علم التاريخ

رابعاً: سر تخلِّي الله عن شعبه إسرائيل



رابعاً: سر تخلِّي الله عن شعبه إسرائيل

رابعاً:
سر تخلِّي الله عن شعبه إسرائيل

لماذا
تخلَّى الله عن شعبه إسرائيل؟

الذي
يتتبع تاريخ مملكة إسرائيل ومملكة يهوذا، الذي انتهى بسقوطهما المريع في السبي
وتشتيتهما في كل أنحاء العالم، يظن أن انهيار إسرائيل كان- كما يظهر لنا من سرد
تاريخها- نتيجة مباشرة لازدياد قوة أشور من جهة، ثم مصر من جهة أخرى، مما أدَّى
إلى التضييق عليها حتى وقعت صريعة بين الاثنتين. والحقيقة ليست كذلك، فدولة
إسرائيل كانت دولة غير زمانية، بل قَصَدها الله أن تكون دولة روحانية، ولم تقم
بالقوة البشرية حتى تنهار وتسقط بالقوة البشرية. إسرائيل أقامها الله بنفسه، والله
هو الذي أسقطها بنفسه. إن تحذير الله لإسرائيل كان مستمراً بأنها إذا زاغت من تحت
تدبيره فهو حتماً مزمع أن يرفضها ويتخلَّى عنها، وذلك واضح كل الوضوح، وقد جاء هذا
التحذير مبكِّراً جداً في نفس وقت بداية إقامة العهد معهم على يد موسى النبي. اسمع
ما يقوله الله لشعب إسرائيل:

+
“أنتم واقفون اليوم جميعكم أمام الرب إلهكم.. لكي تدخل في عهد الرب إلهك
وقَسَمِه الذي يقطعه الرب إلهك معك اليوم. لكي يقيمك اليوم لنفسه شعباً وهو يكون
لك إلهاً.. وليس معكم وحدكم أقطع أنا هذا العهد وهذا القسَم بل مع الذي هو ههنا
معنا واقفاً اليوم أمام الرب إلهنا ومع الذي ليس هنا معنا اليوم..،

انظر قد جعلتُ اليوم قدَّامك الحياة والخير، والموت والشر.
بما أني أوصيتك اليوم أن تحب الرب إلهك وتسلك في طرقه وتحفظ وصاياه وفرائضه
وأحكامه، لكي تحيا وتنمو ويباركك الرب إلهك في الأرض التي أنت داخل إليها لكي
تمتلكها، فإن انصرف قلبك ولم تسمع بل غويت وسجدت لآلهة أخرى وعبدتها، فإني
أنبئكم اليوم أنكم لا محالة تهلكون، ولا تطول أيامكم على الأرض التي أنت عابر
الأُردن لكي تدخلها وتمتلكها.
أُشهد عليكم اليوم السماء والأرض. قد جعلت قدامك
الحياة والموت، البركة واللعنة” (تث 29: 1015، 30: 1519)

ثم
يضيف موسى النبي قبل موته هذه الكلمات الحزينة التي تكشف مقدار وضوح الرؤيا أمام
هذا النبي العظيم، وكيف أدرك المصير المحتوم الذي سيواجه شعب إسرائيل:

+
“إنهم أُمة عديمة الرأي ولا بصيرة فيهم، لو عقلوا لفطنوا بهذه وتأمَّلوا
آخرتهم كيف يطرد (الآن) الواحد ألفاً ويهزم اثنان ربوة، لولا أن صخرهم باعهم والرب
سلَّمهم” (تث 32: 2830)

وقد
تكرَّر تحذير الله لهم في كافة المناسبات وعلى فم جميع الأنبياء معلناً لهم أنه
مزمع أن يرفضهم ويسلِّمهم لأعدائهم ويتخلَّى عنهم، بسبب فساد حياتهم الداخلية
وتعدِّيهم على كافة النواميس الأدبية والأخلاقية التي سلَّمها لهم، علاوة على
عبادتهم الأصنام.

وسنكتفي
بتصوير الصورة الأخيرة للحالة الروحية والأدبية والأخلاقية التي كان عليها شعب
إسرائيل قبل انهيار مملكة إسرائيل مباشرة بينما كان الأعداء حول أُورشليم، نستطيع
من خلال هذه الصورة أن ندرك سر وقوع قضاء الله المحتوم عليها وانهيارها وزوال
المملكة عنها وتبدد الشعب في السبي.

 هذه
الصورة يرسمها لنا إرميا النبي بقوله:

+
“أما ترى ماذا يعملون في مدن يهوذا وفي شوارع أُورشليم؟ الأبناء يلتقطون
حطباً والآباء يوقدون النار والنساء يعجنَّ العجين ليصنعن كعكة لملكة السموات
(عشتاروت) ولسكب سكائب لآلهة أخرى لكي يغيظوني.. هذه هي الأُمة التي لم تسمع لصوت
الرب إلهها ولم تقبل تأديباً” (إر 7: 17و18و28)

ضياع
هيبة الأنبياء:

ثم
ينقل لنا إرميا النبي صورة فاجرة لحديث دار بينه وبين نساء الشعب وهم في منفاهم عندما كان يوبِّخهم على عبادة الأصنام ويذكِّرهم بكلام الله:

+
“إننا لا نسمع لك الكلمة التي كلَّمتنا بها باسم الرب. بل سنعمل كل أمر خرج
من فمنا فنبخِّر لملكة السموات (عشتاروت) ونسكب لها سكائب كما فعلنا نحن وآباؤنا وملوكنا ورؤساؤنا في أرض يهوذا وفي شوارع أُورشليم، فشبعنا خبزاً وكنا بخير ولم نَرَ
شرًّا”
(إر 44: 16و17)

وهذا بعينه سبق أن رآه موسى بعين النبوة قبل ذلك بسبعمائة
عام تقريباً،

فقد تمت رؤية موسى وترك الشعب عبادة الله ومخافته تركاً كاملاً بفجورٍ وتحدٍ.

تسفُّل
الأخلاق والدين معاً:

ولكن
لم تكن عبادتهم لعشتاروت ملكة السموات مجرَّد غواية دينية، بل وقد امتد العفن إلى
الأعماق وانضربت الحياة الداخلية بالفساد والانحلال الخلقي المريع. وها هو عاموس
النبي الذي تنبأ بقرب وقوع السبي يصف لنا درجة التسفُّل الخلقي والانحلال الأدبي
في الأسرة اليهودية التي بلغت حد مشاركة الأب لابنه في اقتراف القبائح:
“ويذهب رجل وأبوه إلى صبية واحدة حتى يدنِّسوا اسم قدسي” (عا 7: 2)

ثم
يعود عاموس النبي
ويصف الهوَّة التي تفصل بين الأغنياء والفقراء ووقوع الفلاح الصغير تحت ظلم المرابين الذي يمكن أن
ينتهي بالعبودية (عا4:
6و9)، مع فساد الضمير وانهيار القيم الاقتصادية
والعرف السائد:

+
“القائلين لنصغِّر الإيفة ونكبِّر الشاقل ونعوِّج موازين الغش، لنشتري
الضعفاء بفضة والبائس بنعلين ونبيع نفاية القمح. قد أقسم الرب بفخر يعقوب أني لن
أنسى إلى الأبد جميع أعمالهم” (عا 8: 57)

ويأتي
هوشع النبي ويصف
حال إسرائيل بأوصاف تقشعر منها النفس الطيبة، وأخيراً يُجمل
حالة أرض إسرائيل بهذه الكلمات:

+
“لا أمانة ولا إحسان ولا معرفة الله في الأرض، لعن وكذب وقتل وسرقة وفسق..
ودماء تلحق دماء.. روح الزنى قد أضلَّهم.. لذلك تزني بناتكم وتفسق كنَّاتكم.. وشعب
لا يعقل يُصرع” (هو 6: 1و2و1214)

ويضيف
هوشع

إلى هذه الصورة الحزينة منظراً آخر أشد إيلاماً على النفس من كل ما سبق:

+
“وكما يكمن لصوص لإنسان كذلك زمرة الكهنة في الطريق يَقتُلون نحو شكيم، إنهم
قد صنعوا فاحشة في بيت إسرائيل رأيت أمراً فظيعاً.” (هو 6: 9و10)

وتختم
هذه الصورة بوصف إجمالي يقدِّمه إشعياء النبي لحالة إسرائيل كلها:

+
“تركوا الرب، استهانوا بقدوس إسرائيل ارتدوا إلى وراء.. كل الرأس مريض وكل
القلب سقيم، من أسفل القدم إلى الرأس ليس فيه صحة، بل جُرح وإحباط وضربة طرية لم تُعصر ولم تُعصب ولم تليَّن
بالزيت” (إش 1: 5و6)

هذه هي الصورة التي انتهت إليها حالة شعب إسرائيل قبل
سقوطها ومن بعدها اليهودية وأُورشليم وانهيار المملكة، وهي تكشف لنا الأسباب
المباشرة التي جعلت الله يفرِّط في مملكته ويبدِّد شعبه ويكسر عهده ويغلق رحمته عن
إسرائيل، فيتبدَّدون في وسط شعوب الأرض ويبلغون منتهى اليأس والقنوط، كما يصفهم
إشعياء النبي:

+
“فيعبرون فيها مضايقين وجائعين. ويكون حينما يجوعون أنهم يحنقون ويسبُّون
ملكهم وإلههم، ويلتفتون إلى فوق وينظرون الأرض وإذا شدَّة وظلمة وقتام الضيق وإلى
الظلام هم مطرودون” (إش 8: 21و22)

انتهى

أغسطس
سنة 1997

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار