علم المسيح

22- شكوك المعمدان ورسالة من السجن



22- شكوك المعمدان ورسالة من السجن

22- شكوك المعمدان ورسالة من السجن

كان المعمدان قد أُلقي في السجن في قلعة ماخيروس بأمر
هيرودس الملك، وكان قد مضى عليه

عدة شهور في حبسه المظلم يترقَّب الموت،
فتألَّبت عليه الأفكار وثارت الشكوك، فيما يخص رسالته: هل
هي انتهت؟ وهل أكون بذلك أكملت السعي؟ هل أعددت الطريق
للآتي بعدي؟ ثم امتدَّت الشكوك،
ولماذا لم أتلقَّ رسالة من المسيح بخصوص
عملي إن كان قد انتهى واستوفى القصد؟ وإن كانت رسالتي لم تكمل بعد فلماذا السجن
والتهديد بالموت؟ ثم امتدَّت الشكوك: هل المسيح الذي رأيته واعتمد مني هو الآتي
بعدي حقا؟ أم ننتظر آخر؟ وهكذا دارت به الشكوك. كل هذا كان يحتاج كلمة حاسمة من
المسيح نفسه ومن فمه. فأرسل يوحنا التلميذَيْن يستفسر: هل أنت الآتي أم ننتظر آخر؟

ولكن
السؤال الذكي الذي يفرضه سرد معجزة إقامة ابن أرملة نايين علينا في هذا الموقف
بالذات هو: هل من علاقة بين إقامة هذا الابن الوحيد لهذه الأرملة الحزينة وبين
بعثة يوحنا من التلميذين؟ هل صنع المسيح هذه المعجزة وتلميذا المعمدان حاضران لكي
يعطي التلميذين الحائرين مع معلِّمهما صورة للملكوت الذي افتُتح، وها هي آخر آياته
جميعاً “الموتى يقومون” وبذلك تكون هذه المعجزة في وضعها الصحيح تماماً
بالنسبة لترتيب ق. لوقا الذي جمع إرسالية التلميذين وإقامة ميت نايين معاً لإعطاء
صورة حيَّة كيف أن المسيح هو الآتي ولا داعي للقلق؟

وبعد
أن ترك المسيح تلميذي المعمدان يتابعان مع التلاميذ أعمال المسيح، وبعد أن رأيا
وسمعا ما حدث أمامهم: “وفي تلك الساعة شفى كثيرين من أمراض وأدواء وأرواح
شريرة، ووهب البصر لعميان كثيرين. فأجاب يسوع وقال لهما: اذهبا وأخبرا يوحنا بما
رأيتما وسمعتما: إن العمي يبصرون والعرج يمشون والبُرص يُطهَّرون والصم يسمعون والموتى
يقومون
والمساكين يُبشَّرون، وطوبى لمن لا يعثر فيَّ.” (لو 7: 2123)

وبهذا
قدَّم المسيح شهادة لعمل الملكوت على الواقع المنظور والمسموع، غير أن هذه السلسلة
من الأعمال بترتيبها هذا هي استشهاد بما قاله إشعياء النبي في وصفه لعلامات
الملكوت حينما يبدأ عمله. وبهذا يكون المسيح قد أحال المعمدان وهو نبي إلى إشعياء
ليتأكَّد أن الملكوت قد بدأ حقا وفعلاً، إذ يقول إشعياء: “وحينئذ تتفقَّح
عيون العمي وآذان الصم تتفتَّح. حينئذ يقفز الأعرج كالإيل ويترنَّم لسان
الأخرس” (إش 35: 5و6)، “روح السيد الرب عليَّ، لأن الرب مسحني لأبشِّر المساكين، أرسلني لأعصب منكسري القلب، لأنادي
للمسبيين بالعتق وللمأسورين بالإطلاق.. لأعزِّي
كل النائحين.” (إش 61:
1و2)

بهذا يكون المسيح قد قدَّم نفسه للمعمدان أنه هو مسيَّا
الذي أتى، وأن الأعمال تشهد له

كالنبوَّات، صحيح أنه لم يعلن نفسه بصفة الملك
الآتي ليفتتح ملكوت الله بالقوة والاقتدار، ولكن المسيح
أكمل كل أعمال المسيَّا
اللائقة برسالة الخلاص. لذلك قال في نهاية كلامه: “وطوبى لمَنْ لا يعثُر
فيَّ”

 

23- المسيح
يمتدح المعمدان

وبعد أن مضى تلميذا المعمدان ابتدأ المسيح يرفع اللَّبْس عن
موقف المعمدان الذي دخل صدور تلاميذه عن كيف يشك المعمدان في المسيح. أن المعمدان
أُجبر أن يسأل سؤاله ليس عن انحراف في إيمانه، إذ قال المسيح: إن المعمدان ليس
قصبة تحرِّكها الريح، بمعنى أنه ليس عن أفكار طارئة يتحرَّك أو يُفكِّر فهو أثبت
من أن يكون قد تزعزع. ثم استمر يعدِّد صفاته، كونه كان يتزيَّا بزي النُّسَّاك
والمتعبِّدين بالصوف الخشن لا بالثياب الناعمة كقاطني القصور. فإن قلتم نبيٌّ هو
أقول أنا وأفضل من نبيّ، فالنبي يتنبَّأ أمَّا هذا فجاء يكرز ويخدم وينادي كسابق
لمَنْ سيأتي بعده: “هذا هو الذي كُتب عنه: ها أنا أُرسل أمام وجهك ملاكي الذي
يهيِّئ طريقي (طريقك) قدَّامي (قدَّامك)” (مل 1: 3، لو 27: 7). ويُلاحِظ
القارئ الفرق بين أصل النبوَّة وما عدَّله المسيح فيها، وهو بحد ذاته إعلان
واستعلان عن أنه هو هو يهوه الله في القديم. لأن أصل الآية يكشف أن الروح فيها
يتكلَّم بفم يهوه نفسه “طريقي”، “قدَّامي”، هذا حوَّله المسيح
لمَّا حوَّل الآية من المتكلِّم بفم الله إلى ما يتكلَّمه هو بفمه: “طريقي..
قدَّامي” وهذا نوع من الاختفاء الذي لا يُخفى، بل نوع من الاستعلان لا يدركه
إلاَّ الأذكياء ذوو البصيرة.

ويكمِّل
المسيح من عنده: “لأني أقول لكم: إنه بين المولودين من النساء ليس نبيٌّ أعظم
من يوحنا المعمدان” وهذا يعني أن المسيح يفرِّق بين المولودين من النساء
والمولودين من الله. وهذا يعني أن المعمدان وهو محسوب من طغمة الأنبياء يكون
أعظمهم من جهة الدعوة لافتتاح الملكوت والاستنارة، ولكن حينما يُقارَن المعمدان
بالمولودين من الله في العهد الجديد لا يكون أعظم بل أقل. لذلك وضَّح المسيح القول
قائلاً: “ولكن الأصغر في ملكوت الله
(وهم المولودين من الله) أعظم منه” (لو 28: 7). على أن
المعمدان بخدمته كان أول مَنْ أفرز من الشعب قوماً يعطون البر لله وليس
بالناموس وذلك بمشورة الله، وبهذا استثنى الفرِّيسيين والناموسيين بقول يحتاج إلى
فهم واستيعاب: “وجميع الشعب إذ سمعوا والعشَّارون برَّروا الله
معتمدين بمعمودية يوحنا. وأمَّا الفرِّيسيون والناموسيون فرفضوا مشورة الله
(أو دعوة السماء) من جهة أنفسهم غير معتمدين منه”
(لو 7: 29و30)، وقد زادها المسيح وضوحاً لمَّا سأل سؤالاً لرؤساء الكهنة والذين
معهم: معمودية يوحنا هل كانت من السماء أم لا؟

وبعدها
أوضح المسيح سر المعمدان بالنسبة لإيليا النبي تحقيقاً لقول ملاخي النبي أن بيوحنا
النبي يكون إيليا النبي قد جاء فعلاً، ولكن ليس بالكيان الجسدي بل من جهة روحه
النارية التي وبَّخت الملوك وأفزعتهم، وأهانت زوجاتهم وفضحتهم. ولكن كل منهما دفع
الثمن: فإيليا استودع النبوَّة لغيره، والمعمدان استودع النبوَّة بالسجن والموت.

 

24- المسيح
والمعمدان ونظرة اليهود الرافضة للجديد والقديم

ثم
ابتدأ المسيح يحكي للذين حوله عن مستوى فكر اليهود الذي استقبلوا به المعمدان وهو
الصورة المتزنة للعهد القديم الذي يبشِّر بالجديد، مقارنة بما استقبلوا به المسيح
كمنادٍ للجديد وحرية الحق. واستخدم في ذلك رواية يمثِّلها الأولاد في الأسواق؛ إذ تقف مجموعة وتجلس قبالتها مجموعة أخرى، ففرقة
تدَّعي تمثيل الفرح إذ يزمِّرون، فتستجيب لها في العادة الفرقة الأخرى بالرقص، ثم يبدِّلون الدور إلى تمثيل الحزن إذ يبتدئون
ينوحون كنساء المآتم والآخرون
يبكون.

هنا
يطبِّق المسيح هذا الأمر على اليهود الذين جاء إليهم يوحنا المعمدان لا يأكل ولا
يشرب خمراً فقالوا إن به شيطاناً، ثم جاء إليهم ابن الإنسان فقالوا عنه إنه أكول
وشريب خمر محب للعشَّارين والخطاة. ثم يُعقِّب المسيح على مسلك اليهود أنهم قد
جانبتهم الحكمة، إذ في المعمدان كانت حكمة النسك والعبادة، وفي المسيح حكمة العزاء
والمواساة. فقال المَثَل: إن الحكمة تُبرَّر من بنيها، أمَّا الغرباء عنها فالحكمة
عندهم جهالة.

ثم
عاد في تواضعه وبساطة روحه يعرض حبه ومساعدته وحكمته ومعرفته لراحة وسلام كل نفس
هكذا:

+
“تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم (أزيل حملكم).
احملوا نيري (تعليمي) عليكم وتعلَّموا مني (المثال الحي)، لأني وديع ومتواضع
القلب، فتجدوا راحة لنفوسكم. لأن نيري هيِّن وحملي خفيف.” (مت 11: 2830)

وعن
هذه الآيات الأخيرة يقول العالم نياندر(
[1]) إنها كانت في الأصل تأتي
مباشرة بعد المقارنة بين المسيح ويوحنا المعمدان (مت 11: 1619) وذلك
لشدة مناسبتها، وبها يقارن المسيح بين تعليمه والناموس، مخاطباً الخطاة والحزانى
والبؤساء والضعفاء الذين سحقهم الناموس وأسقطهم من المجتمع اليهودي، فاعتبرهم
المسيح: “المتعبين والثَّقيلي الأحمال” الذين هم موضوع كرازته والمدعوون
لملكوته. وحينما أعلن أنه “وديع” فهو لكي يجذب كل الضعفاء والمرفوضين:
“مَنْ يُقبل إليَّ لا أُخرجه خارجاً” (يو 37: 6)، وحينما قال: لأني
“متواضع القلب” فلكي يُطمئن منكسري القلوب أن لهم قلب الله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار