علم المسيح

113- المسيح يبكي أُورشليم



113- المسيح يبكي أُورشليم

113- المسيح يبكي أُورشليم

دخلها كثيراً وأحبها، وصلَّى فيها مع المصلِّين. شفى
مرضاها، وعزَّى بؤساءها، وكان يحمل لها
بين ضلوعه قلباً يخفق بأمجادها ويكرِّم تاريخها وآباءها
ويحنّ إلى ملوكها وأنبيائها. جاءها يحمل لها حب خالقها وفاديها، فما أحسَّت به وما
درت بوجوده. أعمى قلبَها معلِّموها، والذين تولُّوا العبادة فيها استعبدوها
وأطفأوا روحها وأوغروا صدرها على عريسها، فدبَّرت لذبحه يوم عيدها. “بكى
عليها”، لأنه رأى يوم خرابها، فحدَّثها حديث عريس لعروس: “إنك لو علمتِ
أنتِ أيضاً حتى في يومكِ هذا ما هو لسلامكِ!؟ ولكن الآن قد أُخفي عن عينيكِ. فإنه
ستأتي أيام ويحيط بكِ أعداؤكِ بمترسة، ويحدقون
بكِ ويحاصرونكِ من كل جهة، ويهدمونكِ وبنيكِ فيكِ، ولا يتركون فيكِ حجراً على حجر
، لأنكِ لم تعرفي زمان افتقادكِ” (لو 19:
42-44). وكان يعلِّم بالنهار ويذهب ليبيت في بيت عنيا.

114- لعن
شجرة التين

موضوع
شجرة التين يحتل جزءاً هاماً في هذه الأيام الأخيرة، وخاصة بعد أن بكى المسيح
أُورشليم ورثاها وتنبَّأ بخرابها. فالمسيح وهو ذاهب من بيت عنيا إلى أُورشليم في
الصباح جاع، فنظر شجرة تين من بعيد مورقة وكأنها مثمرة. فذهب نحوها ليأكل من
تينها، فلمَّا وجدها غير مثمرة لعنها: “لا يأكل أحد منكِ ثمراً بعد إلى
الأبد” (مر 14: 11)، فيبست التينة في الحال. وقد كان. فقد مرَّ التلاميذ
عليها في الغد فوجدوها أنها قد ذبلت. فهنا في الحقيقة، كما يبدو في الظاهر، معجزة:
“كيف يبست التينة في الحال” (مت 20: 21)؟ كل معجزات المسيح السابقة كانت
بدافع المحبة وذاتَ ثمرٍ للمحبة واضح. فلماذا- إذن- هذه المعجزة وكأنها تأديبية
لخليقة لا تحس ولا تشعر؟ وبلا ذنب اقتُرف. فهي بهذا تختلف كثيراً جداً عن باقي
أعمال المسيح الأخرى، لأنه لم يأتِ ليهدم بل ليكمِّل ويشفي ويحيي!

ولكن
واضح أن في هذا العمل كلِّه نوعاً من الرمزية عنيفاً ومستتراً. ولهذا العمل علاقة
جدّ شديدة وخطيرة بالموقف القائم بعد خدمة المسيح الطويلة وقد بلغت النهاية فعلاً،
ببكائه على أُورشليم وتنبُّئه بخرابها. أليس في هذا العمل تعبير عن مظهر الأُمة
اليهودية التي تبدو كشجرة التين الخضراء الجميلة من الخارج، وهي من الداخل عفنة
شبه ميتة غير مثمرة البتة! عَمِلَ فيها صاحب الكرم المستحيل لثلاث سنوات مضت لكي
تفْلَح فلم تفْلَح. أليس في وقوفها هكذا في بستان الله عقيمة غير مثمرة ومورقة
بمظهر كاذب تعطيل لأرض السلام وتزييف لأشجار الله وإحباط لعمل المسيح الذي عمل؟
لقد عُرفت شجرة التين بين الأشجار الطيبة أنها تكني عن الأُمة اليهودية، وهذه
الأُمة اليهودية رفعت يدها على بعلها وجابلها تتوهَّم أن بقتله تستقل عن خالقها،
فحكمت على نفسها بالهلاك لتخرج من دائرة ملكه قبل أن يُنصَّب هو ملكاً على الصليب.

وهكذا
كان لابد، وقبل أن تمد يدها بخلع “غصن يسَّى” من أرض ميراثه، أن تتقبَّل
اللعنة إلى الأبد. وما صنع المسيح بأكثر مما صنعت الأُمة اليهودية في نفسها، فهي
بواقعها الداخلي الذي تعفن وذبل واستقال من مجرى حياة مصيرها الموضوع، تركت إلهها
مصدر الوجود والحياة، فحكمت على نفسها- قبل أن تحكم على المسيح- بالفناء الوشيك.
فالمسيح بلعن شجرة التين لم يَزِدْ عن مجرَّد إعلان وفاة قبل الحدث. ولم يشرح
المسيح لتلاميذه معنى موت التينة، لأنه شرحه لمَّا بكى على أُورشليم. لقد رثاها
بدموعه قبل أن يأمر بجفافها. وهناك هناك في بداية خدمته رأى هذه التينة عينها وتكلَّم عن قطعها: “كان لواحد شجرة تين
مغروسة في كرمه- ولم
يكن هذا الواحد إلاَّ الواحد الوحيد- فأتى يطلب فيها
ثمراً ولم يجد. فقال للكرَّام: هوذا ثلاث سنين آتي أطلب ثمراً في هذه التينة ولم
أجد. اقطعها. لماذا تُبَطِّل الأرض أيضاً؟” (لو 13: 6و7). فبناءً على توسُّل
الكرَّام أبقاها سنة أخرى، فلمَّا جاء ميعاد التين ولم يجد فيها ثمراً قطعها!!
“يا سيد، اتركها هذه السنة أيضاً، حتى أَنْقُب حولها وأضع زبلاً. فإن صنعت
ثمراً، وإلاَّ ففيما بعد تقطعها” (لو 13:
8و9). وهكذا لم يصنع المسيح إلاَّ ما صنعه الكرَّام، ففكَّ لغز
المَثَل.

115- تطهير
الهيكل

+
“ولمَّا دخل الهيكل ابتدأ يُخرج الذين كانوا يبيعون ويشترون فيه. قائلاً لهم:
مكتوب إن بيتي بيت الصلاة. وأنتم جعلتموه مغارة لصوص.” (لو 19: 45و46)

ويضيف
ق. يوحنا هذه الآيات:

+
“ووجد في الهيكل الذين كانوا يبيعون بقراً وغنماً وحماماً، والصَّيارف
جلوساً. فصنع سوطاً من حبال وطرد الجميع من الهيكل، الغنم والبقر، وكبَّ دراهم
الصيارف وقلَّب موائدهم. وقال لباعة الحمام: ارفعوا هذه من ههنا. لا تجعلوا بيت
أبي بيت تجارة.” (يو 2: 14-16)

ويُلاحِظ
القارئ أن ق. يوحنا يسجِّل هذه الحادثة في بداية إنجيله قبل البدء بالخدمة العامة،
في حين أن القديس مرقس يضعها قرب النهاية في الأصحاح (11) وق. متى في الأصحاح
(21).

وهكذا
يكشف ق. يوحنا بوضوح أن تطهير الهيكل يُعتبر جزءاً هاماً من منهج العهد الجديد، بل
ويُحسب أساساً له. بمفهوم أن المسيح منذ البدء كان مزمعاً أن يلغي الذبائح كلها
بكل أنواعها وكل ما يترتب عليها من بيع وشراء وطقوس ذبح وحريق، كما أراد أن يحدِّد
العبادة والصلاة بالحدود الروحية الخالصة دون خلط بالأمور المادية. فهو القائل
للسامرية التي أرادت أن تعرف العبادة والسجود بالحق إنه لا في أُورشليم ولا في
جرزيم ينبغي السجود، لأن الله روح، والساجدون له ينبغي أن يسجدوا بالروح والحق،
والله طالب مثل هؤلاء الساجدين. أي أن الله يفرض العبادة والسجود فرضاً، ولكن على المستوى الروحي الصرف، فلا مدينة
ولا جبل ولا هيكل بالحجارة ولا شواهق المنارات والقباب الضخمة ولا مذهبات ولا
فضيات. فهذه كلها حسبها المسيح خروجاً عن روح
العبادة، وبالتالي عمَّا يطلبه الله في العبادة، ومن
العابدين.

لذلك
لمَّا تصدَّى اليهود الذين كانوا ينظرون المسيح وهو يطرد الحيوانات والبائعين
والشارين معاً وسألوه: “أية آية ترينا حتى تفعل هذا؟” (يو 18: 2)، بمعنى: أثبِتْ لنا أنك أهل أن تصنع هذا
العمل العظيم، لأن الهيكل كان عندهم أقدس المقدسات وهيبته من هيبة الله. فمَنْ ذا
الذي يصنع مثل هذه الأعمال بهيكل الله؟ فكان رد المسيح بمنتهى القوة والإعلان عن
بدء العهد الجديد، عهد العبادة بالروح، حيث هيكل العبادة هو هيكل المسيح القائم من
بين الأموات، الجسد الروحاني الذي سلَّمه لنا ليكون فينا ويكون هو هو هيكل الله
وروح الله يسكن فيه: “أجاب يسوع وقال لهم: انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام
أُقيمه.. وأمَّا هو فكان يقول عن هيكل جسده، فلمَّا قام من الأموات تذكَّر
تلاميذه!!” (يو 2: 19و21و22)، “أما تعلمون أنكم هيكل الله وروح الله
يسكن فيكم” (1كو 16: 3). من هذا يتبيَّن للقارئ حتمية البدء بنقض الهيكل
كأساس لبناء الهيكل الجديد الذي خدم المسيح شكله الإلهي ثلاث سنوات وبناه في ثلاثة
أيام!!

وعندما
دخل المسيح أُورشليم دخل كنبي يلبِّي الدعوة، وقد حقَّقها بعمل المعجزات، وهتف
الشعب معترفاً بنبوَّته: “ولمَّا دخل أُورشليم ارتجت المدينة كلها قائلة:
مَنْ هذا؟ فقالت الجموع: هذا يسوع النبي الذي من ناصرة الجليل” (مت 21:
11و12). ولمَّا دخل الهيكل وجده يموج بالتجَّار والبائعين والشارين وبهائم الذبح
وباعة الحمام والصيارفة، وذهبت هيبة الهيكل والصلاة واسم الله. كان منظراً أهاج في
نفسه روح العبادة الحقة ومقاومة الفساد والمفسدين، وأظهر غضبه وصنع من بعض الحبال
ما يشبه السوط وأخذ يطرد الجميع خارج الهيكل: “ارفعوا هذه من ههنا. لا تجعلوا
بيت أبي بيت تجارة” (يو 16: 2). ولم يكن المسيح في موقع المقاومة، ولكن كمن
يُخيف المعتدين على المقدَّسات من وجهة نظر الله. ولم يكن هذا العمل أكثر من إظهار
سلطان الله الذي يخيف الناس بلا إيذاء(
[1]).



مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار