المسيحية

مبادئ الدراسة



مبادئ الدراسة

مبادئ
الدراسة

ترتكز
دراستنا للوحي الإلهي على مبادئ مستقيمة وجّهت اجتهادنا وهي:

1- الرجوع إلى
نص القرآن نفسه

2- البحث عن
معنى النص الروحي

3- خط الله
التربوي المعتمد في الوحي

4- وحدة الوحي

إننا
بإحترام تلك المبادئ في دراسة الوحي القرآني
كما في دراسة الوحي الكتابي أيضاً نتمكّن من إدراك المقصود الإلهي والإتّعاظ به.

 

(1) الرجوع إلى القرآن

يفرض
الله على المؤمنين الحذر في الأمور الروحيّة، والاستناد دائماً إلى ما ورد في كتب
الوحي، لا إلى الشائعات التي يروّجها مفتعلي الفتن. فيقول تعالى:

 (ومن
الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير) (الحج 8).

 

إن
الكتاب المنير الذي نستعين به لاستيعاب روح القرآن هو القرآن نفسه، مؤيدين ما نقول
من كتاب الوحي هذا، ومن التوراة والإنجيل، لإبراز الوحدة بين كتب الوحي، غاضّين
النظر عمداً عن احتجاجات المجادلين السطحيين، توفيراً لوقتهم ولوقتنا.

 

إن
الإستعانة بكتاب منير للجدل في الله، حاجة شَعَرَ بها رسل السيد المسيح لإقناع
اليهود بأنه هو فعلاً المسيح الذي تنبّأ به الأنبياء في التوراة. فنجد في الوحي
الإنجيلي، أن اليهود الذين آمنوا بالسيد المسيح “استقبلوا الكلمة (التي بشّرت
بقدومه) بفرح، وكانوا يفحصون يومياً ما ورد في الكتب (التوراة)، للتأكّد من
صحّة ما يسمعون (من الرسل عن المسيح) ” (أعمال الرسل 11: 17). وكذلك أيضاً
فعل المسيح مع رسله، فيقول إنجيل لوقا إن المسيح، بعد بعثه، “فسّر لهم كل ما
ورد عنه في الكتب (التوراة والأنبياء)، مُبتدئاً بموسى ومارّاً بجميع
الأنبياء” (لوقا 27: 24).

 

فعلى
المؤمن الحكيم، إذا أراد الهُدى، أن يرجع دائماً إلى الكتب المنيرة لتأسيس إيمانه
على المعرفة، كما فعل من قبله الذين سبقوه في الإيمان.

 

(2) البحث عن المعنى الروحي

لقد
أوصانا الله أن نبحث دوماً عن المعنى الروحي للآيات المُنزلة، مُحذّراً
إيّانا من الوقوع في فخ التفسير الحرفي الضيّق والمُحرج أحياناً.

 

إننا
نُدرك أن الوحي الإلهي يقصد إنعاش حياة النفس، ويهدف إلى تعزيز اهتمامنا بالحياة
الروحية الأبدية، التي تفوق بلا قياس حياة الجسد. لذلك نجد القرآن، كما الإنجيل
والتوراة، يدعونا هو أيضاً، بل ويحثّنا على أن نتحسّس الروح من خلال الحرف:

 


(ومن الناس من يعبد الله على حرف، فإن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة،
انقلب على وجهه، خسر الدنيا والآخرة. ذلك هو الخسران المبين) (الحج 11).

 

لقد
ورد المعنى نفسه في الإنجيل، بلسان وأسلوب آخر: “إن الحرف يقتل،
والروح يُحيي” (2 كورنثوس 6: 3). وحذّرنا السيد المسيح من فهم الوحي حرفيّاً،
والتوقّف عند المفهوم اللفظي، دون السموّ إلى المقصود الروحي للكلمات النبوئيّة،
إذ قال:
إن الروح هو
الذي يحيي، أما الجسد فلا يُفيد شيئاً. الكلمات التي أقولها لكم هي روح وهي
حياة” (يوحنا 63: 6).

وتدعونا
التوراة أيضاً إلى التخلّي عن الحرفيّات لصالح الروحانيّات. يتجلّى ذلك في شريعتي
الختان (التطهير) والصوم مثلاً. فيقول النبي أرميا (القرن السادس ق.م.) عن الختان:
“اختتنوا للرب وانزعوا قلف قلوبكم” (ارميا 4: 4). هكذا ارتفع هذا
النبي الشريف من مفهوم الختان الجسدي إلى مقصوده الروحي، ألا وهو ختان القلب،
أي تطهير الروح من أفكارها وميولها النجسة. لذلك يقول الإنجيل: “ليس الختان
بشيء، ولا عدم الختان بشيء، والمهم حفظ وصايا الله” (1 كورنثوس 19: 7). فمن
حفظ وصايا الله بمحبة “قد خُتن ختاناً (روحياً) ليس بفعل يد بشرية”
(كولوسي 11: 2)، ذلك هو ختان الروح طبعاً، أي تطهيرها بالتوبة، لا تطهير الجسد بيد
بشريّة.

فالختان
والصوم والذبائح والحجّ.. إلخ كلّها رموزٌ تشابه حقائق روحيّة وإنّها لمِنَ (المُتشابهات)
التي يجب تفسيرها روحيّاً، لا حرفيّاً، كما فعل وما زال يفعل أولئك الذين (في
قلوبهم زيغ فيتّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم
تأويله إلاّ الله والراسخون في العلم يقولون آمنّا به كلّ من عند ربّنا وما يذّكر
إلاّ أولوا الألباب
) (آل عمران 7).

بما
أن تأويل (المُتشابهات) لا يعلمها إلاّ الله، فكيف يتجرّأ البعض على تأويلها
بطريقة وأسلوب يخلقان الفتنة والإنشقاق بين الإخوة؟ أما نحن، فلا نأتي بتأويل من
عندنا، إنما لجأنا إلى كلمة الله التي بيّنت المقصود الإلهي في الكتاب المقدّس،
وخاصة في كتب الإنجيل السماوي. هناك وجدنا تأويل الله نفسه عن (المُتشابهات)، وذلك
من خلال كلمته نفسها التي ألقاها إلى مريم، متجسّداً فيها ليُنير العالم
بمقصود الله في وحيه. وتلك الكلمة المباركة لا تُخطىء، وإنها تفوق وتخزي كل تفسير
بشري. من تلك الكلمة الإلهية ما يتّعظ (وما يذّكر إلاّ أولوا الألباب) المنفتحين
على مجمل الوحي الكتابي – القرآني بحرّية وإرتياح وبلا تشنّج. إن كلّ الذين وقعوا
في شباك التعصّب اللّعين ثم اتعظوا بكلمة الله الشاملة، سيتخلّصون من تلك
العبوديّة الجهنميّة، وينجون من دينونة الله العليم الحكيم فيمجّدون وحيه القدوس
في الكتاب والقرآن مردّدين مع القرآن الكريم: (آمنّا به، كلٌّ من عند ربّنا).

 

أما
عن الصوم، فيقول في التوراة النبي أشعيا (القرن الثامن ق.م.): “الصوم الذي
أريده

يقول الرب
هو حلّ قيود الشّر، وفكّ عُقَد النير، وإطلاق المظلومين أحراراً،
وقطع كلّ نير ظالم. الصوم، أليس أن تكسر خبزاً للجائع، وأن تُدخل البائسين
المطرودين ظلماً بيتك، وإذا رأيت عرياناً فقيراً أن تكسوه؟” (أشعيا 58: 6
7).

 

نعم،
إن الصوم الحقيقي هو ربط اللسان عن كل حديث باطل، وعن الافتراء وإلحاق الضرر
بالإخوة، والنيل من سمعتهم، والتهام أموال الناس. هذا هو الطعام الواجب الامتناع
عنه، كما قال المسيح: “إسمعوا وافهموا! ليس ما يدخل الفم هو الذي ينجّس
الإنسان، بل ما يخرج من الفم هو الذي يُنجّس الإنسان.. إن ما يخرج من الفم، فمن
القلب يصدر، وهذا هو الذي ينجّس الإنسان. لأن من القلب تخرج الأفكار الرديئة،
كالقتل والزنى والفجور والسرقة وشهادة الزور والتجديف. هذه هي التي تنجّس الإنسان..”
(متّى 10: 15
20).

 

إنّ
القرآن الكريم، إذ أُنزِلَ للإنجيل مُصدّقاً، يصدّق على كلام عيسى الإنقلابي هذا،
فقد ورد في سورة آل عمران قول عيسى لليهود: (قد جئتكم بآية من ربّكم.. ومُصدّقاً
لما بين يديّ من التوراة ولأُحِلَّ لكم بعض الذي حُرِّمَ عليكم..) (آل
عمران 49-50). لقد فهم أتباع الله أنه ليس من طعام محرّم يعتبره الله نجساً، ولم
يرد ذكر تلك المُحرّمات في التوراة والقرآن إلاّ تمهيداً لمفهوم ما هو نَجس وما هو
طاهر من الأعمال والتصرّفات البشريّة، لقوم كانوا يجهلون الله والخير
والشرّ.

 

لذلك
عاد المولى عزّ وجلّ ووضّح مقصود الحلال والحرام، إذ أوحى لرسوله العربي الكريم في
سورة المائدة: (اليوم أُحِلَّ لكم الطيّبات، وطعام الذين أوتوا الكتاب حِلٌّ
لكم
، وطعامكم حِلٌّ لهم
) (المائدة 5). وأيضاً قوله تعالى ليؤكِّد على
ما سبق: (
يا
أيّها الذين آمنوا لا تُحرِّموا طيّبات ما أَحلَّ الله لكم ولا تعتدوا إنّ
الله لا يُحبّ المُعتدين وكلوا مِمّا رزقكم الله حلالاً طيِّباً واتّقوا الله الذي
أنتم به مُؤمنون) (المائدة 87-88).

 

فَلنُلاحِظ
أنّ هذه الوصيّة موجّهة إلى (الذين آمنوا) ليعملوا بها، وليس لغير المؤمنين الذين
لن يعملوا بها. ونحن من معشر هؤلاء المؤمنين غير المُعتدين
على رسالة
عيسى الذي (أَحلّ بعض الذي حُرِّم)
من المأكولات كما رأينا. كما إنّنا نُؤمن
بمحمد، زميله المُبارك في الرسالة السماويّة، والذي أُرسل مُصدِّقاً
للإنجيل
ولما ورد فيه من أقوال عيسى. وبِناءً على إيماننا هذا، فإنّنا مُصمّمون أن لا
نُحرّم ما حلّله
الله لأنّ (ليس على الذين آمنوا وعَمِلوا الصالحات جُناحٌ
فيما طَعِموا إذا ما اتّقوا وآمنوا وعَمِلوا الصالحات ثمّ اتّقوا وآمنوا ثمّ
اتّقوا وآمنوا وأحسنوا والله يُحبّ المُحسنين) (المائدة 93).

 

العمل
الحسن! هذا ما وصّانا
الله به. والعمل الشرّير! هذا ما حَرّم الله علينا.
لذلك يطلب المولى من رسوله في سورة الأنعام: (قل تعالوا أَتْلُ ما حَرّم ربّكم
عليكم، ألاّ تشركوا به شيئاً.. ولا تقرَبوا الفواحش.. ولا تقتلوا النفس التي حرَّم
الله إلاّ بالحقّ ذلكم وصّاكم الله به لعلّكم تعقِلونَ. ولا تقرَبوا مال اليتيم..
وأَوفوا الكيل والميزان بالقسط.. إذا قلتم فاعدِلوا.. وبعهد الله أوفوا، ذلكم
وصّاكم به
لعلّكم تذكّرون، وأنّ هذا صراطى مستقيماً فاتّبِعوه) (الأنعام 151-
153).

 

إنّنا
نلاحظ انّ المولى عزّ وجلّ لا يذكر في صراطه المستقيم المبارك هذا شيئاً مُحَرّماً
من المأكولات، فما يهمّه تعالى هي الأعمال والنيّات الصافية.

 

لقد
حان وقت تخطّي تلك المُحرّمات الغذائيّة والماديّة وتطبيق ما يقول عيسى في إنجيل
متّى وفي سورة آل عمران. وحده القلب الناضج في الإيمان السليم، المُنصت إلى
إرشادات ربّ العالمين، يستطيع أن يتحرّر من سلاسل مفهوم الحرف ويتخطّاه ليسمو إلى
المفهوم الروحي فهذا هو صراط الله المستقيم.

 

ويُشير
الوحي القرآني أيضاً إلى الصوم عن سماع الكذب وعن أكل أموال الناس: (أولئك الذين
لم يرد الله أن يطهّر قلوبهم، لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم.
سمّاعون للكذب، أكّالون للسحت (المال الحرام)) (المائدة 41
42). ويقول الله أيضاً في كتابه الكريم: (ولا تأكلوا أموالكم
بينكم بالباطل وتدلوا بها الى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم، وانتم
تعلمون) (البقرة 188). يظهر مقصود الصوم هنا على أنه عمل روحي، يدوم طول الحياة
الأرضية، وليس الصوم، في المقصود الإلهي، مجرّد الامتناع عن طعام مادي لمدة محدودة.

 

إن
موسى أعطى اليهود شريعة (التوراة)، أصرّوا، وبعضهم ما زال يصرّ، على فهمها حرفيّاً،
رافضين الانفتاح على المقصود الإلهي. إن هذا الانغلاق الذي انعزلوا فيه عن مشيئة
الله، هو سبب رفضهم السيد المسيح، إذ أرادوا مسيحاً عسكرياً محارباً، وسياسياً
متسلّطاً، واقتصادياً عبقرياً. وجاء المسيح يكلّمهم عن التوبة، ومحبّة الآخرين لا
محاربتهم، وازدراء المال لا عبادته. كما أنه وضّح المفهوم الروحي للصّوم والوضوء
والتطهير بالماء، وللشريعة عامةً. لكنهم تمسّكوا بحرفية الشريعة، لا بروحها،
فنبذوا المسيح الداعي إلى الارتقاء إلى أعالي التطهير بالمياه الروحية، لا المادية،
التي هي التوبة، فهي وحدها كفيلة بتطهير القلب من النجاسة الفكرية والروحية.

 

لذلك،
يدعونا الله في قرآنه الكريم إلى فحص ضمير جدّي يُدين أو يُبرّئ كلاًّ منّا. إذ
ورد في سورة يونس: (قل: أرأيتم ما أَنزَلَ الله لكم من رزقٍ فجعلتم منه حراماً
وحلالاً؟ قل: ءالله أَذِنَ لكم، أم على الله تفترون؟ وما ظَنُّ الذين
يَفترون على الله الكذب يوم القيامة؟ إنّ الله لَذو فضلٍ على الناس ولكن أكثرهم لا
يَشكرون) (يونس 59-60).

 

يتوضّح
من هذه الآية الخطيرة أنّ الإنسان هو الذي – بحماقته – جعل من أرزاق الله المحلّلة،
ما هو حرام وما هو حلال. فما تُرى يكون جواب كُلٍّ منّا أمام هذا السؤال الذي
يطرحه القرآن: هل هو الله الذي ميّز بين الحلال والحرام فيما رَزَقنا هو تعالى
بنفسه، أم هي حماقة المُفترين التي افترت على الله هذا الكذب؟

 

وفي
كلّ الأحوال، يؤكِّد القرآن الكريم أنّ للمولى العزيز مُطلق الحريّة ليمحوَ ما
يشاء
من كتب الوحي الإلهي. فورد في سورة الرّعد: (..لِكُلِّ أَجَلٍ كتابٌ، يَمحُوَ
الله ما يشاءُ
ويُثبِتُ، وعنده أُمُّ الكتاب) (سورة الرّعد 38-39).

 

رأينا
أنّ السيّد المسيح برّأ كلّ الأطعمة مُعلناً
أنّ جميع
الأطعمة نقيّة
(إنجيل
مرقس 7: 19). وطلب المولى أيضاً بعدها من القديس بطرس أن يعتبر كلّ الحيوانات
طاهرة قائلاً ومُكرّراً ثلاث مرّاتٍ:
ما أعلنه الله طاهراً، فلا
تدعه
، أنت، نَجِساً
(أعمال الرسل 10: 15-16).
ولخّص القديس بولس أمر الطّهارة والنجاسة بقوله:
لا تنقض عمل
الله من أجل طعام! لا ريب أنّ كلّ شيء طاهر
(روما 14: 20).
وعاد يُؤكّد على قوله هذا:
إنّ كلّ شيء طاهر
للأطهار، وأمّا الأنجاس وغير المُؤمنين فليس لهم شيء طاهر، بل عقلهم
وضميرهم أنفسهما قد تنجّسا. يعلنون أنّهم يعرفون الله، لكنّهم يُنكِرونه
بأعمالهم
..
(تيطس 1: 15-16).

 

الصراع
بين مفهوم الحرف ومفهوم الروح صراع دائم. إن الله لا يطلب منا مجرّد الإيمان بوحيه،
وإنما الإيمان الصالح، ألا وهو الخاضع لمقصوده تعالى. والله روح، تهمّه
طهارة روحنا فبدونها لا نستطيع، مهما طهّرنا الجسد، السموّ إليه تعالى. وليس
الوضوء الجسدي إلا رمزاً لضرورة تطهير الروح بالتوبة والرجوع إلى ا
بالإيمان
والأعمال الصالحة وإنّه لمِنَ (المتشابهات).

 

إن
المؤمنين الباحثين عن معاني الوحي الروحية، سرعان ما يصلون إلى قمة الحياة الروحية.
أما المتشبّثون بالحرف، فهم أقزام (ينقلبون على وجوههم إذا أصابتهم فتنة، خاسرين
الدنيا والآخرة) (الحج 11).

 

وكيف
لا ينقلب على وجهه المؤمن بالحرف أمام آيات متناقضة في نفس الوحي؟ إنها، وإن تبدو
متناقضة على صعيد الحرف، إلا أنها، على صعيد الروح والمقصود الإلهي متّفقة. لذلك،
فالصعود إلى المغزى الروحي ضرورة خلاصية، لولاه سقطنا في مستنقع الحرف وتلوّثنا
بمرض التعصّب والجهل، كما هو، للأسف، حال الكثيرين.

 

تتجلّى
ضرورة الصعود إلى المفهوم الروحي في آيتين عن الخلق تبدوان متناقضتين وهما:


(الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش) (الفرقان
59)

 


(ائنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين.. فقضاهنّ سبع سماوات في يومين..) (فصّلت
9 و12).

 

إن
التفاسير التي تحاول التوفيق حرفيّاً بين الخلق في ستة أيام والخلق في يومين
لهزيلة ومضحكة؛ إنها، لِكَثرة التوائها وغموضها غير مقنعة بتاتاً وتُبعِد عن الوحي
كلّ إنسان جدّي ومفكّر ذي عقل راشد ورصين.

 

إننا
نجد في التوراة أيضاً قصتين عن الخلق. الأولى تتكلم عن الخلق في ستة أيام، خلق
الله فيها الرجل والمرأة في اليوم السادس، بعد خلق العالم والحيوانات والنبات في
الأيام الخمسة السابقة (تكوين 1). أما القصة الثانية، فهي تقول العكس، أي أن الله
خلق آدم أولاً، ثم وَضَعَه وحده في الفردوس، ثم خلق سائر الحيوانات، ثم خلق حواء
من إحدى ضلوع آدم. ولا تتكلم القصة عن عدد أيام الخلق (تكوين 2).

 

فهل
يتناقض الوحي؟

لا!
إن الوحي لا يُناقض ولا يُكذّب نفسه. فالمقصود هو أن للكون وللإنسان خالقاً واحداً،
لا إله سواه. هذه الحقيقة وحدها أثارت النقمة على الرسل والأنبياء الذين بشّروا
بها بعد أن خصّهم الله بوحيه للهدى. إن معرفة الخالق هي الحقيقة التي أوحى بها
الله لهداية الناس بإبعادهم عن عبادة الأصنام والتقرّب إليه تعالى. ويدعونا الله،
من خلال تعدّد روايات الخلق، إلى عدم التوقّف عند الحرف، والإرتقاء منه إلى الجوهر
الروحي، أي بعدم البحث العلمي لمعرفة كيفية الخَلق، بل لمعرفة الإله الواحد
الأوحد الخالق كل شيء والذي أوحى وجوده ليعرفه المُؤمنون ولِيُحسنوا عبادته دون
سواه من الأوثان.

كما
في التوراة والإنجيل، كذلك في القرآن الكريم، علينا أن نصعد دوماً إلى المستوى
الروحي إذا أردنا الحياة الحقيقية.

 

(3)
خط
الله التربوي المُعتمد في الوحي

إن
الله اعتمد دائماً في وحيه خطاً تربوياً، كأب يقود بموجبه أبناءه، تدريجياً، من
حيث وجدهم إلى حيث يريدهم: النضج الروحي.

 

إن
المؤمن الواعي المُتبصّر يلاحظ في القرآن هذا الخط التربوي الذي اعتمده الله تجاه
عرب الجاهليّة في القرن الميلادي السابع. والخط التربوي نفسه، قد اعتمده الله في
التوراة والإنجيل.

 

كان
عرب شبه الجزيرة العربية يجهلون حياة الروح لجهلهم الروحانيات الحقيقية. فكانوا
يعبدون في مكة وفي الكعبة بالذات أكثر من 360 إلهاً صنماً، يعتقدون أنها
تأكل وتتزوّج وتلد أولاداً، إلى ما هنالك من خرافات تشابه الميتولوجية اليونانية
وآلهتها الخرافية
كالإله “زيوس” والإله “نبتون”.. الخ التي كانت تُعبد
قبل دخول المسيحية أوروبا.

 

لم
يكن في الإمكان إعطاء العرب النور بكامله فجأة، وبدفعة واحدة، من جراء بُعدهم عنه
إطلاقاً. كما لا يمكن لعينٍ ظلّت في ظلام حالك طويلاً، أن تتفتّح على ضوء الشمس
فجأة، دون ان تُصاب بضرر. فيجب أن تمرّ من العتمة التامة إلى النور الساطع
تدريجيّاً لِئَلاّ تُصاب العين بأذى.

 

لذلك،
تصرّف الله بحكمة كعادته تعالى، فمنح نوره للعرب، لا باللغة العربية فحسب، لكن
تدريجياً، كما يُربّي المعلّم تلميذه في المدرسة من الصفوف السفلى إلى الشهادات
العليا.

 

هكذا
فعل الله من قبل مع إبراهيم وموسى واليهود بالتوراة، ثم مع المسيحيين بالإنجيل،
كاشفاً تدريجياً عن جوهر ذاته الروحيّة الفريدة، ومُرشداً بالسلوك الأخلاقي الصالح.
هذا الخط التربوي نفسه نجده في القرآن، حيث كشف الله للعرب عن الحقائق الكتابية
تدريجياً، بلباقة خارقة وبدقّة فائقة، كما يُربّي الأب أبناءه إلى أن يبلغوا سن
الرشد. إليكم مَثَلين، الأول عن الذبائح والثاني عن الزواج.

 

 (أ) عن الذبائح:

في
زمن موسى، كان اليهود قد تلوّثوا في مصر بعبادة أصنامها، حتى أنهم راحوا يقدّمون
لها الذبائح تلو الذبائح. فلإبعادهم عن تلك الممارسات التي كانوا قد تعوّدوا عليها
بعد مُكوثهم في مصر أكثر من أربعمائة سنة، ولتقريبهم من الله تدريجياً، أعطاهم
موسى في التوراة طقوساً يقدّمون بموجبها الذبائح لله، لا للآلهة المصرية الخرافية.
إن المقصود من تلك الذبائح ليس إرضاء الله بها، إنما منع اليهود من تقديمها
للأصنام.

 

ما
كان في وسع موسى إلغاء تلك الذبائح، وإقناع اليهود بعدم جدواها لنيل غفران الله
ورحمته، إذ لم يكن في وسع اليهود استيعاب مفهوم التوبة والاستغفار للتقرّب من الله
بهما، لا بالذبائح. فسمح الله بتقديم الذبائح، في خطوة أولى، حتى تعود وتنمو معرفة
الإله الواحد تدريجيّاً في ذاكرة اليهود، بعد أن نسوه في مصر. إن المقصود الإلهي
من الذبائح الحيوانية كان، إذاً، إرشاد المؤمنين إلى الله، لا استرحام المولى بها.

 

ثم،
في مرحلة ثانية، وبعد أكثر من خمسة قرون من خروج اليهود من مصر. أوحى الله إلى
أنبيائه بعدم جدوى الذبائح والمحرقات الحيوانية، وأعلن أن “الذبيحة”
الوحيدة التي يتقبّلها على مذبحه الروحي هي تضحية الذّات، تضحية النفس
التائبة والقلب المُستغفر المُستسلم لمشيئته تعالى. فاسترحم داوود، الملك النبي،
المولى عزّ وجلّ في مزموره الشهير قائلاً: “يا ربّ إفتح شفتاي فيُذيع فمي
تسبيحك، لأنّك لا ترتضي بذبيحة ومُحرقات، إنّ الذبيحة لله روح مُنسحق (تائب)، لا
يرذل الله قلباً منسحقاً ومتواضعاً” (مزمور 51 (50): 17-19). يقول
الله أيضاً في مزمور آخر: ” إنّني لا آكلُ لحم الثيران، ولا أشربُ دم التّيوس.
بل قَرِّبوا الحمد ذبيحةً لله، وأُوفوا العليّ نُذورَكُم. وادعوني يوم الضيق،
فأُخلّصكم، فتُمَجّدوني” (مزمور 50 (49): 13-15).

 

قال
الله صراحةً بفم النبي إرميا (القرن السادس ق.م.)، إنه لم يكن هو الذي طلب
في التوراة ذبائح ومحرقات حيوانية، وإنما ما طلبه الله هو الاستجابة لإرشاداته.
فيقول النبي أرميا ساخراً من اليهود: “هكذا تكلّم الرّب: أَضيفوا محرقاتكم
إلى ذبائحكم وكلوا لحومها!! لأني لم أُكلّم أباءكم ولا أوصيتهم يوم أخرجتهم من أرض
مصر في ما يَخصّ المحرقة والذبيحة. بل إنما أوصيتُهم قائلاً: إسمعوا صوتي فأكون
لكم إلهاً وتكونوا لي شعباً، واسلكوا في كل طريق أمرتكم به لكي يكون لكم خير”
(ارميا 22: 7-23).

 

وأعلن
أيضاً النبي ميخا (القرن الثامن ق.م.) عن عدم جدوى الذبائح، ثم استطرد قائلاً: “إن
الله قد أخبرك، أيها الإنسان، ما هو صالح وما يطلبه منك. إنّ الرب لا يطلب منك سوى
أن تصنع الحق
، وأن تُحب بحنان وأن تَسير مع إلهك بتواضع” (ميخا 6: 6-8).

 

يدعونا
القرآن أيضاً إلى تجاوز الذبائح الحيوانية والسُموّ إلى مقصودها الروحي بقوله: (لن
ينال الله لحومها ولا دماؤها، ولكن يناله التقوى منكم) (الحج 37).

 

ومع
ذلك نجد مؤمنين بالملايين منهمكين في تقديم الذبائح بأعداد لا تُعدّ ولا تُحصى، لا
إرضاءً لله الذي (لا تناله لحومها ودماؤها)، بل مُجاملةً للمجتمع، غافلين عن
التقوى والسير مع الله يومياً.

 

 (ب) عن الزواج:

كان
الزواج عند عرب الجاهلية فَوضوياً، لا شرع له ولا حد، كالطلاق أيضاً، تتحكّم به
أهواء الرجل وغريزته. وكان هذا الوضع يُعرِّض المرأة لمخاطر جَمَّة ولعدم الأمان
والإستقرار. إنّ دور الحريم المُحتقر، في الشرق العربيّ القديم، أشهر من أن يعرّف
عنه.

 

فجاء
القرآن، في مرحلة أولى، يحصر عدد الزوجات ويضع شرعاً للطلاق، يُعيل بموجبه الرجل
المرأة المُطلّقة. فبعد أن كان الزواج فَوضويّاً، حدّد الشرع عدد الزوجات الشرعية
إلى أربع فقط، ثم علّق على ذلك قائلا
وهنا يظهر خط الله التربوي إن الرجل، إذا خاف أن لا يَعدل بين زوجاته، فعليه أن يتزوّج
بواحدة فقط. وهذا تطوّر عظيم للرجل العربي آنذاك. يقول القرآن الكريم:

 

 (وإن
خفتم ألاّ تقسطوا في اليتامي (يلفت القرآن إلى الاهتمام باليتامى قبل الاهتمام
بالنساء) فانكحوا (تزوّجوا) ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألاّ
تعدلوا فواحدة.. وأتوا النساء صدقاتهن..) (سورة النساء 3-4).

 

إن
القرآن، في تلك الآية، لا يحصر الزّواج فحسب، بل إنه يفرض على الرجل مهراً لكل
زوجة بقوله: (وأتوا النساء صدقاتهن). هذا الأمر في حدّ ذاته لا يشجع على تعدّد
الزوجات من جهة، ويَرفع من شأن المرأة من الجهة الأخرى. فبدلاً من أن تقدّم المرأة
مهراً للرجل
كما هي العادة حتى اليوم في مجتمعات كثيرة، حتى الغربية منها كانت بالعكس
المرأة هي التي تأخذ من الرجل مَهراً، إلاّ إذا ارتضت أن تتنازل عنه بطيب خاطر: (وأتوا
النساء صدقاتهن نحلةً، فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً (من تلقاء نفسهن) فكُلوه
هنيئاً مريئاً) (النساء 4).

 

بعد
أن حدّد الله في القرآن للعرب عدد الزوجات، ولمّح إلى الزواج الواحد إن لم يَعدلوا
بين النساء، عاد ليُقدّم الزواج من واحدة فقط كالوسيلة المُثلى والوحيدة لتَجنُّب
الظلم، فقال: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولوحرصتم) (النساء 129).

 

بهذه
الآية يَفرض الله على الرجل الزواج بواحدة فقط، بعد أن قاده تدريجيّاً من الزواج
الفوضوي، إلى الزواج بأربع نساء فقط، إلاّ إذا خاف الرجل أن لا يعدل بينهن. ثم عاد
الله ليؤكّد على الرجل أنه لن يعدل بين النساء ولو حرص على ذلك. فيبقى
الآن على المؤمن الذكي أن يستخلص مغزى الوحي والعمل به.

 هكذا،
بطريقة لَبِقة وغير مباشرة، دخل مفهوم الزواج الواحد في شرايين العرب وذهنيتهم،
رغم أن الانطباع الأوّل كان، وما زال، أن تعدّد الزوجات مسموحاً. إنما الواقع هو
أن تعدّد الزوجات كان مقبولاً به لحين نضوج الإنسان. فقد أعطى الله الوقت الكافي
لخليقته البشرية الضعيفة أن تَعي، مع مرور الزمن والتجربة، أهمية الزواج الواحد
للحياة الروحية والزمنية.

وإننا
نلاحظ نجاح مخطط الله التربوي باطّلاعنا على نسبة الزواج من امرأة واحدة في
المجتمع العربي اليوم؛ إنها تفوق بكثير نسبة تعدّد الزوجات، وقد بات هذا الأخير،
مع الوقت، مَدعاة للاستغراب بل وللسخرية، بعد أن كانت ممارسته طبيعية. أما الطلاق،
فتزدريه معظم العائلات العربية، وهو غير مستحب وغير ممارس إلاّ لأسباب جدّية، لا
هزلية كما كان الحال في الجاهلية. فشتّان الفرق بين المجتمع العربي والإسلامي
اليوم وبين مجتمع الجاهلية، بعد مرور نسمة القرآن المُحيية عليه.

 

إننا
نجد في الإنجيل نفس التصرّف التربوي بخصوص الزواج والطلاق. إذ قَدِمَ (أتى) إلى
السيد المسيح عدد من الفريسيين
وهم يمارسون الطلاق بحرية تامة وحاولوا إحراجه سائلين: “هل يُسمح بالطلاق من الزوجة لاي سبب
كان؟ أجابهم: ألم تقرأوا (في التوراة) أن الخالق خلقهما منذ البدء رجلاً وامرأة
وقال: لذلك سيترك الرجل أمه وأباه ليتّحد بامرأته، فيصبحان جسداً واحداً؟ فلا
يُفرقنّ إنسان ما جمعه الله. قالوا له: لماذا إذاً سمح موسى للرجل الذي يريد
الطلاق من زوجته، أن يعطيها مكتوب طلاق؟ أجابهم المسيح: لم يسمح موسى بذلك إلاّ
بسبب قساوة قلوبكم. لكنه لم يكن هكذا في البدء” (متّى 19: 3-8).

 

والجدير
بالانتباه في هذه القصة هو موقف تلاميذ المسيح، فهم أنفسهم صُدموا أيضاً من كلامه،
وقالوا: “إن كان هذا هو وضع الرجل من المرأة، فالأفضل أن لا نتزوّج”
أجابهم المسيح: “لا
يفهم كل الناس ما أقول.. فهنالك بالحقيقة من يُولدون خصياناً وآخرون يخصيهم الناس
(كالعبيد حرّاس دور الحريم)، وآخرون يخصون أنفسهم من أجل ملكوت السماوات. وليَفهم
من يستطيع!” (متّى 19: 10-12).

يجب
ملاحظة أمرين في هذه القصة: الأمر الأول هو أن موسى، وليس الله، هو الذي قال أن
تُعطى المُطلّقة مكتوب طلاق من الرجل. وموسى سمح بذلك كخطوة تربويّة، وتنازلاً
وقتيّاً أو مساومة يجب العدول عنها في حينه للعودة إلى الأصل، وهو عدم الطلاق. لكن
اليهود لتشبُّثهم بغرائزهم البشريّة تمسّكوا بحرفية الشريعة، ورفضوا الصعود إلى
مقصودها الإلهي.

الأمر
الثاني الواجب ملاحظته، هو أن المسيح، من منطلق حديثه عن الزواج والطلاق، تمادى
إلى صعيد أسمى، مشيداً بالعفّة، وأثنى على “الذين يَخصون أنفسهم”
ليقتنوا ملكوت الله. إنه لا يقصد عملية جراحية ولا الإمتناع عن الزواج إنّما يقصد
أولئك الذين لا يتزوجون عشوائيّاً لإرضاء غريزة جنسيّة أو شهوة محض جسدية، بل
تجاوباً لحب روحاني عميق ومُخلص مصدره الله الذي يجمع بين قلبَيْ رجل وامرأة مدى
الحياة. إنّ الذين يسيطرون على حواسهم ويحتفظون بعفّة الجسد والروح، رجالاً كانوا
أم نساءً، لحين قدوم زميل الحياة المختار من الله، هم الذين، بعفّتهم يجعلون
أنفسهم “خصياناً من أجل ملكوت السماوات”.

 

يتكلم
القرآن أيضاً عن موضوع العفّة: (وليستعفف (ليخصوا أنفسهم) الذين لا يجدون نكاحاً
(زواجاً) حتى يُغنيهم الله من فضله (بإرسال زميل أو زميلة الحياة)) (النور: 33).
أين كان عرب الجاهلية من الزواج الواحد؟ بل أين كانوا من العفّة قبل الزواج؟ كانت
تلك الفضيلة المباركة مجهولة أو محتقرة، وكان يُنعت مَن فكّر بممارستها بعدم
الرّجولة.

 

إن
التعاليم القرآنية قد أثمرت، بلا شك، في قلوب كثيرين من العرب. هذا هو فضل القرآن،
حتى لو بقيت تعاليمه بلا ثمر في قلوب الكثيرين، فبات هؤلاء في جاهلية روحية قد
اختاروها هم لأنفسهم سبيلاً بدلاً من الصراط المستقيم، إذ رفضوا العمل بإرشادات
المولى العزيز. وكذلك لم تُثمر تعاليم الإنجيل في قلوب مسيحية عديدة تزدري العفّة
وقُدْسيّة الزواج.

 

(4) وحدة الوحي

إن
الوحي واحد في التوراة والإنجيل والقرآن، فهو ينبع من إله واحد كشف عن وجوده هو
بنفسه، من خلال أنبياء التوراة والإنجيل والقرآن. هذا ما يؤكد عليه القرآن قائلاً
لأهل الكتاب: (إلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون) (العنكبوت 46). فَمِن إله واحد
ينبع وحي واحد، ثابت، لا تزوير فيه. ومن يدّعي عكس ذلك فهو من الكفّار المرذولين.

 

لاستيعاب
وحدة الوحي هذه، يجب أن نتجاوز تعابيره وأساليبه اللغوية، كما قلت، والسموّ إلى
مقصوده الروحي، فنكتشف وحدته في روح الله الأحد، كما فعلنا في مثَلَيْ الذبائح
والزواج. وعندها، بعد توحيد الوحي، نستحق أن نشهد أن لا إله إلا الله. فلا يليق
ولا يمكن أن نكون للتوحيد الإلهيّ شهوداً إلا بتوحيد الوحي فينا أولاً. وهذا ما قد
فعلناه.

 

يُروّج
المتعصّبون إشاعات تُثير الفتن، منها أن القرآن غير موحى به من الله، ومنها أن
الإنجيل مزوّر أو أنه يُناقض نفسه، ومنها أن القرآن نَسَخَ الكتاب، أي أبطله، إلى
ما هنالك من إفتراءات لا أساس لها في القرآن. وقد شجب علماء أجلاّء كثيرون تلك
الإدّعاءات، منهم المرحوم العلامة الشيخ محمد عبده، وكان شيخ الأزهر بمصر، وقد ثار
مراراً وتكراراً على تلك الإشاعات، مؤكداً أن لا تزوير ممكن في التوراة وفي
الإنجيل، ومذكّراً أن القرآن يصدّق عليهما.

 

إننا،
إذا أردنا اكتشاف وحدة الوحي، علينا أن نبحث عنها باحترام أمرين، هما

 (أ)
وضع الوحي في إطار زمنه وبيئته.

 

 (ب)
(الجدل بالتي هي أحسن). كلّ تفسير قرآني يصدّق على التوراة والإنجيل، هو التفسير
الأحسن. هذا هو (الصراط المستقيم) (الفاتحة 6). وكل تفسير يناقضهما يكون الأقبح
فهو ضد القرآن الذي يصدّق على الكتاب، ويَنصَبّ في صراط المغضوب عليهم والضالّين.

 

 (أ) وَضْع الوحي في إطار زمنه وبيئته:

لِنَفهم
رسالة وحي مُعَيّن، إن كان في التوراة أو في الإنجيل أو في القرآن، يجب معرفة النبي
الذي خصّه الله بوحيه هذا، وسبب نزول الوحي، والبيئة التي نزل فيها.
فيقول الله في القرآن: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليُبيّن لهم)
(إبراهيم 4). لذلك يجب معرفة قوم وزمن ولغة كل نبي لاستيعاب ما أوحى الله له.

نزل
القرآن في شبه الجزيرة العربية ليُعرِّف العرب أن هناك إلهاً واحداً، لا إله غيره،
أوحى الكتاب لأهله، ثم أوحاه للعرب (قرآناً عربياً) ليتّبعوا سنن الذين قبلهم: (يريد
الله ليبين لكم (أيها العرب) ويهديكم سنن الذين من قبلكم (أهل الكتاب)) (النساء
26). ويدعو الله إلى الإيمان لا بالقرآن فحسب، بل وبالكتاب أيضاً، وهنا تتجلّى
وحدة الوحي: (آمنوا (أيها العرب) بالله ورسوله (محمد) والكتاب (القرآن) الذي نزل
على رسوله والكتاب (التوراة والإنجيل) الذي أنزل من قبل) (النساء 136).

 

إن
الإيمان بالكتاب شرط للإيمان بالتوحيد، ولا يمكننا توحيد الوحي إلا بالإيمان
بالكتاب. إن إيماننا بصحة الكتاب هو الذي يجعلنا نكتشف التفسير القرآني الصحيح
الذي يصدّق عليه القرآن.

 

فكيف
يدّعي البعض أن الكتاب
والإنجيل بالأخص هو مزوّر؟ مع أن شهادة القرآن عكس هذا الإفتراء تماماً، فهو يقول:
(الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تِلاوته. أولئك يؤمنون به ومن يكفر به
فأولئك هم الخاسرون) (البقرة: 121).

 

إن
إيماننا بوحدة الوحي وبصيانته، يفرض علينا الإيمان بالوحي الكتابي وبالوحي القرآني
المنبثق منه. مَن يعتبر الكتاب مزوّراً، لا يعتبر القرآن إطلاقاً، ولذلك قال الله
تعالى: إنّ (من يكفر به (بالكتاب) فأولئك هم الخاسرون).

 

إننا
لا نريد التوقف عند مصير أولئك الخاسرين الذين يكفرون بالإنجيل بحجة أنه
“مزوّر”، وكفانا بلفت النظر إلى أن القرآن يشهد لِ (حق تلاوته)، أي
بقراءته كما أُنزل (أنظر تفسير الجلالين).

 

ما
يَزيد إيماننا بوحدة الوحي، هو أن النبي العربي الكريم كان دائماً يلجأ إلى (الذين
يقرأون الكتاب) عندما كان يشك في رسالته. وكان الله يرشده بنفسه إليهم، إذ قال له:
(فإن كنت (يا محمد) في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك. لقد
جاءك الحق من ربك فلا تكوننّ من الممترين (الشاكين فيه)) (يونس 94).

 

لقد
حاولنا الاكتفاء بالقرآن في بحثنا عن الحقيقة، إلا أننا وجدناه يدفعنا إلى الإنجيل:
(يا أهل الكتاب، لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل) (المائدة 68).

 

إننا،
من منطلق شهادة القرآن للكتاب، وضعنا لنا هدفاً، وهو إبراز وحدة الوحي في كتب
الوحي الثلاثة، والبحث، دون ملل، عن نقطة التقاء القرآن بالتوراة والإنجيل. ولقد
وَفَّقنا المولى عزّ وجلّ في اجتهادنا.

 

 (ب) الجدل بالتي هي أحسن:

إننا
من خلال بحثنا في أمر وحدة الوحي، وجدنا أن كل تفسير قرآني يناقض الكتاب، هو تفسير
يُعارض القرآن، وهو تفسير باطل يجب التخلّي عنه فالقرآن يصدّق على الكتاب، ولا
يُناقضه.

 

لقد
كنّا مقتادين في بحثنا بوصية قرآنية ضوّاءة وهي: (الجدل بالتي هي أحسن) (العنكبوت:
46)، هذا هو (الصراط المستقيم) (الفاتحة 6) وهذه هي (العُروة الوُثقى) (البقرة
256). اقتنعنا أن الحجّة الأحسن هي التفسير الذي يصدّق على الكتاب، فهو الذي يجمع
بين ما جاء في الكتاب وما جاء في القرآن. وارتاح ضميرنا بهذا الاقتناع، لأننا نأبى
أن نكون شهود زور على الوحي الإلهي الكريم. لقد اجتهدنا، مندفعين بمحبة فائقة
وبحذر كبير، لئلا نقع في فخ الجدل “بالتي هي أسوأ” كما يفعل الكثيرون.
هؤلاء هم المسؤولون عن إبعاد الكثيرين، بتصرّفهم الأحمق المتعصّب، عن القرآن
الكريم، وبالتالي فإنهم يشوّهون وجه الإسلام الصافي النزيه، ويتحمّلون مسؤولية
تضليل الناس وشقّ الصفوف أمام الله الديّان الأعظم. فقد اندفعوا في “صراط
المغضوب عليهم والضالّين”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار