المسيحية

عيسى ابن مريم آية في قداسته وكماله



عيسى ابن مريم آية في قداسته وكماله

عيسى
ابن مريم آية في قداسته وكماله

“إنما
أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً” (مريم 18)

القداسة،
هي التقوى والفضيلة الكاملة؛ بل هي مجموع الفضائل، وعنوان الكمال. وقد تقرن
القداسة بالعصمة من الرذائل والخطايا إذا اقتضى الامر في وظيفة سامية ينتدب الله
إليها مخلوقاً، كالنبوة مثلاً.

والقداسة
صفة من صفات الله عز وجل. لا يسبغها إلا على من اصطفى من عباده ليختمه بخاتمه
الإلهي. وهي ميزة منه تعالى لمختاريه، ومعجزة عظيمة جداً يشهد بها الله لأنبيائه
وأوليائه: لا توجد في بشر إلا بمنة ونعمة سامية من جودة المولى بالجواد. فلا يقدر
مخلوق خلق وجبل من لحم ودم أن ينزه عن الخطيئة والاثم إلا بفضل خاص ونعمة خاصة من
الرحمن الرحيم: “ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً ولكن
الله يزكي من يشاء” (نور 21).

ولقد
اختلف المسلمون في عصمة الأنبياء من الضلال والخطيئة. فمنهم من قال بعصمتهم على
الاطلاق. ومنهم من قال بعصمتهم بعد سن البلوغ ونسب إليهم الخطأ في الصغر. ومنهم من
قال بعصمتهم في تبليغ الرسائل فقط، وامكان ارتكاب الخطأ فيما سوى ذلك: فالعصمة
تكون عندهم من الضلال لا من الرذيلة والخطيئةّ. والرأي الأخير هو ما كان يعتقده
الامام محمد عبده مفتي الديار المصرية.

والقرآن
لا يستثني أحد من الضلال والخطيئة. فالنفس خلقت أمارة بالسوء: “إن النفس
لأمارة بالسوء” (يوسف 53) التعريف فيها للجنس لا للفرد، و”أمارة”
من صنيع المبالغة، واللام فيها للتحقيق؛ “قال ذلك يوسف الصديق من حيث أنها
بالطبع مائلة إلى الشهوات فتهم بها وتستعمل القوى والجوارح في أثرها كل
الأوقات” (البيضاوي). وبسبب هذا الميل الفطري إلى الشر كان حتماً على كل بشر
أن يرد جهنم: “وإن منكم الا واردها كان على ربك حتماً مقضياً ثم ننتجي الذين
اتقوا، ونذر الظالمين فيها جثياً” (مريم) قال الرازي: “ولا يجوز أن يقال
(ثم ننجي) إلا والكل واردون النار”. وعن جابر: “الورود وهو الدخول: لا
يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها”. وقال البيضاوي: “منكم، التفات إلى الإنسان،
واردها أي واصلها وحاضر دونها يمر بها المؤمنون وهي خامدة وتنهار بغيرهم. كان على
ربك حتماً مقضياً، كان ورودهم واجباً أوجبه الله على نفسه وقضى بأن وعد به وعداً
لا يمكن خلقه وقيل اقسم عليه”.

وجاء
الإيمان بالله عوناً على الشر وتزكية منه: “ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما
زكى منكم من أحد أبداً” (نور 21) لذلك فالشيطان قرين للكافرين: “ومن يعش
عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين” (زخرف 35).

فالإنسان
من طبعه ميال بالفطرة إلى الضلال والخطيئة، وما الهدى والفضيلة إلا من فضل الله
ورحمته.

وينسب
القرآ، الخطيئة إلى كل الأنبياء.

إلى
آدم وزوجته “فأزلهما الشيطان” (بقرة 3)، “وعصى آدم ربه فغوى”
(طه 121)، وقد اعترف بخطيئته (اعتراف 22). وإلى نوح: “ربي اغفر لي ولوالدي
ولمن دخل بيتي” (نوح 28). وإلى ابراهيم، جد المؤمنين والأنبياء: فقد كفر ثم
اهتدى (انعام 76) وكان يصلي هكذا: “ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم
الحساب” (ابراهيم 41)، فلقد شمله الاثم الذي يمس كل البشرية (بقرة 26، أنبياء
64)؛ وإلى موسى، سيد الشريعة الذي كلم الله تكليماً (نساء 163) فقد وكز المصري
فقضى عليه فقال “هذا من عمل الشيطان! قال ربي فاغفر لي! فغفر له” (قصص
16) كذلك شعراء 19، اعراف 149. وإلى داود، النبي والملك، صاحب الزبور: “وظن
داود أنا فتناه فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب فغفرنا له” (ص 24 – 25) وإلى
يوسف الذي همت به امرأة سيده وهم بها لولا أن رأ برهان ربه (يوسف 24). إلى سليمان،
فخر الملوك، الذي سخر له الله الانس والجن والطير “إذ عرض عليه بالعشى
الصافنات الجياد..قال ربي اغفر لي” (ص 29 – 40). إلى يونس الذي نجا من الحوت
في البحر “إذ أبق إلى الفلك المشحون” (صافات 139).

وهكذا
إلى جميع الأنبياء والمرسلين الذين هم صفوة البشرية.

وكنا
نأمل أن ينزه القرآن، محمداً، خاتم النبيين، ومثال الكمال المأمول، عن الخطيئة.
فإذا به ينسبها إليه كما نسبها إلى غيره:

فيقول:
عن طفولته وحداثته: “ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك!”
(شرح 1 – 3)؛ وزر ينقض الظهر ليس هو بالصغير ولا الحقير! وفي المدينة، عندما
استفحل أمره، وبلغ أوج مجده بدعوة التوحيد، يقال له بعد “فتح” الحديبية:
“إن فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر”
(فتح 2) سبق له ذنوب ويتبعها ذنوب! وقد شعر محمد بحاجة دائمة إلى الاستغفار: “واصبر
أن وعد الله حق: واستغفر لذنبك” (غافر أو المؤمن 55)؛ ويؤمر مراراً وتكراراً
بالاستغفار “واستغفر الله أن الله كان غفوراً رحيماً” (نساء 106). أنها
حاجة ملحة فيه كما في سائر المؤمنين والمؤمنات: “واستغفر لذنبك وللمؤمنين
والمؤمنات” (محمد 19). فالخطيئة مرض بشري وقع فيه محمد كما وقع فيه غيره من
الأنبياء والمرسلين.

ثم
ألا ينسب القرآن الشك إلى محمد في قوله: “فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فسل
الذي يقرؤن الكتاب من قبلك: لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين”
(يونس 94)؟ والميلان عن القضاء بالحق في قوله: “ولا تكن للخائنين
خصيماً”؟ والركون إلى المشركين في قوله: “لقد كدت تركن اليهم شيئاً
قليلاً” (اسراء 76)؟ والأذن للمنافقين بالقعود عن الجهاد في قوله “عفا
الله عنك لما
أذنت
لهم” (توبة)؟

 

أما
الخطيئة فقد جاء في الحديث أنه كما يستغفر ربه سبعين مرة في اليوم وعلى قول بعضهم
مئة مرة في اليوم! فتلك الحاجة الماسة للاستغفار، يؤكدها أمر من فوق، تدل على شعور
الضمير بالإثم الذي أتعب وجدان البشرية جمعاء لا يُستثنى منها أحد.

 

بلى!
واحد أحدٌ بين الناس، وبين الأنبياء والمرسلين، لا يذكر له القرآن إثماً ولا علاقة
بالإثم على الاطلاق! هو عيسى ابن مريم. فهو لا ينسب إليه خطيئة أبداً. ولا نرى منه
أنه يشعر بحاجة إلى الاستغفار. ولا نقرأ أنه أمر بطلب الغفران,. ولا نسمع في
القرآن أو في الإنجيل أنه تاب، أو احتاج إلى توبة، أو طلب صفحاً عن اثم. بل في
الإنجيل يتحدى خصومه بهذه الجرأة الكاملة: “من منكم يثبت على خطيئة”
(يوحنا).

 

قبل
ميلاده عٌصم وأمه من الشيطان الرجيم “وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان
الرجيم” (آل عمران 36)؛ وحده هو وأمه بين صفوة المختارين حبل به وولد في نجوة
من خطيئة
الجنس
البشري (الآية نفسها). وجاء عن هذه الآية في صحيح البخاري وصحيح مسلم: “كل
آدمي يطعن الشيطان في جنبه حين يولد إلا عيسى وأمه عليهما السلام جعل بينهما حجاب
فأصابت الطعنة الحجاب ولم ينفذ إليهما شيء منه”. فالقرآنن والحديث يعصمان
المسيح وأمه من مس الشيطان وطعنته وكل أذى يؤتيه: أنها عصمة مبدئية مقررة قبل
ميلادهما ونرى في مولد المسيح من أم بتول لم يمسها بشر معجزة تفسر عصمتهما من
خطيئة الجنس البشري.

 

والملاك
الذي يبشر العذراء بالحبل المعجز يبشرها “بالغلام الزكي”: “إنما
أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً” (مريم 19) أي “طاهراً من الذنوب،
كما يفسره البيضاوي، نامياً على الخير، مترقياً من سن إلى سن على الخير
والصلاح”. ملاك الله يعلن لأمه أنه سيكون طاهراً من كل اثم، زكياً، طيلة
حياته. وهذه البشرى من قبل أن يولد توكيد من السماء لطهارته ونبوة بقداسته.

 

وهذه
الطهارة وهذه القداسة آتاه الله إياها، وأوصاه بها طيلة حياته في كل زمان ومكان: “وجعلني
مباركاً أين ما كنت! وأوصاني بالصلوة والزكوة فهو ليس بجبار، رجل حروب وغزوات،
وليس بشقي يرعب الناس وينتصر بوسائل الارهاب: بل هو رجل الله، رجل الصلاة والزكاة
مادام حياً!.

ليس
له سوى أمه، من صلات الدم، فهو “بر بها” وهذه الصفة تحوي كل واجبات
الولد نحو والدته.

وهناك
حديث مشهور أيضاً عن قتادة قوله: “وذكروا لنا أنهما (المسيح وأمه) كانا لا
يصيبان من الذنوب كما يصيب سائر بني آدم”. شهد له بالعصمة الفعلية كما شهد له
بالعصمة المبدئية. ونجد في انتصار المسيح على الموت برفعه إلى السماء حياً تفسيراً
كاملاً لعصمته في حياته من سلطان الخطيئة.

لذلك،
هو وحده، أعطى مثالاً وقدوة لبني اسرائيل وسائر الناس: “إن هو إلا عبد انعمنا
عليه وجعلناه مثلاً لبني اسرائيل” (زخرف 79). ولا ينص القرآن عن غيره أنه
اعطى مثلاً يقتدى به في جميع أعماله وأقواله.

وهكذا
أجمع القرآن والحديث والتفسير على عصمة المسيح المبدئية والفعلية من كل خطيئة.
فجعله القرآن في الدنيا “من الصالحين” وفي الآخرة “من
المقربين” (آل عمران 45 و46). وهكذا استثنى المسيح من صف البشر الخاطئين
الخاضعين بطبيعتهم لسلطان الشر.

ونعرف
جميعنا بالخبرة الشخصية، وأولياء الله وأنبياؤه خبروا معنا، أن نفس الإنسان، كل
إنسان، أمارة بالسوء. فكبار المختارين من ابراهيم إلى موسى إلى محمد لم يسلموا من
شر الخطيئة. واحد وحده، عيسى ابن مريم، مسيح الله وكلمته وروحه، يشهد له الكتاب
والقرآن أنه تبرأ من الاثم، وعصم من الخطيئة ولم يكن للشر عليه من سلطان على
الاطلاق. بل “أنه قدوس بريء زكي متنزه عن الخطأة أعلى من السماوات” (عب
47: 7).

بهذه
القداسة الفائقة معجزة الكمال التي انفرد بها المسيح دون سائر الأنبياء والمرسلين،
قد صار عيسى ابن مريم “غلاماً زكياً” “أعلى من السماوات”
و”آية للعالمين”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار