اللاهوت العقيدي

مقدمة الطبعة الأُولى( )



مقدمة الطبعة الأُولى( )

مقدمة الطبعة الأُولى([1])

لكي نقيم دراسة
ليتورجية إفخارستية تكون ذات أثر في العبادة وذات توجيه روحي تَقَوِي، لابد أن
نرجع إلى الأصول الأُولى للتقليد الليتورجي كما عرفته ومارسته الكنيسة الأُولى.

ونحن لا نريد أن نفرِّق
بين الممارسة العملية للخدمة الإلهية وبين الدراسة اللاهوتية الصادقة بحسب وضعها
الآبائي، لأن الآباء الذين كتبوا في علم اللاهوت الإفخارستي([2]) كانوا
يمارسونه بتقوى وورع شديدين بل بشغف وتأمل وعبادة صادقة. لذلك يستحيل أن نحرم
الدراسة الليتورجية من الغنى والزخم الروحي المتكاثف في التقليد الإفخارستي الآبائي.

والملاحَظ أن الملء
الروحي للكنيسة المنبعث من الممارسة الليتورجية لم يفرغ قط من جيل إلى جيل، ولم
يتناقص قط بمرور الزمن أو حركة التاريخ من مد وجزر، مع أن الليتورجيا أصابها كثير
من الغموض وعدم الفهم، بسبب اختلاف اللغة أو عدم فهم الترجمة الصحيحة للمعاني القديمة
أو خروج مضمون الصلوات القديمة عن المألوف العام بسبب تغيُّر البيئة والمعرفة
والعادات.

كذلك وبالرغم أيضاً من
دخول الليتورجيا([3])،
بعد المجامع([4])
المتعددة، في قيود القوانين وعدم التغيير التي جمَّدت كثيراً من الانطلاق التأملي
الحر في الصلاة الذي كانت تنعم به الكنيسة الأُولى، حينما كان الأسقف يضع صلواته
في الإفخارستيا بنفسه ويزيد عليها بقدر النعمة المعطاة له([5])،
وبالرغم من قلة الإقبال على الدراسة التاريخية أو الشرح اللاهوتي لليتورجيا؛ نقول
بالرغم من ذلك كله، فالملء الروحي للكنيسة بسبب الإفخارستيا وليتورجيتها لا يزال
يفيض بسخاء فيضاً سريًّا سماوياً على المؤمنين بسبب الممارسة العملية وتذوُّق
الشعب للأسرار بروح الإيمان.

هذا يجعلنا نؤمن ونتيقن
أن سر الإفخارستيا ينبع من مصادر أعمق من التاريخ وأعمق من القوانين وأعمق من كل
القدرات البشرية ومحدودية الفكر البشري.

لذلك فعملنا الوحيد
الذي نستطيع أن نعمله في دراسة الإفخارستيا وليتورجيتها هو أن نجعل هذا العمق
الروحي الذي نتذوقه منها على مستوى الوعي التاريخي والإدراك اللاهوتي والمعرفة
بالتقليد الصحيح الذي كان يعيشه الآباء.

لأنه كم يسعدك أيها
القارىء أن تعرف ما هي صورة القداس الذي كان يصلي به البابا أثناسيوس الرسولي؟ وما
رأي هذا الأب الكبير في خدمة المذبح والهيكل؟ وفي صلوات الإفخارستيا واحدة فواحدة؟
وهل كانوا في أيامه يسبِّحون تسبحة الشاروبيم؟ وما رأي القديس أثناسيوس في ملائكة
المذبح وفي الجسد والدم، وما هو أثر التناول في عقيدة القديس أثناسيوس؟ ثم وقبل
ذلك أيضاً ماذا كان شكل القداس في القرن الثاني الميلادي، في مصر؟ ثم كم تندهش بل
وكم تفرح وتتهلَّل عندما تسمع من كلمندس الإسكندري الذي عاش في القرن الثاني كمدير
لمدرسة الإسكندرية، أنه كان يسبِّح بالمزمور 150 أثناء التوزيع؟ كما تسبِّح به أنت
الآن في القرن العشرين!! وكم تتعجب عندما يقص عليك البابا القديس ديونسيوس الكبير
البابا الرابع عشر (241264م.) قصة الرجل الذي توسَّل إليه البابا
كثيراً أن يتشجَّع ويتناول وهو محجم من رهبة المذبح ومخافة الجسد والدم!

وهل يمكننا أن نتكلَّم
ونبشر العالم بالإفخارستيا وتقليدها اللاهوتي في مصر ونحن لسنا على دراسة دقيقة
بأصولها الأُولى وتاريخها منذ البدء؟

لقد سبَقَنا علماءُ
الغرب في دراسة ليتورجياتنا، وكثير منهم مَنْ قضى حياته تقريباً، مثل “جون نيل”،
في دراسة قدَّاس مار مرقس الرسول وبقية القداديس المصرية! كان هذا في القرن
الماضي!! وغيره أيضاً من العلماء المخلصين مثل
» هانز
ليتزمان
« و» سراولي « و» جريجوري دكس «[6])، و» لوي بوييه «(رجع إلى الأصول العبرية في الليتورجيا القبطية)، و» هامان « و» هامون « و» برايتمان « و» إرك وارنر « و» نورمان « و» فريير « حوالي 35 عالماً لهم 35 دراسة ومجلَّداً وغيرهم من العلماء
الألمان القدماء.

ولكن بالرغم من أن هذه
الدراسات دقيقة ومستفيضة ولم تترك شاردة ولا واردة، إلاَّ أنها في مجموعها لا تعطي
الأساس الذي نتوق إليه ليكون القاعدة التقليدية السليمة، ليس من جهة العلم والدراسة وحسب، ولكن من جهة الروح والإيمان الحي،
حتى يمكن أن تنبني عليها عبادتنا
الليتورجية.

وقبل أن نؤسِّس هذا
الأساس الذي يجمع بين دقة العلم وفحص التاريخ مع فيض الروح ومجرى التقليد معاً، لن
نستطيع القول أن لنا ليتورجيةً ولاهوتاً ليتورجياً يمكننا أن نواجه العالم به.

نعم، لقد سبقتنا
الكنائس التقليدية الغربية والشرقية في هذا المضمار، فمنذ القرن السابع عشر بدأت
حركة الوعي والتجميع الليتورجي على يدي العالمين الكبيرين إسحق هوبرت
Isaak Hubert، وجاك جوار Jacques
Goar
الأول ألَّف أول دراسة
للطقوس والرئاسات الكهنوتية في الكنيسة اليونانية سنة 1647م
‘ArcieratikÒn، وفي نفس السنة أيضاً أخرج جاك جوار كتابه عن القداسات أو الطقوس
اليونانية
EÙcolÒgion

وكان هذان المؤلَّفان
هما الأساس الذي بدأ عليه الغرب نهضته الليتورجية، لأن منذ ذلك التاريخ وحركة
التأليف والنشر تسير بسرعة لحساب العلماء والباحثين من قواميس ونصوص ومخطوطات
وبرديات وكل ما يحتاجه أي باحث أو عالم في دراساته الليتورجية كان يجده في متناول
يده، وبدأت الدراسات والرسائل والمنشورات الدورية والمجلات العلمية تتخصص في
المجال الليتورجي بصورة حيَّة وفعَّالة.

وحذت بعد ذلك الكنيسة
اليونانية والكنيسة الروسية حذو الكنيسة الغربية، وبدأت فيهما نهضة دراسية مماثلة
لليتورجيا والطقوس الكنسية، ولكن بعد مضي حوالي قرنين كاملين من الزمان من بعد
نهضة الغرب. وبدأت الدراسات ضعيفة تتبع الطرق المدرسية والرمزية وتنحصر في التاريخ،
أعقبتها نهضة أخرى لاهوتية. وتبعت هذه النهضة الدراسية اللاهوتية نهضة في العبادة
([7]).

وكان من أئمة
اللاهوتيين في ذلك العصر (منتصف القرن التاسع عشر) في روسيا
» ن. ف.
كرازنوسلتسيف، و أ. أ. ديمتريفسكي، والأسقف بورفيري أوسبنسكي (الذي زار مصر ودرس
كتب الصلوات والليتورجيا القبطية وشهد بعدم أوطاخية الكنيسة القبطية وأعلن اعتقاده
بأرثوذكسيتها)، وخومياكوف
«

وبالرغم من أن هذه
النهضة عموماً، شرقاً وغرباً، قامت على أسس تاريخية، إلاَّ أنها عملت على تقدُّم
البحث الليتورجي في الكنيسة الغربية والشرقية بدرجة عظيمة. وكانت في جملتها
تمهيداً رائعاً للدراسات اللاهوتية في مجال الليتورجيا، وبالتالي أدَّت إلى نمو
وتفتُّح في
الليتورجيا،
أي إحياء واستعادة الخدمات الإلهية بكافة فروعها، وخصوصاً في روسيا، وإنما في حدود
التلمذة الصحيحة للاهوت الأصيل.

وخير مَن يمثِّل لنا
حقبة الانتقال من التمهيد التاريخي في البحث الليتورجي إلى الدخول في عتبة الأبحاث
اللاهوتية الصميمة عند الغرب عموماً هو العالِم
» ف. كابرول F. Cabrol «الذي كتب سنة 1907 يقول:

[الآن أصبحت » الليتورجيا «علماً ليس
بقليل الشأن، والآن يجوز لنا بحق أن نقول إن أساس البناء الليتورجي العام قد تمَّ
مسحه مسحاً ميدانياً، وأن كافة فروع هذا العلم قد أصبحت الآن مستكملة. ولكن ما
تبقَّى في هذا العمل ليس بالهين اليسير ولا هو بالأمر الذي يستهوي الباحثين.]([8])

وكان » كابرول «يقصد ذلك
العمل الجبار المضني المختص بمراجعة الأصول وتحقيقها ونقد المراجع العامة لمزيد من
ضمان جمع كل المعرفة تحت عمل واحد يتمشَّى مع العبادة الصحيحة.

وواضح أن القرن التاسع
عشر انصرم كله دون أن ينتبه أي باحث في الغرب كله إلى عظمة التقليد الليتورجي،
فبقيت كل أبحاثه، شأن كل الدراسات الكنسية، مغلقة وعاجزة دون الانتقال إلى المستوى
اللاهوتي اللائق بها.

ولكن ببزوغ القرن
العشرين بدأت حركة انبعاث في الوعي الكنسي عموماً لدى كل علماء الغرب والشرق ما
عدا مصر.
وهذه الحركة شملت الوعي الليتورجي معها بالضرورة، فدخلت
الكنيسة في عصر تفهُّم كامل لقيمتها اللاهوتية على كل المستويات وخاصة الليتورجية
منها، لا بصفتها جماعة مؤمنين وحسب بل بصفتها جسد الرب الحي.

ولقد نشطت حركة النهضة
الليتورجية على المستوى اللاهوتي الحي بصفة خاصة بعد الحرب العالمية الأُولى (19141918)،
وبدأت الليتورجيا في كل كنيسة تتضح صورتها التقليدية الخاصة بها وينمو وعيها
اللاهوتي بتقليدها ويمتد ويكبر على ضوء تاريخها الذي كان قد تمهَّد تمهيداً حسناً
بالدراسة الوافية لدى كل كنائس العالم أرثوذكسية أو كاثوليكية أو بروتستانتية.
وخير مَنْ يلقي الضوء على تطوُّر هذه النهضة الليتورجية ومراحل نموها بدقة وإخلاص
هو العالم دوم أ. روسو، في كتابه
» تاريخ الحركة
الليتورجية.
«[9])

وإن خلاصة ما انتهى
إليه علم الليتورجيا على المستوى اللاهوتي، أو باختصار، فإن أعظم ما وصل إليه
اللاهوت الليتورجي في الكنيسة عامةً شرقاً وغرباً نتيجة لهذه النهضات المتواثبة في
هذا الميدان هو أن المسيحية ليست عقائد وحسب، بل هي أيضاً وقبل ذلك فعل وعمل وصلاة
وخدمة شعبية روحية عميقة حيَّة، حيث لا ينحصر مفهوم التقوى في النظرة أو العمل
الفردي المنحصر في التاريخ، ولكن يلزم حتماً أن يشمل استعلان الكنيسة ووعيها
بذاتها ككل على المستوى الأبدي.

ونتيجة لهذا الوعي
المتزايد يكون من الرائع حقاً أن تصبح العبادة مدخلاً لفهم الكنيسة، كما تصبح
الدراسة الكنسية مدخلاً للعبادة على قدم المساواة، على أن تكون العبادة هي شركة كل
شعب الله في الخدمة الإلهية على مستوى الملء الروحي حيث تبلغ الكنيسة قصدها
الإنجيلي الحقيقي، أي إلى ملء قامة المسيح بصفتها جسده الحي.

وهكذا ينتهي الوعي
الليتورجي بمستواه اللاهوتي القائم على أساس تقليدي وتاريخي صحيح إلى حياة الكنيسة
بحسب الله كمسئولة عن الشهادة للمسيح بخدمتها الصادقة له في الداخل أولاً قبل
الشهادة له في الخارج.

ولكن يلزمنا أن نعرف أن
» اللاهوت الليتورجي «ليس مجرد
نهضة روحية للعبادة داخل الكنيسة، ولكنه يختص أيضاً بإعطاء الخدمات الدينية
مفهومها الصحيح ووضعها الصحيح موضِّحاً وشارحاً ومحدِّداً بالروح كل مقولات الطقس
وكل معطياته بحيث لا تكون خدمة قائمة في الكنيسة قط إلاَّ ومضمونها اللاهوتي قائم
معها، إن لم يكن في أذهان الشعب عموماً فلا أقل من أن يكون في أذهان القائمين
بالخدمات والتعليم على كل المستويات، على أن يعطوه للشعب قليلاً قليلاً. وبحيث
أيضاً لا تُعطى الفرصة للقائمين بالخدمة أو التعليم أن يزيدوا أو يُنقصوا مما هو
في الطقس بحسب التقليد الذي يتولَّى البحث العلمي الدقيق تحديده وتقنينه.

ومن الأمور التي سوف
تُسهِّل أمامنا مشقة الأبحاث التاريخية وتهوِّن علينا من ضخامة الجهد اللازم
لتحقيق النصوص في مجالاتنا القبطية، هو أن الليتورجيا القبطية دخلت بحكم الضرورة
ضمن دائرة أبحاث علماء الليتورجيا في الغرب، كعمل لا مناص منه، باعتبارها بدء
البدء في الدراسة التاريخية للنصوص والمؤلفات الليتورجية للكنيسة المسيحية عامةً.

فأمامنا، إذاً، من
المراجع التاريخية والأبحاث والنصوص المشروحة والقواميس والإنسيكلوبيديات
والدراسات الأكاديمية الفائقة في الدقة والأمانة العلمية شيء كثير جداً لا يُستهان
به في المجال التاريخي، بحيث لا يوجد أمام الباحث القبطي الدؤوب إلاَّ تحصيل
المعارف الجاهزة وهضمها وصياغتها بالروح القبطية.

أمَّا من جهة المجال
اللاهوتي لليتورجيا، فوإن كان علماء الغرب قد أهملوه أو شوهوه أو جاروا عليه، فهذا جزاء قعودنا نحن أو رقادنا نحن هذه
السنين الطوال، على أنهم لم يتركوا المجال اللاهوتي
لنا في فراغ بل وضعوا
له الأسس التي وإن كان علينا أن لا نتمسك بها تمسُّك الأعمى، إلاَّ أنه علينا أن
نسترشد بنهجها بالقدر الذي يفتح أمامنا مجالات البحث لبذل قدراتنا الخاصة والجديدة
التي تتناسب مع تقليدنا اللاهوتي العريض، الذي لو كان الغرب يملك مثيله لانبعثت
كنيسة الرسل من جديد.

والذي يسترعي انتباه
الباحث أو القارىء في الليتورجيا القبطية هو أنه سيجد البحث في منابعه الأُولى
مهما كان مضنياً، مُشْبِعاً لروحه شبعاً يفوق التصوُّر، فهو عبادة بحد ذاته. إن
النصوص الليتورجية القبطية القديمة التي تقع عليها عين الباحث أو أُذن القارىء
والتي تعود إلى القرن الثاني الميلادي تتكلَّم بنفس الروح التي نتكلَّم بها اليوم،
إنها لم تكُفّ قط عن الشهادة لمجد الله في كنيسته، ولكنها بقيت في صمت الكتب
والرقوق والبرديات ومكتبات العالم تنتظر مَنْ يذيع صوتها، على أولادها أولاً، ثم على
العالم.

ما هو علم اللاهوت
الليتورجي؟

إذا
كانت الليتورجيا هي الخدمة الإلهية العملية التي تقوم بها الكنيسة بكل كيانها
الكهنوتي والشعبي، وإذا كان علم اللاهوت هو فهم كل ما يخص طبيعة الله الفعَّالة في
الكنيسة وفي الإنسان عامةً، في عبارات
إيمانية قانونية، فهذا ينتهي بنا إلى أن
تعريف اللاهوت الليتورجي ينبغي أن ينقسم إلى قسمين:

الأول: هو شرح الليتورجيا شرحاً إيمانياً يوضِّح معنى الطقوس والصلوات في العبادة
ليعطيها قيمتها
الروحية الصحيحة، وبالتالي يُظهر أهميتها ومدى صحة التزام
الإنسان بها كتقليد.

والثاني: رفع هذه المفهومات وهذه الإيضاحات إلى مستوى الإيمان والعقيدة التي تربطنا
بطبيعة الله
.

فمثلاً، نحن في القداس
نسبِّح
» تسبحة الشاروبيم «بصوت مُدوٍّ. فالمطلوب
بحسب مستلزمات علم اللاهوت الليتورجي أن يكون الإيضاح كالآتي:

أولاً: من جهة
الليتورجيا بحد ذاتها:

(أ) ما هي هذه التسبحة
وما هو تاريخ استخدامها في القداس ومدى علاقتها بالتقليد القبطي أولاً ثم بالتقليد
الكنسي عامةً.

(ب) ما قيمة هذه
التسبحة روحياً بالنسبة للقداس عامةً وبالنسبة لتقديس القرابين بوجه خاص.

(ج) هل أهمية هذه
التسبحة تبلغ إلى حد الالتزام بها كتقليدٍ هام ينبغي أن نتمسَّك به جداً ونشترك
فيها بكل روحنا وكياننا؟

ثانياً: من جهة علم
اللاهوت بحد ذاته:

ما هي علاقة طبيعة الله
بتسبحة الشاروبيم؟ وهل الله يطلب منَّا أن نشترك فعلاً في تسبحة الشاروبيم في هذه
اللحظات؟ إذاً، ما هو النص الإيماني الذي يمكن وضعه لتحديد القيمة الإيمانية
لتسبحة الشاروبيم في الليتورجيا حتى تصير مقولة قانونية ليتورجية في اللاهوت
الأرثوذكسي؟ حتى نعرفها نحن أولاً لأنفسنا ثم يعرفها عنَّا العالم كله ثانية!

وهكذا يصبح علم اللاهوت
الليتورجي واسطة لمعرفة ماهية الكنيسة أولاً، ثم واسطة أيضاً لاستعلان الكنيسة
للعالم كله.

وما أحوج الكنيسة أن
ترفع كل تقليدها السرائري إلى مستوى اللاهوت أو المقولات اللاهوتية السهلة، حتى
يمكن أن تحقِّق الكنيسة نفسها بالمعرفة والإيمان والفهم والعمل إلى أقصى ما يمكن
من الكمال السرائري.

إن كل دراسة لاهوتية
حيَّة للأسرار سوف تدفع الإكليروس والشعب إلى الإقبال على ممارسة الأسرار بإيمان
حار وثقة شديدة وحب وشغف، من شأنه أن يجعل التقليد السرائري خلاصاً وحياةً بالحق،
كما وضعه الرب تماماً:
» مَنْ آمن واعتمد خلص «(مر 16: 16)، و» مَنْ يأكل جسدي ويشرب
دمي فله حياة أبدية وأنا أُقيمه في اليوم الأخير.
«(يو 54: 6)

ولكن نقول الحق إن هذا
العمل شاق، ولكنه هام، إنه يقوم على الدراسة اللاهوتية الواعية قبل أن يبلغ إلى حد
التعريف السهل والمقولة الحلوة. ولكنه على كل حال ضرورة حتمية موضوعة على الكنيسة،
وهي وضعته على أعناقنا أمانة حيَّة أبدية لنواكب التحرُّك التاريخي للكنيسة.
فالتاريخ الكنسي له حتمياته والزمن يطالبنا، وعلينا أن نستجيب قبل أن يصرخ الشعب
في وجهنا عندما يستبد به الجوع والعطش إلى المعرفة، بل وينسب إلينا التقصير والجهل،
وقبل أن يطالبنا العالم علانيةً بتقديم عقيدتنا وإيماننا الليتورجي موقَّعاً على مقولات
لاهوتية واضحة يسندها إيمان حقيقي، وليس كلاماً ومحاجاة، بل وحياة وسيرة وحقًّا
إلهياً، تنبثق من عمق التقليد الصميم الذي ورثناه، وتشرحه.

والذي يتابع تاريخ
الليتورجية عبر القرون ويدرسها بعمق ووعي ويتحسَّس حدودها ومفهوماتها سواء على
النصوص الليتورجية ذاتها أو على أقوال الآباء العظام المعاصرين لها في كل قرن، يجد
تحرُّكاً في الليتورجية يتجه ناحية النمو بشكل واضح. ولكن اكتشاف الحركة والنمو في
مسار الليتورجية والإفخارستيا أمره هين وبسيط لا يتعدَّى وضع النصوص المتعددة تجاه
بعضها، والأقوال الآبائية تجاه بعضها ليُكتشف الجديد، والمضاف، والمطوَّل،
والمعدَّل، والمهم المحذوف.

ولكن الصعوبة والأهمية
القصوى أن ندرس هذه الإضافات والمطوَّلات والمعدَّلات والمحذوفات حتى نعرف:

أولاً:
الدوافع التي حتَّمت بهذا، إن كانت لاهوتية نتيجة الصراعات
العقائدية لمقاومة البدع، أو
إن كانت
بيئية نتيجة التطوُّر الطبيعي والفكري والحضاري، أو هي مجرد استعارات من تقاليد
أخرى
لأقطار مجاورة كان لها تأثير ما
في وقت ما مثل تأثير تقليد سوريا على مصر وتقليد الإسكندرية على
روما.

ثانياً: ثم ندرس هذه
الإضافات أيضاً حتى نكتشف مدى خضوع هذا النمو وهذا التطور لقانونٍ ما؟ ثم مدى
ارتباط هذا القانون بالتقليد اللاهوتي العام أو العقيدة الإيمانية العامة التي
تعيشها الكنيسة.

ثالثا: ندرس الأثر
الذي نجم عن هذه الإضافات، على المدى البعيد والقريب، على إيمان الشعب وعلى عبادته
ونشاطه في متابعة الليتورجيا والاشتراك فيها ووعيها.

رابعاً: ندرس مدى
انسجام حركة هذا النمو وهذا التطور وهذه الزيادة أو النقصان الحادث الآن. ثم مدى
إمكانياتنا في التحكُّم فيها، فإن كان لها ضرورة مُلحَّة لصالح العبادة وملاءمة
البيئة وتطوُّرها نستزيدها، لأنه معروف قطعاً لدى كل علماء اللاهوت والتقليد والدراسات
الكنسية بوجه عام أن النمو صفة طبيعية في التقليد الكنسي بكل صوره.

خامساً: ندرس أيضاً
ما سقط من التقليد الليتورجي عبر القرون، وما تقلَّص عنه فتجمَّد وتوقَّف سواء كان
عن إهمال أو عدم دراية أو بحكم التغيير والانتقال من حكمٍ إلى حكم ومن لغةٍ إلى
لغة ومن بيئة إلى بيئة، فنكشفه ونوضحه ونشرحه.

وفي النهاية توضع هذه
الأمور كلها تحت التقييم اللاهوتي، وبعد أن تُفحص فحصاً مخلصاً بالنسبة لأهميتها
في العبادة والإيمان تُقنَّن كنسياً حتى تأخذ طابعها الإيماني العام.

ومن هنا يتضح مبلغ
أهمية اللاهوت الليتورجي، فهو المسئول عن نقل واقع العبادة والصلاة إلى واقع
إيماني واضح ومحدد وحي ونامٍ، حتى لا يبقى شيء قط في العبادة مبهماً أو بلا معنى
أو مجرد تسليم عشوائي غير معروف تاريخه وأهميته. هذا أمر مستحيل لأن كل ما لا
تاريخ له فلا معنى له، ويبقى في مفهوم العبادة النافلة([10]).

على أنه توجد قوانين
كنسية كثيرة وتحذيرات بلا عدد لا يبدو مفهوماً سببها ولا معروفاً تاريخها، فتبدو
وكأنها نافلة وليست بذات أهمية، ولكن بمجرد دراستها دراسة تاريخية صادقة يُعرَف
أصلها ويُعرَف سببها وتتضح قيمتها الروحية اللاهوتية وتبدو على أقصى ما يمكن من
الأهمية، بل وربما تكون هي أحد المعايير الهامة في تحديد معالم أرثوذكسية
الليتورجية القبطية!

وكمَثَل من هذه الأمثلة،
خُذْ موضوع الثلاث الصلوات (الأواشي) التي تُقال بعد قراءة الإنجيل. فكثير من
الكهنة، بل ربما معظمهم يحذفها لأنها تبدو أمامه وكأنها تكرار ونافلة لا لزوم لها،
أو يقولها الكاهن بمنتهى السرعة حتى يتفرغ للتطويل في ألحان قداس التناول، فلو علم
الكاهن أو الأسقف أنها تكوِّن صُلْبَ القداس الأول المسمَّى بقداس الكلمة أو قداس
الموعوظين، وأنه بحذفها يكون قد حذف قدَّاساً بأكمله من الطقس الكنسي، ثم هو بهذا
العمل يكون قد حرم قطاعاً كبيراً من الشعب (الذين لا يحضرون قداس المتناولين) من
نوال بركة هذه الصلوات قبل أن يخرج من الكنيسة، ثم لو علم أن هذه الصلوات هي أقدم
أجزاء الليتورجيا عامةً وهي من وضع الرسل ومسجَّلة في النصوص الليتورجية منذ القرن
الثاني، ولها وزنها اللاهوتي العالي لأنها تنتهي بالبركة التي يقولها الكاهن على
الشعب المنصرف من أمام الله، حيث مفهوم البركة يشمل استعلان الله في الكلمة
المقولة؛ نقول لو علم هذا كله لَمَا تجرأ الكاهن قط على أن يحذفها. ولو علم الشعب
هذا كله لأقبل عليها وتفهَّمها واشترك فيها بكل قلبه وطالب بها بكل حزم لنوال قوة
وبركة القداس الخاص بالكلمة أو بالموعوظين.

هنا يقدِّم التاريخ
الليتورجي الأساس المتين الذي يقف عليه اللاهوت الليتورجي ليقوم بواجبه في تقييم
أجزاء العبادة والصلوات ويعطيها معيارها الإيماني الذي يجعلها واجبة ومستوجبة
التنفيذ. وبالتالي يجعلها أحد منابع المعرفة الإلهية بل إحدى وسائط القوة الروحية
المنسكبة من الله على الكنيسة. وهكذا يتضح أمامنا أكثر فأكثر قيمة اللاهوت
الليتورجي في كونه يجدِّد وجه العبادة ويمدها بالقوة الإلهية ويجعل لها مدخلاً
واعياً بالإيمان والحق.

وإن أول حقيقة سوف
يكتشفها اللاهوتي الليتورجي عند استكماله فحص الإفخارستيا على المستوى اللاهوتي هي
قناعته قناعة مطلقة أن الإفخارستيا ليست فقط أحد أسرار الكنيسة السبعة، بل هي السر
الذي ينبع منه كل الأسرار، لأن منه تنبع القوة الإلهية اللازمة لكل شيء ولكل سر!!.
فالإفخارستيا بالمعيار اللاهوتي الصادق هي سر الأسرار جميعاً، هي محور حركة الحياة
في الكنيسة، وهي أيضاً المنبع الدائم الذي تنسكب منه هذه الحياة على الكنيسة كلها
على مدى العصور كلها.

ولكن هناك فرقٌ كبيرٌ
جداً بين أن نقولها مجرَّد قول جزافاً أن الإفخارستيا هي سر الأسرار كتعريف مدرسي
للسر قابل للحفظ والتسميع، وبين أن يقولها علم اللاهوت الليتورجي عن تحقيق تاريخي
آبائي وبرهان إنجيلي إلهي لتصير مقولة إيمانية مؤسسة على وعي تاريخي ولاهوتي،
فتصبح جزءاً من افتخار الإيمان عن فهم وممارسة!

والآن، لاحِظ شعورك
الروحي أيها القارىء العزيز عندما تتكلَّم لاهوتياً في هذا الأمر وتقول: توجد
أسرار سبعة في الكنيسة. ولكن الإفخارستيا هي «سر الكنيسة» بالدرجة الأُولى،
لماذا؟ لأن الكنيسة هي جسد المسيح السري! والإفخارستيا هي سر جسد
المسيح!!

لاحِظ مدى التأثير
العميق الذي يملأ القلب والشعور بقناعة هذا المفهوم اللاهوتي!! وبالتالي انظر إلى
القناعة التي سوف تملأ قلبك حينما تعلِّق على ذلك وتقول لاهوتياً: إذاً،
فالإفخارستيا ليست سرًّا مهماً فقط في الكنيسة
أو أهم سر في الكنيسة، بل هو السر الذي ينبع منه كل ما هو مهم في الكنيسة!!

وهنا نجد أن علم
اللاهوت الليتورجي تقع عليه مهمة ربط الأسرار والصلوات جميعاً معاً، حتى الفردية
منها، بمركزها الحي أي بالإفخارستيا، فيكشف عن دراسة وقناعة تاريخية ولاهوتية مدى
القوة المنبعثة من هذا السر المركزي إلى بقية الأسرار وكافة الصلوات، حتى والصلوات
التي للأفراد في مخادعهم. ثم بالعكس أيضاً مدى القوة المنبعثة أيضاً من الأسرار
والصلوات التي تقوم بها الكنيسة والأفراد جميعاً وتنصبُّ في هذا السر، سرِّ
الإفخارستيا، لأن بهذه الصلة الحية بين الصلوات والإفخارستيا تُرفع الأسرار
والصلوات جميعاً إلى مستوى الإفخارستيا. وهذا يجعل العبادة ليست جزئية ولا منقسمة
إلى ما هو مهم وما هو ليس مهماً، أو ما هو فردي وما هو جماعي أو جمهوري، لأن مفهوم
الكنيسة الأول أنها كلٌّ لا يتجزأ، رأسها المسيح وهي جسده لا يمكن أن يجتمع جزئياً
وهو مجتمع دائماً.

فكل مَنْ يولد لا يولد
لنفسه، بل لأنه يولد في الكنيسة يُضمُّ إلى الجسد. وكل مَنْ يموت لا يموت لنفسه بل
لأنه يموت في الكنيسة ينتقل من الجسد على الأرض إلى الجسد في السماء. وكل مَنْ
يتوب ويعود إلى الكنيسة يُنعش الجسد كله، وكل مَنْ يسهر ويصلِّي في مخدعه يكمِّل
عمل الجماعة في الكنيسة ويكون لها كردِّ فعل واستجابة.

إذاً، فالكنيسة هي » سر «الجماعة و» سر «الأفراد.
علم اللاهوت الليتورجي أصبح عليه أن يُبْرز من مصدر الإفخارستيا والليتورجيا قيمة
كل العبادة معاً وقيمة كل الصلاة معاً، أي كل ما أمر به التقليد وكل ما جرى عليه
الطقس وكل ما قامت عليه العبادة: يشرحه ويوضحه حتى يصير إلى عبادة أكثر وعبادة
أصدق، نابعة من كيان واحد، من مصدر واحد، من جسد واحد!

وعلم اللاهوت الليتورجي
لا يُعني فقط بالأمور الكبيرة بل ينزل إلى كل ما يُقال ويُعمل في العبادة إلى أقل
توجيه أو إعلان أو نداء يقوله الشماس، لأنه ليست هناك مقولة قط في الكنيسة بغير
ذات معنى، وليس معنىً بدون وزن لاهوتي. وعلى سبيل المثال هناك معنى عندما يقول
الشماس: «للصلاة قفوا»، وهناك معنى أعمق عندما يقول: (قفوا «بخوف» من
الله)، وهناك معنى أعمق من الكل عندما يقول: (اسجدوا لله «بخوفٍ ورعدة»).
فمتى يكون
الوقوف؟ ومتى يكون الخوف؟ ومتى يكون الخوف والرعدة؟ ولماذا هذا ولماذا ذاك؟ وما هو
تاريخ هذا النداء؟ هل هو رسولي؟ ثم ما سببه لاهوتياً؟ ثم إن كان هو خطيراً بهذا
المقدار فلماذا لا يُوعَّى الشعب، وبالتالي لماذا لا يُقنَّن هذا الأمر كقانون
إيماني لازم التنفيذ؟؟

وهكذا يقف اللاهوت
الليتورجي مرة أخرى حارساً للطقس حتى إلى أقل حركة ونداء فيه، عندما يقيِّمه على
أساس تاريخي ولاهوتي، ثم يقنِّنه ليدخل مجال الإيمان كعقيدة!!

ولكن وظيفة علم اللاهوت
بالنسبة للإفخارستيا تتجاوز كل ما يُقال وما يُعمل علناً سواء كان كبيراً أم
صغيراً، إلى ما يُقال سرًّا، فهناك صلوات وتضرعات ينبِّه الطقس على الكاهن أن
يقولها سرًّا عن نفسه، بين نفسه والله. ولكن كثيرين من الكهنة لا يجدون لها لزوماً
أو على الأكثر يتلونها تلاوةً سريعة أي بلا اعتبار أو اهتمام، هنا ينبري اللاهوت
الليتورجي يحذِّر بشدة أن الذبيحة كلها يتوقف قبولها على هذه الصلوات السرية التي
يقولها ويتضرع بها الكاهن عن نفسه!! لأن الذبيحة هي أولاً عن نفس الكاهن ثم عن
الشعب.

هكذا يُحقَّق التاريخ
الليتورجي رسولياً وما هو قبل الرسل أيضاً، لأن الذبيحة تُقبل من يد الكاهن عن
نفسه أولاً بدموعه وصلواته وتضرعاته واعترافه أمام الله بانسحاق شديد وتذلُّل وهو
واقف على المذبح يرتب الأواني أو يردد القربانة على يديه عند بداية رفعها وهو ناظر
إلى فوق، كما فعل الرب يسوع نفسه أمام تلاميذه برزانة وهيبة والتزامٍ طقسي!!

وهكذا
يقف
علم اللاهوت الصاحي حارساً لضمان قيام الذبيحة بتقييم كل مستلزمات رفعها من الصلوات السرية التي يحتِّم بها التقليد الطقسي،
وذلك بأن يوضح قيمتها
اللاهوتية،
وعندئذ يقنِّنها إيمانياً.

إن خطر العبادة الطقسية
عندما تكون باستهتار وجهالة وغير مفهومة ولا مشروحة على مستوى لاهوتي، هو أن هذه
العبادة الميتة تتحكم في تصوير الكنيسة وفي إعطائها شكلها ومضمونها اللاهوتي بمستوى
الضعف الذي تتم به العبادة. بمعنى أن الكنيسة تصير في أذهان الشعب وفي مظهرها الكلي لا تزيد عن حجم هذه الطقوس التي تؤدَّى
باستهتار فتصير ميتة في ذهن قائلها
وسامعها،
وكذلك العبادة الصورية غير المفهومة وغير المشروحة. ولا يُفيد هنا مقدار حبنا
للكنيسة أو مقدار تمسُّكنا
بالتقليد والتراث، لأن الإيمان الذي ينقصه الوعي
يضعف ويهتز ويكون قابلاً للشك والاضمحلال.

وهذا الحال السقيم لا
يتمشَّى مع حقيقة الكنيسة لاهوتياً، فالعبادة الكنسية والطقوس والرئاسات ليست هي
التي تصنع الكنيسة، أبداً، ولا يحق أن تتحكم في تقييم حجمها الروحي أو وزنها
اللاهوتي مطلقاً!! الكنيسة في أصلها هي المسيح الحي في الجماعة، الجماعة هي جسم
المسيح الحي، والمسيح فيها رأس فعَّال ومدبر وحافظ ومجدِّد بالروح القدس.

لذلك، فالكنيسة هي التي
تصنع العبادة كتعبير مباشر لوجودها وحياتها وفعل النعمة فيها، تصنع الرئاسات وتصنع
الأفراد. والكنيسة هي التي تحيي العبادة وتجدِّدها وتنشِّطها بالروح الساكن فيها،
هذا إذا كانت الكنيسة واعية لكل ما تقول وتفعل! وليست واعيةً فحسب، بل وقادرة أن
تشرح أيضاً وتُعلن وتبشِّر بما تقول وتفعل!، وفوق هذا كله تكون قادرة أيضاً أن
تتحكم في عبادتها على مستوى الانفتاح على المسيح والنظرة المتفائلة للمستقبل أو
الحياة الأخرى (إسخاتولوجي) كحقيقة قائمة الآن تمارسها بالإيمان الحي والرجاء بغير
المنظور، أو بمعنى عميق تمارسها بالأسرار.

لقد تثبتت صورة خاطئة
في ذهن الشعب أن الرئاسات الكنسية قائمة في الكنيسة لتكمِّل الطقوس والعبادة، هذا
يوضح مدى تقلُّص الكنيسة حتى صار الطقس هو الذي يحتويها وليست هي التي تحتويه،
والرئاسات فيها هم خُدَّام طقس. مع أن اللاهوت الليتورجي يقول إن الرئاسات الكنسية
اختارتهم الكنيسة وملأتهم بالروح القدس ليكمِّلوا حياة المسيح فيها ليُظهروا حبه
الأبوي وطهارته ولطفه وحنانه وفداءه بسلوكهم، وأخيراً يقيمون بالأسرار علاقة حية
بين المسيح ورعيته، يلدون بالماء والروح أولاداً له ويوصلون جسده ودمه للشعب
ويسكبون على الناس عطايا الروح القدس من لدنه بالتوسُّل والصلاة والعبادة
المتواترة.

هذا كله يتوقف على مدى
نشاط وفاعلية اللاهوت الليتورجي، فهو المسئول عن رفع الكنيسة من تحت مراسيم الطقوس
وقوانين الصلوات والممارسات السرائرية ليجعلها فوق الطقوس والصلوات والممارسات، أي
أن يجعلها سيدة لما تقول وتعمل! ولا يمكن أن تصبح الكنيسة سيدة لما تقول وتعمل
إلاَّ إذا فهمت ووعت وتحكَّمت في ما تعمل وتقول!! أي فهمت ووعت وتحكَّمت في ذاتها.

القانون، أي قانون،
سواء كان مدنياً أو كنسياً، هو صورة للعبودية والإذلال، نُطبِّقه صاغرين طالما
نعمله ونحن نجهل واضعه ونجهل سببه ونجهل فائدته!!

فإذا درسنا القانون، أي
قانون وعرفنا واضعه وعرفنا سببه وعرفنا فائدته أقبلنا عليه نطيعه ونطبِّقه بشغف شديد ووقار. وهكذا فإن المعرفة هي الواسطة
الوحيدة للحرية:
»
تعرفون الحق والحق يحرركم «(يو 32: 8). وفي
الكنيسة، الله وحده يحررنا!! أي اللاهوت كمعرفة بطبيعة الله وطبيعة الصلاة.

والفرد في الكنيسة (ولا
نقول الكاهن أو الخادم) حينما يكتفي بتأدية العبادة وممارسة الأسرار مهما كان عن
حب ونشاط وبذل وتلذُّذ، دون أن يحاول أن يفهم ويدرس بعمق ما يقوله وما يُقال له
وما يمارسه وما يمارسونه أمامه، سيبقى أداة ركود وموت وتحجُّر للكنيسة، لأن
الكنيسة لا تُستعلن إلاَّ بالعابدين فيها بأولادها وخدَّامها معاً! فإذا كان الفرد
يجهل ما في الكنيسة، فالكنيسة جاهلة ومجهولة فيه وبه، لأن الكنيسة بالنسبة لكل
فرد
ليست فقط منبع غذاء وعزاء وامتلاء شخصي له، بل هي بعد ذلك وفوق ذلك تستمد
منه استعلانها وتحقق به وجودها وتعلن فيه وبه حياتها وصدقها وإيمانها
ورجاءها!! وكيف يكون ذلك إلاَّ إذا عاد إليها يدرس ويفهم ويفحص ويتأمل في كيانها
الليتورجي والسرائري الذي يستمد منه كيانه؟ لأن كل فرد في الكنيسة حتى إلى أصغر
فرد هو صورة لحياة الكنيسة، هو دعامة من دعامات تشخيص نشاطها ونموها، هو اختبار من
ضمن اختبارات إيمانها وحقها وصدق رسالتها في
العالم، ثم هو نموذج وواسطة من وسائط بشارتها!؟

 

مقدِّمة الطبعة الثانية

الإفخارستيا في مفهوم
المسيح

كما قال المسيح
لنيقوديموس بخصوص الميلاد من فوق:

+ » إن كان أحد
لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله!
«(يو 3: 3)

ولمَّا تعثَّر
نيقوديموس في الوسيلة، بسَّطها له على مستوى الزمان والمكان فقال:

+ » إن كان أحد
لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله.
«(يو 5: 3)

هكذا بالنسبة
للإفخارستيا

إن كان أحد لا يقبل
الحياة من فوق، لا يقدر أن يعاين الحياة الأبدية.

فلمَّا تعثَّر الإنسان
في الوسيلة، بسَّطها المسيح على مستوى الزمان والمكان فقال:

+ » مَنْ يأكل
جسدي ويشرب دمي (الإفخارستيا) فله حياة أبدية وأنا أُقيمه في اليوم الأخير.
«(يو 54: 6)

وعاد فأوضحها:

+ » مَنْ يأكلني
فهو يحيا بي.
«(يو 57: 6)

+ » أنا هو
الخبز الحي (المسيح) الذي نزل من السماء. إن أكل أحدٌ من هذا الخبز يحيا إلى الأبد.
«(يو 51: 6)

متى المسكين

الأحد الثاني من
الخمسين المقدَّسة

25/4/1999

وقد صدرت نبذة ملحقة
بالطبعة الثانية لهذا الكتاب بها بحث قيِّم عن:

إفخارستيا عشاء الرب
قداس الرسل الأول

 

الإفخارستيا

مفهوم الكلمة وسرّها

1 مفهوم كلمة
«سرّ»:

كلمة » سر «بالعربية
أصلها اليوناني
must»rion، وهي تعني الشيء المخفي أو المستور. والمرادف اللاتيني Sacramentum ولو أنه يفيد نفس المعنى، إلاَّ أنه في أصله يحمل اتساعاً أكثر،
فهو يفيد معنى وثيقة على مستوى عالٍ ذات قيمة قضائية، أو خدمة إلهية على مستوى
الكنيسة.

أمَّا
في المفهوم اللاهوتي، فكلمة
» سر «وجمعها
» أسرار «أو » سرائر «تفيد حقيقة أو حقائق إلهية ثابتة
ومستقرة كانت مخفية ومكتومة منذ الدهور، لأنها كانت فائقة على قدرة الإنسان
العقلية، أو أعلى من مستواه الروحي أو أكثر من حاجته، ثم أعلنها الله بروحه
لأنبيائه ورسله وقديسيه ثم للكنيسة، وذلك إما بوحي إلهي أو إلهام في رؤيا أو بسمع
الأُذن أو بانفتاح الذهن أو بتلقين الروح، أو كأمر ووصية صريحة واضحة بتسليم محسوس
كما صنع المسيح مع تلاميذه في العشاء الرباني.

والأسرار عموماً حقائق
تختص بالله، إما في ذاته، كسرِّ الثالوث ويسمَّى سر اللاهوت؛ وإمَّا في علاقته بنا
كسرِّ التجسُّد والفداء ويُسمَّى سر التدبير الإلهي؛ وإمَّا في اتحادنا به كسرَّي
المعمودية والإفخارستيا مع بقية أسرار الكنيسة المعروفة بأسرار الكنيسة السبعة([11]).
هذا بالإضافة إلى أسرار أخرى لم تأخذ تحديدها
اللاهوتي أو مواصفاتها بالكامل مثل
» سر الإنجيل «(أف 19: 6)، و» سر
ملكوت الله
«(مر 11: 4)، و» سر الإيمان «(1تي 9: 3)، و» سر التقوى «(1تي 16: 3). وقد أعطى المسيح للكنيسة في أشخاص الرسل القديسين
وأنبياء العهد الجديد استعلان أسرار الله المخفية منذ الدهور بحكمته الفائقة
وتدبيره بالروح القدس لخدمة الدهور كلها حسب قول القديس بولس الرسول:

+ » إن كنتم قد
سمعتم بتدبير نعمة الله المعطاة لي لأجلكم، أنه بإعلان عرَّفني بالسر الذي
بِحَسَبه حينما تقرأونه تقدرون أن تفهموا درايتي بسر المسيح، الذي في أجيال
أُخَر لم يُعرَّف به بنو البشر كما قد أُعلن الآن لرسله القديسين وأنبيائه بالروح.
«(أف 3: 25)

وقد استلمت الكنيسة هذه
الأسرار جميعاً: ما هو لاهوتي وما هو كنسي، واستودعتها قلب قديسيها ومختاريها من
جيلٍ إلى جيل بالتسليم من أساقفة وكهنة، وصارت الكنيسة غنية جداً بأسرار المسيح
الفائقة ومؤتمنة وكارزة ليس للبشر فقط بل ولدى السماء أيضاً لإعلان هذه الأسرار:

+ » لكي يُعرَّف
الآن عند الرؤساء والسلاطين في السمويات بواسطة الكنيسة بحكمة الله المتنوعة حسب
قصد الدهور الذي صنعه في المسيح يسوع ربنا.
«(أف 10: 3)

ولكن،
ومن القديس بولس الرسول أيضاً، نعلم علم اليقين أن «سر المسيح» هو من العمق
والامتداد
بما
لا يمكن أن يُستقصى. فالأسرار هي ذخيرة الله التي لا تُحدُّ ولا تُضبط بلفظٍ، ولا
تُستنفذ:

+ » لي أنا أصغر
جميع القديسين أُعطيت هذه النعمة أن أُبشِّر بين الأمم بغنى المسيح الذي لا
يُستقصَى، وأُنير الجميع فيما هو شركة السر المكتوم منذ الدهور في الله.
«(أف 3: 8و9)

ولكن يلزم أن نفرِّق
بين أسرار اللاهوت والتدبير (أي سر الثالوث الأقدس وسر التجسُّد والفداء) وبين
أسرار الكنيسة. لأن أسرار الكنيسة تقوم على ممارسات عملية بالصلاة للتقديس تُستخدم
فيها وسائط حسيَّة منظورة: كالماء في المعمودية، والزيت في التثبيت، والخبز والخمر
الممزوج بالماء في الإفخارستيا، والزيت في مسحة المرضى، ووضع اليد بالصليب في
الكهنوت، وفي التوبة، وفي الزيجة.

وهكذا يُعتبر السرُّ
الكنسي عملاً مقدَّساً يتم بالصلاة واستخدام وسائط حسيَّة منظورة تنال من خلالها
النفس البشرية نعمة الله ومواهبه غير المنظورة.

وقد عرَّف القديس
أغسطينوس السر الكنسي هكذا: [الشكل المنظور لنعمة غير منظورة.]([12])

ومعروف أن أسرار
الكنيسة مُسلَّمة لنا من المسيح كما هي، مثل سر الإفخارستيا الذي أكمله الرب بكل
دقائقه في عشاء يوم الخميس، الذي من خلال الخبز والخمر الممزوج وهبنا جسده ودمه
لغفران الخطايا ولحياة أبدية.

ولكن الذي يتحتم علينا
أن نعرفه ونقبله هو أنه توجد علاقة حيَّة شديدة بين سر الثالوث الأقدس (سر
اللاهوت) وسر التجسُّد والفداء (سر التدبير الإلهي) وبين أسرار الكنيسة بوسائطها
المنظورة. فخبر الإيمان (بالثالوث) يتحتم أن يدخل اختبار الفعل والعمل حسب قول
المسيح:
» مَنْ آمن واعتمد (باسم الآب والابن والروح القدس) خلص «(مر 16: 16)، والإيمان الفكري بالتجسُّد يتحتم أن يدخل أعماق
الكيان البشري بالتناول من جسد الرب. والثقة الإيمانية بالفداء بالدم على الصليب
يتحتم أن تُمارَس عملياً بشرب هذا الدم في الإفخارستيا.

والوحدة التي علَّمنا
الرب أن نطلبها لأنفسنا بالصلاة وبالإيمان في دالة الحب الشديدة والثقة فيه بقوله:
» اثبتوا فيَّ «والتي يصلِّي أيضاً
عنَّا للآب قائلاً: «ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا» و«ليكونوا واحداً كما أننا نحن واحد» و
» أنا فيهم وأنت فيَّ ليكونوا مكمَّلين إلى واحد «(يو17:
21
23)؛
هذه الوحدة الحقيقية الحية مع الرب يسوع المسيح تتم بصورة عملية في الأسرار
وبالأخص في الإفخارستيا، بفعل خفي أي سرائري غير منظور ولا محسوس، بقوة سمائية من
فوق بالروح القدس، كقول الرب لنيقوديموس بخصوص
المعمودية، وكقول الرب لليهود بخصوص الإفخارستيا:
» جسدي مأكلٌ حقٌّ، ودمي مشربٌ حقٌّ، مَنْ يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ
وأنا فيه.
«(يو 6: 55و56)

والقديس يوحنا ذهبي
الفم يوضِّح ذلك هكذا:

[إنه يلزم أن نفهم عجب
هذا السر، وما هو، ولماذا سُلِّم لنا، وما هي المنفعة من ممارسته، لأننا نصير
جسداً واحداً وأعضاءً من لحمه وعظامه كما قيل وهذا يتم
بالأكل، الذي سلَّمه لنا مجاناً كهبة … لأنه هيأ جسده على مستوانا لنتحد به كما
يتحد الجسد بالرأس.]

(على إنجيل يوحنا، عظة
46)

2 مفهوم كلمة
«إفخارستيا»
EÙcarist…a:

1 كلمة
إفخارستيا تعني باليونانية عموماً
» الشكر « أي الإحساس (مجرد إحساس) بالشكر أو المسرة كما جاءت قديماً: (أ)
في سفر المكابيين الثاني (27: 2)، (ب) في ابن سيراخ (11: 37)، وكما جاءت حديثاً
في سفر
الأعمال (3: 24):

(أ) » ولكن لأجل شكر
eÙcarist…an (مسرَّة) الكثيرين، نتحمَّل بسرور هذا العناء الكبير. «(2مك 27: 2)

(ب) » لا تتشاور
مع إنسان حاقد في كيفية الشكر
eÙcarist…aj. «(ابن سيراخ 11: 37)

(ج) » فَنَقبل ذلك
أيها العزيز فيلكس بكل شكر
met¦ p£shj eÙcarist…aj في كل زمان وكل مكان. «(أع 3: 24)

2 ولكن
كلمة
» إفخارستيا «استُخدمت أيضاً بمعنى «تقدمة
شكر»،
أي شكر معبَّر عنه بتقدمةٍ ما سواء كان ذلك بالتسبيح أو بالصلوات أو
بالذبائح([13]).
وقد استُخدمت كلمة
» إفخارستيا «(كصلاة) بنوع مخصوص في حالة » شكر الله
على خلقة العالم
« فكل صلاة مقدَّمة
لله فيها شكر من أجل خلقة العالم كانت تسمَّى
» إفخارستيا « وهذا التعبير يهمنا جداً لأن القديس إيرينيئوس([14])يعتبر أن من الأهداف الأساسية «لسر الإفخارستيا» هو شكر الله بلسان الخليقة من
أجل خلقة العالم وبركاته للإنسان.

3 أما في
الكنيسة فتُخصَّص كلمة
» إفخارستيا «للتعبير عن
سر الجسد والدم كتقدمة عموماً أو للتعبير عن مواد السر
» التقدمة « أي خبز الإفخارستيا وخمر الإفخارستيا.

4 ولكلمة » الإفخارستيا «مشتقات
طقسية تتعلَّق بعمل الليتورجيا، منه الفعل
»إفخارستينeÙcariste‹n « ومشتقاته: فالفعل » إفخارستين «استخدمه المسيح عندما أمسك بيده الكأس المملوءة خمراً ممزوجاً بماء: » ثم تناول كأساً وشكر “إفخاريستيساس eÙcarist»saj”. «(لو
17: 22)

كما استخدمه المسيح
أيضاً عندما أخذ خبزاً على يديه:
» وأخذ خبزاً وشكر
“إفخارستيساس
eÙcarist»saj”. «(لو
19: 22)

ولكن كلمة » وشكر «هنا لا تفيد
مجَّرد أنه شكر، بل إنه فَعَل فِعْل الشكر الطقسي، أي أدَّى وقدَّم الشكر من
أجل الخليقة وبركة الله لها الخاصة بهذا الموقف.
وهذا كان يعمله التلاميذ، ثم
مَنْ تسلَّموا منهم في القرن الثاني والقرنين الثالث والرابع إذ كانوا يتلون صلاة
شكر خاصة على الخبز والخمر، كما يعرِّفنا بذلك
القديس الشهيد يوستين، وكما جاء في تعاليم الرسل وقدَّاس سيرابيون

كما سيأتي بعد.

5 ولكن في
علم اللاهوت الإفخارستي يُعرف أن فعل
» إفخارستين « أي فعل الشكر الذي قدَّمه المسيح على الخبز والخمر والذي كان
يمارسه التلاميذ، أصبح يُقيَّم كعمل تقديس([15]). فعندما شكر
المسيح على الخبز والخمر أو عندما كان يعمل التلاميذ ذلك، فهو بمثابة «قدَّس» أو
«بارك». وفي هذا يوضِّح لنا القديس الشهيد يوستين أنه بمجرد أن يتلو رئيس
الإفخارستيا الشكر على الخبز والخمر الممزوج بالماء يصيران في الحال مادتي
إفخارستيا
(يتحولان)، أي يصير الخبز تقدمة (ذبيحة) إفخارستيا والخمر تقدمة
(ذبيحة) إفخارستيا([16]).

أمَّا في الكنيسة
الأرثوذكسية الآن
» تقليد متأخر «فلا يصير
تلاوة التقديس ولا يتم التحوُّل هذا إلاَّ بعد حلول الروح القدس عليهما، وذلك
بعد تلاوة الشكر والبركة والتقديس مع الرشومات.

ويوضِّح
أيضاً القديس يوستين الشهيد أن الشكر الذي يُتلى على الخبز والخمر هو «شكر الله
على بركات الخليقة والفداء»، وهو مضمون صلاة الشكر التي كانت تُقال على كلٍّ من الخبز والخمر.

وباختصار، نفهم من كلام
القديس يوستين أنه: [بعد «فعل» الشكر على الخبز والخمر يتم «سر» الشكر مباشرةً،
أي بعد سرّ «الإفخارستين» يصير الخبز والخمر إفخارستيا]. وقد اقتصرت
على ذلك الكنيسة اللاتينية في الغرب حتى الآن، أمَّا في كنائس الشرق عموماً فيتحتم
استدعاء الروح القدس بعد الشكر للحلول على الخبز والخمر ليتم التحوُّل. أي أن
الخبز والخمر لا يصيران إفخارستيا (تقدمة شكر) بفعل رشومات التقديس والشكر فقط بل
باستجابة هذا التقديس والشكر لفعل الروح وذلك باستدعاء الروح القدس وحلوله. ويؤيد
ذلك بوضوح القديس إيرينيئوس الذي يقول: [إن الخبز بعد استدعاء الروح القدس
Epiclesis ليس بعد خبزاً ساذجاً بل إفخارستيا من شقين: شق أرضي وشق
سماوي.]([17])

ولكن الذي يهمنا من هذا
الآن هو كلمة «إفخارستيا» التي تعني هنا سرًّا مقدَّساً، والتي أخذت مضمونها السرِّي والقدسي أو بالحري الإلهي من فعل
الشكر أي
» الإفخارستين «الذي يُتلى على الخبز والخمر، ومن
قبول هذا الشكر بحلول الروح القدس وتحويل الخبز والخمر إلى مادتي الإفخارستيا.

6
والمعروف أن التقليد المنحدر إلينا من القديس إيرينيئوس والقديس يوستينوس الشهيد
يشير أيضاً إلى أن كلمة
» إفخارستيا «التي أُطلقت
على سر عشاء الرب لا تشتق هذا الاسم (الشكر) فقط من فعل الشكر
إفخارستين الذي يُشكر فيه الله على بركات الخليقة وعلى الفداء، والذي
يُتمَّم على مادتي الخبز والخمر، بل ويُشتق أيضاً من تقدمة ذات المادتين
المختارتين في هذا السر أي خبز الحنطة وعصير الكرم فهما
يقدَّمان كصعيدة (أنافورا) وكتقدمة شكر لله مختارة عن كل الخليقة.

وكلمة » أنافورا «ليست
مستحدَثة، فهي واردة في المزمور 19: 51، وكلمة
¢nafšrein وهي المصدر من ¢nafor£ وردت في
النسخة السبعينية للعهد القديم لتعطي معنى
» تقديم
الذبيحة
«
و
» الأنافورا «اقتبستها الكنيسة في البدء على فم
العلاَّمة أوريجانوس كاصطلاح عام يُفيد
» إصعاد
الصعيدة
«[18])، ثم
استخدمها كاتب قوانين الرسل بمفهوم
» الصعيدة «ذاتها([19]). وبعد ذلك
استقرت الأنافورا الآن بمعنى الجزء الرئيسي الذي يقوله الكاهن في سر الإفخارستيا
حيث تشمل البروسفورا، أي تقديم الصعيدة في البدء.

والعلاَّمة أوريجانوس
يشير إلى ذلك في ردِّه على ادعاءات
» كِلْسُس «ضد
المسيحيين على أنهم لا يشكرون الآلهة كما يليق، إذ يرد عليه أن المسيحيين
يعلنون
شكرهم لله بتقديمهم الخبز المدعو إفخارستيا الذي يتحوَّل إلى جسد مقدَّس يقدِّس
الذين يتناولون منه.

وتقدمة الخبز والخمر
يسميها القديس كلمندس الروماني
«تقدمة عطايا» (dîron ذورون)، والدسقولية تسميها » ذبيحة «وإيرينيئوس
ويوستين يسميانها
» القربان الجديد الذي للعهد الجديد «و» باكورة ثمار
عطايا الله
«

والمدقق يلاحظ أن هناك
ترابطاً مقصوداً بين تقدمة الخبز والخمر للتعبير عن الفداء الذي أكمله المسيح
بجسده ودمه في سر الإفخارستيا، بجانب التعبير عن شكر الله على ما أكمله من بركات
الخليقة بواسطة الكلمة يسوع المسيح. ففي عمل عبادي واحد استطاع المسيح أن يسلِّم
للكنيسة الشكر الكامل عن أعمال كلٍّ من الخليقة والفداء معاً، وهكذا جمع بصلاة
واحدة الرد البشري اللائق على كل أعمال الله ورحمته وعنايته بالإنسان.
ولذلك أصبحت
الإفخارستيا مركز كل العبادة على الأرض كلها، وقلب كافة الصلوات، وقمة التعبير
الصادق عن علاقة الله بالإنسان، وردَّ الإنسان بالشكر المستمر على تدبير الله
القائم والدائم للخليقة كلها والعالم.

ولذلك أيضاً نجد أن
صلوات الإفخارستيا يتخللها كلها رنة فرح وتهليل سماوي باعتبارها تسبحة شكر متعددة
الجوانب والاتجاهات، صادرة من فرحة الحياة الجديدة التي نالها الإنسان بالتجسُّد
الإلهي الذي صار بواسطته تقديسُ الخليقة كلها وفداؤها مبتدَءاً بالإنسان.

والإفخارستيا هي ذبيحة
التجسُّد!! فهي الجسد الإلهي المذبوح والدم الإلهي المسفوك الذي يعبِّر عن فداء
الخليقة كلها، فالخليقة كلها تتبارك في ذبيحة الإفخارستيا، والعالم كله يتقدَّس،
والإنسان يُفدَى. وفي الإفخارستيا، فإن بركات الخليقة ممثَّلة وقائمة بالحنطة والخمر
والماء، والعالم كله ممثَّل وقائم بواسطة الكنيسة.

لذلك تحتَّم أن تضم
الإفخارستيا في صلواتها (المسمَّاة: الأواشي) كل الأقطار وكل أجناس الخليقة من كل
ما ينبت على الأرض من كل نبات، وكل ما يطير في الهواء ويدب على الأرض، ومن كل فئات
الناس، فالخليقة كلها والعالم كله مرفوع بالصلوات والبخور، بل وكافة أرواح
القديسين والملائكة تشترك في الصلاة في هذا السر، لأن الجميع داخل في صميم أبعاد
الإفخارستيا!! والإفخارستيا لأنها جسد المسيح ودمه أصبحت بالتالي تضم كل خليقة ما
في السماء من فوق وما على الأرض من تحت كقول المسيح:

+ » دُفع إليَّ كل سلطان في السماء وعلى
الأرض، فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم.
«(مت 28:
18و19)

وكقول الرسول بولس:

+ «ليجمع كل شيء في
المسيح ما في السموات وما على الأرض في ذاك.»
(أف 10: 1)

وكل ما قلناه هنا ليس
هو اجتهاداً منَّا، بل هو في الحقيقة من وحي وإحساس صلوات الإفخارستيا الأُولى
ووضوحها وبساطتها المذهلة التي وصفها لنا القديس يوستين الشهيد، وأيضاً ما تكشفه
لنا صلوات الإفخارستيا في كتاب
» تعاليم الرسل «وبقية
الليتورجيات، فإن صلوات الإفخارستيا في مضمونها الكلي هي توقيع دائم لمقاطع قانون
الإيمان ومختصر لأعمال الله في العهدين، فقد روعي فيها أن تكشف بترتيب وبدقة درجات
عمل الله واستعلانه في الخليقة مبتدَءاً بالخَلْق، يصليها الكاهن بخشوع في تعبيرات
كلها شكر وامتنان، ويقولها بلسان آدم المفْدِيِّ أو بروح الإنسان الخالد:
» خلقتَ لي
السماء سقفاً؛ وثبَّتَّ لي الأرض لأمشي عليها

« ثم مروراً بكل أعمال الله الحكيمة في الخليقة والفردوس: » أظهرتَ لي
طبيعة الحيوان؛ وأخضعت كل شيء تحت قدميَّ

« ثم غواية الحية، ثم سقوط آدم، وخروج قضية الموت، ثم إعطاء الناموس
وظهور الأنبياء، واستعلان تدبيرات الله في القديم تمهيداً للخلاص:
» رَبَطْتَني
بكل الأدوية المؤدية إلى الحياة
«
وأخيراً استعلان تدبير تعطُّف الله بظهور يسوع المسيح، وأخبار التجسُّد والتأنُّس
والخلاص وعمل الفداء الذي يبلغ القمة في ترديد كلمات المسيح التي قالها وقت العشاء
على الخبز والخمر حسب وصيته:
» اصنعوا هذا لذكري « ثم أخبار الآلام والصليب والقبر ونزول الجحيم والقيامة في اليوم
الثالث. ثم الصعود والوعد بالمجيء الثاني من السماء لدينونة الأحياء والأموات
وحياة الدهر الآتي. ثم تقديم الخبز والخمر للتقديس. وأخيراً، وكختام لهذه الصلاة
الإلهية، تستدعى الكنيسة بفم الكاهن الروح القدس لتكميل سر التحوُّل حيث تصبح
التقدمة إلهية فلا يعود يجوز الصلاة عليها، بل منها ينبثق التقديس ويُمنح، حيث يتم
التجلِّي فلا يعود يوجد على المذبح أرضيات تُخدَم بل سماويات مُعلَنة تؤكل بالسر
ويُتعجب منها بالمجد!

وهكذا، بتهليل وفرح
مذهل وشكر فوق شكر، تنتهي الإفخارستيا بإحساس ما سينتهي إليه العالم في القيامة العتيدة عندما تتجلَّى الخليقة
وعلى رأسها الإنسان، ويلبس الفاسد عدم فساد،
ويُستعلن الله في الكل مالئاً الكل في الكل. ويخرج المؤمنون من الكنيسة
وكأنهم آتون وقادمون من السماء.

ولكن الذي استقر في
الكنيسة على ممر الدهور هو أن كلمة
» إفخارستيا «أصبحت محددة
بسر الجسد والدم المقدَّسين، بكل ما يحويه هذا السر من معاني الشكر: قولاً وفكراً
وعملاً على ما أولانا به المسيح من بركات الخليقة وتقديس وغفران وفداء وقيامة
وثبوت واتحاد بطبيعته الإلهية ونوال روح الحياة بكل نعم ومواهب الروح القدس.

 

الإفخارستيا والإنسان
الجديد

لقد كشف المسيح بكل
وضوح عن طعام جديد روحاني يتعاطاه الإنسان الجديد
المخلوق على صورة الله » في البر
وقداسة الحق
«(أف
24: 4)، ليحيا به وتدوم حياته إلى الأبد، عِوَض الطعام المادي الذي يتعاطاه
الإنسان العتيق ويموت. وقد أوضح المسيح ذلك في قوله:

+ » 1. الحق الحق أقول لكم: مَنْ يؤمن بي فله حياة أبدية.

2. أنا هو خبز الحياة.
آباؤكم أكلوا المَنَّ في البرية وماتوا. هذا هو الخبز النازل من السماء، لكي يأكل
منه الإنسان ولا يموت. أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء. إنْ أكل أحدٌ من هذا
الخبز يحيا إلى الأبد.

3. والخبز الذي أنا
أُعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم.

«(يو 47: 6-51)

يتدرَّج المسيح في هذا
القول بذِكْر الحقائق الآتية:

1 – إنَّ مَنْ يؤمن
بالمسيح، ينال الحياة الأبدية، الذي يشرحه إنجيل القديس يوحنا في موضع آخر بقوله:
» الحق الحق
أقول لكم: إنَّ مَنْ يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية، ولا يأتي
إلى دينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة

«(يو 24: 5). وهذا في الحقيقة هو حال الإنسان الجديد الذي سمع خبر
البشارة، وآمن واعتمد للمسيح، ويكون هو الذي وُلِد ثانية من فوق ومن الماء والروح،
وصار مهيَّأً لدخول ملكوت الله حسب كلام المسيح لنيقوديموس:
» الحق الحق
أقول لك: إن كان أحد لا يُولَد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله.
المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الروح هو روح.

«(يو 5: 3و6)

2 – يعود هنا المسيح
ويقدِّم نفسه باعتباره الخبز الحي الجديد الذي نزل من السماء لكي يأكل منه الإنسان
ولا يموت بعد، بل يحيا إلى الأبد حتى وإنْ مات بالجسد. وواضح هنا أن الذي يغتذي
بالمسيح هو الإنسان الجديد المخلوق جديداً “من فوق” و“من الماء والروح”، الذي خلقه
المسيح في نفسه بقيامته من بين الأموات، ونلناه بالإيمان والمعمودية.

3 – عاد المسيح وحدَّد
بوضوح شديد كيف سيُعطي نفسه خبزاً ليأكل منه الإنسان الجديد ليحيا إلى الأبد بأن
حدَّد أن الطعام الروحي للإنسان الجديد سيكون جسده الذي يبذله عن حياة ال عالم.
وهنا يدخل المعنى في تصوير مستيكي أي سرِّي شديد الشفافية، بمعنى أن المسيح
سيُقدِّم جسده على الصليب ذبيحة حيَّة مقدَّسة للآب عن خلاص العالم. وهذه الذبيحة
الحيَّة المقدسة لكي يتم عملها في الإنسان، بإعطاء الخلاص والغفران والحياة والبر،
يتحتَّم أن يأكل منها الإنسان لكي يكون شريكاً في فعلها الإلهي السرِّي الفائق.
ولكي يُعطي المسيح لكل إنسان الفرصة والحق ليأكل منها في كل مكان وإلى مدى جميع
الأزمان، قام يوم الخميس المبارَك برسم طقس ذبح الجسد على العشاء الفصحي مع
تلاميذه بأن أخذ خبزاً عادياً وشكر وبارك وكسر، وأعطى لتلاميذه برسم الجسد المكسور
على الصليب يوم الجمعة قائلاً بسر رهيب: “هذا هو جسدي المكسور من أجلكم (على
الصليب)، خذوا كلوا منه كلكم”. ثم عاد وأخذ الكأس الرابع في طقس عشاء الفصح
الممزوج خمراً وماءً، وشكر وبارك وأعطاه لتلاميذه قائلاً: “هذا هو دمي المسفوك من
أجلكم (على الصليب)، اشربوا منه كلكم”.

وهكذا حقَّق المسيح،
بالفعل الإلهي السرِّي في الخبز والخمر، الوجود المستيكي الإلهي للجسد الحقيقي
المذبوح على الصليب والدم المسفوك عليه.

وهكذا حقَّق المسيح
بالفعل الإلهي السرِّي ذبيحته الفصحية بجسده بواسطة الخبز والخمر. حتى أن كل مَنْ
أكل من هذا الخبز الفصحي السرِّي وهذا الخمر الفصحي السرِّي، يكون قد أكل بالفعل
السرِّي المسيح نفسه في حالة الذبيحة الفصحية التي قدَّمها للآب لمغفرة الخطايا
وحياة أبدية لكل مَنْ يتناول منه.

ثم عاد المسيح ليوثِّق
هذا الأكل والشرب الفصحي من جسده ودمه كعهدٍ أبدي معنا، فقال باختصار ووضوح:
» مَنْ يأكل
جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية، وأنا أُقيمه في اليوم الأخير

«(يو 54: 6). ولكي يرفع عن ظنِّ الإنسان أنه يأكل خبزاً ساذجاً
وخمراً ممزوجاً ساذجاً، عاد فأكَّد:
» لأن جسدي مأكلٌ حقٌّ
ودمي مشربٌ حقٌّ
«(يو
55: 6). والمعنى هنا عميق، إذ يفرِّق المسيح بين أكل الخبز الساذج وشرب الخمر
الساذج، وبين أكل الجسد الإلهي وشرب الدم الإلهي. فهنا الخبز الفصحي المتحوِّل إلى
جسد المسيح الذي استودع فيه المسيح قوة وحياة جسد الكلمة المُحيي، لم يَعُدْ أكلاً
ساذجاً يأكله الإنسان بالجسد ويموت، بل مأكلا حقًّا. و“الحق” هو ما لا يتغيَّر ولا
يزول، والله وحده هو الذي لا يتغيَّر ولا يزول، بمعنى أن الذي يأكل الجسد ويشرب
الدم الكائن بالقوة الإلهية في سرِّ الخبز المكسور والخمر الممزوج إنما “يأكل
الحق” و“يشرب الحق”، وهو أعمق تعبير سرِّي عن استيعاب لاهوت المسيح الكائن في
الجسد والدم الفصحي العامل لغفران الخطايا والحياة الأبدية، الذي عبَّر عنه المسيح
بعد ذلك تعبيراً مُبدِعاً بقوله:
» مَنْ يأكلني فهو يحيا
بي
«(57: 6)، الذي في صميم
معناه قال بولس الرسول:
» لا أحيا أنا، بل المسيح
يحيا فيَّ.
«(غل
20: 2)

وهكذا أعطى المسيح
عهداً أبدياً موثَّقاً أن كل مَنْ يأكل من الخبز المكسور الفصحي والخمر الممزوج
الفصحي، الذي نعبِّر عنه بسرِّ الإفخارستيا، يكون قد أكل المسيح بحال ذبيحة فصحية
على الصليب، الذي صار ضميناً لخلاص الإنسان غفراناً وحياةً أبدية. لذلك يسمَّى
خميس الفصح ب “خميس العهد”، وهو العهد الجديد كقول المسيح العلني: “كذلك
الكأس أيضاً بعد العشاء قائلاً: هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي الذي يُسفك من
أجلكم.” (لو 20: 22)

كما أعطى المسيح
استعلاناً جديداً لفاعلية الأكل من الجسد والشرب من الدم الفصحي بقوله:
» مَنْ يأكل
جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فيه
«(يو
56: 6). هذا الثبوت المتبادَل بالفعل السرِّي مع المسيح بواسطة الاشتراك في الجسد
والدم، هو ما يُعبَّر عنه لاهوتياً بالاتحاد السرِّي. الذي عبَّر عنه القديس يوحنا
في رسالته الأولى هكذا:
» أما شركتنا نحن فهي مع
الآب ومع ابنه يسوع المسيح
«(1يو
3: 1). كما عبَّر عنه المسيح بقوله:
» أنتم فيَّ، وأنا فيكم «(يو 20: 14)، وقوله: » ليكون الجميع واحداً،
كما أنك أنت أيها الآب فيَّ وأنا فيك، ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا…
«(يو 21: 17» أنا فيهم وأنت فيَّ
ليكونوا مكمَّلين إلى واحد.
«(يو
23: 17)

بهذا ندرك أن الطعام
الجديد الروحي الذي أحدره لنا المسيح من السماء كخبز حي إلهي، وهو جسده ليُطعم به
الإنسان الجديد ليحيا وتدوم حياته إلى الأبد؛ هو جوهر العهد الجديد. فنحن الذين
أكلنا الجسد وشربنا الدم، دخلنا في صميم العهد الجديد وجوهره الذي صنعه الله الآب
معنا بدم ابنه الوحيد الذي شربناه من يده، فتغلغل الابن في أحشائنا ودخلنا نحن في
عمق أعماقه وصرنا في وحدة أمام عين الآب أهَّلتنا للبنوَّة وميراث الابن الوحيد.

فالإفخارستيا – طعام
الحق هذا – للإنسان الجديد، قد رفعته من الأرض إلى السماء، ومن حال الخلقة
الترابية التي تدبُّ على الأرض كإحدى الدبابات إلى وجود سمائي وكيان روحاني يتراءى
أمام الله في حالٍ من البر والقداسة لمدح مجد نعمته التي أنعم بها علينا في
المحبوب، وهذا كله كان حسب مسرَّة مشيئة الآب.

غير أن في المعمودية
يخرج الإنسان الجديد بمفرده حاملاً المسيح فيه حسب قول بولس الرسول:
» لأنكم
جميعاً أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع. لأن كلَّكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد
لبستم المسيح
«(غل
26: 3)،
» وتلبسوا الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة
الحق
«(أف 24: 4). أما في سر
الإفخارستيا فيخرج المؤمنون متَّحدين في شركة معاً ومع المسيح:
» كأس البركة
التي نُبارِكها، أليست هي شركة دم المسيح؟ الخبز الذي نكسره، أليس هو شركة جسد
المسيح؟ فإننا نحن الكثيرين خبز واحد، جسد واحد، لأننا جميعنا نشترك في الخبز
الواحد.
«(1كو
16: 10و17)

لهذا يُقال للمؤمن إنه
عضو واحد متميِّز في جسد المسيح حسب موهبة الروح التي أخذها من الله ليخدم بها
الجسد. ولكن يُقال عن المؤمنين معاً إنهم جسد المسيح الواحد أي كنيسته.

كذلك فإنسان المعمودية
الجديد من فوق، هو روح ثابت لا يتغيَّر ولا يزول، على صورة خالقه. أما
الإفخارستيا فهي سرُّ التجديد الدائم للإنسان، يتجدَّد فينا بقدر ما يَفْنَى
الخارج يوماً فيوماً، حيث يتغيَّر الإنسان إلى صورة خالقه في المجد من مجدٍ إلى
مجدٍ كما من الرب الروح، كلما أكلنا الجسد وشربنا الدم ودخلنا مجدَّداً في سرِّ
الشركة مع المسيح وسلكنا بالروح.



([11]) أول مَنْ حدَّد عدد الأسرار الكنسية بالرقم 7 (سبعة) هي الكنيسة
الرومانية الكاثوليكية بواسطة أسقف باريس «بطرس لمبارد» مع غيره، وقد قبلها توما
الأكويني، وقنَّنها بعد ذلك مجمع فلورنسا (سنة 1439م). وقد أخذت الكنيسة البيزنطية
هذا التقليد عن الكنيسة الكاثوليكية –
(Oxford Dict. of Christ. Church, p. 1198.)، ثم دخل هذا التقليد إلى الكنيسة القبطية. وأول ذكر لها تحت أيدينا
هو ما ورد في المخطوطة المعروفة باسم «نزهة النفوس» وهي لكاهن مجهول، وأقدم مخطوطة
لها معروفة لدينا هي الموجودة بدير أنبا مقار (لاهوت 24) بتاريخ برمهات / مارس
أبريل 1564م. ولكن يُظن أن مؤلِّف كتاب «نزهة النفوس» ليس قبطياً أرثوذكسياً لأنه
يورد أقوالاً ليوحنا الدمشقي (وهو من آباء الكنيسة البيزنطية في القرن الثامن بعد
الانشقاق الذي حدث في مجمع خلقيدونية عام 451م).

وعلى
أي حال لم نجد ذكراً لتحديد أسرار الكنيسة بالعدد سبعة في مخطوطة العالِم ابن كبر
المعروفة باسم «مصباح الظلمة في إيضاح الخدمة»، وهو أهم وأدق مَنْ كتب في الأسرار
في القرون الأخيرة، وحتى لم يذكرها مجموعة معاً، بل جاءت في كتابه ناقصة عن العدد سبعة ومتفرقة على مدى الكتاب. عِلما بأن هذا
العالِم عاش حتى إلى أوائل القرن الرابع عشر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار