المسيحية

رسالة المسيح بحسب القرآن



رسالة المسيح بحسب القرآن

رسالة
المسيح بحسب القرآن

بحسب
القرآن تنفرد رسالة المسيح على رسالة الأنبياء أجمعين بسبع ميزات هي سبع آيات لها
ترفعها على الرسالات كلها.

أولا:
ولد المسيح على الهدى والنبوة

أعاظم
الأنبياء، من إبراهيم إلى موسى إلى محمد، لم يصيروا أنبياء إلا في الكهولة. ولا
شيء قبل هدايتهم ودعوتهم للنبوة والرسالة يميزهم عن بني قومهم.

ومحمد
نفسه، نبي القرآن: (ووجدك ضالا فهدى) الضحى7 ؛ وما دعي للرسالة الا في الأربعين.

المسيح
وحده في العالمين والمرسلين ولد على الهدى، وولد نبيا: فقد نطق في مهده (قال: اني
عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا) مريم 29 ونطقه في مهده معجزة نبوته منذ
ومولده.

قال
البيضاوي مفسرا آية مريم 29 ؛ (اكمل الله عقله واستنبأه طفلا.

وبالفعل
فهو (يكلم الناس في المهد وطفلا) آل عمران 47، (إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في
المهد وكهلا) المائدة 113. قسره الرازي: (قوله (تكلم الناس في المهد وكهلا) من غير
ان يتفاوت كلامه في هذين الوقتين. وهذه خصية شريفة كانت حاصلة له، وما حصلت لاحد
من الأنبياء لا قبله ولا بعده.

 

ثانيا
المسيح في نبوته استجمع الوحي والتنزيل كله منذ مولده

منذ
مولده قال: (آتاني الكتاب وجعلني نبيا)، فمنذ مولده: (يعلمه الكتاب والحكمة،
والتوراة والإنجيل) آل عمران 48. قال البيضاوي: (الكتاب جنس الكتب المنزلة، وخص
الكتاب (التوراة والإنجيل) لفضلهما). وكرره في تعداد نعمة الله على عيسى، وميزته
على المرسلين: (اذ علمتك الكتاب والحكمة، والتوراة والإنجيل) المائدة 113.

فصره
الرازي: (الكتاب أي الكتابة وهي الخط
(لا يرد هذا المعنى على الإطلاق في القرآن) – او جنس الكتب، وأما
الحكمة فهي عبارة عن العلوم النظرية والعلوم العلمية. وخص التوراة والإنجيل بالذكر
على سبيل التشريف، أو إشارة إلى الأسرار التي لا يطلع عليها أحد إلا أكابر الأنبياء).

وهذه
ميزة مزدوجة. لقد علم الله المسيح الوحي والتنزيل كله ؛ ولا يقول ذلك بحق أحد
المرسلين ؛ وعلم الوحي والتنزيل كله منذ مولده، ولا يقول القرآن ذلك بحق إبراهيم
ولا بحق موسى ولا بحق محمد، (خاتم الأنبياء وأفضلهم!).

ومن
يخصه الله بالتنزيل كله، منذ مولده، ألا يكون سيد المرسلين؟.

 

ثالثا
استجمع المسيح طرق الرسالة الإلهية كلها

كانت
رسالة المسيح بالكلمة المعجزة، والمثل المعجز، والآيات المعجزة.

قد
يشبهه بعض الأنبياء في واحدة منها ؛ لكن أحدا منها لم يستجمعها مثله، بشهادة
القرآن.

1)
كانت رسالته بالكلمة المعجزة. والقرآن يردد مررا على لسان المسيح اعلان التوحيد
الكتابي المنزل: (وقال المسيح: يا بني إسرائيل اعبدوه الله ربي وربكم) المائدة 57.
هذا هو الصراط المستقيم الذي جاء به عيسى: (ولما جاء عيسى بالبينات قال: (قد جئتكم
بالحكمة، ولابين لكم بعض تختلفون فيه ؛ فاتقوا الله وأطيعون: ان الله ربي وربكم
فاعبدوه، هذا صراط مستقيم) الزخرف 63-64. وهذا هو الإسلام الحق الذي دعا إليه
عيسى: (وأذ أوحيت إلى الحواريين ان آمنوا بي وبرسولي، قالوا آمنا واشهد بانا
مسلمون) المائدة 111. هذا هو وعدا الله، (وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل
والقرآن) التوبة 111.

ومن
دعوة عيسى تبيان ما كانوا يختلفون فيه من الكتاب: (ولأبين لكم بعض الذي تختلفون
فيه) الزخرف 63 ؛ وتحليل بعض ما حرم عليهم: (ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم)
العمران 50.

ومن
دعوته انه مصدق لما بين يديه من التوراة (المائدة 46 والصف) ؛ كما هو مفصل لها،
غيما كانوا فيه يختلفون.

وكان
أيضا (مبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه احمد) الزخرف 6
آية وحيدة فريدة في القرآن، تثير التساؤلات، سنرى معناها في بحث
لاحق.

ومع
الدعوة للتوحيد، كان المسيح يظهر (كلمة الله) في ذاته (النساء 170) ؛ وينفر بتأييد
روح القدس له في سيرته كلها، كما في رسالته وتنزيله (البقرة87 و253 المائدة 113).
وكلمة الله الملقى الى مريم (وروحا منه) تعالى، وروح القدس، هما روحان من الملا
الأعلى يظهران في ظهور المسيح البقرة87 و253، النساء 170.

فما
هو سر، (كلمة الله) ؛ وما هو سر (روح القدس) من الله؟ سنرى ذلك أيضا في بحث لاحق.

هذا
هو الإنجيل الذي أتيه عيسى: (وآتيناه الإنجيل، فيه هدى ونور.. هدى وموعظة للمتقين)
المائدة 15، فهو هدى ونور لأهل الكتاب ؛ وهدى وموعظة للمتقين من الأميين،، كالعرب
الذين آمنوا مع (محمد).

 

2)
وكانت رسالته بالمثل الحي

ضرب
القرآن للناس (مثالا من اللذين خلوا) النور 34؛ (وتلك الأمثال نضربها للناس)
العنكبوت 43 والحشر 21.

وأعطى
القرآن إبراهيم والذين معه (أسوة حسنة) في براءتهم من بني قومهم الظالمين
(الممتحنة 4 و6) وأعطى القرآن محمدا أيضا (أسوة حسنة) في الجهاد (الأحزاب 21) كما فسره
الجلالين (اقتداء به في القتال والثبات في مواطنه).

اما
المسيح فكان مثالا لبني إسرائيل مطلقا: (ان هو الا عبدا أنعما عليه وجعلناه مثالا
لبني إسرائيل) الزخرف 59 ؛ ومثلا للاميين على السواء: (ولما ضرب ابن مريم مثالا،
إذا قومك منه يصدون) الزخرف 57.

 

3)
وميزة رسالة المسيح بالبينات والمعجزات التي لم يستجمعها غيره، ولم يبلغ شأوها احد
من المرسلين.

فالقرآن
يصف رسالة المسيح جملة بانفرادها بالبينات: (وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه
بروح القدس) البقرة 87 و253؛ (فلما جاءهم بالبينات قالوا: هذا سحر مبين) الصف 6 ؛
(وأذ كففت بني إسرائيل عنك، إذ جئتم بالبينات، قال الذين كفروا منهم: ان هذا إلا
سحر مبين) المائدة 113؛ (ولما جاء عيسى بالبينات قال: قد جئتكم بالحكمة) الزخرف
63.

ثم
يفصل مرتين بإيجاز بعض تلك المعجزات:

 (ورسولا
إلى بني إسرائيل اني قد جئتكم بآية من ربكم: اني اخلق لكم من الطين كهيئة طير،
فانفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله _ وأبرئ الأكمة (الأعمى منذ مولده) والأبرص _ واحي
الموتى بإذن الله، وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم: ان في ذلك لآية لقوم
يعقلون) آل عمران 49، قابل المائدة 113.

فسره
البيضاوي: (انه حكى هنا خمسة أنواع من معجزات عيسى. وروى انه عليه السلام ربما
اجتمع عليه خمسون ألفا من المرضى من أطاق منهم أتاه، ومن لم يطق أتاه عيسى. وما
كانت مداواته الا بالدعاء). ونحن نعتبرها أربعة أنواع. هذا النوع الأول من الاشفية
المعجزة.

والنوع
الثاني هو الاطلاع على الغيب: فعيسى يعلم الغيب، وليس كغيره لا يعلم الغيب
(الأنعام 50، هود 31، الأعراف 187). والنوع الثالث هو (الخلق) خلق الطيور. لاحظ
قوة التعبير (اني اخلق لكم) ؛ ولا يستعمل القرآن كلمة (خلق) بحق أحد من المخلوقين
والمرسلين، الا بحق عيسى، على لسانه (آل عمران 49) وعلى لسان الله نفسه بحق عيسى
(المائدة113): فقد أشركه في حق الخلق مع الخالق سبحانه، وان قيده بقوله: (بإذن
الله) أو بإذني) ؛ فإطلاق الفعل الإلهي الخاص على عيسى يكفيه ليرفعه فوق المخلوقين
إلى الخالق. وكما وصفه بصفة إلهية لا تليق الا بالله، (الخالق)، فهو يؤيدها بصفة
إلهية ثانية، في النوع الرابع، هي أحياء الموتى ؛ ولم يسند القرآن هذه الصفة
الإلهية لأحد من المخلوقين الا لعيسى. ولم يشترك أحد من الرسل والأنبياء مع عيسى
الا بنوع الاشفية ؛ أما الخلق ومعرفة الغيب والأحياء، فقد انفرد بها شهادة له على
شخصيته. نعرف من الكتاب والإنجيل ان ايليا واليشع أقاما ميتا بالدعاء الى الله،
اما المسيح فقد أقام الموتى بكلمته الشخصية وان كان (بإذن الله) لان ذات المسيح
السامية وقدرتها من الله ذاته، فهو (روح منه) تعالى.

وآية
الآيات البينات هي معجزة المائدة ينزلها على الرسل الحواريين من السماء: (قال:
عيسى ابن مريم. اللهم ربنا انزل علينا مائدة من السماء، تكون لنا عيدا لأولنا
وآخرنا، وآية منك، وارزقنا، وأنت خير الرازقين) المائدة 117.

قال
الرازي في تفسيره: ان جميع تلك المعجزات التي طلبتها كانت أرضية وهذه معجزة
سماوية، وهي اعجب واعظم.. وقالوا بالإجماع: انها نزلت يوم الأحد فاتخذه النصارى
عيدا.

وهذه
الإشارات: مائدة، عليها رزق من السماء، تكون عيدا دائما لهم، نزلت يوم الأحد، كلها
تشير إلى قول المسيح في الإنجيل: (انا الخبز الحي النازل من السماء.. والخبز الذي
سأعطيه انا هو جسدي.. من يأكل جسدي، ويشرب دمي، فله الحياة الأبدية) الإنجيل
المقدس بحسب حرف البشير يوحنا الفصل 6 كله.

فمعجزة
المائدة في القرآن هي عند النصارى (المسيحيين) القربان المقدس.

وأسمى
ما انفرد به المسيح على الرسل أجمعين هو اختصاصه بتأييد الروح القدس له على الدوام
في سيرته وفي رسالته وشخصيته.

 

رابعا

اختصاص
المسيح دون الرسل أجمعين بتأييد الروح القدس له

ان
القرآن لا يذكر تأييد روح القدس للأنبياء والمرسلين مطلقا.

وبحق
محمد يقول: (قل: نزله روح القدس) النحل 102، وبمقارنتها مع آية البقرة (97)

نعرف
ان الروح القدس، في تنزيل القرآن، هو كناية عن جبريل.

فروح
القدس جبريل، يحصر القرآن دوره مع محمد في تنزيل القرآن، وخارجا عن تنزيل القرآن،
لا يذكر له القرآن تأييد لمحمد.

أما
المسيح له كل مجدا وكرامة فميزته تأييد روح القدس له الشامل المطلق، في السيرة
والرسالة والمعجزة والشخصية، كما نرى من النصوص آلاتية: (ولقد آتينا موسى الكتاب ؛
وقفينا من بعده بالرسل ؛ وآتينا عيسى ابن مريم البينات، وأيدناه بروح القدس)
البقرة 87.

ظاهر
الآية يدل على اختصاص المسيح بتأييد الروح القدس من دون المرسلين أجمعين، وظاهرها
أيضا يدل على التأييد الدائم المطلق.

 (تلك
الرسل فضلنا بعضهم على بعض: منهم من كلم الله ؛ ورفع بعضهم درجات ؛ وآتينا عيسى
ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس) البقرة 252.

ظاهر
الآية يدل على اختصاص المسيح بتأييد روح القدس له في باب المفاضلة بين الرسل: فقد
فضل المسيح على الرسل أجمعين بتأييد روح القدس له.

 (إذ
أيدتك بروح القدس، تكلم الناس في المهد، وكهلا) المائدة 113.

هنا
يجعل القرآن تأييد روح القدس للمسيح في علاقة مع سيرته المعجزة ورسالته المعجزة
وشخصيته المعجزة: فبسبب تأييد روح القدس له، يكلم المسيح الناس في المهد وكهلا.
ومنذ المهد ينطق المسيح بمعجزة ليبرئ أمه، ويعلن نبوته: قال (اني عبد الله آتاني
الكتاب وجعلني نبيا) مريم 30. من الآيتين مريم 30 ومائدة 113 يظهر ان تأييد روح
القدس يشمل سيرة المسيح ورسالته وشخصيته.

فمن
هو (روح القدس) الذي أيد الله به عيسى؟ وما معنى هذا التأييد؟

قال
الطبري في تفسيره لآية البقرة 87: اختلف في تأويله: فقال بعضهم هو جبريل ؛ وقال
آخرون هو الإنجيل؛ وقال آخرون هو الاسم الذي كان عيسى به يحيي الموتى.

وهو
يفضل القول انه جبريل بسبب سورة (المائدة 113) التي تقرن التأييد بالنبوة في المهد
وكهلا. لكن فات الطبري ان التأييد المقيد في سورة المائدة هو مطلق في سورة البقرة
(87)

وفي
باب المفاضلة بين الرسل (البقرة 253).

والرازي
ينقل قول الحسن في تفسيره البقرة (87): والذي يدل على ان روح القدس جبريل عليه
السلام قوله تعالى: قل (نزله روح القدس). لكنه ينقل أيضا قول ابن عباس: (ان الروح
القدس هو الاسم الذي كان به عيسى يحيي الموتى). وينقل ايضا قول ابي مسلم: (ان روح
القدس الذي أيد به يجوز ان يكون الروح الطاهرة التي نفخها الله تعالى فيه وأبانه
بها عن غيره)

والى
هذا الرأي يذهب الرازي في تفسيره (المائدة 113): قوله (إذ أيدتك بروح القدس أي
جبريل، فالروح هو جبريل، والقدس هو الله، إضافة إلى نفسه تعظيما له ؛ او روح عيسى
؛ فالله خصه بالروح الطاهرة النورانية المشرفة العلوية الخيرة).

ويقول
الرازي هنا أيضا: وكان روح القدس (لا يفارقه ساعة، وهو معنى قوله (وأيدناه بروح
القدس). وقال الجلالان: (يسير معه حيث سار)، في تفسير البقرة (83 و253)

ومن
تعارض وتنوع أقوال المفسرين، نرى ان تفسير روح القدس في تأييد المسيح، بجبريل هو
من باب المشاكلة، لا من باب المطابقة بين محمد والمسيح ؛ والتعبير الفارق صريح:
فنعد محمد تنزيل، وفي المسيح تأييد مطلق.

وتفسير
روح القدس بجبريل هو قول من ثلاثة: والقولان الآخران هما الصحيحان: أما الاسم
الأعظم الذي كان به عيسى يحيي الموتى ؛ وأما الروح العلوية النورانية التي نفخها
الله تعالى في عيسى (وأبانه بها على غيره) كما يقول ابي مسلم والرازي. وفي كلا
القولين نرى في القرآن صدى لمقالة الإنجيل في الروح القدس، الذات القائمة في الله
مع كلمة الله ؛ وفي عيسى كلمة الله، (روح منه) النساء 170) نفخها الله منه في
عيسى، فأبانه على غيره من المخلوقين والمرسلين ؛ ففي عيسى ذات نورانية روحية غير
ذاته البشرية: فهو عيسى ابن مريم وهو أيضا (كلمة ألقاها إلى مريم (وروحا منه)
تعالى (النساء 170).

 بهذه
الذات النورانية الروحانية، المسماة (كلمة الله)، التي نفخها الله في عيسى، وأيده
بها، رفع الله عيسى ابن مريم فوق المخلوقين الى صلة خاصة به تعالى من دون العالمين
والمرسلين أجمعين.

 

خامسا

انفراد
المسيح بالرفع إلى السماء من دون العالمين

يذكر
القرآن في لغته رفع السماوات بغير عمد: (الرعد 2) ورفع الطيور وأشياء أخرى (البقرة
65 و93 ؛ النساء 153)، ورفع الناس بعضهم فوق بعض (الأنعام 156) ورفع بعض الأنبياء
درجات (البقرة 253).

ويخص
القرآن محمد بهذه الكلمة الوحيدة، في لغة الرفع: (ورفعنا لك ذكرك) (الانشراح 4).

وبديهي
ان رفع الذكر لا يعني رفع الشخص إلى غير الأرض، كما تدل أيضا قرائن السورة كلها.

وإدريس
(اخنوخ في الكتاب) (كان صديقا نبيا، ورفعناه مكانا عليا) مريم 57. فهو رفع فوق
الأرض لا يحدد القرآن مكانه ولا زمانه ولا كيفيته.

 وأختص
القرآن المسيح بالرفع إلى السماء، إلى الله نفسه، من دون العالمين والمرسلين
أجمعين.

 (إذ
قال الله: يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي) آل عمران 55.

 (وما
قتلوه يقينا، بل رفعه الله إليه) النساء 157.

فظاهر
الكلام أن الرفع إلى الله كان عقب وفاة المسيح، قتله اليهود شبهة، أم لم يقتلوه
يقينا.

ومكان
الرفع هو في النصين إلى الله تعالى نفسه. فالمسيح وحده، من دون المخلوقين أجمعين،
رفعه الله إليه حيا.

قال
الرازي في تفسيرهما: (رفع عيسى عليه السلام ثابت بهذه الآية (النساء 157). ونظير
هذه الآية قوله في آل عمران: (رافعك إلي). ودل ذلك على أن رفعه إليه اعظم في باب
الثواب من الجنة ومن كل ما فيها من اللذات الجسمانية. وهذه الآية تفتح عليك باب
معرفة السعادة الروحانية.

واختصاص
الله المسيح برفعه حيا خالدا إلى السماء، إلى قرب الله، من دون العالمين والمرسلين
أجمعين، بينما جميعهم ينتظرون يوم يبعثون، برهان على سمو رسالته على الرسالات
كلها، وعلى سمو شخصيته على المخلوقين أجمعين.

فكما
ان الله خص عيسى ابن مريم في تكوينه بروح منه تعالى هو كلمة الله (النساء 170)،
خصه أيضا في مصيره وخلوده حيا في السماء، لدى الله، بميزة تدل على سمو شخصيته على
المخلوقين أجمعين. فالملائكة المقربون هم (حول العرش) ؛ أما المسيح فهو مع الله:
(رافعك إلي)، رفعه اليه).

وهذا
الرفع الفريد في القرآن تفضيل لرسالته على كل الرسالات، وتميز لسمو شخصيته على
العالمين أجمعين.

 

سادسا

المسيح
وحده علم وعلم للساعة
الزخرف 61

هذا
أيضا دور فريد للمسيح في القرآن يدل على سمو رسالته وعلى سمو شخصيته. سيرجع المسيح
ثانية الى الأرض لقيام الساعة.

فهو
وحده بين الأنبياء والأولياء له دور في قيام الساعة. قال الجلالان: (وانه
عيسى لعلم للساعة تعلم بنزوله).

 والمسيح
(علم) للساعة، وعلم الساعة من خصائص الله: (وان الله عنده علم الساعة) لقمان 24.
وهنا يظهر انه يشرك المسيح في علم الساعة. قال البيضاوي: (وانه لعلم للساعة لان
حدوثها ونزوله من اشراط الساعة، يعلم به دنوها. وقرئ (لَعَلمُ) وهو العلامة.

والمسيح
(علم) للساعة أي علامة (الزمخشري والبيضاوي). فقد جعل الله رجوع المسيح في اليوم الآخر
علامة لحضور الساعة. قال الزمخشري: وانه لعلم الساعة أي شرط من اشراطها يعلم بها،
فسمي الشرط علما لحصول العلم به. وقرأ ابن عباس (لعلم) وهو العلامة.

 نلاحظ
انهم في تفسيرهم يميلون الى قراءة (لعلْمً) بمعنى شرطها ؛ ولا يستنبطون معنى
القراءة الفضلى (لعلْم). وقول القرآن ان المسيح (علم) للساعة يجعله يعلمها كما
يعلمها الله.

ففي
المعنى (لعلَمُ) يكون المسيح برجوعه علامة لقيام الساعة. وهذا دور فريد عجيب لا
يعطيه القرآن إلا للمسيح وحده دون المرسلين أجمعين ؛ وفي هذا المعنى برهان سمو
رسالته على الرسالات كلها: فها الخاتمة في يوم الدين نفسه.

وفي
المعنى (لعلْم) يشترك المسيح مه الله في علم الساعة الذي هو من غيب الله وحده، فلا
يطلع على غيب الله إلا المسيح وحده من دون المخلوقين أجمعين.

وفي
هذا المعنى برهان سمو شخصية المسيح على خلق الله كلهم. وقد نقلوا في الحديث عن
النبي هذه الأقوال: (يوشك ان ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا) راجع عرائس المجالس
403.

 (ولا
مهدي إلا عيسى ابن مريم) في يوم الدين. سنن ابن ماجه 2: 275.

 (ولن
يخزي الله أمة أنا أولها والمسيح آخرها). نوادر الأصول للترمذي 156.

 (عن
ابي هريرة: ألا ان ابن مريم، ليس بيني وبينه نبي ولا رسول. ألا انه خليفتي في أمتي
من بعدي) السيوطي الاعلام بحكم عيسى بحسب هذين الحديثين الآخرين، سيد أمة محمد في
آخر الزمان هو المسيح نفسه. فكما يدعو القرآن، مع التوحد، للمسيح ؛ كذلك ستكون أمة
محمد أمة للمسيح قبل يوم الدين.

 (يدرس
الإسلام كما يُدرس وشي الثوب.. ويسري على كتاب الله (القرآن) في ليلة فلا يبقى في
الأرض منه آية) منتخب كنز العمال 6: 11. سنن ابن ماجه 2: 259. الشعراني مختصر
تذكرة الإمام القرطبي 170.

 (لا
تقوم الساعة حتى يرجع القرآن حيث جاء) منتخب كنز العمال 6: 15.

 (بدأ
الإسلام غريبا، وسيعود كما بدأ). سنن ابن ماجه 2: 248
249؛. الشعراني مختصر تذكرة الإمام القرطبي 179. ؛ إنسان العيون:
77.

 (ان
المسيح ابن مريم خارج يوم القيامة، وليستغن به عن سواه). مسند ابن حنبل: 2: 240
و272 و493 و538 ؛ كنز العمال 6: 55
56.

نتساءل
بحسب هذه الأحاديث النبوية هل يُدرس القرآن والإسلام القرآني قبل يوم الدين، فلا
يبقى إلا المسيح ودينه، فتتبعه أمة محمد أيضا؟.

وقد
استنبط الصوفية من ميزة المسيح هذه أقوالا تدل على دور المسيح في تاريخ البشرية
والنبوة.

قال
ابن العربي: (وانه سيد الأولياء). ابن العربي عنقاء مغرب 76.

وله
في الفتوحات المكية (4: 215): (فالختم ختمان: ختم واحد في العالم يختم به الله
الولاية المحمدية، فلا يكون في الأولياء المحمديين اكبر منه. ومن ثم ختم آخر يختم
به الله الولاية العامة من آدم إلى آخر ولي: وهو عيسى عليه السلام؛ وهو ختم
الأولياء.

فالمسيح
هو سيد الأولياء، وختم الأولياء.

وابن
العربي يرى في المسيح ختم الولاية وختم الملك وختم النبوة: قال: (الختم ختمان: ختم
يختم به الله الولاية المطلقة، وختم يختم به الولاية المحمدية. (ختم الولاية
المحمدية هو ابن العربي نفسه). فأما ختم الولاية على الإطلاق فهو عيسى عليه
السلام: فهو الولي بالنبوة المطلقة. فينزل في آخر الزمان وارثا خاتما، لا ولي بعده
بنبوة مطلقة، كما ان محمدا خاتمة النبوة، لا نبوة تشريع بعده، فكان أول هذا الامر
نبي وهو آدم، وآخره نبي وهو عيسى. وهو عليه السلام من هذا الوجه خاتم الأنبياء.
فجمع الله له بين ختم الولاية والنبوة). وهذه ميزة للمسيح وحده على الرسل أجمعين.
الفتوحات المكية ابن العربي 2: 55.

وقال
أيضا: (وأما خاتمية عيسى عليه السلام، فله ختام دورة الملك، فهو آخر رسول يظهر
بصورة آدم في نشئه.. ثم ان عيسى إذا نزل إلى الأرض في آخر الزمان، أعطاه الله ختم
الولاية الكبرى من آدم إلى آخر نبي، ومن ثم له ختم دورة الملك، وختم الولاية
العامة، فهو من الخواتم في العالم). الفتوحات المكية 3: 568-569.

فالمسيح
عند الصوفية المسلمين وإمامهم ابن العربي، هو ختم وختام الولاية، وختم وختام
الملك، وختم وختام النبوة والرسالة.

فالمسيح
هو سيد الملوك، وسيد الأولياء، وسيد الأنبياء.

فإذا
كان محمد خاتم النبيين نسبيا، فالمسيح هو خاتمة الأنبياء على الإطلاق.

فكما
بدأ النبوة بآدم (من غير اب) هكذا سيختمها بكلمته الملقاة الى مريم!. هذا هو دور
المسيح (علما) و(عَلما) للساعة.

 

سابعا

المسيح
وحده هو الوجيه الوحيد في يوم الدين

لقد
رأينا بحسب القرآن -لا الحديث
لا شفيع في يوم الدين إلا الملائكة المقربين، ضمن حدود وقيود.

فلا
شفاعة في نص القرآن، لرسول إلا المسيح، فقد جاء (وجيها في الدنيا والآخرة، ومن
المقربين) آل عمران 45.

 واجمع
المفسرون ان الوجاهة في الدنيا هي النبوة، والوجاهة في الآخرة هي الشفاعة.

وبما
ان القرآن جمع الوجاهة في الآخرة للمسيح مع الملائكة المقربين، ففي ذلك دليل على
شفاعته معهم في يوم الدين.

وفي
استجواب الله له في يوم الدين (المائدة120) يستنكر المسيح نسبة الناس الألوهية له،
ثم يستشفع بأدب جم بأمته التي تؤلهه. فهذا مشهد شفاعة المسيح في يوم الدين.

ظن
بعضهم ان هذا الموقف موقف شهادة عليهم، لا موقف شفاعة لهم لقوله: (ان من أهل
الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته، ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا) النساء 158.

ان
القرآن يستعمل تعبير أهل الكتاب إما على الإطلاق، وحينئذ يشمل اليهود والنصارى،
وإما على التخصيص، كما يظهر من القرائن، وحينئذ قد يعني اليهود، او النصارى، بحسب
دلائل القرآن. وفي الآية (158) من سورة النساء جاء تعبير أهل الكتاب على العموم
وهو يقصد به التخصيص. والفقرة كلها (النساء 149-161) حملة على اليهود لكفرهم
بالمسيح وأمه ؛ ومنها كفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما، وادعائهم قتل المسيح
(النساء 155- 158) فاهل الكتاب الذين يكون المسيح عليهم شاهدا هم اليهود، لا
النصارى، لا الله (جاعل الذين اتبعوك (النصارى) فوق الذين كفروا (اليهود) الى يوم القيامة)
آل عمران 55، هؤلاء النصارى الذين قالوا مع الحواريين في المسيح: (ربنا آمنا بما
أنزلت واتبعنا الرسول (المسيح) فاكتبنا مع الشاهدين) ال عمران 53؛ وقلوا في
القرآن: (ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول (المسيح) فاكتبنا مع الشاهدين.. فأثابهم
الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها، وذلك جزاء المحسنين)
المائدة 86-88.

فهذه
شهادة المسيح في يوم الدين ليست على أمته ؛ بل هي شفاعة لهم لغلوهم في أمره.

فالمسيح
هو الوجيه الأوحد في يوم الدين مع الملائكة المقربين.

تلك
هي رسالة المسيح في القرآن.

سبع
ميزات ترفع رسالة المسيح على الرسالات كلها ؛ فهو وحده ولده على الهدى والنبوة ؛
وهو وحده استجمع الوحي والتنزيل كله ؛ وهو وحده استجمع أنواع الرسالة كلها بالكلمة
والقدوة والمعجزة ؛ وهو وحده في رسالته وشخصيته انفرد بتأييد روح القدس له ؛ وهو
وحده رفعه الله اليه ؛ وهو وحده علم للساعة ؛ وهو وحده الوجيه الشفيع في يوم الدين
دون الرسل أجمعين.

وهذه
الميزات السبع دلائل وبراهين على سمو شخصية المسيح على المخلوقين اجمعين. فرسالته
تتخطى الزمن ؛ فهي تسيطر على تاريخ البشرية والنبوة منذ اختيار الذرية المصطفاة
على العالمين، حتى قيام الساعة ويوم الدين.

وشخصية
فيها (كلمة الله ألقاها الى مريم وروح منه) تعالى (النساء 170) يؤيده في ذاته وفي
سيرته وفي رسالته (البقرة 87 و203)، ويجعله وجه الدنيا والآخرة (ال عمران 45) هي
شخصية أسمى من المخلوق، وفي صله خاصة بالخالق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار