المسيحية

عيسى ابن مريم آية في مولده



عيسى ابن مريم آية في مولده

عيسى
ابن مريم آية في مولده

“قال
ربك: هو علي هين! ولنجعله آية للناس ورحمة منا!” (مريم 21)

تبسط
القرآن في خبر مولد المسيح في سورتي مريم (15 – 33) وآل عمران (33 – 47)، وأوجزه
في الأنبياء (91) والمؤمنون (51) والتحريم (12) والنساء (156).

أن
قصة ميلاد المسيح في القرآن لمقطع من البلاغة الرائعة، فقد تكون شعراً لا يبالي
بلغ أوج الوحي والسمو في سورة مريم، وقد وفاه القرآن وصفاً يجعله من بتول لم يمسها
بشر، تحمل وتلد بقوة من الله وتلبث عذراء. والمعجزة الإلهية تكتنف أطوار الولادة
كلها. قال الجلالان “وكان الحمل والتصوير والولادة في ساعة”!

وما
أعظم مشهد البشارة بالمسيح! الله يرسل ملاكه (مريم) بل ملائكة (آل عمران). من
السماء ليبشروا أمه مريم “بالغلام الزكي” الطاهر، النامي على الخير
والصلاح! أنه طاهر منذ الحبل به، فلا يحتاج إلى تطهير بعد مولده. كلمها الملاك
شفاهاً كرامة لها (البيضاوي) ولم يتفق ذلك لأنثى غيرها (الرازي). تمثل لها بشراً
سوياً تام الخَلق والخُلق. قالت من غاية عفافها لما وقف أمامها: “أني أعوز
بالرحمن منك. إن كنت تقياً..”. لم يدعها الملاك في ريبة من شخصه، ولم يتركها
تستكمل تعويذها؟ “قال: إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً”!
فاستغربت هذه البشرى وهي العذراء البتول التي لم يمسسها رجل قط: “قالت أني
يكون لي غلام ولم يمسسني بشراً! ولم أكُ بغياً”!؟ ليس لبشر أو لمخلوق يد في
ذلك، إنما الأمر كله لله “الله يخلق مع يشاء إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن
فيكون (آل عمران 47) فأجابها الملاك: “هو كذلك كما تقولين. قال ربك: هو على
هين أن يكون لك غلام بدون مسيس بشر. ولنجعله آية للناس ورحمة منا! وكان أمراً
مقضياً”.

اتخذ
بعض الجهال من قول الملاك “لأهب لك” ذريعة للقول بأن الملاك قام مقام
الرجل في الحبل بالمسيح! والقرآن يعتبر مجرد التفكير بذلك كفراً شنيعاً. وقوله
“لأهب لك” حكاية قول الله لا لسان حال الملاك، يؤيد ذلك قراءة
“ليهب لك” (البيضاوي). ورواية آل عمران نقضي على كل شك في هذا الشأن: الحمل
كان بمعجزة مباشرة من الله (47) “إذا قضى أمراً فانما يقول له كن
فيكون”!

قال
كثير من المفسرين: لم يقم جبريل مقام الرجل، بل كان الواسطة المعجزة للحمل البتولي
كما جاء في سورة الأنبياء: “والتي احصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها
وابنها آية للعالمين” (91) نفخ جبريل في جيب درعها فحملت بعيسى (الجلالان).
قد يكون هذا التفسير محتملاً إذا اقتصرنا على السور الملكية؛ أما سورة آل عمران،
والنساء فلا تدع مجالاً لمثل هذا التأويل فعيسى روح الله وكلمته القاها إلى مريم
(نساء 170)، هو روح من الله ألقى إليها (الزمخشري).

وعندنا
أن بين السور الملكية (مريم، الأنبياء) والسورة المدنية (آل عمران والنساء) تطوراً:
فبينما يظهر الملاك في الأولى وكأنه الواسطة المعجزة للحمل البتولي، يظهر الحمل في
المدنية معجزة إلهية مباشرة يقتصر دور الملاك فيها على البلاغ: ألقى الله روحه إلى
مريم، قائلاً يا عيسى كن! فكان (نساء 170، آل عمران 47). وهكذا يظهر معنى قوله
“ونفخنا فيها من روحنا” (أنبياء 91، تحريم 12) أنه محمول على المفعول،
فالمنفوخ هو المسيح روح الله. قال أحدهم “نزل نفخ الروح في عيسى، لكونه في
جوف مريم، منزلة نفخ الروح في مريم فعبر بما يفهم ظاهر هذا”.

وفاتهم
جميعاً أن الملاك روح لا جسد له، ولو تمثل لها بشراً سوياً، إنما ذلك تمثيل لا
تحقيق، فالملائكة كما يقول الانجيل “لا يزوجون ولا يتزوجون”.

فالمسيح
“آية” البشرية وآية الدهور بسبب ولادته البتولية. وهذا شرف لم ينله
ابراهيم حجر الزاوية في الدين الحنيف، ولم يحظ به موسى كليم الله، ولم يٌنسب
مطلقاً إلى محمد “خاتم النبيين”. فالنبي العربي وٌلد كسائر الناس، ولم
يطهر إلا بعد أن شرح له الله صدره ووضع عنه وزره (الشرح 1) وموسى وابراهيم لم
يتقربا من الله إلإ في كهولتهما.

ومعجزة
المسيح لم تكن في الولادة البتولية بل أيضاً في الولادة الطاهرة من مس الشيطان،
ومن كل أذى للخطيئة: فالملاك يبشر أمه “بغلام زكي” طاهر، ينمو على
الصلاح من يوم إلى يوم. فهو ليس بحاجة إلى شرح صدر: فقد ظهر للوجود منذ الحمل به
مشروح الصدر، طاهراً وابن طاهرة!.

والمعجزة
ليست في الحمل فقط، بل هي أيضاً في الحمل السريع الذي قد يقتصر على ساعة حسب
تأويلهم. وهي كذلك في الولادة المعجزة. لا يرضى أحد من المسلمين حسب الرأي العام
أن يراها كسائر النساء، وأمهات الأنبياء. لقد انفرد المسيح بميلاد غريب فريد لا
شبيه له. حاولوا تفسيره بقولهم “كما حملته نبذته” أي بمعجزة. ويرينا
النص الكريم دهشة مريم ذاتها لما يجري بها، وخشيتها ألا يصدق الناس آية ولادتها.
ولم تقاس آلام المخاض بل نراها واقفة لدى جزع النخلة تهز بجذعها لتساقط عليها
رطباً جنياً، ثم تحمل وليدها في الحال وتأتي به قومها تريهم الصبي النبي!

تتعدد
الخوارق لتثبت المعجزة الكبرى: فالرحمان يطعم الوالدة العذراء من نخلة يابسة زمن
الشتاء تهزها فتساقط عليها رطباً جنياً! كما اطعمها من الجنة في حداثتهاوهي في
المحراب. ويسقيها من جدول ماء سري كان قد جف. فناداها الملاك من تحتها ألا تحزني..فكلي
من النخلة واشربي من السرى وقرى عيناً! “لم تقع التسلية بهما من حيث انهما
طعام وشراب، ولكن من حيث أنهما معجزتان تريان الناس أنها من أهل العصمة”
(الزمخشري).

ويختم
القرآن خوارق ميلاد المسيح بخاتم النبوة التي تؤيدها. نُطلقُ المسيح ونبوته من
مهده: جاءت به قومها تحمله، قالوا، وقد عرفوها بكراً بتولاً: يا مريم لقد جئت
شيئاً فرياً! فأشارت إليه أن اسألوهَ! قالوا: كيف تكلم من كان في المهد صبياً! هل
تهزئين بنا؟ قال: “إني عبد الله، آتاني الكتاب وجعلني نبياً منذ مولدي!”.
بهذا نطق المعجز شهد لنفسه ولأمه.

ومعجز
آخر انفرد به المسيح دون سائر الأنبياء والمرسلين: تنبأ منذ مولده (مريم 30)!
استنبأ الله الأنبياء جميعهم “رجالاً وكهولاً”، وهو وحده استنبأه طفلاً!
“تكلم الناس في المهد وكهلاً” (آل عمران 47، مائدة 115) دون تفاوت في
النبوة بين الطفولة والكهولة (البيضاوي). هم صاروا أنبياء في كهولتهم، وهو وحده
وُلد نبياً! لك يقرب منه إلا سابقه يحيي بن زكريا فقد “آتاه الله الحكم
صبياً” (مريم 11) ليؤمن ويصدق بكلمة الله (آل عمران 39).

 

لم
يجمع القرآن الألقاب العظيمة والصفات الفريدة في كلامه عن نبي كما جمعها في خبر
مولد المسيح: فالملاك يصف للوالدة مولودها العجيب! بأربعة القاب تعنيه: أن الله
يبشرك بكلمة منه! اسمه المسيح! عيسى! ابن مريم! أنه ابن مريم والقرآن يخصه بهذا
اللقب شهادة منه دائمة بمعجزة أمومة والدته البتولية: ينسبه إلى أمه لأنه نسب له
من سواها ويهاجم اليهود “لكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً” (نساء
156). أنه عيسى وهو اسمه الذاتي الذي يحمل معنى نبوياً في أصله اللغوي: أي المخلص.
إن المسيح الذي ظهر ممسوحاً منذ مولده في الخطايا والأوزار، ممسوحاً بدهن النبوة،
ممسوحاً بالقدرة الخارقة على المعجزات. وما ذلك كله إلا لأنه “كلمة
الله”، كلام الله القائم في ذاته تعالى (الرازي) وكلام الله الذي به كلم
البشر شخصياً! ثم بأربع صفات تظهر ما له من الميزات الفريدة في عالم النبوة: “وجيهاً
في الدنيا والآخرة” مقدماً على البشر في الدنيا بنبوته، وفي الآخرة بشفاعته
وعلو منزلته! “ومن المقربين” إلى عرش الجلالة! في الدنيا “يكلم
الناس في المهد وكهلاً” وعن الرازي “قال أبو مسلم معناه أنه يكلمهم حال
كونه كهلاً على حد واحد وصفة واحدة وذلك لا شك أنه غاية المعجز”. وفي الآخرة
يكون “من الصالحين” الخالدين.

وما
أن ظهر المسيح حتى أيد منذ اللحظة الأولى بشارة الملائكة عنه. قال: “أني عبد
الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً”: واللقبان مترادفان، أنه عبد الله الذي يعمل
بنبوته في سبيل الله منذ وجوده. أنه المصطفى حبيب الله طيلة حياته “وجعلني
مباركاً أينما كنت”. أنه رجل الله قبل كل شيء، ومدى الحياة “وأوصاني
بالصلاة والزكاة ما دمت حياً”! وليس برجل الدنيا يعمل لسلطان أو لدولة
“ولم يجعلني جباراً شقياً”!

حياة
فريدة تستحق الصلاة والسلام من المهد إلى اللحد: “السلام على يوم ولدت ويوم
أموت ويوم أبعث حياً! سلام الله عليه في هذه الأحوال لأنها أوحش المواطن
(الزمخشري) وفي هذا السلام نبوة عن موت عيسى وبعثه للحال، تؤيد تلك النبوة
المستقبلة معجزة نُطقه في المهد وهي حاضرة.

حياة
تبدأ بمعجزتي النطق والنبوة في المهد، وتتكلل بمعجزتي الانبعاث والرفع حياً إلى
الله: أن صاحبها لأقوى من الموت والحياة. هل ذكر القرآن شيئاً من هذا بحق نبي أو
رسول؟ وأن مجموع هذه الالقاب والنعوت والصفات مدعومة ومحفوفة بالخوارق والمعجزات،
لتجعل من عيسى ابن مريم آية الأنبياء والمرسلين.

وقد
استحوذت معجزة مولد المسيح الخارقة على افكار نبي القرآن وملكت عليه مشاعره. فهو
يؤكدها في كل مناسبة: في مكة (مريم 21، انبياء 91، مؤمنون 51) وفي المدينة (آل
عمران 45، نساء 156، تحريم 12), وهو كيفما نظر إليها وجد فيها آية المسيح الكبرى
التي ترفعه فوق سائر البشر، آية للناس ورحمة من الله:

“قال
ربك: هو علي هين! ولنجعله آية للناس! ورحمة منا! وكان أمراً مقضياً”. (مريم
21).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار