المسيحية

سورة مريم 15-40



سورة مريم 15-40

سورة
مريم 15-40

ان
الدعوة الاسلامية، فى سورة المكيّة كلها، دعوة عامة إلى التوحيد (اى الايمان بالله
واليوم الآخر): سورة مريم وحدَها خصوصية، يكثر فيها اسم الرحمن[1]،
ويقرن تنزيلها بهجرة المسلمين إلى الحبشة، سنة خمس للبعثة اى نحو 615-616 فقد
حّملهم اياها الرسول العربي لتشفع فيهم عند النجاشي وتكون دليلاً على وحدة الايمان
بين العرب المسلمين والاحباش المسيحيين[2].

 وبعد
الهجرة إلى الحبشة خرج النبى العربي من التأثير المسيحى إلى التأثير الاسرائيلي: يدلنا
على ذلك التحوّل من الكرازة باليوم الآخر إلى الدعوة إلى الله والتوحيد، مع قصص
انبياء الكتاب الذى يملأ القسم الثانى من السور المكيّة، وفى هذه المدة او بعدها
أضعاف إلى خبر المسيح (15-33) مقطعاً آخر يختلف فى لهجته ويحدّ من اطراء المسيح
السابق (34- 40):

 

النص
الاصلى 14- 33،
وهو اول وصف للمسيح وأمه جاء فى القرآن.

 14
وسلام عليه[3] يوم ولد
ويوم يموت يُبعث حياً..

 15
واذكرْ فى الكتاب مريم[4] اذا
انتبذَتْ من اهلها مكاناً شرقيَّا.

 16
فاتخذتْ من دونهم حجاباً. فأرسلنا اليها روحنا فتمثّل لها بشراً سويَّا.

 17
قالت: إنى أَعوذُ بالرحمن منك ان كنت تقيَّا‍‍!

 18
قال: إنما رسول ربك لأهب لكِ غلاماً زكيًّا![5]

 19
قالت: أنّى يكون لي غلام ولم يمسسنى بشر ولم أكُ بغيًّا.

 20
قال: (هو) كذلك! قال ربكِ: هو علىَّ هّين! ولنجعله آية للناس ورحمة منا! وكان
أمراً مقضيًّا.[6]

 21
فحملته. فانتذتْ به مكاناً قصيًّا.

 22
فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة. قالت: ياليتنى مُتُّ قبل هذا وكنتُ نَسْياً
مَنسِياً!

 23
فناداها من تحتها: ألاّ تحزني! قد جعل ربك تحتكِ سرياً![7]

 24
وهُزّى اليكِ بجذع النخلة تُساقطْ عليكِ رُطباً جنياًّ.[8]

 25
فكلي واشربي وقَرّي عيناً. فإماً تريَنَّ من الناس أَحداً

 فقولي:
اني نذرتُ للرحمن صوماً فلن أكلّم اليومّ إنسيَّا..

 26
فأتتْ به قومَها تحملهُ. قالوا: يامريم لقد جئتِ شيئاً فِرِيَّا!

 27
يا أخت هرون ما كان أبوكِ أمراً سِوءٍ وما كانت اّمك بغيًّا!

 28
فأشارتْ اليه..قالوا: كيف يكلّم من كان فى المهد صبياًّ؟!

 29
قال: إنى عبدُ الله، آتانى الكتاب وجعلنى نبياًّ. [9]

 30
وجعلنى مباركاً أينَ ما كنتُ،واوصاني بالصلوة والزكاوة ما دمتُ حياًّ

 31
وبَرَّا بوالدتي، ولم يجعلني جباًراً شقياً!

 32
والسلام علىَّ يومَ وُلدتُ ويومَ أبعثُ حياً!

 

فهذا
الوصف الرائع مبنى ومعنى هو اول ذكر ورد فى القرآن عن المسيح. يورد فيه المعجزات
التى تمت فى مريم ام المسيح، ومعجزة المسيح الكبرى بميلاده من ام بتول بلا أب وقد
انفرد بها دون سائر البشر والانبياء، وبها صار آيةً من الله، ثم معجزة نطقه من
المهد تبرئةً لوالدته وشهادةً لرسالته، ومعجزة نبوّته من المهد عن موته وانبعاثه.
ويذكر فيه ايضاً صفات المسيح الأولى: إنه عبد الله ونبيهّ، انه المبارك الطاهر،
رجل الصلاة والزكاة مدى الحياة، الجاعل قرة عينه فى مناجاة الله، انه ذو الرحمة
والبِرّ والتواضع.

 وان
هذا النص لبعيد عن المجادلات اللاهوتية، يعبّر عن الايمان البسيط، الوطيد بالمسيح
نبي الله وعبده، الذى جاء آيةً من الله ورحمةً للناس.

 

النص
التفسيرى المزيد على سورة مريم 34-40

 34
ذلك عيسى ابن مريم قولُ الحق الذى فيه يمترون. [10]

 35
ما كان لله ان يتخذ من ولدِ سبحانه إذا قضى أمراً فإنما يقول له: كن! فيكون![11]

 36
وان الله ربى وربكم فاعبدوه، هذا صراط مستقيم. [12]

 37فاختلف
الاحزاب من بينهم، فويلُ للذين كفروا من مشهد يوم عظيم![13]

 38
أسمعْ بهم وابصرْ يوم يأتوننا! لكن الظالمون اليوم قى ضلال نبين.[14]

 39
وأنذرهم يوم الحسرة إذْ قُضى الامر، وهم فى غفلة، وهم لا يؤمنون.

 40
أنّا نحن نرث الارض ومَن عليها، والينا يُرجعون.

 ان
هذا النص الاضافى يفسّر ايمان القرآن بالمسيح وموقفه من احزاب النصارى واليهود: فعقيدته
ان المسيح هو “قول الحق” أي كلمة الله (مريم 34) كما هو “عبد الله
ونبيّه” (30) ولكن هذه الميزة لا تجعل المسيح “الهاً” أو “ابن
الله” كما يقول النصارى. فهو يرد هذا الزعم بالعقل: الخالق يخلق بأمره ولا
يقدر ان يستولد بطريقة الجسد (مريم 35)، وبالنقل عن عيسى: فقد شهد “ان الله
ربي وربكم فاعبدو” (36).

 ويكفّر
احزاب اليهود الذين كفروا بالمسيح وامه، فويل لهم من مشهد يوم عظيم! لا يريدون ان
يبصروا ويسمعوا حتى يؤمنوا بالمسيح فالظالمون اليوم فى ضلال مبين، ولكن سوف يبصرون
ويسمعون يوم الحسرة والجزاء(37
40)حيث يشاهدون مجد المسيح ويشهدون له.

 وهكذا
ترى وجه الشبه بين هذا الموقف وآل عمران: فلاُ يستبعد اذن ان يكون النصّان من وثت
واحد، وعلى كل حال فإن النص التفسيرى ليس من مكة بل من المدينة لانه ليس فى مكة
جدول مع اهل الكتاب.

 بقى
ان القرآن فى سورة مريم يسمّي المسيح “عبد الله ونبيّه” كسائر الانبياء.

 ويُفرد
له لقباً اختص به دون سواه من الملائكة والبشر، والامبياء والمرسلين: انه
“قول الحق”!



[1] “الرحمن”
اسم الجلالة فى اليمن والحبشة، ممَّا يدل على أصلة المسيحي.

[2] ان الهجرة إلى
الحبشة وسورة مريم حيث يكثر استعمال “الرحمن” دليل على ان محمداً فى
الفترة الاولى من عهده بمكة كان تحت التأثير المسيحى. وفى هذه الفترة كان موضع
كرازة النبى ايضاً اليوم الآخر، والتوبة، لا التوحيد، كما ابتدأ المسيح تبشيره،
وكما كان يعظ المبشرون السوريون فى ما قبل عهد محمد بقليل، كالقديس أفرام والقديس
يوحنا الذهبى الفم. فلولا وحدة الايمان بين محمد والنجاشي لما اودعه المؤمنين به.
فلما زال هذا التأثير المسيحي وعقبه، فى الفترة الثانية من مكة، التأثير
الاسرائيلى، مع قصص انبياء الكتاب الذى يملأ القسم الثانى من السور المكية، واضطر
محمد إلى الهرب بنفسه، لجأ إلى الطائف ثم إلى المدينة حيث يكثر اليهود العرب.
وقضية المؤثرات او الاقتباسات لا تطعن ضرورة فى صحة الوحى.

[3] الكلام عن يحي بن
زكريا أوردناه لترى انه يختم قصة يحي كما يختم قصة عيسى.

“سلَّم
الله عليه فى هذه الاحوال، على قول ابن عيينة، لانها اوحش المواطن”
(الزمخشري)

[4] لا نعلق على ما يرد
فى شأن مريم ام المسيح، فقد سبق ذلك، بل نكتفى بتفسير تعليم القرآن عن المسيح.

[5] آية 18-تعدّدت
القراءات : فالمصحف الاميرى: “لأهب لك” أى لأكون سبباً فى هبته بالنفخ
فى درعك، ويجوز ان يكون حكاية لقوله سبحانه، ويؤيده قراءة ابى عمرو وابن كثيّر عن
نافع ويعقوب بالياء “ليهبَ ” (البيضاوى). وفى بعض المصاحف: “انما
أنا رسول ربك، أمرنى ان أهب لك” (الزمخشرى) وإذن فإمّا “لأهب”
فيكون الملاك واسطة المعجزة، وامّا “ليهب” فتكون المعجزة من الله
مباشرة. “زكيّاً”: من كّى بالنبوّة (الجلالان). طاهراً من الذنوب أو
نامياً على الخير اى مترقياً من سن إلى سن على الخير والصلاح (البيضاوى). لاحظ ان
مولود مريم العذراء طاهر من الذنوب منذ البشارة بالحبل به.

[6] آية 20-“آية
للناس” علامة لهم وبرهانـاً على كمال قدرتنا (البيضاوى)، ميلاده الفريد آية
شخصه ورسالته. أى هو آية الله للناس ليؤمنوا (رومة 1: 16-17). “ورحمة منا
” للعباد يهتدون بإرشاده (البيضاوى) أى فى المسيح تتبدّى رحمة الله(قابل تيطس
3 : 4- 6).

[7] آية 23
“فناداها من تحتها” : يوجد غموض فى الضمائر : مَن نادى؟ قيل عيسى وقيل
جبريل، والافضل الروح الذى يبشرها، والضمير فى “تحتها” يعود إلى مريم او
إلى النخلة. انتقل الملاك مع مريم من محل البشارة إلى موضع الولادة قرب النخلة،
وظل الحديث بينه وبينها. “من تحتها” من مكان اسفل من مكانها. “قد
جعل ربك تحتك سريّاً ” جدولاً، وقيل سيداً من السرو، والمراد عيسي، وعن
الحسن: كان والله عبداً سريـاً (البيضاوى والزمخشري). والافضل جدولاً بسبب قوله
“فكلي واشربي”. قال الجلالان: ناداها جبريل وكان اسفل منها: لا تحزني قد
جعل ربك تحتك نهر ماءٍ كان قد انقطع.

[8] آية 24
“تُساقِط” فيه تسع قراءات (الزمخشري)، والبيضاوى يعدّد سبعاً.

[9] آية 29 “قال
انى عبد الله” قيل اكمل الله عقله واستنبأه طفلاً (الزمخشرى والبيضاوى) يدعمه
قوله : “تكلّمُ الناس فى المهد” (آل عمران والمائدة): يذكر هنا معجزة
نطق الطفل يسوع حال ميلاده لتبرئة امه. ويُسمّيه “عبد الله”. وهذا لقب
الأنبياء والاولياء فى الكتاب، قابل اعمال الرسل “فتاك القدوس يسوع” (4:
27 ، 30)، انطقه الله به لانه اول المقامات (البيضاوي) لا للرد على من يزعم ربوبيته
أذ ليس فى النص ما يحملنا اليه. “آتاني الكتاب” الذى نزل قبله، ومن نزل
عليه الكتاب صار “نبياً “:واللقبان “عبد الله والنبى”
مترادفان. “جعلنى مباركاً” عن رسول الله ص: “نفّاعاً” وقيل
“معلماً للخير” (الزمخشري). “واوصاني بالصوة والزكوة” زكاة
المال ان ملكته، او تطهير النفس عن الرذائل (البيضاوى).”وبرّاً” عطف على
مباركاً. وقرِئ بالكسر والجر عطفاً على الصلاة، وعن ابى نهيك: جعل ذاته براً لفرط
بره. “ولم يجعلنى جباراً شقيّا” متعاظماً عاصياً لربه (الجلالان)،
شقيّاً عند الله من فرط تكبره. “والسلام علىّ” كما هو على يحي، والتعريف
للعهد، والأظهر انه للجنس، والتعرض باللعن على اعدائه، والمعنى: ذلك السلام الموجه
ليحي فى المواطن الثلاثة موجه اليّ (الزمخشرى).

وهكذا
انتهت قصة عيسى كما انتهت قصة يحي بنفس الاسلوب وذات العبارة.

[10] آية 34-هذا نص
تفسيري مزيد على سورة مريم، ودليلنا اختلاف المعنى واختلاف الروى: فى الاول ايمان
ليس فى الثانى، وفى الثانى جدال ليس فى الاول.ثم فى الآية 33 يقف الروي على الياء
“حيّا” يقطعه روي مختلف على النون أو بديلها الميم ثم يعود إلى روي
السورة كلها فى 41 “نبيّاً.

 “قول
الحق” لقب عظيم ذو معنى فخيم انفرد به المسيح فى القرآن. تعددت فيه القراءات
والحركات: فعن ابن مسعود “قالُ الله”! وعن الحسن “قُوْل” بضم
القاف-وكذلك فى الانعام قوله الحق-والقوَوْل والقال والقُول بمعنى واحد. وقرأ علي
بن ابى طالب “الذى فيه تمتزون” على الخطاب. وعن ابى بن كعب “قول الحق
الذى كان الناس فيه يمتزون”. وقرئ قول بالنصب على المدح إن فُسّر “بكلمة
الله”، وانه مصدر مؤكد لمضمون الجملة إن أريد “قول الثبات والصدق”:
وانما قيل لعيسى “كلمة الله وقول الحق” لانه لم يولد إلا بكلمة
الله وحدها وهى قوله: كن من غير واسطة اب. ويحتمل، اذا أريد بقول الحق عيسى، ان
يكون “الحق” اسم الله عز وجل، وان يكون بمعنى الثبات والصدق، ويعضده
قوله “الذي فيه يمتزون” أي أمره حق يقين (الزمخشري). وقرِئ “قول
الحق” بالرفع، خبراً لمحذوف أي “هو قولُ الحق” الذى لا ريب فيه،
والاضافة للبيان والضمير للكلام السابق أو لتمام القصة، وقيل صفة عيسى او بدله، أو
خبر ثانِ ومعناه “كلمة الله. “سيمترون” يمترون يشكون ام يتنازعون
فقالت اليهود ساحر وقالت النصارى ابن الله. (البيضاوى). وهكذا لقب القرآن المسيح
“قول الحق” كما لقبه “كلمة الله”.

 

 

[11] آية 35- “كن
فيكون” بالرفع بتقدير هو، وبالنصب بتقدير أن “ومن ذلك خلق عيسي من غير
أب” (الجلالان)، و”بالنصب على الجواب” (البيضاوى). “كذّب
النصارى وبكّتهم بالدلالة على انتقاء الولد عنه اذ من المحال ان تكون ذاته كذات من
ينشأ منه الولد أى الحيوان الوالد” (الزمخشرى)، “تبكيت لهم بأن مَن اذا
أراد شيئاً أوجده “بكن” كان منزّهاً عن شبه الخلق والحاجة فى اتخاذ
الولد بإحبال الاناث”! (البيضاوى).

[12] آية 36-قرأ
المدنيون بفتح “ان” ومعناه “ولانه ربي وربكم فاعبدوه”. وقرأ
الاستار وابو عبيد بالكسر “ان” على الانبياء. وفى أبي “إنَّ”
بالكسر بغير واو (الزمخشري)، هنا يستشهد القرآن على عدم بنوّة عيسى والهيته من قول
المسيح نفسه عن الله انه “ربي وربكم” (يوحنا 20: 17) وذلك ما كان يردّده
الآريوسيون والنساطرة ضدّ ألوهية المسيح.

[13] آية 37-“فختلف
الاحزاب”: اليهود والنصارى (عن الكلي). وقيل النصارى لتحزبهم ثلاث فرق
نسطورية ويعقوبية وملكانية. وعن الحسن: “الذين تحزّبوا على الانبياء لمّا قص
عليهم قصة عيسى، اختلفوا فيه من بين الناس” (الزمخشرى). “اليهود
والنصارى، او فرق النصارى: نسطورية قالوا انه ابن الله، ويعقوبية قالوا هو الله
هبط ثم صعد إلى السماء، وملكانية قالوا هو ثالث ثلاثة، وموحّدون قالوا هو عبد الله
ونبيهّ” (البيضاوى).

[14] آية 38 صيغة تعجب بمعنى: ما اسمعهم وما اسمعهم وأبصرهم يوم يأتون فى
الآخرة (الجلالان)، وقد كفروا بعيسى وامه (الزمخشرى).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار