التجلى
التجلى
كيرلس
الأسكندرى
”
ولكن الحق أقول لكم، إن قومًا من القيام ههنا لا يذوقون الموت حتى يروا ملكوت الله.
وبعد هذا الكلام بنحو ثمانية أيام، أخذ بطرس ويوحنا ويعقوب، وصعد إلى الجبل ليصلى.
وفيما هو يصلى صارت هيئة وجهه متغيرة، ولباسه مبيضًا لامعًا مثل البرق. وإذا رجلان
يتكلمان معه وهما موسى وإيليا، اللذان ظهرا بمجد وتكلما عن خروجه الذى كان عتيدًا
أن يكمله فى أورشليم. وأما بطرس واللذان معه فكانوا قد تثقلوا بالنوم. فلما
استيقظوا رأوا مجده والرجلين الواقفين معه. وفيما هما يفارقانه قال بطرس ليسوع يا
معلم جيد أن نكون ههنا. فلنصنع ثلاث مظال. لك واحدة ولموسى واحدة ولإيليا واحدة
وهو لا يعلم ما يقول. وفيما هو يقول ذلك كانت سحابة فظللتهم. فخافوا عندما دخلوا
فى السحابة. وصار صوت من السحابة قائلاً هذا هو ابنى الحبيب. له اسمعوا. ولما كان
الصوت وُجد يسوع وحده. وأما هم فسكتوا ولم يخبروا أحدًا فى تلك الأيام بشىء مما
أبصروه. ” (لو27: 936).
إن
أولئك الماهرون فى المصارعة يفرحون حينما يصفق المشاهدون لهم، ويرتفعون إلى مستوى
عالٍ ومجيد من الشجاعة بواسطة رجاء الحصول على أكاليل النصر، وهكذا أيضًا أولئك
الذين يرغبون أن يُحسبوا أهلاً للمواهب الإلهية، والذين يتعطشون أن يصيروا شركاء
الرجاء المعد للقديسين، فإنهم يدخلون المعارك لأجل التقوى من نحو المسيح، ويسلكون
حياة زكية، ولا يركنون إلى الكسل فى عدم شكر، ولا يغرقون فى جبن وضيع، بل بالحرى،
يقاومون برجولة كل تجربة، ويبطلون عنف الاضطهادات، إذ هم يحسبونه ربحًا أن يتألموا
من أجله، لأنهم يتذكرون أن بولس المبارك يكتب هكذا: ” آلام الزمان الحاضر لا
تُقاس بالمجد العتيد أن يُستعلن فينا ” (رو18: 8).
لذلك،
لا حظوا كيف هى جميلة جدًا الطريقة التى يستعملها هنا أيضًا ربنا يسوع المسيح
لمنفعة وبنيان جماعة الرسل. لأنه قال لهم: ” إن أراد أحد أن يأتى ورائى،
فلينكر نفسه ويحمل صليبه كل يوم، ويتبعنى، لأن من يخلص نفسه يهلكها، ومن يضيع نفسه
لأجلى يجدها ” (مت24: 16،25). الوصية هى حقًا لأجل خلاص القديسين ولأجل
كرامتهم معًا، وهى تؤدى لأعلى مجد، وهى طريق الفرح الكامل، لأن اختيار التألم لأجل
المسيح، ليس واجبًا لا شكر فيه، بل بالعكس يجعلنا مشاركين فى الحياة الأبدية وفى
المجد المُعد. ولكن لأن التلاميذ لم يكونوا قد حصلوا بعد على القوة من الأعالى،
فربما يكون من المحتمل، أنهم هم أيضًا سقطوا فى ضعفات بشرية، وحينما فكروا فى
أنفسهم فى قول كهذا، ربما سألوا أنفسهم: ” كيف ينكر الإنسان نفسه؟، أو كيف
يجد الإنسان نفسه بنفسه ثانية إذ يكون قد ضيعها؟ وأى مكافأة يعوض بها أولئك الذين
يتألمون هكذا؟ أو ما هى الهبات التى سيصيرون شركاء فيها؟. لذلك فلكى ينقذهم، من
مثل هذه الأفكار الجبانة، ولكى يصوغهم كما لو كان فى قالب الرجولة، بأن يُوَّلد
فيهم رغبة فى المجد العتيد أن يُمنح لهم، لذلك يقول: ” أقول لكم، إن من
القيام ههنا، قومًا لا يذوقون الموت حتى يروا ملكوت الله ” (مت28: 16). هل هو
يقصد أن حياتهم ستمتد جدًا حتى تصل إلى ذلك الوقت الذى سينزل فيه من السماء فى
نهاية العالم، ليمنح القديسين الملكوت المُعد لهم؟ وحتى هذا كان ممكنًا عنده، لأنه
كلى القدرة، وليس هناك شئ غير ممكن أو صعب بالنسبة لإرادته الكلية القوة. ولكنه
يقصد بملكوت الله: رؤية المجد الذى سيظهر به عند ظهوره لسكان الأرض، لأنه سيأتى
بمجد الله الآب وليس فى الحالة المتواضعة التى مثل حالتنا. لذلك، كيف جعل أولئك
الذين قد نالوا الموعد مشاهدين لأمر عجيب كهذا؟.
إنه
يصعد إلى الجبل آخذًا معه ثلاث تلاميذ مختارين، ويتغير إلى مثل هذا اللمعان الفائق
والإلهى، حتى أن ثيابه كانت تتألق بأشعة من نار، وبدت تضئ مثل البرق. وأكثر من ذلك،
وقف موسى وإيليا إلى جوار يسوع، وتكلم أحدهما مع الآخر عن خروجه، الذى كان عتيدًا
أن يكمله فى أورشليم، والذى يقصد به سر ” التدبير فى الجسد ” (tÕ must»rion tÁj met¦
sarkÕj o„konom…aj)،
وآلامه الخلاصية على الصليب المُكرّم.
لأنه
حق أيضًا أن شريعة موسى وكلمة الأنبياء القديسين، أشارت مسبقًا ” لسر المسيح
” (tÕ Cristoà
must»rion): فالأول منهما بواسطة
أمثلة وظلال، راسمًا إياه كما لو كان فى صورة، بينما الآخر بطرق متنوعة معلنة قبل
موعدها، وكلاهما يفيد أنه فى الوقت المعين سيظهر فى صورتنا، ولأجل خلاصنا وحياتنا
كلنا، يرضى أن يعانى الموت على الخشبة. لذلك، فوقوف موسى وإيليا أمامه، وكلاهما
الواحد مع الآخر، كان نوعًا من التمثيل مظهرًا بصورة رائعة ربنا يسوع المسيح، وله
الشريعة والأنبياء، كحارسين لجسده، باعتباره رب الشريعة والأنبياء، وكما يرى
مسبقًا فيهما بواسطة تلك الأمور التى سبق أن بشرا بها باتفاق متبادل. لأن كلمات
الأنبياء ليست مختلفة مع تعاليم الشريعة. وهذا هو ما أتخيل أن موسى الكهنوتى
الأعظم وإيليا العظيم جدًا فى الأنبياء، كانا يتكلمان عنه أحدهما مع الآخر.
ولكن
التلاميذ المباركين ينامون فترة قصيرة، بينما استمر المسيح طويلاً فى الصلاة لأنه
مارس هذه الواجبات البشرية باعتبارها خاصة بالتدبير وبعد ذلك عند استيقاظهم صاروا
مشاهدين لتغيرات باهرة ومجيدة جدًا، إذ ظن (بطرس) حينئذ أن زمن ملكوت الله قد أتى
الآن فعلاً، فاقترح إقامة مساكن على الجبل، وقال إنه من اللائق أن يوجد هناك ثلاث
مظال: واحدة للمسيح، والمظلتان الأخريتان للشخصين الآخرين موسى وإيليا، ولكنه كما
يقول الكتاب: ” وهو لا يعلم ما يقول ” (لو33: 9). لأنه لم يكن هو وقت
نهاية العالم، ولا الوقت الذى فيه يمتلك القديسون الرجاء الموعود لهم به، لأنه كما
يقول بولس، ” سيغير شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة الذى له، أى صورة جسد مجد
المسيح ” (فى22: 3). ولذلك، إذ أن التدبير كان لا يزال فى بدايته، ولم يكن قد
تحقق بعد، فكيف يكون مناسبًا للمسيح أن يتخلى عن محبته للعالم، ويتحول عن غرض
التألم لأجله؟ لأنه فدى كل ما تحت السماء، باحتماله الموت فى الجسد، وبإبادته
الموت بالقيامة من الموت معًا. لذلك فبطرس لم يكن يعلم ما يقول [2].
ولكن
إلى جانب منظر مجد المسيح العجيب والذى يفوق الوصف، حدث شئ آخر، نافع وضرورى
لتثبيت إيمانهم به، وليس نافعًا للتلاميذ فقط بل حتى لنا نحن أيضًا، لأن صوتًا
أعطى من السحابة من فوق من الله الآب، قائلاً: ” هذا هو ابنى الحبيب له
اسمعوا. وحينما كان الصوت، وجد يسوع وحده ” (لو36: 9) كما يقول الكتاب. فماذا
يقول المجادل والعاصى إذن أمام هذه الأمور؟ هاهو موسى هناك، فهل يأمر الآب الرسل
القديسين أن يسمعوا له؟ لو كانت إرادته هى أنهم ينبغى أن يتبعوا وصايا موسى، لكان
قد قال، كما أظن، أطيعوا موسى، احفظوا الناموس ولكن ليس هذا هو ما قاله الله الآب
هنا، بل فى حضور موسى والأنبياء، فإنه يأمرهم بالحرى أن يسمعوا للمسيح.
ولكن
لا يقلب أحد الحق ويقول إن الآب طلب منهم أن يسمعوا لموسى وليس للمسيح مخلصنا
جميعًا، فإن البشير ذكر بوضوح قوله: ” وحينما كان الصوت. وجد يسوع وحده
” (لو36: 9) لذلك حينما أمر الله الآب الرسل القديسين من السحابة التى ظللتهم،
قائلاً: ” له اسمعوا ” (لو35: 9) كان موسى بعيدًا جدًا، وإيليا أيضًا لم
يعد قريبًا، ولكن كان هناك المسيح وحده، لذلك فإياه وحده أمرهم الآب أن يطيعوا.
لأنه
هو أيضًا غاية الناموس والأنبياء: ولهذا السبب صرخ بصوت عال لجموع اليهود: ”
لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقون كلامى، لأنه هو كتب عنى ” (يو46: 5). ولكن
لأنهم استمروا إلى النهاية يحتقرون الوصية المعطاة بواسطة موسى الحكيم جدًا،
وبرفضهم كلمة الأنبياء القديسين، فقد استُبعدوا بعدل وطًردوا من تلك البركات التى
وعد بها لآبائهم. لأن ” الطاعة أفضل من الذبائح، والاستماع أفضل من شحم
الكباش ” كما يقول الكتاب (1صم22: 15).
وهكذا
قد منحت كل هذه البركات بالضرورة لكثيرين من اليهود، كما منحت لنا نحن أيضًا الذين
قد قبلنا الإعلان الإلهى بواسطة المسيح نفسه كهبة منه لنا، الذى به ومعه لله الآب
التسبيح والسلطان مع الروح القدس، إلى دهر الدهور. آمين