علم المسيح

دلائل بشريّة المسيح



دلائل بشريّة المسيح

دلائل
بشريّة المسيح

في
الجواب على السؤال: «من هو فادي مختاري اللّه؟» يقول كتاب أصول الإِيمان: «إن
الفادي الوحيد لمختاري اللّه هو الرب يسوع، الذي وهو منذ الأزل ابن اللّه، صار
إنساناً، وهكذا كان ولا يزال إلهاً وإنساناً معاً، ذا طبيعتين متميزتين وأقنوم
واحد إلى الأبد» وفي الجواب على السؤال: «كيف صار المسيح إنساناً وهو ابن اللّه؟»
يجيب: «إن المسيح ابن اللّه صار إنساناً باتخاذه لنفسه جسداً حقيقياً ونفساً
ناطقة، إذ حُبل به بقوة الروح القدس في رحم مريم العذراء، ووُلد منها بدون خطية».

 

كما
رأينا في الفصول السابقة أن المسيح يتمتع بطبيعة إلهية، وله كل صفات وألقاب اللّه.
ومع هذا كلّه علينا ألاّ ننسى أنه، وهو على الأرض، قد تمتع بطبيعة بشرية حقيقية
وكاملة. فقد كان عظماً من عظامنا، ولحماً من لحمنا، عاش أثناء وجوده على الأرض كأي
إنسان آخر، عُرضة لكل الصعوبات والتجارب والآلام. فمن جهة ناسوته أو طبيعته
البشرية، هو واحد منّا تماماً، كما كان متحداً باللّه من جهة لاهوته أو طبيعته
الإِلهية. فعندما كان طفلاً كانت له مشاعر ومزايا الأطفال، وعند نموه «تَقَدَّمَ
فِي ٱلْحِكْمَةِ وَٱلْقَامَةِ وَٱلنِّعْمَةِ، عِنْدَ ٱللّٰهِ
وَٱلنَّاسِ» (لوقا 2: 52).

 

من
فم أمه تعلم أولاً أمور اللّه الطاهرة، وعند ركبتيها كان يركع مراراً كثيرة ليصلي.
لقد نما في بلدة الناصرة التي لم تكن لها مكانة معتبرة ولا شهرة ذائعة. أمّا يوسف
ومريم فقد احتفظا بتلك العجائب التي رافقت طفولة يسوع. ومن المرجح أنّ أمّه لم تخبر
بها إلاّ الفريق المقرّب من تلاميذه بعد قيامة المسيح. أمّا رفقاء وأقرباء ومعاصرو
المسيح فلم يلاحظوا على الأغلب أنه خلال نموه كان يتمتع بمزايا فائقة للطبيعة. ومن
المرجح أن يوسف الذي كان خطيب أمّه مات قبل أن يشرع يسوع في خدمته الجهارية. وبما
أن يسوع كان الابن البكر، فإن مسؤولية إعالة أمّه وبقية أسرته وقعت على عاتقه،
وكنجّار كان يعرف معنى الكدّ اليومي. ومع أن الكتاب المقدس يسمّي المسيح «آدم
الثاني» فإنه لم يأت إلى عالم البشر كإنسان بالغ، بل مرّ بكل مراحل الاختبارات
البشرية من طفولته حتى رجولته. لقد عاش يسوع المسيح حياة بشرية في كل لحظة وساعة
ويوم من وجوده في عالم البشر.

 

تمتع
يسوع المسيح بطبيعة بشرية أصيلة، وعاش حياة بشرية إعتيادية. ولقد تضمَّن أول
مواعيد الوحي الإِلهي بمجيء المخلّص حقيقة ناسوت المسيح، للتأكيد على أنه سيكون
«نسل المرأة» الذي يسحق رأس الحية (تكوين 3: 15). هناك إذن في مطلع سجلات الوحي
الإِلهي دلالة قاطعة على أن اللّه قصد أن يستخدم نائباً بشرياً للقيام بمهمة
الفداء. أما الوعد المعطى لإبراهيم فيدل أيضاً على أن العهد الأبدي المقام معه من
اللّه سيتحقق في نسله (تكوين 17: 19
و22: 18). ذلك هو الوعد
الذي تحدث عنه الوحي الإِلهي على لسان الرسول بولس، عندما قال إنه لم يتم في الشعب
اليهودي عامة بل في المسيح بالذات (غلاطية 3: 16
و17). أما
داود فكان قد تلقَّى وعداً أن نسله سيجلس على عرشه من بعده إلى الأبد (2 صموئيل 7:
2 – 16) و(أخبار الأيام الثاني 6: 16)، هذا ما ورد في قول المزمور 132: 11 «مِنْ
ثَمَرَةِ بَطْنِكَ أَجْعَلُ عَلَى كُرْسِيِّكَ». أما النبي إشعياء الذي تحدث في
نبوته عن مجيء الفادي بتفصيل عجيب، فتنبّأ أن المسيح سيُولد من عذراء بطريقة
معجزية (إشعياء 7: 14)، والنبي ميخا ذكر أن المخلص سيُولد في بيت لحم (ميخا 5: 2).

 

وينسب
العهد الجديد إلى المسيح مشاعر واختبارات بشرية حقيقية. فيما يلي بعضها:

1
– الولادة:

«وَلَمَّا
وُلِدَ يَسُوعُ فِي بَيْتِ لَحْمِ…» (متى 2: 1).

«أَنَّهُ
وُلِدَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ…» (لوقا 2: 11).

2
– النمو:

«وَكَانَ
ٱلصَّبِيُّ يَنْمُو وَيَتَقَوَّى بِٱلرُّوحِ، مُمْتَلِئاً
حِكْمَةً…».

«وَأَمَّا
يَسُوعُ فَكَانَ يَتَقَدَّمُ فِي ٱلْحِكْمَةِ وَٱلْقَامَةِ
وَٱلنِّعْمَةِ، عِنْدَ ٱللّٰهِ وَٱلنَّاسِ» (لوقا 2: 40
و52).

3
– التعب:

«فَإِذْ
كَانَ يَسُوعُ قَدْ تَعِبَ مِنَ ٱلسَّفَرِ، جَلَسَ هٰكَذَا عَلَى
ٱلْبِئْرِ…» (يوحنا 4: 6).

4
– النوم:

«غَطَّتِ
ٱلأَمْوَاجُ ٱلسَّفِينَةَ، وَكَانَ هُوَ نَائِم» (متى 8: 24).

«وَكَانَ
هُوَ فِي ٱلْمُؤَخَّرِ نَائِماً. فَأَيْقَظُوهُ..» (مرقس 4: 38).

5
– الجوع:

«فَبَعْدَ
مَا صَامَ أَرْبَعِينَ نَهَاراً وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، جَاعَ أَخِير». «وَفِي
ٱلصُّبْحِ إِذْ كَانَ رَاجِعاً إِلَى ٱلْمَدِينَةِ جَاعَ» (متى 4: 2
و21: 18).

6
– العطش:

«يَسُوعُ…
قَالَ: أَنَا عَطْشَانُ» (يوحنا 19: 28).

7
– الغيظ:

«فَلَمَّا
رَأَى يَسُوعُ ذٰلِكَ ٱغْتَاظَ» (مرقس 10: 14). «فَنَظَرَ حَوْلَهُ
إِلَيْهِمْ بِغَضَبٍ، حَزِيناً عَلَى غِلاظَةِ قُلُوبِهِمْ» (مرقس 3: 5).

8
– الحنو والعطف:

«وَلَمَّا
رَأَى ٱلْجُمُوعَ تَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ» (متى 9: 36). «فَتَحَنَّنَ يَسُوعُ
(على الأبرص) وَمَدَّ يَدَهُ وَلَمَسَهُ» (مرقس 1: 41).

9
– المحبة:

«فَنَظَرَ
إِلَيْهِ يَسُوعُ وَأَحَبَّهُ» (مرقس 10: 21). «وَاحِدٌ مِنْ تَلامِيذِهِ، كَانَ
يَسُوعُ يُحِبُّهُ…» (يوحنا 13: 23).

10
– الفرح:

«كَلَّمْتُكُمْ
بِهٰذَا لِكَيْ يَثْبُتَ فَرَحِي فِيكُمْ وَيُكْمَلَ فَرَحُكُمْ» (يوحنا 15:
11).

11
– الحزن والهمّ:

«وَٱبْتَدَأَ
يَحْزَنُ وَيَكْتَئِبُ» (متى 26: 37). «بَكَى يَسُوعُ…» (يوحنا 11: 35). «اَلآنَ
نَفْسِي قَدِ ٱضْطَرَبَتْ» (يوحنا 12: 27).

12
– التجربة:

«ثُمَّ
أُصْعِدَ يَسُوعُ إِلَى ٱلْبَرِّيَّةِ مِنَ ٱلرُّوحِ لِيُجَرَّبَ مِنْ
إِبْلِيسَ» (متى 4: 1»). «لأنَّهُ فِي مَا هُوَ قَدْ تَأَلَّمَ مُجَرَّباً
يَقْدِرُ أَنْ يُعِينَ ٱلْمُجَرَّبِينَ» (عبرانيين 2: 18). «لأنْ لَيْسَ
لَنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ غَيْرُ قَادِرٍ أَنْ يَرْثِيَ لِضَعَفَاتِنَا، بَلْ
مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِلا خَطِيَّةٍ» (عبرانيين 4: 15).

13
– الصلاة:

«صَعِدَ
إِلَى ٱلْجَبَلِ مُنْفَرِداً لِيُصَلِّيَ» (متى 14: 23). «وَإِذْ كَانَ فِي
جِهَادٍ كَانَ يُصَلِّي بِأَشَدِّ لَجَاجَةٍ، وَصَارَ عَرَقُهُ كَقَطَرَاتِ دَمٍ
نَازِلَةٍ عَلَى ٱلأَرْضِ» (لوقا 22: 44). «ٱلَّذِي، فِي أَيَّامِ
جَسَدِهِ، إِذْ قَدَّمَ بِصُرَاخٍ شَدِيدٍ وَدُمُوعٍ طِلْبَاتٍ وَتَضَرُّعَاتٍ»
(عبرانيين 5: 7).

14
– التألُّم:

«هُوَ
مَجْرُوحٌ لأجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لأجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلامِنَا
عَلَيْهِ، وَبِحُبُرِهِ شُفِينَ» (إشعياء 53: 5). «هٰكَذَا هُوَ
مَكْتُوبٌ… أَنَّ ٱلْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ» (لوقا 24: 46). «مَعَ كَوْنِهِ
ٱبْناً تَعَلَّمَ ٱلطَّاعَةَ مِمَّا تَأَلَّمَ بِهِ» (عبرانيين 5: 8).

15
– الموت:

«فَصَرَخَ
يَسُوعُ أَيْضاً بِصَوْتٍ عَظِيمٍ، وَأَسْلَمَ ٱلرُّوحَ» (متى 27: 50).
«أَنَّ ٱلْمَسِيحَ مَاتَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا حَسَبَ ٱلْكُتُبِ»
(1 كورنثوس 15: 3). كانت للمسيح طبيعة بشرية حقيقية، بما فيها من مزايا البشر
الإعتيادية، كما كان أيضاً عرضة لنفس الميول البشرية الطبيعية. أمّا كون طبيعة
الربّ يسوع المسيح البشرية تامة فهو واضح من قول الوحي الإلهي: «يَنْبَغِي أَنْ
يُشْبِهَ إِخْوَتَهُ (أي البشر) فِي كُلِّ شَيْءٍ» (عبرانيين 2: 17) إن يسوع
المسيح بكل وعي وعن قصد سابق دعا نفسه «إنسان» قائلاً: «تَطْلُبُونَ أَنْ
تَقْتُلُونِي، وَأَنَا إِنْسَانٌ قَدْ كَلَّمَكُمْ بِٱلْحَقِّ» (يوحنا 8:
40). وقد دعاه البعض من معاصريه «إنسان» هذا ما قاله بيلاطس عنه: «هُوَذَا
ٱلإِنْسَانُ» (يوحنا 19: 5). «يَسُوعُ ٱلنَّاصِرِيُّ رَجُلٌ قَدْ
تَبَرْهَنَ لَكُمْ مِنْ قِبَلِ ٱللّٰهِ» (أعمال الرسل 2: 22).
«يُوجَدُ إِلٰهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ ٱللّٰهِ
وَٱلنَّاسِ: ٱلإِنْسَانُ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ» (1تيموثاوس 2: 5).

أمّا
سلسلة الأنساب التي تدل على سلالة يسوع المسيح البشرية فلها دلالاتها القاطعة على
ناسوته (راجع متى 1: 1 – 17 ولوقا 3: 23 – 38). تلك اللوائح من شأنها الدلالة ليس
فقط على ناسوت المسيح، بل أيضاً على كونه الوريث الملوكي والشرعي لداود. ثم أن لقب
«ابن الإِنسان» بغضّ النظر عمّا يحويه من معنى شاسع وعميق، هو في معناه الأساسي
يشير إلى طبيعة المسيح البشرية. هذا وإن الكنيسة المسيحية على مدى العصور والأجيال
كانت دائماً تعتقد أن مسيحها لم يكن إلهاً فحسب، بل إنساناً أيضاً.

 

إن
محدوديات يسوع في مجالات المعرفة تكوِّن موضوعاً شيقاً للدراسة، فكما لاحظنا أنه
«كان يتقدم في الحكمة وفي القامة والنعمة عند اللّه والناس»، وكإنسان لم يكن
عليماً بكل شيء، فإن الطبيعة البشرية تتصف بالمحدودية، وإذ تمتع بها يسوع فقد
أُلحقت به المحدودية التي للبشر. من نتائج هذه المحدودية نرى أنه تعجّب من إيمان
قائد المئة (لوقا 7: 9)، كما أنه أبدى عدم معرفته وقت انقضاء العالم. ففي إحدى
عظاته قُبَيل صلبه بأيام أخبر تلاميذه عن وعي وقصد أنه لم يكن يعرف وقت انقضاء
العالم: «وَأَمَّا ذٰلِكَ ٱلْيَوْمُ وَتِلْكَ ٱلسَّاعَةُ فَلا
يَعْلَمُ بِهِمَا أَحَدٌ، وَلا مَلائِكَةُ ٱلسَّمَاوَاتِ، إِلا أَبِي
وَحْدَهُ» (متى 24: 36). راجع أيضاً (مرقس 13: 32).

 

كان
يسوع يستعمل قوة معجزية فوق الطبيعة عندما كان يعالج حالات طالبي الشفاء. فعندما
لمست ثوبه امرأة مصابة بنزيف دم مزمن، سأل وهو بين الجموع عن الذي لمسه، لأنه شعر
أن قوة خرجت منه (لوقا 8: 45. راجع أيضاً مرقس 5: 25 – 34). كذلك عندما أخبره
مبعوث أسرة لعازر أنه مريض، عرف يسوع على الفور أن لعازر قد مات. وكان يعرف كذلك
أن القصد من المرض «لَيْسَ لِلْمَوْتِ، بَلْ لأجْلِ مَجْدِ ٱللّٰهِ،
لِيَتَمَجَّدَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ بِهِ» (يوحنا 11: 4). ورغم معرفة
يسوع على التّو أن لعازر مات سأل: أين وضعوه، وبكى مع الأختين الثاكلتين. لكنه ما
برح أن أظهر قوته الفائقة للطبيعة بإقامة لعازر من الأموات بعد موته بأربعة أيام.
(راجع يوحنا 11: 1 – 44). وعند عودته من بيت عنيا جاع ورأى من بعيد شجرة تين عليها
ورق، وعندما اقترب إليها لم يجد فيها ثمراً، فأيبسها بمجرد أمر منه. (راجع مرقس
11: 12 – 14

و
11:
20).

 

كتب
عن موضوع ناسوت المسيح أحد كبار علماء اللاهوت يقول: (أخبرنا يسوع استناداً إلى
البشير مرقس 13: 32، أنه كان يجهل وقت يوم الدينونة، كما وأنه أظهر لنا مراراً
رغبته في الحصول على معلومات من البشر. لقد كان بالفعل محدوداً في طبيعته البشرية،
ولكن بدون أي نقص في صفاته. وكان أيضاً عُرضة للتجارب، كما يشعر دائماً بحاجته
للاعتماد على اللّه. وهو رجل صلاة مُلِمٌ بالفرق بين ما يتعارض مع مشيئة اللّه
وشريعته، وما ينسجم ويتفق معها. لم يكن يتمتع بعقل إنسان فقط، بل بقلب إنسان
أيضاً، وأكثر من ذلك إنسان بدون خطية. ومن الضروري أن ندرك أنه قد نما تماماً كما
ينمو البشر، وهذا لا ينطبق على أيام حداثته فحسب، بل أيضاً على كل مرحلة من مراحل
حياته البشرية على الأرض. فقد تمّ نموّه في المعرفة والحكمة والإحترام والإحسان
والقوة الأخلاقية والطهارة والقداسة. لقد كان من الطبيعي أن ينمو يسوع المسيح
نموّاً عادياً، تماماً كما ينمو البشر في كافة جوانب الطبيعة البشرية).

 

كان
من الضروري للمسيح أن يختبر كل ما هو للإِنسان. ولكن مع كل هذا التشديد الضروري
على الدلائل المؤكدة لصحة وحقيقة وأصالة ناسوت المسيح، فإنه من الواجب التشديد على
الأدلة المؤكدة لأصالة وكمال طبيعته الإلهية. ففي نفس الوقت الذي يبدو فيه المسيح
غير عالم بقضية معيَّنة (راجع مرقس 13: 32) فإنه يَظهَر كمَنْ هو عالم بكل شيء.
(يوحنا 16: 30

و
21:
17). وفي نفس الوقت الذي نرى فيه أنه رغب في الحصول على معلومات من مصادر خارجية،
وسأل عن أمور لا يعرفها، وتعجّب من أمور، فإنه أظهر أيضاً أنه كان ملمّاً بكل ما
يحدث أو ما قد حدث دون أن يخبره أحد. لقد علم بتفاصيل حياة نثنائيل السرية (يوحنا
1: 47)، كما أنه كان على علم بخفايا حياة السامرية (يوحنا 4: 29)، ثم أنه كان يعرف
حتى أفكار أعدائه بالتمام (متى 9: 4). نعم لقد كان على علم بكل ما في الإِنسان
(يوحنا 2: 25). وهذا الواقع المزدوج لم يكن بالأمر المشوش أو المزعج، بل أنه كان
يمثل أعظم انسجام وأعمق تضامن. صحيح أن المبعوث أخبره بمرض لعازر، ولكنه لم يكن في
حاجة لمن يخبره أن لعازر قد مات. وعلى نفس المنوال نرى كيف أنه في الوقت الذي عبّر
فيه عن ناسوته ومشاعره في بكائه على لعازر وحزنه عليه، فإنه عبّر عن ألوهيته
بإقامة لعازر من الموت بمجرد أمر نطق به.

 

إيجازاً
لما سبق، فإننا في كل مكان نرى هذه الحقيقة المزدوجة العجيبة في حياة يسوع المسيح،
أي أنه، له المجد، كان يتمتع بطبيعة إلهية وبشرية في آن واحد. والذين يَصِلون إلى
معرفة يسوع المسيح من العهد الجديد، يجدون أنه لم يكن إنساناً فحسب، بل إنه كان
أعظم، وكان يشعر مع من يقترب إليه من البشر. لقد تقبَّل بصدر مفتوح إحضار الأمهات
أطفالهن إليه، كما فتح قلبه للسامرية مصغياً لها بصدق واهتمام عند لقائه بها. إنه
الإِنسان الذي شعر بعمق مع مريم ومرثا وشاركهما البكاء على أخيهما لعازر. لقد صادق
صيادي الجليل الفقراء والذين كانت مظاهرهم الخارجية تدعو للنفور وثقافتهم المحدودة
تبعدهم عن الناس.

 

أما
نحن فنجد أنفسنا مرتبطين به بأقوى وأوثق الروابط الشخصية من المحبة والصداقة. فلنا
تماماً، كما كان للمسيحيين الأوّلين، يقول: «أنتم أحبائي» مع أنه خالقنا وربنا. ونحن
بالفعل نتكل عليه ونطيعه، ولكننا ندعوه صديقاً لنا. فالحقيقة هي أننا لا نكون قد
دخلنا بالفعل إلى حياة الشركة معه ما لم نتعرف عليه، ليس فقط كربنا وخالقنا، بل
أيضاً كصديقنا الحميم. لقد قال لتلاميذه: «لا أَعُودُ أُسَمِّيكُمْ عَبِيداً،
لأنَّ ٱلْعَبْدَ لا يَعْلَمُ مَا يَعْمَلُ سَيِّدُهُ، لٰكِنِّي قَدْ
سَمَّيْتُكُمْ أَحِبَّاءَ لأنِّي أَعْلَمْتُكُمْ بِكُلِّ مَا سَمِعْتُهُ مِنْ
أَبِي» (يوحنا 15: 15). وعبر العصور والأجيال لا زال صوته يدوي قائلاً:
«تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ ٱلْمُتْعَبِينَ وَٱلثَّقِيلِي
ٱلأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ» (متى 11: 28).

 

كل
مسيحي يشعر بما قد قام به يسوع من أجله، يجب أن يشعر كما اختبر التلميذ يوحنا أنه
«التلميذ الذي كان يسوع يحبه». وياله من خطأ فادح أن يلجأ البعض لشفاعة البشر
ووساطتهم، أحياء كانوا أم أمواتاً، كواسطة للوصول إلى المخلّص. إننا بتصرّف كهذا
نكون قد أبعدنا المسيح عن المؤمنين الذين أحبهم ومات عنهم، مكفراً عن خطاياهم،
وقام في اليوم الثالث لتبريرهم (رومية 4: 25).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار