علم المسيح

صوت صارخ في البرية: بيت عبرا



صوت صارخ في البرية: بيت عبرا

صوت صارخ في البرية:
بيت عبرا

. على
مقربة من مصبّ نهر الأردن في البحر الميّت، يوجد معبراً سهل الاجتياز. معروفاً من
القديم، ألا وهو ” بيت عبرا ” أو ” بيت العبور “. وهو أحد
الأماكن العادية، الواقعة في أطراف البادية. وهي تحتفظ بذكرى أولئك الرحل، الذين
اجتازوا مياهه الرقيقة منذ آلاف السنين، فمما لا شك فيه أن يشوع قد عبر من هناك
(يشوع 2، 3)، إلى تلك الحدود التي أباحها الله لغزوته. وبعده بألف ومئتي سنة، وقف
هناك رسول آخر من موفدي الله، يدعو إلى غزوة من نوع جديد.. لغزوة من نوع جديد: كانت
قد دَنَت الأيام التي يتحقق فيها وعد الله الذي وعد لشعبه، أرضاً يسود فيها الحبّ

 

. وما
يميز هذه البقعة من بقاع الأرض، هو انحدارها 350 متراً تحت سطح البحر. حتى أن
المرء يتملكه شعور بالغرابة لهذا الوضع، أيضاً مّا يهُيْمنِ على الوادي من ركود
وقلق جمادي. فكل شيء فيه يبدو خاشعا ومُعدّ اً للتوحّد والتأمل. ويظهًر المشهد
للناظر إليه من شفا التلال الوعرة، علىَ جانب عظيم من الروعة. فالبراح القائم وسط
دائرة التلال الصهباء هو من الحراجة بحيثُ يخيّل إلى المرء أنه في هوّة سحيقة *: تلك
الهوّة الجيولوجية التي فلقت الأرض، كما تفلق الثمرة، ليس فقط في فلسطين بل من
طورس حتى أواسط أفريقيا. وينتصب حرمون، شمالاّ، بهامته البعيدة المعتمرة بالثلوج،
(وقد سمّاه العرب، بسبب ذلك، ” جبل الشيخ “)، ويسدّ على الوادي، بعارضته
الضخمة، جميع منافذه. حتى ليخُيّلُ أن الأرض كلها محدودة بتلك المنحدرات الجافية،
وتلك الآجام، وذاك البياض، وأنها تقبع كلها عند أقدام ذاك الطود الذي ألفه الله
العليّ مقرّا. وينبسط البحر الميّت، جنوبأ، بصفحته الجامدة، عند سفوح جبال موآب
وتحت حفافيها البنفسجية الوعرة، ويلتمع، بلا انقطاع ” تارة بزرقة الياقوت،
وتارة بتألّق القصدير؛ وإنما يخامر روعته شيء من مخايل، البشرّ.. ولا تستطيع الشمس،
مهما اشتدّت، أن تبدّد تماماً الضباب العائم على صفحة مياهه الثقيلة. وكثيراً ما
تشيع في الوادي، بعيداً، رائحة من الزفت والكبريت، – نفحة يأس وخطيئة – تعيد إلى
الذهن ذكرى سدوم وعمورة!.

 

. ان
تلك البقعة (والتي تعرف الآن ب “الغور “) تنفرّ الإنسان عنها، أيام
الصيف، إذ يلتهب الجوّ فيها التهاباً لا يلين، وتصبح درجة حرارتها المألوفة 45
درجة مئوية. وأمّا في الشتاء فريح الشمال تنحدر إليها من النهر، ثم تنقطع مساءً
تاركة تلك البقعة في غيابة لياليها الساجية. إِذ ذاك تصبح تلك الأرض الموحشة، مدة
شهرين، قطعة من الفردوس، لا تؤذيها الهواجر بلوافحها. بيد أن تلك الجنةّ، حتى في
تلك الفترة، تظلّ كئيبة. وكل مسافر يتخلف فيها ليلا لا يخلو من أن يتملّكه شعور
بالقلق. لذلك لم تقم مدينة واحدة في قعر الوادي. وأمّا عند منتصف السفوح فقد
انتصبت أريحا شامخة بأبنيتها البيضاء وسط نخيل الواحة. وأمّا أورشليم فقد جثمت
هنالك فوق مشارف جبالها، يفصلها عن بقعة الأردن مسيرة نصف نهار

 

. لم
يكن الأردن حاجزاً ممتنعاٌ بين سكّان ضفّتيه. بيد أن اجتياز النهر، عند سالفته، لم
يكن ممكناً إلاّ من خلال أربعة أو خمسة معابر معينة.وكان يقوم عند تلك المعابر بعض
الفنادق الوضيعة للرحّل العابرين؛ وكانت تلك الأبنية هي السكن الإنساني الوحيد في
تلك المنطقة الموحشة.كذلك كان الوضع في “بيت عَبرا “. المعبر والجسر
مثابة للناس يجتمعون إليهما لتبادل الأخبار. وهي بسبب ذلك من المناطق المفضّلة عند
الراغبين في حشد الأتباع.. وكان ما بين الأدغال الشائكة، عند ضفة النهر، براح بسط
عليه الشتاء الدافئ بعض العشيبات الخضراء. فكان الناس يحطون فيه ويتبادلون الحديث
فترة من الزمن، م يعودون إلى قوافلهم شاخصين.. إلى صهيون، والبعض الآخر إلى بيرية
والبيداء

 

.
إلاّ أن كثير منهم، في تلك الحقبة، كانوا يعرّجون في المكان. فكل أولئك الأقوام
الذين كانوا يقصدون المعبر لاجتياز النهر، من عبرانيين أقحاح، وعرب من شرقي الأردن،
وبابليين في أنوفهم خرصان، وأحباش بلون النحاس، وزنوج من السودان، كان ينفصل عنهم
رجال فيقيمون في المعبر متخلفين عن أصحابهم. وهكذا تكونت أولى، جماعة من الأنصار،
كما هي عادة أهل المشرق في تحليقهم حول عباقرة الفصاحة

 

: لم
يلبث أن تضخّم عدد المستمعين، ولم يعد المعبر ليعلل وحده تقاطر تلك الأرْسال
الشعبيّة. فمنذ بضعة أسابيع كانت قد طارت كلمة في جميع أرجاء فلسطين، محمولة
” على جناح الطير “، أي على صوت الإشاعة الشعبيّة.. فكفى بها حافزاً،
لأولئك الذين ما فتئوا يذ كَرون المواثيق القديمة، على هجر بيوتهم وأشغالهم

 

. منذ
مائة سنة لم تكن قد سُمعت تلك اللفظة التي بات لها نجب إسرائيل، قديماً، أصداء حافلة
بالمعاني! منذ خمس مائة سنة والناس يردّ دون، في أورشليم، شكوى صاحب المزامير
” أين مراحمك الأول يا رب التي حلفت لداود بأمانتك. اذكر عار عبيدك الذي
احتملته في حضني من كثرة الأمم كلها. الذي به عير أعداؤك يا رب الذين عيروا آثار
مسيحك ” (مزمور 89: 49، 50) ” آياتنا لا نرى. لا نبي بعد. ولا بيننا من
يعرف حتى متى ” (مزمور 74: 9)

 

. لقد
انقرضت سلالة الأنبياء! ومع ذلك فقد كان هناك بريق أمل. أو لم يكن ملاخي، آخر
الأنبياء، قد تنبأ، قائلاً: ” ها نذا أرسل ملاكي فيهيئ الطريق أمامي ويأتي
بغتة إلى هيكلة السيد الذي تطلبونه وملاك العهد الذي تسرون به، هوذا يأتي.. ومن
يحتمل يوم مجيئه ومن يثبت عند ظهوره.. فهوذا يأتي اليوم المتقد كالتنور وكل
المستكبرين وكل فاعلي الشر يكون قشاً ويحرقهم اليوم الآتي.. ” (ملاخي 3 و4)
فالقلق الذي كان يبعثه في النفوس احتباس كلام اللّه، لم يكن ليقطع عليها كل رجاء.
فما كانت سوى فترة انتظار.. ولكنها كم كانت مشحونة بالقلق والآلام! فعندما سرى
الخبر بأن هناك نبّيً من الأنبياء، يخطب في الناس على ضفاف النهر العريق، حتى
اهتزّت أمّة إسرائيل بأسرها

 

. لقد
كان ذاك الشتاء- في اثر السنة السبتية التي كان يحرّم فيها الشرع جميع الأشغال
الزراعية -موسم زحمة في العمل ومضاعفة للمجهود. ومع ذلك فقد كان عظيماً عدد الذين
قصدوا الأردن لا يلوون على شيء: ” أورشليم وكل اليهودية وجميع الكورة المحيطة
بالأردن. ” (متى 3: 5). وهكذا، فإلى المسافرين الذين كانوا يأنسون إلى ذاك
الصوت العجيب، ويحيدون عن الدروب الملْحيةّ البيضاء حيث كانت تستدرجهم المصالح،
انضمّ رجال آخرون، كثيرون جدّ اً، كانوا يتقاطرون إلى ذاك المكان عينه بحافزٍ من
أملهم بحلول يوم الربّ.. وكانوا يصيبون كلهم في كلام أحد الرجال، رعشةً تغمر
قلوبهم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار