كتب

مقدمة مترجم إنجيل برنابا



مقدمة مترجم إنجيل برنابا

مقدمة
مترجم إنجيل برنابا

خليل
سعادة

1908

 

مقدمة المترجم

تُرجم
الكتاب المسمى بإنجيل برنابا إلى اللغة الإنجليزية سنة 1907م تم تُرجم إلى اللغة
العربية في السنة التالية مباشرة 1908م، وعلى اثر ذلك تُرجم إلى اللغات الأردية
والإندونيسية والفارسية والتركية، ثم إلى الكثير من اللغات، خاصة بعد سنة 1975م.
وقد أثار الكتاب منذ ظهوره في هذه الترجمات الكثير من الجدل بين مؤيد له، ولكن غير
مؤمن ومقتنع بما جاء فيه، باعتباره كتاب تحوم حوله الشكوك والشبهات، وبين رافض له
لوضوح زيفه وتزويره ولكثرة الأدلة الداخلية والخارجية على ذلك. ومع ذلك فالغالبية
الساحقة من العلماء والدارسين في المسيحية والإسلام لم تلتفت إليه ولم تهتم به
بالمرة. ولم يكن كتاب كهذا، مليء بالخرافات والأفكار الخرافية التي لا يمكن لعاقل
أن يقبلها، يحتاج منا إلى الوقت والجهد اللذان بذلا في دراسته، ولكن نظرا لتساؤل
البعض حول حقيقته وحقيقة محتواه وسبب رفض الكنيسة له، اضطررنا لعمل هذه الدراسة
لبيان حقيقته وحقيقة شخصية كاتبه المزيف وحقيقة دوافعه وأهدافه. وقد اضطررنا
لإيراد الكثير من نصوصه كاملة بقدر الإمكان وشرحها شرحا تفصيليا لكي تكون الصورة
كاملة أمام القارئ حتى يتعرف بنفسه على ما في الكتاب من أفكار خرافية وعقائد
مزيفة، وحتى يرى مدى ما فعله كاتب هذا الكتاب المزيّف والمزوّر بنصوص الكتب
الدينية خاصة الكتاب المقدس.

 

تمهيد الفقرات الرئيسية من مقدمة المترجم

ولكي
نفهم هذا الكتاب الخرافي المزيف جيدا يجب أن نقرأ أولاً مقدمة مترجمه إلى العربية:

يقول
الدكتور ” خليل سعادة ” مترجم هذا الكتاب المزيّف والمزور المدعو زوراً
بإنجيل برنابا إلى العربية:


أقدمت على ترجمة هذا الكتاب المسمي بإنجيل برنابا وأنا شاعر بخطورة المسئولية التي
ألقيتها على عاتقي، وأني لم اقدم عليها إلا خدمة للتاريخ، وغيرة علي لغة هي أحق
بنقله إليها من سواها وهى المرة الأولى التي برز فيها هذا الإنجيل في ثوب عربي،
وهو إنجيل تضاربت فيه أراء الباحثين وتشعبت بخصوصه مذاهب المؤرخين وخبطوا فيه بين
ضلال وهدى وتلمسوا حقيقته بين رشاد وهوى، واستنطقوا الآثار والأسفار واستفسروا الأعصر
والأمصار، فما ظفروا بعد كل ذلك بما يشفي منهم عليلا، ويبرد لهم غليلا.

 

1- النسخة الوحيدة في العالم:

والنسخة
الوحيدة المعروفة الآن في العالم التي أنقل عنها هذا الإنجيل إنما هي نسخة إيطالية
في مكتبة بلاط ” فيينا ” وهى تعد من انفس الذخائر والآثار التاريخية
فيها، تقع في مائتين وخمس وعشرين صحيفة سميكة، مجلدة بصفحتين رقيقتين متينتين من
الورق المقوى، يغطيهما جلدان لونهما أدكن ضارب إلى الصفرة النحاسية، ويحيط بهما
على الحواف الأربع خطان مذهبان، وفي مركز الجلد نقش بارز عطُل من التذهيب، تحيط به
حافة مزدوجة من نقوش ذهبية متباينة الأشكال، يسميها الغربيون بالطراز العربي،
ويستدلون من مجمل التجليد المنوه عنه انه طراز شرقي.

 

2- نوع التجليد وتاريخه:

إلا
أن البعض يذهب إلى التجليد المذكور برمته قد يكون من صنع المُجلّدين الباريسيين
اللذين استقدمها الدوق ” دي سافوى ” لتجليد النسخة المذكورة التي كانت
ملكا له على ما سيجيء بيانه، فقد يكونان جلّداها تقليدا للطراز العربي، ومما حملهم
على هذا الظن هو أن المحفظة الخارجية للنسخة المذكورة هي صنع المجلدين الباريسيين
بلا مراء.

إلا
انه يقال – في جنب ما تقدم – أن هناك نسخة صك في ” البندقية ” مجلدة
بجلد يضارع جلد النسخة الإيطالية لإنجيل برنابا من كل وجه، وخصوصا من حيث النقوش
المشار إليها. والصك المذكور إنما هو نسخة دولية باللغة الإيطالية لمعاهدة عقدت
بين الدولة العلية (العثمانية) والبندقية ورد ذكرها في مراسلات يرجع عهدها إلى
أصيل القرن السادس عشر، وجلد الصك المذكور في القسطنطينية بلا مشاحة كما يستدل على
ذلك من آثار كتابه باللغة التركية الشائعة في ذلك الزمن تبدت من خلال مزق في الجلد
المذكور.

 

3 – أصل ورق الكتاب وتاريخه:

وزعم
بعضهم أن صحائف النسخة الإيطالية هي من الورق المسمي بالتركي، إلا انه ليس فيها
شيء يؤيد هذا الزعم فان جميعها من الورق المعروف بالورق القطني. وهي متينة النسيج
خشنته، خلا صحيفتين منها مصقولتين، تختلفان في قوامهما ولونهما عن البقية. وهنالك
حجة قوية تفند مزاعم القائلين بالأصل التركي، وهي أن الآثار المائية في الورق، وهي
التي تبدو لك متي استشففته، لم تشاهد في نوع من أنواع الورق الشرقي قط، وهي في
الصحائف المنوه عنها علي شكل مرساة سفينة تحيط بها دائرة، وهي علامة مميزة لنوع
الورق الإيطالي علي ما قال به بعض مشاهير الأخصائيين.

 

4- العثور علي النسخة الإيطالية:

وأول
من عثر علي النسخة الإيطالية ممن لم يعف التاريخ أثرهم، ولم تدرس الأيام ذكرهم، هو
” كريمر” – أحد مستشاري ملك بروسي – وكان مقيما وقتئذ في امستردام
فأخذها سنة (1709م)، من مكتبة أحد مشاهير ووجهاء المدينة المذكور، ولم يزد علي
تعريف صاحبها بغير هذه الألقاب المبهمة، إلا انه ذكر في عرض الكلام عنه أن الوجيه
المذكور كان يحسب النسخة المنوه عنها ثمينة جدا فأقرضها ” كريمر تولند ”
ثم أهداها بعد ذلك بأربع سنين إلى البرنس (الأمير) ” ايويجين سافوي ”
الذي كان علي كثرة حروبه ومعاركه ووفرة مشاغله السياسية، شديد الولع بالعلوم
والآثار التاريخية، ثم انتقلت النسخة المذكور سنة 1738م مع سائر مكتبة البرنس
(الأمير) المنوه عنه إلى مكتبة البلاط الملكي في ” فيينا ” حيث لا تزال
هناك حتى الآن، علي ما مر بك بيانه.

 

5- النسخة الأسبانية

:
بيد انه وجد في أوائل القرن الثامن عشر نسخة أخرى أسبانية تقع في مائتين واثنين
وعشرين فصلا وأربع مائة وعشرين صفحة، جر الدهر عليها ذيل العفاء فطمست آثارها
ودرست رسومها وكان قد اقرضها الدكتور ” هلم ” من ” هدلي ”
(بلدة من أعمال همبشير) المستشرق الشهير ” سايل “، ثم تناولها بعد
“سايل ” الدكتور ” منكهوش ” أحد أعضاء كلية الملكة في ”
اكسفورد ” فنقلها إلى الإنجليزية، ثم دفع الترجمة مع الأصل سنة 1784م إلى
الدكتور ” هوايت ” أحد مشاهير الأساتذة.

ولقد
أشار الدكتور ” هوايت ” المنوه عنه في إحدى الخطب التي كان يلقيها علي
الطلبة إلى هذه النسخة، حيث استشهد ببعض الشذرات منها، ولقد طالعت هذه الشذرات
وقابلتها بالترجمة الإنجليزية المنقولة عن النسخة الإيطالية الموجودة الآن في
مكتبة بلاط ” فيينا ” فوجدت الأسبانية ترجمة حرفية عن تلك ولم أر بينهما
فرقا يستحق الذكر إلا في أمرين، فان النسخة الإيطالية تقول: (أنه لما جاء ”
يهوذا ” الخائن مع الجند الروماني ليسلم ” يسوع ” علي أيديهم كان
” يسوع ” يصلي في البستان بجانب الغرفة التي كان تلاميذه فيها نياما،
فلما أحس بالجنود خاف فدخل فلما رأى الله الخطر المحدق به أرسل ملائكته الأربعة
فاحتملوه في النافذة إلى السماء الثالثة، فلما دخل يهوذا الخائن الغرفة غير الله
بآيه منظرة وصوته، فصار نظير ” يسوع ” تماما، فلما استيقظ التلاميذ
ورأوه لم يشكوا في انه هو ” يسوع “).

فالرواية
الأسبانية تنطبق حرفيا علي الإيطالية، إلا أن الأولى تقول ” إلا بطرس ”
أي أنها استثنت ” بطرس ” من عداد التلاميذ الذين لم يشكوا في أن ”
يهوذا ” هو ” يسوع ” ثم ذكرت اسم أحد الملائكة الذين احتملوا
” يسوع ” من النافذة “عزرائيل “، وهو في الإيطالية ”
أوريل “. وهناك بعض اختلافات أخرى طفيفة اضربنا عن ذكرها.

 

6- خرافة الراهب فرامرينو:

ويؤخذ
مما علقه ” سايل ” علي النسخة الأسبانية انه مسطور في صدرها أنها مترجمة
عن الإيطالية بقلم مسلم اورغاني يسمي ” مصطفي العرندي “، وصدرها بمقدمة
يقص فيها مكتشف النسخة الإيطالية – وهو راهب لاتيني يسمي ” فرامرينو ” –
كيفية عثوره عليها، ومن جملة ما قال بهذا الصدد أنه عثر على رسائل ”
لارينايوس ” وفي عدادها رسالة يندد فيها بالقديس ” بولس ” الرسول،
وأن ” ارينايوس ” اسند تنديده هذا إلى إنجيل القديس ” برنابا
“، فاصبح من ذلك الحين الراهب مرينو – المشار إليه – شديد الشغف بالعثور على
هذا الإنجيل.

 

7- الراهب ” المزعوم ” والسرقة الخرافية المزعومة:

واتفق
أنه اصبح حينا من الدهر مقربا من البابا ” اسكتس الخامس “، فحدث يوما
انهما دخلا معا مكتبة البابا، فران السكرى علي أجفان قداسته، فاحب ” مرينو
” أن يقتل الوقت بالمطالعة إلى أن يفيق البابا، فكان الكتاب الأول الذي وضع
يده عليه هو هذا الإنجيل نفسه، فكاد أن يطير فرحاً من هذا الاكتشاف، فخبأ هذه
الذخيرة الثمينة في أحد ردنيه، ولبث إلى أن استفاق البابا فاستأذنه بالانصراف
حاملا ذلك الكنز معه، فلما خلا بنفسه، طالعه بشوق عظيم، فاعتنق على أثر ذلك الدين
الإسلامي.

هذه
هي رواية الراهب ” فرامرينو ” علي ما هو مدون في مقدمة النسخة
الأسبانية، كما رواها المستشرق ” سايل “، في مقدمة له لترجمة القرآن،
وهي مع ما تقدم الإلماع إليه من خطب الأستاذ ” هوايت “، المصدر الوحيد
الذي لنا الآن بخصوص النسخة الأسبانية التي لم اعثر علي كيفية فقدانها، سوي انه
عهد بترجمتها إلى الدكتور ” منكهوش ” فدفعها إلى الدكتور ” هوايت
” ثم طمس بعد ذلك خبرها وامحي أثرها(4).

وهنا
يعرض للبيب سؤال وهو:

هل
النسخة الإيطالية الحاضرة هي التي اختلسها الراهب مرينو من مكتبة البابا اسكتس
الخامس؟ أم هي نسخة أخرى سواها؟

 

8 – متي كُتبت النسخة الأصلية؟

ولا
يمكن ترجيح ذلك إلا بعد تعيين الزمن الذي كتبت فيه، وإذا تحريت التاريخ وجدت أن
زمن البابا اسكتس الخامس – المذكور – نحو مغيب القرن السادس عشر، وقد علمت مما مر
بك بيانه أن نوع الورق التي سطرت علية النسخة الإيطالية إنما هو ورق إيطالي يمكن
تعيين اصله من الآثار المائية فيه، والتي يمكن اتخاذها دليلا صادقا على تاريخ
النسخة الإيطالية، والتاريخ الذي يخمنه العلماء من كل ما تقدم بيانه يتراوح بين
منتصف القرن الخامس عشر والسادس عشر، وعليه فمن الممكن أن تكون النسخة الإيطالية
هي عينها التي اختلسها ” فرامرينو ” من مكتبة البابا علي ما مرت الإشارة
إليه.

 

9- جدال حول هذا الإنجيل المزيف:

ولما
شاع خبر إنجيل برنابا في فجر القرن الثامن عشر احدث دوياً عظيماً في أندية الدين
والعلم ولا سيما في إنجلترا، فكثر بشأنه الجدل، واحتدمت بين العلماء مناقشات كان
بعضها اقرب إلى التخرصات والأوهام منه إلى المباحث العلمية، وأول أمر توجهت إليه
همم الباحثين الخوض في أمر النسخة الإيطالية وفيما إذا كانت منقولة عن نسخة أخرى
أو هي النسخة الأصلية التي كانت عند الراهب ” فرامرينو ” وادعي اختلاسها
من مكتبة البابا ” اسكتس الخامس “، ومن الغريب إن العلماء لم ينتبهوا في
حل هذه القضية إلى ما رأوه مسطوراً علي هوامش النسخة من الألفاظ والجمل العربية
التي أثبتناها في هذه الترجمة أمانة في النقل، ولكي تكون مطابقة للأصل برمته من كل
وجه، والحق يقال أن اللبيب يحار في أمر هذه الشروح والهوامش العربية في نسخة
إيطالية، ولابد في هذا الموقف من ذكر ما عنّ لي بشأنها بشيء من الأسباب لأن كل
الثقات الذين تؤخذ أقوالهم حجة في الكلام علي النسخة الإيطالية لم يوفوا هذا
الموضوع حقه بل لم يلموا به اقل إلمام حتى أن مستشرقا كبيرا كالأستاذ ”
مرجليوث ” لم يذكرها إلا علي سبيل العرض، ولم يقل بشأنها إلا قولا واحدا وهو
أن ” لاموتي ظنها صحيحة العبارة محكمة الوضع، لكن لم يخف أمرها علي العالم
” دنس ” الذي قال بسقم تركيبها ووفرة أغلاطها “.

 

10- هوامش الكتاب العربية:

وأنت
إذا تفقدت هذه الهوامش وأعملت فيها الروية وجدت بعضها صحيح العبارة محكم الوضع،
لعب فيه قلم الناسخ كل ملعب، من مسخ وتصحيف، والبعض الآخر سقيم التركيب من أصله لا
تكاد تفقه لبعضه معني إلا بكد الذهن، ولا تفقه لبعضه الآخر معني بالمرة، وتجد أيضا
أن ما كان ركيك العبارة سقيم التركيب قد جري فيه الكاتب علي الترجمة الحرفية في
أضيق معانيها وأسخفها، فوضع المضاف إليه قبل المضاف. وهو ما لا يفعله كاتب عربي
تحت الشمس، وليس ذلك فقط في الهوامش التي هي ترجمة بعض فقرات الإنجيل إلى العربية،
بل أيضا في الهوامش التي هي من أوضاعه والتي لا مقابل لها بالإيطالية.

000
من ذلك قوله سورة ” عيسي ألم ” أي سورة آلام ” عيسي “، وقوله
” ذكر اديرس قصص ” أي ذكر قصة ” إدريس ” وقوله ” متكبر
كاميل بيان ” أي بيان شر أنواع الكبرياء، وقوله ” من أي دين عنده ينبغي
أن يصدق من الخبائس ” إلى أخر ما هنالك من الطمطمانيات التي هي أقرب إلى
العجمة منها إلى العربية، فمن كان يحسن إجادة سبك العبارات علي ما تقدم إيضاحه من
أمثله النوع الأول لا يرتكب مثل هذه الأغلاط الفاضحة التي يستحيل علي عربي أو
مستشرق ارتكابها.

فإذا
تدبرت ما تقدم هان عليك أن تفقه أن كاتب الهوامش العربية اكثر من واحد، فكان
واضعها الأصلي صحيح العبارة فصيحها، فجاء بعده من نسخها ومسخها وبدل فيها ما شاء
قصور مداركه في اللغة العربية، فافسد بنسخه كثيرا مما وضعه الكاتب الأول وزاد عليه
من عنده ما تري من التعابير السخيفة والأساليب الركيكة، والطمطمانيات التي لا
يستخرج منها معني بالمرة. والذي ارمي إلى الاستدلال عليه من هذا البيان أن النسخة
الإيطالية التي هي الآن في مكتبة البلاط الملكي في ” فيينا ” إنما هي
مأخوذة بلا مراء عن نسخة أخري وبالتالي لا يصح اعتبارها النسخة الأولي الأصلية.

 

11- هل هناك اصل للنسخة الإيطالية؟

إذا
كان الأمر كذلك، فما هو الأصل الذي أخذت منه النسخة لإيطالية؟ وهو سؤال صعب، ولكن
لا يستحيل الإجابة عليه، فقد مر بك من الكلام علي هوامش النسخة المشار إليها ما
يصح الاستدلال به علي أن النسخة التي نقلت عنها ليست بعربية لان من يجيد العربية
إلى حد يتمكن معها من ترجمة هذا الإنجيل منها إلى لغة أخري لا يرتكب مثل هذه
الأغلاط السخيفة التي تراها في الهوامش، ولا يقلب الكلام إلى حد تقديم المضاف إليه
علي المضاف، إلى غير ذلك من التعابير التي هي أدل علي أصل لاتيني أو إيطالي قديم،
وهو استنتاج ينطبق علي ما قال به الثقات بعد التدقيق وأمعان النظر في نوع خط
النسخة الإيطالية الموجودة الآن في مكتبة بلاط ” فيينا “، فقد توصلوا
إلى الجزم بان ناسخها إنما هو من أهالي ” البندقية ” نسخها في القرن
السادس عشر، أو أوائل السابع عشر، وأنه يرجح أنه أخذها عن نسخة ” توسكانية
“، أو عن نسخة بلغة ” البندقية ” تطرقت إليها اصطلاحات ”
توسكانية “، وهي أقوال ” لونسدال ولورا راغ ” بعد أن أخذا في ذلك أراء
أعظم الثقات الإيطاليين الذين يؤخذ قولهم حجة في هذه المباحث الأخصائية.

 

12- الكاتب الأصلي وعلاقته باللغة اللاتينية واللغة الإيطالية:

ويذهب
الكاتبان المذكوران إلى أن النسخ حدث نحو سنة (1575م) وأن من المحتمل أن يكون ناسخ
هذا الإنجيل الراهب ” فرامرينو ” الذي ورد ذكره في مقدمة النسخة
الإيطالية علي ما جاءت الإشارة إليه ثم يقولون بعد ذلك ما ترجمته ” وكيف كان
الحال، فيمكننا الجزم بأن كتاب ” برنابا ” الإيطالي إنما هو كتاب
إنشائي، وسواء قام به كاهن أو علماني أو راهب أو أحد العامة، فهو بقلم رجل له
إلمام عجيب بالتوراة اللاتينية يقرب من إلمام ” دانت “، وأنه نظير
” دانت ” متضلع علي نوع خاص من ” الزبور “، وهو صنع رجل
معرفته للأسفار المسيحية تفوق كثيرا اطلاعه علي الكتب الدينية الإسلامية، فيرجح
إذا أنة مرتد عن النصرانية “.

 

13- بين الشاعر الإيطالي دانتي والكاتب المزيف للإنجيل المزعوم:

والباعث
علي المقارنة بين كاتب هذا الإنجيل والشاعر الشهير ” دانت ” ما في
كلامهما من الملابسات وما في تعابير النسخة الإيطالية من الشبه بمؤلفات ”
دانت ” الشعرية التي يصف فيها الجحيم والجنة (في ملهاته الشعرية المسماة
بالكوميديا الإلهية)، ففي هذا الإنجيل أن هناك سبع دركات للجحيم، تختلف مراتبها
باختلاف الخطايا الكبيرة السبع التي يعذب البشر لأجلها، وأنه يوجد تسع سموات تأتي
في قمتها الجنة، فتكون العاشرة. فيستنتج بعضهم من ذلك أن كاتب هذا الإنجيل إنما
جاء بعد ” دانت ” واخذ عنه هذه الشروح، أو أنه كان معاصرا له. فذكر نظير
” دانت ” ما كان شائعا من الآراء في عصرهما، فيكون إذ ذاك ” برنابا
” هذا قد ظهر في القرن الرابع عشر، إلا أن وصف الجحيم علي ما حاء به ”
برنابا ” هذا لا ينطبق علي وصف ” دانت ” أو غيره إلا من حيث العدد،
والرأي الأصيل أن يكون كلاهما قد اخذ عن مصدر أخر قديم لا يترتب معه أن يكون
الكاتبان متعاصرين، وذلك المصدر إنما هو ” ميثولوجيا إلىونان “، وقد يعد
ما بين الكاتبان من الشبه والتصورات الشعرية والألفاظ الوضعية من قبيل توارد
الخواطر.

 

14- هل للكتاب اصل عربي؟

ولقد
تبادر إلى ذهن العلماء بادئ ذي بدء أن النسخة الإيطالية مأخوذة من اصل عربي، وكان
أول من أشار إلى ذلك ” كريمر ” الذي مر بك ذكره حيثُ صدّر النسخة
الإيطالية التي أهداها إلى ” الدوق سافوي ” ببضعة اسطر من عنده، يذكر أن
هذا الإنجيل ” المحمدي ” مترجم عن العربية أو سواها، ثم تابعه في ذلك
” لاموتي ” حيث يقول ” أراني البارون هو هندرف الذي يجمع بين شرف
المحتد وسمو الآداب وسعه الاطلاع كتاباً يزعم الأتراك أنه للقديس “برنابا
“، والظاهر أنة منقول إلى الإيطالية من العربية “، ويريد بلفظ الأتراك
جمهور المسلمين والعرب، علي ما يزال شائعا من استعمال غير المدقق من كتاب الإفرنج
لهذه اللفظة في عصرنا الحاضر.

ثم
أن الدكتور ” هوايت ” الذي مر الإلماع إليه يقول في سنة 1784م ” أن
الأصل العربي لا يزال موجوداً في الشرق “، ولكنك إذا أعملت البصيرة وجدت أن
كلام الدكتور” هوايت ” مبنى على كتابات المستشرق ” سايل ”
التي نشرها قبل ذلك بنحو نصف قرن من الزمن وسماها بالمباحث التمهيدية وفيها يقول
في عرض الكلام عن القرآن ” أن عند المسلمين إنجيلاً عربيا ينسبونه إلى القديس
” برنابا ” وفيه يروي تاريخ ” يسوع المسيح ” علي أسلوب يباين
كل المباينة الأناجيل الصحيحة 000 ولكنه يعترف بعد ذلك في عرض المقدمة التي له علي
القرآن ” أني لم أر إنجيل برنابا عندما ألمعت إليه في المباحث التمهيدية
“. فقوله السابق إذا مبنى على السماع وهو إنما تابع في ذلك ” لاموتى
” على ما جاءت الإشارة إليه وقوله هذا أيضا مبنى على السماع لأنه لم يعثر على
نسخة عربية للإنجيل المذكور قط.

 

15- الكتاب والمؤرخون العرب:

ثم
انه لم يرد ذكر لهذا الإنجيل في كتابات مشاهير الكتاب المسلمين سواء في الأعصر
القديمة أو الحديثة حتى ولا مؤلفات من انقطع منهم إلى الأبحاث والمحاولات الدينية
مع أن إنجيل برنابا أمضى سلاح لهم في مثل تلك المناقشات وليس ذلك فقط 000 بل لم
يرد ذكر لهذا الإنجيل في فهارس الكتب العربية القديمة عند الاعارب أو الأعاجم أو
المستشرقين الذين وضعوا فهرساً لأندر الكتب العربية القديمة والحديثة.

 

16- ميل المترجم لوجود أصل عربي لهذا الكتاب المزيف:

بيد
أنه لابد لي من التصريح بعد كل ما تقدم بيانه أنى أشد ميلا للاعتقاد بالأصل العربي
منى بسواه إذ لا يجوز اتخاذ عدم العثور علي ذلك الأصل حجة دامغة علي عدم وجوده،
وإلا لوجب الاعتقاد بأن النسخة الإيطالية هي النسخة الأصلية لهذا الإنجيل، فانه لم
يعثر أحد قط علي نسخة أخري سوي النسخة الأسبانية التي مر بيانها، والتي ورد في
مقدمتها أنها مترجمة عن نسخة إيطالية، والمطالع الشرقي يري لأول وهلة أن لكاتب
إنجيل برنابا إلماما بالقرآن حتى أن كثيرا من فقراته يكاد أن يكون ترجمة حرفية أو
معنوية لآيات قرآنية. أقول هذا وأنا عالم أنى في ذلك مخالف لجل كتاب الغرب الذين
خاضوا عباب هذا الموضوع، وفي جملتهم ” لونسدال ” و ” لورا راغ
” اللذان يزعمان أن إلمام كاتب هذا الإنجيل بالإسلام قليل، فكان هذا من جملة
الأسباب التي حملتهما علي نفي القول بأصل عربي، ومن ذلك حديث ” إبراهيم
” مع أبيه، ومنه ما ينطبق علي سورة 21و 37، وكقوله عن سبب سقوط ” إبليس ”
انه أبى أن يسجد لآدم علي حد ما جاء في سورة ” البقرة “، وكذلك ما ورد
في سورة الحجر، ولولا ضيق المقام لأوردت كثيراً من تلك الفقرات مع ما يقابلها من
آيات القرآن، وليس ذلك فقط، بل أن في إنجيل برنابا كثيرا من الأقوال التي تنطبق
على الأحاديث النبوية والأساطير العلمية التي لم يكن يعرفها حينئذ غير العرب، حتى
انك لا تكاد تجد في هذه الأيام – علي كثرة المستشرقين والمشتغلين باللغة العربية
وتاريخ الإسلام من الغربين – من يعد عالما بالحديث.

ومن
جملة الأسباب التي تحدو بي إلى هذا الزعم أن طراز تجليد النسخة الإيطالية إنما هو
طراز عربي بلا مراء، علي ما تقدم الإلمام إليه، والقول بأنه من صنع الباريسيين
اللذين استقدمها ” الدوق دي سافوي ” تقليدا للطراز العربي، لا يتعدى
الحدس والتخمين.

 

17- الكاتب من وجهه نظر المترجم:

غير
أن القول بأن هذا الإنجيل عربي الأصل لا يترتب عليه أن يكون كاتبه عربي الأصل، بل
الذي أذهب إليه أن الكاتب يهودي أندلسي اعتنق الدين الإسلامي بعد تنصره واطلاعه
على أناجيل النصارى، وعندي أن هذا الحل هو اقرب إلى الصواب من غيره،لأنك إذا أعملت
النظر في هذا الإنجيل وجدت لكاتبه إلماما عجيباً بأسفار العهد القديم ”
التوارة ” لا تكاد تجد له مثيلا بين طوائف النصارى إلا في أفراد قليلين من
الأخصائيين الذين جعلوا حياتهم وقفاً على الدين كالمفسرين، حتى انه ليندر أن يكون
بين هؤلاء أيضا من له إلمام بالتوراة يقرب من إلمام كاتب إنجيل برنابا، والمعروف
أن كثيرين من يهود الأندلس كانوا يتضلعون في العربية، ولقد نبغ بينهم من كان له في
الأدب والشعر القدح المعلى، فيكون مثلهم في الاطلاع على القرآن والأحاديث النبوية
مثل العرب أنفسهم.

ومما
يؤيد هذا المذهب ما ورد في هذا الإنجيل عن وجوب الختان، والكلام الجارح الذي جاء
فيه من أن الكلاب أفضل من الغلف، فان مثل هذا القول لا يصدر عن نصراني أصيل، وأنت
إذا تفقدت تاريخ العرب بعد فتح الأندلس وجدت انهم لم يتعرضوا بادئ ذي بدء لأديان
الآخرين في شيء عي الإطلاق، فكان ذلك من جملة البواعث التي حدت بأهل الأندلس إلى
الرضوخ لسطوة المسلمين وسيطرتهم، وثابروا على هذه الخطة في جميع الأمور الدينية إلا
في شئ واحد وهو الختان إذ جاء زمن أكرهوا فيه الأهالي عليه وأصدروا أمرا يقضى على
النصارى باتباع سنة الختان على حد ما كان يجرى عليه المسلمون واليهود، فكان هذا من
جملة البواعث التي دعت النصارى إلى الانتقاض عليهم. أما يهود الأندلس فانهم كانوا
يدخلون في الإسلام أفواجا وليس ذلك فقط بل كانت لهم يد كبيرة في إدخال المسلمين
أسبانيا ورسوخ قدمهم فيها في ذلك العهد الطويل.

ومما
يعزز هذا الرأي أيضا أن هذا الإنجيل يتضمن كثيراً من التقاليد التلمودية التي
يتعذر على غير يهودي معرفتها، وفيه أيضا شئ من معاني الأحاديث والأقاصيص الإسلامية
الشائعة على ألسنة العامة، ولا سند لها من كتب الدين، ولا يتأتى لأحد الاطلاع على
مثل هذه الروايات إلا إذا كان في بيئة عربية، فالرأي الذي اذهب إليه من أن الكاتب
الأصلي هو يهودي أندلسي اعتنق الإسلام يعلل جميع ما تقدم تعليلا واضحا.

 

18- الكاتب والوسط الإيطالي:

إلا
أن البعض يذهب إلى أن الوسط الذي ظهر فيه الإنجيل إنما هو إيطالي نحو أوائل القرون
الوسطى، وأن كاتب هذا الإنجيل إيطالي من ذلك الزمن بدليل أن مجمل روح الإنجيل
وعباراته تدل على هذا الوسط، فقد ذكر في عرض الكلام عن الحصاد وأناشيد المغنيين ما
يصح أن يكون وصفا حرفيا لما يحدث الآن في ” توسكانيا ” و” تينو
” من إيطاليا، وأن الإشارة إلى استخراج الحجارة من المقاطع ونحتها وبناء
البيوت بالحجارة الصلدة اصح على كاتب من أمة خبيرة بالبناء منه على كاتب من العرب
الذين يقيمون في الخيام، وقس عليه ما جاء عن حمل العبد خبزاً لفعلة سيده في الكروم
عن دوس العنب بالأقدام في المعاصر إلى آخر ما هناك من مثل هذه الإشارات.

والحق
يقال أنى لم أجد في كل ذلك ما هو أدل على وسط غربي منه على شرقي، إلا ذا كان مراد
الكاتب أن يكون ذلك الوسط الشرقي بلاد العرب نفسها، فإن ما ورد فيه ينطبق انطباقا
تاماً على ما كان جارياً في فلسطين وسوريا فيعهد المسيح، ولا يزال كذلك لهذا العهد
الحاضر، فالحصادون والحصادات ينشدون أناشيد يرن صداها في جوانب السهول وبطون
الأودية، والبناءون يقطعون الحجارة وينحتونها على نحو ما ذكر ” برنابا
“، ولا يسكن الخيام إلا البدو الرحل الذين ليسوا من أهل البلاد، ويحمل
الغلمان والقوم الزاد لمن في الكروم أثناء القطاف كما يحملونه للفعلة أثناء
الحراثة، ويدوسون العنب بأقدامهم على ما هو معهود من أمره في فلسطين وسوريا وبلاد
الشرق كله، إلا أنه لابد لي من الإقرار بأن هنالك بعضاً من الأدلة يتعذر تطبيقها
على ما كان شائعا في ذلك الزمن في فلسطين، منها الإشارة إلى كيفية تنظيف براميل
النبيذ وجدلها لهذا الغرض، والمعروف في فلسطين قديما – وفي يومنا الحاضر – أن
الخمور توضع في جرار كبيرة أو في زقاق، ومنها الإشارة إلى الفرق بين إعدام السارق
شنقا أو إعدام القاتل بقطع الرأس، وهو مما لم أقف له على أثر من التاريخ القويم
لفلسطين، ومهما يكن من الأمر فإن الأوصاف التي تنطبق على إيطاليا تنطبق أيضا على
بلاد الأندلس من كل وجه.

 

19- مصطفي العرندي ودوره:

وسواء
كان كاتب الإنجيل يهودي الأصل، أو نصرانيه، فمما لا شبهه فيه أنه كان مسلما، ومما
يبعث على الأسى فقدان النسخة الأسبانية التي مر بيانها، وخصوصا لأن العلماء الذين
وصلت تلك النسخة إلى أيديهم لم يبحثوا فيها بحثا علميا كما فعلوا في النسخة
الإيطالية، وخصوصا لأننا لا نعرف شيئا عن مترجمها “مصطفي العرندي ” لان
ترجمة حياة مسلم نظيره أتقن اللغتين الإيطالية والأسبانية، وهما اللغتان اللتان
ظهر بهما إنجيل برنابا إلى الوجود، لا تخلو من أهمية وتبصرة.

 

20- الجزم بكتابة الكتاب في العصور الوسطى:

ولقد
علمت مما مر بك إن الثقات مجمعون على أن إنجيل برنابا كتب في القرون الوسطى غير أن
هنالك دليلا أكيدا يتمكن معه من الجزم بشأن الزمن الذي كتب فيه، فقد ورد فيه ما
نصه ” إن سنة ” اليوبيل ” التي تجئ الآن مرة كل مائة سنة، والمعروف
أن ” اليوبيل ” اليهودي لم يحدث إلا مرة كل خمسين سنة، وليس من ذكر في
التاريخ ل ” يوبيل ” يقع كل مائة سنة إلا في الكنيسة الرومانية وكان أول
من احتفل به البابا بونيفاسيوس الثامن سنة 1300م، وقال بلزوم تكراره في كل فجر قرن
جديد، ولكن ” اليوبيل ” الأول في السنة المذكورة كان باهراً جداً، ودر
على الخزينة البابوية خيرا كثيرا، فلهذا وإجابة لرغائب الشعب رأى أكليمنضوس السادس
تقصير المدة فجعله مرة كل خمسين سنة فوقع اليوبيل الثاني سنة 1350 ثم أمر البابا
” اربانوس السادس ” في سنة 1398 أن يحتفل به مرة كل ثلاث وثلاثين سنه
تذكارا لعمر ” المسيح ” ثم جعله البابا ” بولس الثاني ” كل
خمس وعشرين سنة مرة، فترى مما تقدم أن الزمن الوحيد الذي يمكن فيه لكاتب أن يتكلم
عن ” يوبيل ” يقع مرة كل مائة سنة هو النصف الأول في القرن الربع عشر،
ويترتب على هذا أن يكون الكاتب معاصرا للشاعر ” دانت ” الشهير على ما مر
الإلماع إليه في محله، غير أنك إذا أعملت النظر فيما كان عليه الكاتب من سعة الاطلاع
على أسفار العهد القديم ” التوراة ” تعذر عليك أن تفقه كيف يقع مثله في
غلط لا يخفي على البسطاء، ولعل الصواب أن هنالك خطأ في النسخ أسقط الناسخ فيه بعض
حروف من كلمة خمسين الإيطالية فصارت تقرأ مائة، لان في رسم الكلمتين ما يسهل
الوقوع في مثل هذا الخطأ.

 

21- مرسوم البابا جلاسيوس الخامس ” 469م “:

على
أن القول بانتحال أحد كتاب القرون الوسطي لهذا الإنجيل برمته لا يخلو من نظر، لأن
نحوه أو ثلثه علي الأقل يتفق مع مصادر أخري غير التوراة والإنجيل والتلمود والقرآن
إذ فيه تفاصيل ضافية الذيول لم يرد لها ذكر في الأناجيل إلا على طريق الاقتضاب،
وليس لبعضها ذكر بالمرة، وأن على كثير من هذه المزايدات صبغه القدمية، ويذكر
التاريخ أمراً أصدره البابا ” جلاسيوس الأول ” الذي جلس على الأريكة
البابوية سنة 492م يعدد فيه أسماء الكتب المنهي عن مطالعتها وفي عدادها كتاب يسمى
إنجيل برنابا، فإذا صح ذلك كان هذا الإنجيل موجودا قبل ظهور نبي المسلمين بزمن
طويل، وهو دليل على أن هذا الإنجيل لم يكن لابسا حينئذ هذا الثوب القشيب الذي يرفل
فيه الآن، لأن مجرد إصدار البابا المشار إليه نهيا عن مطالعته دليل على شيوعه أو
على اشتهار أمره بين خاصة العلماء أن لم يكن بين العامة، فمن المستبعد أن لا يتصل
خبره ولو سماعا بنبي المسلمين وفيه العبارات الصريحة المتكررة بل الفصول الضافية
الذيول التي يذكر أسمه في عرضها ذكرا صريحا لا يقبل شكا أو تأويلا لا سيما بعد أن
نهض تلك النهضة التي مادت لها الجبال الراسيات، ونفخ في قومه تلك الروح التي وقف
لها العالم متهيبا ذاهلا، وجرى ذكره على كل شفة ولسان، وأتى من عظائم الأمور ما
كان سمر القوم وحديث الركبان، وليس ذلك فقط بل لم يتصل أيضا شئ من ذلك بخلفائه
الذين أتوا بعده، حتى ولا بالعرب الذين دخلوا الأندلس، وبسطوا ظل مجدهم عليه،
ويذهب بعض العلماء المدققين إلى أن أمر البابا “جلاسيوس ” المنوه عنه
إنما هو برمته تزوير وهو قول موسوعات العلوم البريطانية أيضا.

بيد
أن هناك إنجيلاً يسمي الإنجيل ” الاغنسطي ” طمست رسومه وعفت آثاره،
يبتدئ بمقدمة تندد بالقديس ” بولس ” وينتهي بخاتمة فيها مثل ذلك
التنديد، ويذكر أن ولادة ” المسيح ” أتت بدون ألم، ولما كان كل ذلك في
إنجيل برنابا فمن المحتمل أن يكون ذلك الإنجيل ” الاغنسطي ” أباً لإنجيل
برنابا هذا، وأن أحد معتنقي الإسلام من اليهود أو النصارى عثر علي نسخة منه في
اليونانية أو اللاتينية في القرن الرابع عشر أو الخامس عشر فصاغه في القالب الذي
تراه فيه الآن فخفي بذلك أصله.

 

22- مصادر إنجيل برنابا:

ويعتمد
هذا الإنجيل في إيراد هذه الشواهد علي الأسفار المعهودة للعهد القديم، فقد استشهد
منها باثنين وعشرين سفرا أخصها الزبور وسفر أشعياء وأسفار موسى، وأكثر رواياته
منطبق علي الأناجيل الأربعة، وبعضها موافق لها بالنص خلا بعض اختلافات لا يعبأ
بها، كمحادثة ” المسيح ” المرأة السامرية، ويتضمن أيضا جملا واردة في
الرسائل إلا أنها قليلة جدا، وذكر في قصة ” حجي وهوشع ” أن الناس لا
يصدقونها مع أنها مسطورة في سفر ” دانيال “، ولا وجود لها في السفر
المذكور – كما هو في العهد القديم – وجاء في عرض رواياته له، كان يوجد كتاب في
مكتبه رئيس الكهنة عن ” إسماعيل ” يذكر فيه أنه هو ابن الموعد، ولم أقف
علي ذكر لهذا الكتاب في غير هذا الموضع.

 

23- الكتاب والأناجيل الأربعة:

ويباين
هذا الإنجيل الأناجيل الأربعة المشهورة في عدة أمور جوهرية، (أولها) قوله أن
” يسوع ” أنكر ألوهيته وكونه ابن الله، وذلك علي مرأى ومسمع من ستمائة
ألف جندي وسكان اليهودية من رجال ونساء وأطفال. (والثاني) أن الابن الذي عزم
” إبراهيم ” علي تقديمه ذبيحة لله إنما هو ” إسماعيل ” لا
” إسحاق “، وأن الموعد إنما كان بإسماعيل. (والثالث) أن ” مسيا
” أو ” المسيح ” المنتظر ليس هو ” يسوع ” بل محمد باللفظ
الصريح المتكرر في فصول ضافية الذيول وقال أنه رسول الله 000(والرابع) أن ”
يسوع ” لم يصلب، بل حمل إلى السماء، وأن الذي صلب إنما كان ” يهوذا
” الخائن الذي شبة به 00

ويباين
الأناجيل الأصلية أيضا في بعض أساليبه لأنه كثيرا ما يخوض في المسائل الفلسفية
والمباحث العلمية مما لم يرو قط عن ” المسيح ” الذي كانت تعاليمه
الباهرة ومباحثه الدينية علي ما هي من التفرد في السمو عنوان البساطة حتى كان
يفهمها لأول وهله الزارع والصانع والسيد والخادم والشيخ والفتي دون أدني إجهاد
للذهن.

 

24- الكتاب وفلسفة العصور الوسطى:

والفلسفة
التي تتخلل مباحث هذا الإنجيل إنما هي ضرب من فلسفة ” أرسطوطاليس ” التي
كانت شائعة في أوائل القرون الوسطي في أوربا، فكان ذلك من جملة أدلة بعضهم علي أن
كاتب هذا الإنجيل رجل نبغ هناك في تلك العصور، فهو غربي المحتد لا عربيه، ولكن
فلسفة ” أرسطوطاليس ” لم تصل إلى الغربيين إلا من العرب، وخصوصا عرب
الأندلس الذين دوخوا أسبانيا وأضاءوا بمشكاة علومهم تلك الأعصر الأوروبية التي كان
الجهل مخيما فيها، ظلمات بعضها فوق بعض، فإذا صح اعتبار تلك الفلسفة دليلا علي
الكاتب كانت أدل علي أصل عربي منها علي أصل غربي.

وكيف
كان الحال فيه فالحقيقة التي لا مراء فيها أن كاتب إنجيل برنابا كان علي جانب كبير
من الفلسفة وسمو المدارك وقوة الحجة، وشدة العارضة، وجلاء البيان، وأن مباحثه
الفلسفية في الجسد والحس والنفس من الوجهة الدينية لمن أسمى ما كتب الباحثون
الدينيون في هذا الموضوع 000

ولابد
قبل الختام من الإلماع إلى أنني أليت علي نفسي ترجمة هذا الإنجيل بالحرف الواحد،
متوخيا أبسط الألفاظ وأسهل الأساليب، معرضا في ذلك عن تنميق العبارات وتوشية
الكلام، مفضلا الأمانة في الترجمة، والبساطة في التعبير علي الفصاحة والبلاغة متي
كان فيهما أقل عدول عن الأصل فهو مطابق من كل وجه للترجمة الإنجليزية المأخوذة من
الأصل الإيطالي خلا الأعداد الموجودة فيه فأني وضعتها من عندي تسهيلا للإشارة إلى
الكلام عند الحاجة.

وإني
أسدي في هذا الموقف أجمل الشكر وأطيب الثناء إلى حضرة العالم المحقق ”
لونسدال راغ ” نائب مطران الكنيسة الإنجليزية في ” فنيس ” وعلي
حضرة العالمة المدققة ” لورا راغ ” عقيلته اللذين أذنا لي بترجمة هذا
الإنجيل إلى العربية عن ترجمتها الإنجليزية التي إصدارها حديثا مع الأصل الإيطالي
فخدما بذلك التاريخ خدمه يذكرها لهما العلم معطرة الثناء لما عانيا في دقة الترجمة
والمحافظة علي الأصل وهو عمل شاق لا يقدره قدره إلا من يقوم بمثله، وأهدي مثل هذا
الشكر إلى حضرة الفاضل أمين مطبعة ” كلارندن ” في ” أكسفورد ”
التي التزمت طبع هذا الإنجيل ووضعت بين أيدي القراء كتاباً نادراً فكان ذلك من أجل
الخدمات العلمية المتعددة التي قامت بها هذه المطبعة الشهيرة.

ولا
أري مندوحة في الختام من التنبيه إلى أني قد التزمت في هذه المقدمة البحث في هذا
الإنجيل من الوجهتين التاريخية والعلمية فقط لأني ترجمته كما جاء في صدر هذه
المقدمة خدمة للتاريخ دون سواه، ولذلك قد أعرضت كل الأعراض عن المناقشات الدينية
المحضة التي أتركها لمن هم أكثر مني كفاءة.

القاهرة
في 15 مارس سنة 1908م.

خليل
سعادة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار