مصادر شرح الكتاب المقدس

سلسلة مصادر شرح الكتاب المقدس في القرن الأول وأهم الترجمات – الجزء السادس: تابع مدرسة الإسكندرية – سماتها ومنهجها والتفسير الرمزي

2 – سمات مدرسة الإسكندرية ومنهجها :


أ- بدأت مدرسة الإسكندرية كمدرسة للموعوظين (1) Catechumens طالبي العماد، من أجل تعليمهم الإيمان المسيحي بالدراسات التي تؤهلهم لنوال سرّ المعمودية، وفتحت المدرسة أبوابها من أجل الجميع‘ فقد انفتحت المدرسة على جميع الناس ومن كل الطبقات والمراكز الاجتماعية الفقيرة والغنية والديانات المختلفة والأعمار المختلفة أيضاً …
بل لم تقتصر الدراسة بها على اللاهوت وحده… بل كان برنامجها منذ القرن الثاني، يقوم على أساس موسوعي متكامل شامل أي Encyclopedic لذا سُميت الديدسكاليون Διδασκαλειον أي مدرسة تمثل حركة لاهوتية ومركزاً للدراسة والحياة الإيمانية التقوية كجزء لا يتجزأ من الحياة الكنسية التي هيَّ في صميمها حياة تلمذة (2).
ويقول Carl S.Meyer : ( كانت هذه المدرسة مركزاً للتعليم الفلسفي والعلمي كما للتعليم اللاهوتي، فإنه بالنسبة للسكندريين: كل معرفة إنما تُساهم في إدراك الحق الذي يبلغ ذروته في اللاهوت المسيحي) (3)

ب- أخذت المدرسة بنظام التدرج في التعليم؛ فغالباً ما تبدأ الدراسة بسلسلة من العلوم غير الدينية ( العلمانية secular) من خلالها يكسب المعلم غير المؤمنين ويُقوم الأفكار الفلسفية والعلمية. جاذباً القلب والفكر نحو المعلم الوحيد والحقيقي يسوع المسيح.
ثم تأتي بعد ذلك الأخلاقيات والسلوك المنضبط، مع التوضيح، أنه ليس بكافي في حياة المسيحي لأن الحياة المسيحية ليست قاصرة على الأخلاق الحميدة بل في جوهرها هو التغير لشكل صورة الله أي الإنسان يتغير لصورة الله الذي خلق عليها أي أن يتغير على شكل المسيح نفسه وكما قال القديس بولس الرسول “ونحن جميعاً ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة نتغير لتلك الصورة عينها من مجد لمجد كما من الرب الروح” (2كو3: 8)
وأخيراً يدرس اللاهوت المسيحي في شكل تعليقات وشرح للكتاب المقدس.
وقد امتازت المدرسة بعدم الفصل بين الدراسة وحياة الإيمان والتقوى؛ فقد كانت العبادة تُمارس بشكل دقيق وبجدية جنباً إلى جنب مع الدراسة. يتشارك المعلمون وتلاميذهم الصلاة والصوم وحياة النسك والتقوى. وكان الأساتذة في حياتهم مثال يحتذي به.
وأهم ميزة عُرفت في المدرسة العلاقة الشخصية بين الأساتذة وتلاميذهم، فكانت تقوم على حياة التلمذة في أسمى صورها.
وكانت تهتم المدرسة أيضاً بالبحث العلمي، وكان أساتذتها يهتمون بتقديم المشورة في البحث والتنقيب مع المناقشة المستمرة.

ج– ملامح برنامج تعليم الموعوظين:
الحياة المسيحية دائماً ما تبدأ بالميلاد الجديد من الماء والروح، أي المعمودية، والعماد في العصور الأولى كان معظمه للبالغين، لذلك كان يتم مرة واحدة في السنة باحتفال مهيب وعظيم في ليلة عيد القيامة أي مابين سبت النور وأحد القيامة حيث تدور القراءات الكنسية حول موت الرب وقيامته وحول النور والقيامة والاستنارة.
وقد كان المتقدمون للمعمودية يقضون فترة كبيرة كموعوظين ليتعلموا المبادئ الأولى للمسيحية استعداداً لمعموديتهم الآتية. وكانت فترة استعدادهم هذه تكتمل بدورة للتعليم المكثف أثناء الصوم الأربعيني المقدس. وقد سجلت لنا كتابات آباء الكنيسة الكثير من تلك العظات والتي كانت تُلقى على الموعوظين والتي شملت عظات موجهة إلى:
1- طالبي العماد. 2- المعمدين حديثاً. (4)

ج1- محتوى تعليم الموعوظين:
ركز الآباء في توجيهاتهم للموعوظين على أن المعمودية ليست طقساً خارجياً شكلياً خارجياً، بل هيَّ سرّ الاتحاد مع المسيح ولبسه على الاعتماد على قول بولس الرسول : “لأن كلكم الذين اعتمدتم في (5) المسيح قد لبستم (ye put on) المسيح” (غلا3: 27)
فالمعمودية ليست مجرد طقس ليتسمى الإنسان مسيحياً، بل ليكون فعلاً مسيحياً، أي اللابس المسيح، مكتسي به، به يحيا ويتحرك ويوجد، معتبرين أن السرّ الكنسي والحياة العملية ليسا نقيضين ولا منفصلين، فالسرّ الكنسي هو الأساس والحياة المسيحية العملية مؤسسة علية.
وقد استفاض الآباء في شرح العقيدة على مستوى الفعل والعمل، وأيضاً استفاضوا في شرح الأخلاقيات ورموز المعمودية وفي تعريف السرّ، لكي يكون الموعوظ مسيحياً فعلاً وحقيقي بالمعمودية وليس فقط على مستوى الاسم، بل لكي يدخل في شركة مع المسيح، وهذه الشركة هيَّ في حد ذاتها سرّ وهيَّ زرع الله فينا.

ويوصي الآباء المعمدين حديثاً لكي ينموا في السرّ الذي دخلوه ولا يكونوا ساكنين أو يلقوا عنهم الإتحاد الذي صاروا فيه شركاء للمسيح ولُقبوا فيه بالمعمدين والمستنيرين، وحثوهم على الاحتفاظ بالبريق الأول وقوة الاستنارة التي نالوها بالمعمودية بل وأكثر من ذلك بأن يجعلوا النور يشع فيهم ببريق أقوى ويتقدموا دائماً وينموا في النعمة والحق.
وفرق الآباء بين أن يُسمى الإنسان مسيحياً وبين أن يكون مسيحياً بالفعل والحق، وذلك بما يُقدمه من طاعة للوصايا المقدسة والعهد الذي تم مع العريس السماوي يسوع المسيح:
“الذي عنده وصاياي ويحفظها فهو الذي يُحبُني والذي يُحبُني يحبه أبي وأنا أُحبه وأُظهر لهُ ذاتي” (يو14: 21)

ج2- برنامج أو المنهج لتعليم الموعوظين كالآتي:
1- بنود الإيمان المسيحي
2- معاني سرى المعمودية والميرون.
3- شرح الموعظة على الجبل.
4- تفسير الصلاة الربانية
5- شرح علاقة الرب يسوع المسيح بالمُعمد باعتبارها علاقة تُمثل الآتي:
1) الكرمة بالأغصان (يو15: 1)
2) الراعي بالغنم (يو10: 1)
3) حجر الزاوية بالأحجار (1بط2: 4)
4) رئيس الكهنة بالكهنة (عب2: 17)
5) آدم الثاني بالخليقة الجديدة (1كو15: 45)
6) الرأس بأعضاء الجسد (1كو12، أف4: 4)
7) العريس بالعروس (رؤ19: 7)

ج3- عظات وكتابات الآباء للموعوظين:
لقد سجل لنا علم الباترولچي أهم أعمال الآباء للموعوظين ونذكر منها الآتي:
1) مقالات القديس كيرلس الأورشليمي لطالبي العماد.
2) مقالات القديس كيرلس الأورشليمي عن الأسرار للمعمدين حديثاً.
3) مقالتان للقديس يوحنا ذهبي الفم لطالبي العماد.
4) ثمانية مقالات للقديس يوحنا ذهبي الفم لطالبي العماد.
5) مقال للقديس أغسطينوس عن قانون الإيمان للموعوظين.
6) عدة مقالات القديس أغسطينوس عن الصلاة الربانية للمستعدين للعماد.
7) عظة لسينسيوس Synesius of Gyrene في عيد الفصح للمعمدين حديثاً.
8) أحاديث وإرشادات موجهة إلى معلمي الموعوظين للقديس إغريغوريوس النزينزي.
9) كتابات وعظات القديس أمبروسيوس عن الأسرار.
10) عظات الأب ثيؤدور أسقف العراق وهيَّ عبارة عن تعاليم وعظية للمعمدين حديثاً.

3 – مدرسة الإسكندرية والتفسير الرمزي:

كان اهتمام المدرسة الرئيسي والأول منصباً على دراسة الكتاب المقدس وقد ارتبط اسمها بالتفسير الكتابي؛ وكان شغل هذه المدرسة التفسيرية الأول هو اكتشاف المعنى الروحي في كل موضع وراء سطور الكتاب المقدس.
وطبعاً قد بدأ هذا التفسير الرمزي للفيلسوف اليهودي فيلون كما رأينا سابقاً ، وقد تبنى الآباء الأولون بالإسكندرية هذا المنهج التفسيري، حاسبين أن التفسير الحرفي في حالات كثيرة لا يليق بالله.
وقد وجدوا هذا المنهج عند الرسل أنفسهم، وهيَّ ظاهرة بوضوح في الرسائل في العهد الجديد (6) .

فمثلاً في (غلاطية4: 21-31)، استند الرسول بولس إلى أشخاص تاريخيين (إسحق وإسماعيل وسارة وهاجر) وانطلق من هُنا ليُبين حُرية أبناء الموعد في أورشليم العُليا:
” وكل ذلك رمز لأن هاتين هما العهدان أحداهما من جبل سيناء الوَالِدُ للعبودية الذي هو هاجر… وأما نحن أيها الإخوة فنظير اسحق أولاد الموعد” (غلا4: 24و28)
وهو يشرح أسلوبه في فهم العهد القديم بقوله: “لأن كل ما سبق فكتب من أجل تعليمنا حتى بالصبر والتعزية بما في الكتب يكون لنا رجاء” (رو15: 4)
ونجد أيضاً أن الرب نفسه قد استخدم هذا الأسلوب، الذي أصبح قاعدة عريضة في شرح الكتاب المقدس، فمما لا شك فيه أن بشارة الرب يسوع وهو بعد في الجسد أعطت الكنيسة القاعدة الأساسية لفهم الكتاب المقدس. وقد اتخذ الرب موقفين تجاه العهد القديم: أنه يستند إلى العهد القديم أحياناً في حرفيته ويؤكد سلطانه ولكنه يعود ويُعطيه معنى جديداً نقدياً (7) ، معنى روحي.

فمثلاً نرى الرب يسوع يُجيب الناموسي الذي أتاه متسائلاً: “ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية ؟!!” بذكر الوصية الثانية في شريعة موسى كما هيَّ (مر10: 19)
وهو يلوم أيضاً الفريسيون لأنهم تركوا “وصية الله” (مر7: 8-9).
ولكن عندما أُتُهِمَ بأنه نقض الناموس أجاب أنه أعطى الناموس تفسيراً جديداً، “التفسير بالروح القدس” الذي كان داود نفسه قد استخدمه: “لأن داود نفسه قال بالروح القدس…” (مر12: 36)
وبما أن داود نطق بالروح القدس فموسى والأنبياء أيضاً قد نطقوا بالروح القدس، وللشعب أن يفهم الكتاب المقدس في الروح القدس الذي به تكلم الأنبياء.

ومن هنا نستطيع أن نرى ونستوعب، أن العهد الجديد بجملته يرى العهد القديم ككتاب رجاء، وكتاب نبوءة تنتظر استكمالها في يسوع المسيح ابن الله الظاهر في الجسد في ملء الزمان. وقد بنت الكنيسة منذ البداية موقفها على أسلوب يسوع في شرح الكتاب المقدس، فرفضت حرفية الناموس واستبدالها بحرية أبناء الله.

وبما أن الكتاب كله موحى به من الله فهوَّ صادق صدق مطلق، ولكن معناه لا يمكن أبداً أن يكمُن في حرفيته بل في روحه، أي في فهمنا له روحياً. وهذا المفهوم الروحي استمدته الكنيسة من قاعدة أساسية ألا وهيَّ المسيح وأعضاؤه…

ويقول القديس مكسيموس المعترف (منتصف القرن السادس) عن موقف الكنيسة من الكتاب المقدس:
{ الأناجيل الأربعة وُلِدَت من إتحاد الميلاد بالآلام الخلاصيه… وقد نُشِرَت في المسكونة من خلال سير مكرسة، سير الرسل والقديسين والمبشرين لتُشفي جرح الإنسانية الذي أحدثه عصيان آدم، وتُثَبتْ كل من يتقبل الكلمة في الإيمان والحق} (8)

عموما، نجد القديس أكليمنضس الإسكندري أستخدم هذا النوع من التفسير – أي الرمزي – ولكن تلميذه أوريجانوس (Origene) هو الذي شكل نظامه ووضع قواعده وقام بنشره في الشرق والغرب، حتى نُسب إليه.

وقد بلغ أوريجانوس بالمدرسة إلى القمة في هذا الشأن. فتأثرت بأفكاره، وإن كانت قد تحررت بعد ذلك من مبالغته في التفسير الرمزي.

ويلاحظ أن آباء المدرسة كانوا أكثر دقة وإفرازاً من العلامة اليهودي فيلون Philon، كما اختلفوا معه أيضاً في الهدف، فقد طبق فيلون التفسير الرمزي على العهد القديم لاكتشاف معانٍ فلسفية وأخلاقيات من خلال الرموز، أما آباء مدرسة الإسكندرية فوجدوا في العهد القديم بما احتواه من شخصيات وأحداث ونواميس وطقوس انعكاسات للعمل الخلاصي والحياة السماوية . (9)

على أي حال كان لهذا المنهج أهميته، ولكننا في نفس الوقت لا نقدر أن نتجاهل أضرار المبالغة في استخدامه، لهذا وجد هذا المنهج معارضة، كما نادى آباء المدرسة فيما بعد بالاعتدال في استخدامه.

فالمعنى الرمزي له أصوله الشرعية المعتمدة في الكتاب المقدس، خصوصاً عند القديس بولس الرسول:
” وكل ذلك رمزُُ لأن هاتين هما العهدان أحداهما من جبل سيناء… أما أورشليم العُليا التي أمنا جميعاً” (أنظر للأهمية غلا4: 21-31)

* وهنا نجد أن الرسول استخدم كلمة رمز (آية24)، ووردها في صورة الفعل للمقارنة بين كل من ابني إبراهيم باعتبارهم رمزاً للعهدين.

ومع ذلك – أي بالرغم من استخدام المعنى الرمزي بكثرة في العهد الجديد وعند الآباء – فإن الميل إلى إيجاد تفسير رمزي لكل سطر في الكتاب المقدس مع إهمال المعنى الحرفي تماماً، هوَّ أمر لا يخلو من الخطر والمخاطرة، وتحميل الكلام أكثر من معناه بحسب فكرنا نحن وتصوراتنا وليس حسب قصد الله منه (10)

______________________________
(1) موعوظين = catechumens مأخوذة عن اليونانية وتعني “تحت التسليم” والفعل يعني “يتعلم شفوياً”، وقد استخدمت كنسياً بمعنى طالبي العماد. (سلسلة آباء الكنيسة ص10)
(2) حياة وفكر آباء الكنيسة – الموسوعة الآبائية 1 ص 154 القس أثناسيوس فهمي جورج
(3) سلسلة آباء الكنيسة ص10
(4) حياة وفكر آباء الكنيسة ص156
(5) حسب النص الأصلي (اليوناني)
(6) راجع الكتاب المقدس – أسلوب تفسيره السليم للشماس د/إميل ماهر
(7) ليس المقصود هنا نقضاً للناموس أو أسفار العهد القديم من أي جهة لفظية أو معنوية أو نوع من أنواع النقض للأسفار بأي حال من الأحوال، بل المقصود هوَّ نقض للمفهوم الخطأ للشريعة والأسفار وذلك بسبب قساوة القلب وعمى البصيرة (أنظر للأهمية القصوى ولفهم المعنى المقصود مرقس7: 1-23)
(8) الكتاب المقدس وحياتنا الشخصية ص42
(9) مقدمات في علم الباترولچي القمص تادرس يعقوب مالطي ص2
(10) انظر الكتاب المقدس أسلوب تفسيره السليم ص74 ، ص75

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار