المسيحية

سورة المائدة (متفرقات)



سورة المائدة (متفرقات)

سورة
المائدة (متفرقات)

نظن
مع المصحف الأميري أن سورة المائدة في مجملها من آخر عهد النبي العربي في المدينة –
ولو كان فيها آيات من أوقات سابقة – وسورة المائدة مع آل عمران تجمعان موقف القرآن
من المسيح.

 

أولاً:
لقد نسى أهل الكتاب ميثاقهم (17 – 30)

يفتتح
السورة بحملة على اليهود (13) والنصارى (15) لأنهم نقضوا الميثاق الذي عقده الله
معهم بالإيمان بالنبي الآتي. فليسوا بعد أبناء الله وأحباءه كما يدعون (20) ويعرض
نفسه عليهم (16) ويخصهم أيضاً برسالته (21) “يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا
يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير: فقد جاءكم بشير
ونذير”. ومدة الفترة 569 سنة (الجلالان).

في
هذاالمقطع آية مستقلة، عن المسيح (19) نظنها مزيدة، كررت هنا، وموضعها في (75).

 

19
لقد كفر الذين قالوا أن الله هو المسيح ابن مريم! – قل: فيمن يملك من الله شيئاً
أن أراد أن يُهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعاً. ولله مُلك السماوات
والأرض وما بينهما، يخلق ما يشاء، والله على كل شيء قدير.

قال
الجلالان: لقد كفروا وقد جعلوه إلهاً، وهم اليعاقبة فرقة من النصارى.

وقال
البيضاوي: هم الذين قالوا بالاتحاد منهم. وقيل: لم يصرح به أحد منهم! ولكن لما
زعموا أن فيه لاهوتاً، وقالوا لا إله إلا واحد، لزمهم أن يكون هو المسيح، فنسب
إليهم لازم قولهم. وقال الزمخشري: معناه بت القول على أن حقيقة الله هو المسيح لا
غير. قيل كان في النصارى قوم يقولون ذلك. وقيل ما صرحوا به ولكن مذهبهم يؤدي إليه
حيث اعتقدوا أنه يخلق ويحيي ويميت ويدبر أمر العالم. وكذلك الرازي.

 

ثانياً:
لكل جعلنا منكم شِرعةُ ومنهاجاً (44 – 54): الاستقلال في الشريعة.

جاء
في أسباب نزول هذه الآيات أنه زنى من أهل خيبر محصنان فكرهوا رجمهما، على حد
التوراة، مفسرين الرجم بالجلد، فبعثوا إلى بني قريظة من يهود المدينة يسألوا
محمداً في ذلك. فأفتاهم بالرجم، وأنهم يحرفون كَلِم التوراة عن معانيه التي وُضع
فيها. وخُير النبي في التحكيم بينهم “فاحكم بينهم أو اعرض عنهم” (45)
لأن عند اليهود التوراة فيها حُكم الله (46) فتكفيهم، وعند النصارى الإنجيل فيه
حكم الله (50) وهو يكفيهم، ولأن الله جعل لك أمة من أمم الكتاب الثلاث شرعة
ومنهاجاً خاصاً بها.

 

45..فإن
جاؤك فاحكم بينهم أو اعرض عنهم فلن يضروك شيئاً، وان حكمت فاحكم بينهم بالقسط، أن
الله يحب المقسطين.

46
وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها خكم الله! ثم يقولون من بعد ذلك، وما أولئك
بالمؤمنين.

47
إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا، والربانيون
والأحبار بما استٌحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء،-فلا تخشوا الناس واخشوان
ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً – ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون.

 

48..ومن
لم يحكم بما أنزل الله في (التوراة) فأولئك هم الكافرون.

 

49
وقفينا على آثارهم (الأنبياء الذين اسلموا) بعيسى ابن مريم مصدقاً لما بين يديه
(قبله) من التوراة، وآتيناه الانجيل فيه هدى ونور، ومصدقاً لما بين يديه من
التوراة وهدى وموعظة للمتقين.

 

50
وليحكم أهل الانجيل بما أنزل الله فيه. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم
الفاسقون.

 

51
وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب، ومهيمناً عليه. فاحكم
بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق. لكل جعلنا منكم شِرعة
ومنهاجاً: ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا
الخيرات. إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون.

52
– 53 وأن احكم بينهم بما أنزل الله..أفحكم الجاهلية يبغون، ومن احسن من الله حكماً
لقوم يوقنون,

في
هذا النص الأساسي النهائي القول القاطع على اتحاد اليهود والنصارى والمسلمين على
التوحيد في الدين، واستقلال كل ملة منهم بشريعة كتابها، وأن شريعة كل كتاب من
الثلاثة مُلزمة لأهلها دون سواهم: “ولكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً”. قال
الرزاي: “الخطاب للأمم الثلاث أمة موسى وأمة عيسى وأمة محمد عليهم السلام
بدليل أن ذكر هؤلاء الثلاثة قد تقدم فلي قوله: إنا انزلنا التوراة فيها هدى ونور
(47)، ثم قال: وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم (49)، وقال: وانزلنا اليك الكتاب
(51)، ثم قال: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً، يعني شرائع مختلفة: للتوراة شريعة
وللانجيل شريعة وللقرآن شريعة”. واختلاف الشرائع الثلاث واستقلالها من ارادة
الله للتنافس في الخيرات: “ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة” متفقة على
شريعة واحدة ودين واحد لا اختلاف فيه.

من
هذا المبدأ يتفرع أمر الفرآن إلى أهل التوراة أن يحكموا بما أنزل الله فيها لأن
فيها حكم الله (47)، وأمره إلى أهل الانجيل أن يحكموا بما أنزل الله فيه (50)،
وذلك زمن النبي وبعد نزول القرآن: فنزول القرآن اذن لا يغير شيئاً من حقيقة
الانجيل والتوراة ولا من شريعتهما.

لذلك
يجب على أهل القرآن أن يحترموا شريعة أهل الكتاب، واستقلالها، ولا يُخضعوهم لأحكام
القرآن والاسلام كما زعم الفقهاء أيام الاستبداد والطغيان، منحرفين عن النهج
القويم الذي استنه القرآن لمحمد وأمته. فالنبي كان مخيراً في الحكم والتحكيم ما
بين أهل الكتاب، لا مجبراً عليه (45) وإذا حكم بينهم فليحكم بما أنزل الله في
كتابهم (51 و52) كما يدل منطق تسلسل الآيات واستقلال الشرائع الثلاث. وقول بعضهم
بأن ذلك التخيير نُسخ في الحال بقوله “فاحكم بينهم بما انزل الله” (51)
غير وارد لأن هذا الأمر يتبعه كما قلنا مبدأ استقلال الشرائع.

وقال
الرازي: “وأنه وصف الانجيل بصفات خمس فقال: فيه هدى للحق، ونور للاحكام،
وتصديق للتوراة، وهدى وموعظة للمتقين: فليحكم أهل الانجيل بما أنزل الله فيه”.
فهدى الانجيل ونوره وحكمه وموعظته باقية مع القرآن وبعده.

وقال
الرازي أيضاً: “وإذا كان القرآن مهيمناً على الكتاب كانت شهادة القرآن على أن
التوراة والانجيل والزبور حق وصدق باقية أبداً. فكانت حقيقة هذه الكتب معلومة
أبداً” (الرازي).

 

ثالثاًً:
القرآن يدعو أهل الكتاب إلى “اقامة” التوراة والانجيل (62 – 73),

إنه
لفسق من أهل الكتاب مقاومة المسلمين وهم مثلهم في الإيمان بالله. فلو أقاموا
التوراة والانجيل وعملوا باحكامهما لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم. لأن الاصل في
الأديان كلها الإيمان بالله واليوم الآخر:

62
قل يا أهل الكتاب هل تنتقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل الينا وما أنزل من
قبل. وأن اكثركم فاسقون..

69
ولو أنهم أقاموا التوراة والانجيل، وما أنزل اليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن
تحت أرجلهم. منهم أمة مقتصدة! وكثير منهم ساء ما يعملون..

71
قل يا أهل الكتاب: لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والانجيل، وما أنزل اليكم من
ربكم. وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً: فلا تأس على القوم
الكافرين.

72
إن الذين آمنوا والذين هادوا والصائبون والنصارى: من آمن بالله واليوم الآخر وعمل
صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون”.

يدعو
القرآن أهل الكتاب إلى العمل بما في التوراة والانجيل ومنه حسب رأيه الايمان
بالنبي العربي.وفي هذه الدعوة اعتراف منه بصحة الكتابين اللذين في زمانه، واقرار
على دوام إلزامهما لأهلهما. وأن العمل بما في التوراة والانجيل لباب سعادة على
الأرض، يوسع الله عليهم الرزق ويفيض من كل جهة، ويعطيهم بركات السماء والأرض، يوسع
الله عليهم الرزق ويفيض من كل جهة، ويعطيهم بركات السماء والأرض، وباب سعادة في
جنات النعيم: فلهم خير الدارين.

ويختم
بقوله: ان المسلمين واليهود والصائبين (فئة من اليهود المتنصرين) والنصارى سواء في
الإيمان الواحد بالله واليوم الآخر (مائدة 72) كما أكد ذلك من قبل فلي سورة البقرة
(62).

 

رابعاً:
مهاجمة بعض نصارى الحجاز على كفرهم (75 – 80)

75
لقد كفر الذين قالوا: أن الله هو المسيح ابن مريم! وقال المسيح: يا بني اسرائيل
اعبدوا الله ربي وربكم! أنه من يشرك بالله، فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار.
وما للظالمين من انصار!

76
لقد كفر الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة! وما من إله إلا إله واحد.

وإن
لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم.

 

77
أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه؟ والله غفور رحيم.

78
ما المسيح ابن مريم ألا رسول قد خلت من قبله الرسل وامه صديقة. كانا يأكلان الطعام.
انظر كيف نبين لهم الآيات ثم أنظر أني يوفكون!

79
قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً، والله هو السميع العليم.

80
قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق، ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من
قبل وأضلوا كثيراً، وضلوا عن سواء السبيل”.

في
هذا المقطع من سورة المائدة يظهر لنا أن القرآن بإيمانه بعيسى وأمه اختار مقالة
النسطورية، وليدة الأريوسية، التي تسربت إلى المدينة من الحيرة بطريق
“العباد”: المسيح إله وابن الله، بالمجاز لسمو منزلته التي لا يدانيه
فيها مخلوق، ولكن ليس الله المسيح كما تقول اليعقوبية، وليس الله ثالث ثلاثة: الآب
والابن والروح القدس كما تقول الملكانية. – وأن فهم بالثلاثة بعض جهال العرب
النصارى: الله والمسيح ومريم كما يحكي القرآن عنهم في هذا النص (77) – أو كما كان
يتهمهم بذلك النساطرة فنقل القرآن تهمتهم – فقد وافق القرآن مقالة العباد في
المسيح أنه كلمة الله وروح الله، ونبذ التعبير “اله” وابن الله”
لما فيه من شبهة على خالص التوحيد، وأكد أنه “رسول قد خلت من قبله الرسل.
وأمه صديقة” (78) مثل الصديقين والصحابين.

ونقل
القرآن براهين النساطرة ضد إلهية المسيح: من النقل على لسان المسيح “الله ربي
وربكم” (مائدة 75 ويوحنا 20: 17) في خطابه إلى مريم المجدلية, ومن العقل: “كانا
يأكلان الطعام” (78) كتابة عن حدوثه وعبارة عن حاجته إلى غيره، والاله منزه
عن كليهما.

ويختم
بدعوة النصارى إلى نبذ “غلوهم” في اكرام المسيح وأمه: فالكفر الذي حكاه
(75 و76) ليس إلا غلواً في الدين. وحسب المسيح وأمه ما فضلهما به الله من المميزات
والكرامات.

 

خامساً:
لعنة اليهود، ومودة النصارى (81 – 90)

81
لُعن الذين كفروا من بني اسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا
وكانوا يعتدون!

 

85
لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا.

ولتجدن
اقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً
وأنهم لا يستكبرون.

86
وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق.
يقولون: ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين.

87
وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين.

 

88
فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها وذلك جزاء
المحسنين.

89
والذين كفروا (الآية 81) وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم.

 

التكفير
السابق لا يشمل النصارى كلهم بل “الذين كفروا منهم” (76) فقالوا
“إن الله هو المسيح” (75) بالاحالة والتحول، أو “إن الله ثالث
ثلاثة” الله والمسيح ومريم أمه (76) بجعل مريم الاهة والثلاثة ثلاثة آلهة.
النصارى لم يقولوا ولا يقولون ذلك على الاطلاق، فقد يكون ذلك قد صدر عن بعض جهال
نصارى الحجاز البعيدين عن مراكز النصرانية الحنيفة، ذلك لأن القرآن بعد أن يجدد
لعنة داود وعيسى ابن مريم على اليهود (81) يشيد بمودة النصارى للمسلمين ويمدحهم
على صداقتهم لهم، ناسباً ذلك إلى رؤسائهم القسيسين والرهبان (85). ثم يذكر حسن
إيمانهم “ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين” (86) وصدق تقواهم في سماع كلام
التوحيد في القرآن “ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق”-ويختم
بوعدهم بالجنة “فأثابهم الله بما قالوا جنات من تحتها الأنهار” (88) –
قال بعضهم هذا ثناء كان للنصارى الذين أسلموا وليس للذين بقوا على دينهم! ونقول أن
نص الآية (85) يميز بين المسلمين “والذين قالوا أنا نصارى” مما يدل على
أنهم بقوا على نصرانيتهم، ويمدحهم وهم على هذه الحال “لأنهم لا
يستكبرون” (85) بينما يلعن اليهود بما عصوا وكانوا يعتدون (81) ويعدهم
بالجحيم (89).

 

سادساً:
استجواب عيسى عن الوهيته في يوم الدين 112 – 123

 

يوم
يجمع الله الرسل (112) لمحاسبتهم، وبعد أن يذكر عيسى بنعمة الله عليه وعلى والدته
(113) وبمعجزة المائدة التي بسببها آمن الحواريون به (114 – 118)، يسأله السؤال
الكبير عن ألوهيته: هل هو الذي علمها؟ فينفيها ويؤكد شهادته للتوحيد (119 – 120).

 

1
المقدمة الأولى لاستجواب المسيح في يوم الدين (112 و113).

 

112
يوم يجمع الله الرسل فيقول: ماذا أجبتم؟ قالوا: لا علم لنا انك أنت علام الغيوب.

 

113
إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك:

إذ
أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلاً! وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة
والانجيل! وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني
وتبرئ الأكمة والأبرص بإذني! وإذ تخرج الموتى بإذني!

وإذ
كففت بني اسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم ان هذا إلا سحر
مبين.

وإذ
اوحيت إلى الحواريين: أن آمنوا بي وبرسولي! قالوا: آمنا واشهد بأننا مسلمون!

 

في
هذه الآية الفريدة (مائدة 113) يعدد القرآن نعم الله على عيسى والميزات التي اختصه
بها دون سواه، والخواص التي رفعته فوق المخلوقين إلى مقام يشعر بألوهيته، ويبدأ كل
صنف منها بلفظة “إذ” دلالة الابتداء.

أن
أساس انعاماته كلها التأييد، الذي خُص به دون سواه، بالروح القدس وهوغير جبريل كما
ظنوا لأن جبريل موحي القرآن أيضاً فلا محل لذكره كنعمة خاصة بالمسيح. وليس هو
أيضاً “روحه المختص به” كما يقول الرازي وغيره لأنه قوة خارجية بها عمل
المسيح معجزاته المذكورة ههنا. بقى أنه روح الله، فالقدس هو الله، وهذا الروح قادر
وأقدر عيسى على الاحياء والابراء والنبوة والمعجزات جميعها.

فالنعمة
الأولى التي امتاز بها المسيح عن سواه أنه استنبأه طفلاً وكهلاً (الجلالان)،
والمعنى الحاق حاله في الطفولية بحال الكهولية كما في كمال العقل والتكلم
(البيضاوي) وهذه خاصية شريفة كانت حاصلة له وما حصلت لأحد من الأنبياء قبله ولا
بعده (الرازي).

والنعمة
الثانية هي معرفته العلم كله والوحي كله وذلك منذ طفوليته واختص التوراة والانجيل
بالذكر اشارة إلى الأسرار التي لا يطلع عليها أحد إلا أكابر الأنبياء (الرازي).

والنعمة
الثالثة أنه امتاز بمعجزة القدرة على الخلق. ولو كان هذا الخلق بإذن الله أي
بقدرته وفعله، فقد مر هذا العمل فيه واقترن به، فشارك الخالق بمقدرته على الخلق،
وهذا لم يعطه الله أحداً حسب القرآن.

والنعمة
الرابعة شارك الله أيضاً في المقدرة على احياء الموتى واخراجهم من القبور. وهذه
صفة إلهية محضة شاء الله أن يجريها في المسيح إظهاراً لفضله على سواه.

والنعمة
الخامسة خص الله عيسى بالحجج والمعجزات التي فاق بها سواه حتى ائتمر من كفر من بني
اسرائيل بقتله، فمكروا ومكر الله وكان الله خير الماكرين بمعجزة رفعه إلى السماء
حياً: هذه ميزة سامية لم يشاركه فيها أحد.

والنعمة
السادسة أوحى الله مباشرة إلى رسله فآمنوا به واستشهدوا الله على اسلامهم وتوحيدهم.
وربما أوحى الله إليهم كما أوحى إليه فكانوا أنبياء الانجيل من بعده. فشاركوه في
الوحي والنبوة ولم يحصل لرسول أو نبي أن أوحى الله إلى صحابته أو متابعيه
واستأنبهم كما عمل بتلاميذ المسيح وصحابته.

2
المقدمة الثانية لاستجواب المسيح: معجزة المائدة

 

115
إذ قال الحواريون: يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء؟
قال: اتقوا الله ان كنتم مؤمنين.

 

116
قالوا: نريد أن نأكل منها، وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من
الشاهدين.

117
قال عيسى ابن مريم: اللهم، ربنا، أنزل علينا مائدة من السماء، تكون لنا عيداً
لأولنا وآخرنا، وآية منك، وارزقنا وأنت خير الرازقين.

118
قال الله: أني منزلها عليكم. فمن يكفر بعد منكم فإني اعذ به عذاباً لا أعذبه أحد
من العالمين”.

 

في
هذا النص اختص بالذكرى من بين معجزات المسيح التي ذكرها (113) المعجزة الكبرى التي
فاق بها المسيح سواه من الأنبياء وكانت سبب إيمان الرسل النهائي به: ألا وهي معجزة
المائدة. واعتبرها القرآن مع النصارى عيداً أبدياً لهم على مدى أجيالهم.

انهم
طلبوها معجزة من السماء ولسان حالهم يقول: “إن جميع تلك المعجزات التي طلبتها
كانت معجزات أرضية، وهذه معجزة سماوية وهي أعجب وأعظم فإذا شاهدناها كنا عليها من
الشاهدين نشهد عليها عند الذين لم يحضروها ونكون عليها من الشاهدين لله بكمال
القدرة ولك بالنبوة” (الرازي)، ووعدوا أن يتخذوا يوم نزولها عيداً لهم مدى
الأجيال. قالوا بالاجماع: “ونزلت يوم الأحد فاتخذه النصارى عيداً”. فعيد
النصارى شهادة دائمة لتلك المعجزة الكبرى.

والجمهور
الأعظم من المفسرين أنها نزلت لأنه قال “إني منزلها عليكم” وهذا وعد
بالانزال جزماً من غير شرط فوجب حصول النزول. وبسبب نزول هذه المعجزة السماوية
التي لا يفهم بعدها انكار نبوة المسيح قال “فمن يكفر بعد منكم فإني اعذبه
عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين”.

ولكن
أي معجزة قصد القرآن بآية المائدة؟ لا يدرون سوى أنها معجزة قائمة بذاتها اختص بها
المسيح لتأكيد رسالته ونبوته وقد يكون لها أصل كما وردت في الاناجيل الابوكريفية
التي كتبها المسيحيون الأولون، بل نجد لها أصلاً وهيكلاً في قصة المائدة التي نزلت
على الرسول سمعان بطرس وهو يصلي في يافا (أعمال الرسل 10)، ونفهم معناها عن الخبز
الحي النازل من السماء الذي كنى به المسيح عن تعليمه وجسده الحامل الحياة (يوحنا
6) وفي ضمهم آية المائدة إلى الأحد قد عنى وقصدوا ذبيحة القربان التي يحتفل بها
النصارى في كل أحد عيداً لهم، لأولهم وآخرهم، جيلاً بعد جيل. وفهم القرآن وصدق
عنهم أنها “مائدة نازلة من السماء”. فالعيد المذكور هو أحد النصارى.
والمائدة هي ذبيحة القربان المقدس عندهم على مائدة الهيكل.

 

3
استجواب المسيح عن الاهيته في يوم الدين (119 – 123)

 

هذا
المشهد من أروع المشاهد التي يذكرها القرآن، وقد بلغ القرآن الذروة في استنكار
إلاهية المسيح: هناك في يوم الحشر، والقول الفصل، في حضرة الله، وعلى مشهد ومسمع
من الملائكة والرسل والعالمين بعد أن يعدد الله للمسيح أنواع المعجزات التي اختصه
بها دون سواه، ليستدرجه بذلك إلى السؤال العظيم عن البدعة الكبرى المنسوبة إليه،
يسأله:

119
وإذ قال الله: يا عيسى ابن مريم، أنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون
الله؟؟”

قال:
سبحانك! ما يكون لي أن أقول ماليس بحق! إن كنت قلته فقد علمته: تعلم ما في نفسي
ولا أعلم ما في نفسك! أنك أنت علام الغيوب.

 

120
ما قلت لهم إلا ما أمرتني به: أن اعبدوا الله ربي وربكم.وكنت عليهم شهيداً ما دمت
فيهم. فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم. وأنت على كل شيء شهيد.

 

121
إن تعذبهم فإنهم عبادك. وأن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم.

122
قال الله: هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم. لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين
فيها ابداً رضى الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم.

123
لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير.

 

على
استجواب الله الرائع المحرج، يجيب المسيح بأدب لا أحد له مستنكراً التهمة من كل
وجوهها. قال: “سبحانك” تنزيهاً لله عن مثل ذلك القولَ! وفي هذا الهتاف
البديهي مجمل الجواب. وعقب باستنكار مبدئي: القول بذاته ليس بحق، فلا يكون للمسيح
أن يقوله وهو الرسول الأمين. واستغنى عن الجواب بتفويض الأمر إلى علم الله المحيط
بالكل فإنه “علام الغيوب” يعلم ما يبدو وما يخفي. ثم رد التهمة المنسوبة
إليه بالحقيقة الواقعة: “ما قلت لهم إلا ما أمرتني به: أن اعبدوا الله ربي
وربكم”. وذكر أنه ظل رقيباً على أتباعه يمنعهم من مثل هذا القول ما بقى حياً
فيهم، ومن بعده كان الأمر لله.

وفي
الآية 120 تعليم صريح لا يقبل الجدل على موت المسيح الذي يعبر القرآن عنه بلفظ
الوفاة (آل عمران والمائدة): “وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم = فلما توفيتني..”
قال البيضاوي: التوفي أخذ الشيء وافياً، والموت نوع منه”. وهنا يعني صراحة
الموت لأن الوفاة ترد معارضة للحياة “ما دمت فيهم”.

وكما
كان جواب المسيح لله بأدب بالغ رائع، كان استعطافه وشفاعته لأمته، التي غلت في
اكرامه بتأليهه، بالغاً حدود الفصاحة والبلاغة: “إن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن
تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم” (121). ولما كان الله لا يغفر أن يشرك به،
ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء (نساء 47 و115) فاستغفار عيسى للنصارى في موقف الصدق
يعني أن “غلوهم” في اكرام المسيح وأمه ليس شركاً ولا كفراً يستوجبان
الهلاك الأبدي. ويختم بموافقة الله على صدق اقرار عيسى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار