لا يقولون قط بأنهم قد بلغوا ذلك الطريق، الذي يسلكونه بتقدم وكمال في
الفضيلة، بجهادهم الذاتي، إنما بفضل الله قائلين: “درّبني في حقك” (مز5:
25).

 

14-
الله هو المعين في معرفة الناموس

حتى
في السعي للوصول إلى معرفة الناموس ذاته لا يتأتى من مجرد النشاط في القراءة بل
بإرشاد الله لنا واستنارتنا به، إذ يقول المرتل: “طرقك يا ربُّ عرّفني.
سُبُلك علمني” (مز 4: 25). و”اكشف عن عينَّي فأرى عجائب من شريعتك”
(مز 18: 119). و”علمني أن أعمل رضاك لأنك أنت إلهي” (مز 10: 143).
وأيضًا “المعلم الإنسان معرفًة” (مز 10: 94).

 

15-
الله هو المعين في فهم الناموس

وأكثر
من هذا يسأل داود الله طالبًا الفهم حتى يدرك وصايا الله، بالرغم من معرفته معرفة
تامة أنها مكتوبة في كتاب الشريعة، فيقول: “عبدك أنا. فهّمني فأعرف
شهاداتك” (مز 125: 119).

بالتأكيد
كان لدى داود الفهم الموهوب له بالطبيعة، كما كان لديه إلمام تام بمعرفة وصايا
الله المحفوظة في كتاب الشريعة، ومع هذا نجده يظل مصليًا إلى الله لكي يعلمه
الشريعة بإتقان …فما حصل عليه من فهم حسب الطبيعة لا يكفيه، ما لم ينر الله علي
فهمه يوميًا، لكي يفهم الشريعة روحيًا، ويعرف وصاياه بوضوح.

كذلك
أعلن الإناء المختار هذا الأمر “لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن
تعملوا من أجل المسرَّة” (في 13: 2). أي وضوح أكثر من هذا أن مسرتنا وكمال
عملنا يتم فينا بالكمال عن طريق الله؟! وأيضًا “لأنه قد وهب لكم لأجل المسيح
لا أن تؤمنوا به فقط بل أيضًا أن تتألموا لأجله”، وهنا يعلن بأن توبتنا
وإيماننا واحتمالنا للآلام هذا كله عطية من الله.

يعلم
داود أيضًا بذلك فيصلي مثله لكي يوهب له هذا من قبل رحمة الله، قائلاً: “أيّد
يَا الله هذا الذي فعلتهُ لنا” (مز 28: 68)، مظهرًا أنه لا يكفي فقط أن يوهب لنا
بداية الخلاص كهبة ونعمة من قبل الله، بل ويلزم أن يكمل ويتمم بنفس تحننه وعونه
المستمر.

لأن
ليس بإرادتنا الحرة، إنما “الرب يطلق الأسرى”،

ليس
بقوتنا، لكن “الرب يُقوّم المُنحنين”،

ليس
بالنشاط في القراءة، بل “الرب يفتح أعين العُمْي”،

ليس
نحن الذين نعتني بل “الرب يحفظ الغرباءَ”،

ليس
نحن الذين نُعضد، إنما الله “يُعضد اليتيم والأرملة”)مز7: 146-9(.

ما
أقوله هذا لا يعني أننا نستهين بغيرتنا وجهودنا ونشاطنا كأنها غير ضرورية، أو
نستخدم الحماقة، بل ينبغي علينا أن نعرف أننا لا نستطيع أن نجاهد بدون معونة الله،
ولا يصير لجهادنا أي نفع للحصول علي عطية النقاوة العظمى، ما لم توهب لنا بواسطة
المعونة والرحمة الإلهية، لأن “الفرس مُعدّ ليوم الحرب. أما النُصرة فمن
الرب” (أم 31: 21)، “لأنهُ ليس بالقوَّة يغلبُ إنسان” (1 صم 9: 2).

يلزمنا
أن نسبَح مع الطوباوي داود قائلين: “قوتي وترنمي” ليس بإرادتي الحرة
ذاتها. ولكن “الرب وقد صار لي خلاصًا”.

لم
يكن معلم الأمم جاهلاً بهذا عندما أعلن أنه قد صار كُفء ليكون خادمًا للعهد الجديد،
ليس بحسب استحقاقه وجهاده بل برحمة الله، “ليس أننا كفاة من أنفسنا أن نفتكر
شيئًا كأنهُ من أنفسنا بل كفايتنا من الله الذي جعلنا كفاةً لأن نكون خدام عهد
جديد” (2كو 5: 3، 6).

 

16-
الله هو المعين في نوال الإيمان

قد
تحقق الرسل تمامًا أن كل ما يخص الخلاص يُعطى من الله حتى أنهم سألوا الإيمان نفسه
كهبة من الله قائلين: “زِدْ إيماننا” (لو5: 17)، إذ لم يستطيعوا أن
يتصوروا أنه يمكن الحصول عليه بإرادتهم الحرة ذاتها بل آمنوا أنها منحة من الله.

وأخيرًا
فإن واهب الخلاص يعلمنا عن ضعف كفاية إيماننا وعدمها ما لم تدعم بالعناية الإلهية،
وذلك عندما قال لبطرس: “سمعان، سمعان، هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم
كالحنطة. ولكني طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك” (لو31: 22،32).

وآخر
أيضًا وجد أن إيمانه قد أنتزع بموجات الشك وسُحب علي الصخور فهلك هلاكًا مريعًا،
لذلك صرخ إلى الرب ذاته طالبًا عونًا لإيمانه قائلاً: “أُومن يا سيّد،
فأَعِنْ عدم إيماني” (مر24: 9).

إن
كنا قد وجدنا بطرس محتاجًا إلى عناية الله لحفظه من السقوط، لذلك فمن يظن أنه غير
محتاج إلى معونة الله الدائمة لحفظ إيمانه يكون متجاسرًا وأعمى، خاصة وأن الرب
نفسه أوضح في الإنجيل قائلاً: “كما أن الغصن لا يقدر أن يأْتي بثمرٍ من ذاتهِ
إن لم يثبت في الكرمة، كذلك أنتم أيضًا إن لم تثبتوا فيَّ” (يو4: 15)، وأيضًا
“لأنكم بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا” (يو5: 15). فكم غباوة وشر أن
ننسب الأعمال الصالحة إلى جهادنا الذاتي وليس إلى نعمة الله وعنايته، وهذا ما وضح
بجلاء في قول الرب حيث أعلن بأنه لا يقدر أحد أن يُظهر ثمار الروح بدون وحيِه
وعونه. لأن “كلَّ عطَّيةٍ صالحةٍ وكل موهبةٍ تامة هي من فوق نازلةً من عند
أبي الأنوار” (يع17: 1)… ويوافق الرسول الطوباوي قائلاً: “وأيُّ شيءٍ
لك لم تأخذهُ؟! وإن كنت قد أخذت فلماذا تفتخر كأنك لم تأخذ” (1كو7: 4).

 

17-
الله هو المعين في احتمال التجارب

ما
نحتمله من تجارب تحل بنا لا يعتمد علي قوتنا قدر ما هو علي مراحم الله وإرشاده، إذ
يعلن الرسول الطوباوي قائلاً: “لم تُصِبكْم تجربة إلاَّ بشريَّة. ولكن الله
أمين الذي لا يدعكم تُجَّربون فوق ما تستطيعون، بل سيجعل مع التجربة أيضًا المنفذ
لتستطيعوا أن تحتملوا” (1كو13: 10).

يُعدّ
الله أرواحنا ويقويها لكل عمل صالح، ويعمل فينا كل ما يسره. ويعلمنا بذلك الرسول
قائلاً: “وإله السلام الذي أقام من الأموات راعي الخراف العظيم ربَّنا يسوع
المسيح بدم العهد الأبدي ليكمّلكم في كل عملٍ صالح لتصنعوا مشيئَتهُ عاملاً فيكم
ما يُرضِي أمامه” (عب20: 13،21). وقد توسل من أجل أهل تسالونيكي ليتم معهم
نفس الأمر، قائلاً: “وربنا نفسهُ يسوع المسيح والله أبونا الذي أحبَّنا
وأعطانا عزاءً أبديًّا ورجاءً صالحًا بالنعمة يعزّي قلوبكم ويثبتّكم في كل كلام
وعملٍ صالحٍ” (2تس16: 2،17).

 

18-
الله هو المعين في نوال المخافة الإلهية

وأخيرًا
فإن إرميا النبي يتحدث علي لسان الله مقررًا بوضوح أن مخافة الله التي بها نثبت
فيه تنسكب علينا منه، فيقول: “وأعطيهم قلبًا واحدًا وطريقًا واحدًا ليخافوني
كل الأيام لخيرهم وخير أولادهم من بعدهم. وأقطع لهم عهدًا أبديًّا أني لا أرجع
عنهم لأحسن إليهم وأجعل مخافتي في قلوبهم فلا يحيدون عني” (إر39: 32،40).
ويقول حزقيال أيضًا “وأعطيهم قلبًا واحدًا وأجعل في داخلكم روحًا جديدًا،
وأنزع قلب الحجر من لحمهم، وأعطيهم قلب لحمٍ لكي يسلكوا في فرائضي ويحفظوا أحكامي
ويعملوا بها ويكونوا لي شعبًا فأنا أكون لهم إلهًا” (حز19: 11،20).

 

19-
الله هو المعين في الإرادة الصالحة

تنفيذ
الأعمال الصالحة هو هبة من الله في نفس الطريق… ومع ذلك فنحن نستحق الجعالة أو
العقاب، لأنه يمكننا أن نجتهد أو نهمل في تفاعلانا مع عمل الله وترتيب العناية
الإلهية الموضوعة من أجلنا باهتمام عظيم. وقد وصف هذا بوضوح في سفر التثنية (بصورة
رمزية) قائلاً: “متى أتى بك الرب إلهك إلى الأرض التي أنت داخل إليها
لتمتلكها وتطرد شعوبًا كثيرة من أمامك الحثّيين والجرجاشيين والأموريين
والكنعانيين والفرزّيين والحويّين واليبوسيين سبع شعوب أكثر وأعظم منك ودفعهم الرب
إلهك أمامك وضربتهم فإنك تحرّمهم. لا تقطع لهم عهدًا ولا تشفق عليهم ولا
تصاهرهم” (تث1: 7-3).

لقد
أعلن الكتاب بأن العطية الإلهية الخاصة بالحرية ليست إجبارية وهي أن يأتي بهم إلى
أرض الميعاد… لكن في مقدورهم أن يخالفوا ذلك. من هذا نستطيع أن نرى بوضوح ما
ننسبه لإرادتنا الحرة، وما ننسبه لمواعيد وعلامات العناية الإلهية الدائمة. ففرص
الخلاص والتدابير الناجحة والنصرة تخص النعمة الإلهية، ونحن علينا إما أن نطيع
بشغف أو نهمل البركات الممنوحة لنا من قبل الله…

 

20-
الله هو الذي يريد أو يسمح بالأمور أن تحدث

يليق
بنا أن نقول بإيمان مستقيم أنه لا يحدث شيء في هذا العالم بدون سماح الله. وعلينا
أن نعرف أن كل شيء يحدث إما بإرادته أو بسماح منه، فكل ما هو خيّر يحدث بإرادة
الله وعنايته، وكل ما هو ضدّ ذلك يحدث بسماح منه، متى نزعت حماية الله عنا بسبب
خطايانا أو قسوة قلوبنا، أو سماحنا للشيطان أو الأهواء الجسدية المخجلة أن تتسلط
علينا.

يعلمنا
الرسول بذلك مؤكدًا “لذلك أسلمهم الله إلى أهواءِ الهوان” (رو26: 1).

وأيضًا
“كما لم يستحسنوا أن يبقوا الله في معرفتهم أسلمهم الله إلى ذهنٍ مرفوض
ليفعلوا ما لا يليق” رو28: 1.

ويقول
الله بالنبي: “فلم يسمع شعبي لصوتي وإسرائيل لم يرضَ بي. فسلمتهم إلى قساوة
قلوبهم. ليسلكوا في مؤَامرات أنفسهم” (مز11: 81، 12[4])…

 

ملخص
المبادئ


تأتي الدعوة لتكريس القلب لله بطرق ثلاث:

•من
الله مباشرة، كأن يكون ذلك بالتفاعل مع وصية من وصايا الكتاب المقدس، فيتوب
الإنسان ويسلم قلبه للرب، وقد يشتاق إلى حياة التكريس الكامل للعبادة فيترك العالم
ليحيا راهبًا.

•عن
طريق الاقتداء بالغير، وهنا يرجع الفضل أيضًا إلى عمل النعمة الإلهية فينا.

•عن
طريق الأحزان والتجارب، إذ ينزعنا الله من حياة الترف، لكي ما نعرف حقيقة الحياة
الزائلة ونطلب الحياة الباقية – وهنا أيضًا بدون نعمة الله يسقط الإنسان في الكفر
واليأس بدلاً من أن تدفعه التجربة للحياة مع الله.


الطريق الثالث يبدو أنه أدنى الطرق، لكن كثيرين بدءوا به وارتفعوا إلى قمم كمال
الحب والعشق الإلهي خلال الجهاد والمثابرة بفضل النعمة الإلهية. وعلي العكس كثيرون
بدءوا الحياة مع الله بالحب لكنهم خلال التراخي والكسل انحرفت حياتهم.


يأخذ الزهد مراحل ثلاث أو درجات ثلاث:

•الترك
المادي كأن يترك الإنسان بعض أو كل ممتلكاته الأرضية وهنا يترك الإنسان ما ليس له.

•ترك
السلوك القديم، أي مما في داخله.

•ترك
الأرضيات وارتفاع القلب في السماويات.


التوقف عند أي درجة معناه جمود حياة الإنسان، لذا لا يكفي أن نترك الماديات حتى إن
وزعنا كل شيء وخرجنا إلى الدير، إنما لنجاهد في ترك عاداتنا بنعمة الرب، وهذا
أيضًا لا يكفي، إنما لتتحرر أذهاننا وترتفع قلوبنا لتعيش متأملة في السماويات.


يحتاج هذا الترك في أي صورة من صوره إلى جهاد الإنسان المستند علي قوة عمل النعمة
والعناية الإلهية. فالله هو الذي يعين الإنسان في التعرف علي الفضيلة تعرفًا
عمليًا إختباريًا. وهو الذي يكشف الناموس وينير فهمنا لندركه إدراكًا سريًا روحيًا
تتذوقه النفس وتختبر قوته. وهو المعين في التجارب. وهو الذي يسمِّر خوفه فينا فلا
نحيد عنه.

 ______________________________________

[1]
موجهة للذين يظنون أن حياة النسك (الترك) تعتمد على جهادهم الذاتي ونشاطهم وغيرتهم
متناسين عمل نعمة اللُّه وعنايته، لهذا يركز الأب في حديثه على النعمة من غير أن
يتجاهل ضرورة الجهاد والمثابرة.

[2]
يقصد الأب الأرضي والأب السماوي.

[3]
يظهر دائمًا في كتابات الكنيسة الأولى كيف أن ما جاء في العهد القديم بصورة مادية
إنما هو رمز لما تم بصورة روحية بعد مجيء المسيح.

[4]
تحدث بعد ذلك في نفس الموضوع كيف أن الإنسان حر الإرادة له أن يقبل الوصايا أو
يرفضها، ولكن قبوله لها يحتاج إلى نعمة اللَّه وعنايته لكي تسنده. ثم اختتم الحديث
بأنه انتهى في منتصف الليل وهم مشتاقين إلى الزهد في مراحله الثلاثة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار