اللاهوت العقيدي

خامساً: التأسيس



خامساً: التأسيس

خامساً: التأسيس

الإفخارستيا بوضعها
الحالي الذي استقرت عليه من بعد القرن الرابع تنقسم بحسب رأي العلماء([1])
إلى قسمين أساسيين. ولكن لنا تحفُّظ على هذا التقسيم وسوف نعود إليه لتوضيح نقصه (انظر صفحة 653):

1 قسم يبدأ
من أول الإفخارستيا، أي من تقديم الشكر لله على الخلقة عامة بتمجيد اسم الله،
وينتهي بتمجيد اسم الله الذي يبلغ القمة في التسبحة الشاروبيمية.

2 القسم
الثاني يبدأ بذكر العشاء الأخير وهو المدخل للتأسيس: [لأن ربنا يسوع المسيح في
الليلة التي أسلم فيها ذاته أخذ خبزاً…]
وحتى نهاية التناول([2]).

ولكن يلزم هنا الإشارة
إلى أن النصف الثاني (الذي يبدأ بقول الكاهن: لأنه في الليلة التي أسلم فيها ذاته)
لا يلتحم مع النصف الأول (الذي هو الشكر والتمجيد) التحاماً طبيعياً. فالمعنى
والأسلوب والمضمون يقف مباشرة بعد الشكر والتسبيح ليدخل النصف الثاني بمفهومه
وطبيعته المأسوية([3])،
ولكن عن طريق وصلة تربط النصفين معاً. غير أن هذه الوصلة لا تمت لا لطبيعة النصف
الأول التسبيحي الخاص بالشكر وتمجيد اسم الله ولا لطبيعة النصف الثاني المأسوي
الخاص بليلة الآلام، إنما تأخذ الوصلة طبيعتها من مفهوم الإفخارستيا العام كذبيحة
أو صعيدة: [املأ هذه الصعيدة (بالمجد أو البركة أو القوة … إلخ) التي من قبلك]
مثل قداسات الإسكندرية، أو تأخذها من سرد مطول لحياة المسيح العامة مثل هيبوليتس،
أو من واقع خدمة القداس نفسه مثل قداس أدّاي وماري [ونحن أيضاً الذين اجتمعنا في
اسمك الواقفين أمامك الآن]([4]).

وهكذا تكشف لنا هذه
الوصلة التي لا يشترك قداسان في منطوق واحد لها أن
النصف الثاني دخل على النصف الأول دخولا غير طبيعي. وهذه حقيقة أيضاً لا ينبغي أن
تغرب عن بالنا لأن أصل الشكر على الخليقة والتسبيح وتمجيد اسم الله، أي النصف
الأول بأكمله، إنما موضعه الأصيل حسب التقليد الأول هو في آخر “الوليمة” والذي به
ينتهي بالفعل العشاء الأخير!

ويقول دكس:

[إن “التأسيس”
في التقليد المصري يأتي دائماً وبصورة ثابتة بعد تسبحة الشاروبيم ملاصقاً لتمجيد
الله، إنما عن طريق وصلة قصيرة. وهذا إنما يدلنا على أن “رواية التأسيس” أُضيفت
في الأصل على صلاة الشكر الأُولى التي كانت تنتهي بالتسبحة الشاروبيمية
ولكن
في وقت مبكر جداً وربما تكون هذه أول إضافة حدثت على النواة الأُولى
لصلاة الإفخارستيا في مصر (بقصد تكوين إفخارستيا ذات علاقة متصلة بالعشاء
الأخير).]([5])

والأمر الذي حيَّر
“دكس” وحير غيره من العلماء([6])
بخصوص كيف ومتى ولماذا أدخل النصف الثاني على النصف الأول، فهذا حله واضح للغاية،
إذ أن النصف الأول الذي قوامه الشكر والتسبيح كان يأتي مكمِّلاً أو ختاماً أخيراً
لطقس “التقدمة”، أي كان يأتي في وضعه التقليدي القديم في نهاية الإفخارستيا وظل
كذلك حتى بدأت الكنيسة تحت وطأة عاملين أساسيين هما: أولاً فقدان رؤيتها لكفاية
وأهمية طقس “التقدمة”، وثانياً أنها رأت الضرورة ملحة لشرح هذه “التقدمة” عملياً
داخل القداس بسبب دخول أفواج كثيرة من الأُمميين. فبدأت الإضافات بعد هذا النصف
التسبيحي الختامي بإعادة ذكر العشاء الأخير مرة أخرى كيف أخذ الرب ليلة آلامه
الخبز والكأس وبارك … إلخ وذلك بدقة وتفصيل، ووصف كل ما جاء فيه. وقليلاً
قليلاً اكتمل النصف الثاني
الذي في حقيقته العملية
هو هو نفس “طقس التقدمة” موصوفاً ومشروحاً مرة أخرى.

ولتوضيح ذلك نقدِّم هذا
التدرج المختصر الذي يشرح هذا النمو والتطور:

المرحلة
الأولى:
طقس تقديم الحمل كعشاء سري = بركة على الخبز
وشكر على الكأس وتسبيح.

المرحلة الثانية: طقس تقديم
الحمل كعشاء سري = بركة على الخبز وشكر على الكأس + شكر جديد يحمل
الروح المسيحية الجديدة.

المرحلة الثالثة: [سقوط طقس تقديم
الحمل من صُلب القداس] وبدء تكوين القداس الجديد من: الشكر المسيحي (النصف الأول)
+ التقديم مرة أخرى (النصف الثاني).

أمَّا
النصف الأول من الإفخارستيا، فهو بحسب قول “دكس”، الجزء المتوارث من الطقس اليهودي
ودخل الكنيسة على يد الرسل واحتفظ به في مدخل الإفخارستيا بعد أن صبغوه بالصبغة
المسيحية، وهو الجزء الذي ينحصر فعلاً في معنى ومضمون “الإفخارستيا” أي الشكر على
الكأس الأخير، أي أن موضعه الأصلي في وليمة العشاء الأخير كان في ختام الوليمة
وبالذات أثناء رفع كأس الإفخارستيا وهو المذكور في رواية الإنجيل بكلمة “وشكر”
» كذلك الكأس
أيضاً بعدما تعشُّوا … وأخذ الكأس وشكر …
«

والنصف
الآخر ويحوي التأسيس (أي رسم سر العشاء) وهو ما صنعه وما قاله الرب ليلة
العشاء الأخير على الخبز والخمر (أي هو نفسه طقس تقديم الذبيحة)، وهو يُعتبر
بالنسبة للإفخارستيا في مفهومها الليتورجي واللاهوتي المستقر في الكنيسة الآن
وخاصة من وجهة نظر التقديس، القطب الموجه لكل صلوات الإفخارستيا وقلبها النابض.

فالتأسيس هو قمة
الإفخارستيا ونقطة التلاقي لكافة الصلوات. ففي التأسيس ينتهي كل القصد من كل ما
سبقه من الصلوات، ومن التأسيس تبدأ تأخذ الصلوات التالية له مضمونها وفعلها
وغايتها النهائية. وإن كان للأسف وبتأثير من الفكر البيزنطي في القرون الوسطي

بدأت
النظرة في الشرق تتجه إلى “مرحلة” استدعاء الروح القدس التي تأتي بعد التأسيس
والتذكار كأنها هي مركز الإفخارستيا. وسوف نرجئ الكلام في هذا الموضوع إلى أن

يأتي
موضعه.

ولكن من الأمور التي
ينبغي أن تسترعي انتباه الباحث أنه توجد ليتورجيات قديمة تعود إلى القرن الثاني أو
الثالث مثل ليتورجية “أدّي وماري” تشير إلى التأسيس، ولكن لا تذكر بالمرة كلمات
الرب التأسيسية التي قالها على الخبز والخمر. فمثلاً تقول هذه الليتورجية في موضع
التأسيس هكذا: [وقد تسلمنا بالتقليد الرسم (التأسيس) الذي منك] دون أن تذكر أي
كلمة مباشرة قالها الرب. وبالرغم من ذلك يلحظ الباحث أن هذه الإشارة الصغيرة تقع
من الليتورجيا كلها موقع القلب النابض وتوجه كافة صلواتها، فعلى أساسها تأخذ
الكنيسة سلطانها في تكميل الإفخارستيا وعلى أساسها تقف الكنيسة تطلب استحقاق
التناول([7]).

ونحن لا نستطيع أن
نَعْبُرَ على هذه الحقيقة بهذه البساطة كما فعل “دكس” وغيره من العلماء، فالمسألة
جد خطيرة. والسؤال الآن من واقع هذه الليتورجيا: ما هو هذا التقليد وما هو هذا
الرسم أو النموذج أو التأسيس الذي أخذته الكنيسة من الرب؟ ثم كيف تعتمد الكنيسة
على هذا الرسم أي التقليد دون أن تذكره؟ ثم كيف يكون له هذا السلطان وهذه القوة
داخل الأنافورا بمجرد الكلام عنه دون أن يكون له وجود فعلى عملي؟

كل
هذه الأسئلة جوابها واحد وواضح أنَّ في طقس “التقدمة” (تقديم الحمل) قد تمَّ
بالفعل هذا

الرسم التقليدي المأخوذ من الرب نفسه، وهو البركة على الخبز والشكر على الكأس
بتسليم سري عملي بدون كلام للشرح أو التعليق، أمَّا ما تقوله هنا هذه الأنافورا
فهو مجرد إشارة للتأسيس توضح فيها أهمية هذا التسليم التقليدي لهذا الرسم الذي
تمَّ في التقديم، الذي استلمته الكنيسة من الرب نفسه!

ونحن نعتبر أن أنافورا
“أدّي وماري” هي نموذج بدائي جداً يكشف لنا عن بداية عملية تكوين الأنافورا (رفع
الصعيدة) بالكلام (وبالصلاة) على أساس عملية التقديم السابقة التي تمت بالفعل
الصامت. حيث يظهر لنا بمنتهى الوضوح أن قوة التأسيس الفعلية هي منبعثة أصلاً من
عملية “التقديم”،
ففي التقديم تجري البركة على الخبز والشكر على الكأس بحسب
تسليم الرسل الذي استلموه من الرب ليلة العشاء الأخير بحركة اليد وبرفع العين وبتلاوة
البركة على الخبز ثم الشكر على الكأس في سر صامت يفوق المنطق. أمَّا وصف الأنافورا
للتأسيس، فهو التعبير المنطوق عن سر قوة الإفخارستيا التي لم تشأ الكنيسة أن تجعله
مجرد كلام بل أعادت إليه مرة أخرى الحركة والفعل إذ استعارت من “طقس التقدمة” نفس
الحركات ووصفت الأفعال دون أن تنطق مضمونها. فوصفت “البركة” بأن يقول الكاهن
[وبارك] دون أن يذكر كلمات البركة، ووصفت الشكر دون أن تذكر كلماته التي قالها الرب مكتفية بهذين الفعلين اللذين أكملهما الكاهن في
“طقس
التقدمة”.

أمَّا في “طقس التقدمة”
فيقول الكاهن نفس الكلمات التي قالها الرب، ولكن بوضعها المسيحي، على الخبز الذي
في يده:

[مبارك الله
الآب ضابط الكل. مبارك ابنه الوحيد يسوع المسيح ربنا، مبارك الروح
القدس الباراقليط].

أمَّا في الأنافورا
فصحيح أن الكاهن يعمل نفس الحركة إذ يضع الخبز على يديه، ولكنه يقول واصفاً فقط ما تمَّ في “طقس التقدمة” أو بالحري في “العشاء الأخير”: [وبارك] كفعل
ماضي وصفي!

فإذا عدنا إلى تركيب
ليتورجية أُورشليم التي يشرحها القديس كيرلس الأُورشليمي (صفحة 622) في زمانه سنة 348م، نجد أنها
كانت فاقدة بالمرة “التأسيس” جملة وتفصيلاً، الأمر الذي حيَّر العلماء إلى
أقصى حد والمعتبر أنه قلب الليتورجيا النابض وقطبها المُوجِّه لكافة
صلواتها فإغفال “التأسيس” في ليتورجية كيرلس الأُورشليمي كان إغفالاً
لفظياً إغفال شرح وتعليق، أمَّا التأسيس عملياً فقد تمَّ بكل التأكيد
وبكل التقليد المسلَّم من الرب إنما على مستوى الفعل والحركة في “طقس التقدمة”
الذي لم يشأ كيرلس الأُورشليمي أن يتعرَّض له لكونه الجزء السري الخالص الذي من
اختصاص الكهنة.

فليتورجية كيرلس
الأُورشليمي (وهي عينها ليتورجية يعقوب الرسول قبل
تطويرها انظر صفحة 622)
تعتبر هنا فيما يخص التأسيس درجة سابقة
على ليتورجية “أدّي وماري”. فكيرلس اعتمد في ليتورجيته على “طقس التقدمة” كفعل
ليتورجي سري خاص غير قابل للشرح فلم يشر أية إشارة إلى “التأسيس” الذي يتم فيه.

أمَّا في ليتورجية
“أدّي وماري” فقد اعْتُمِدَ أيضاً على “طقس التقدمة” كفعل ليتورجي سري ولكن
أُخْضِعَ “التأسيس” فيه للتعبير والتذكار فأُشير إليه مجرد إشارة.

ونحن لا نعيب على كيرلس
الأُورشليمي كونه لم يتعرَّض لطقس “التقدمة” فهيبوليتس يسلك نفس السلوك إذ لم
يذكره بالمرة.

أمَّا سيرابيون فيصحو
لأهميته وخطورته ويبدأ يُلَمِّح له ويعتمد عليه، ولكن بصورة لا ينتبه إليها إلاَّ
المدققون جداً. والذي يلزم أن نوضحه أن هذا التدرُّج في إدخال وصف التأسيس كرواية
تاريخية داخل الأنافورات المختلفة لا يتبع التدرُّج الزمني، فليتورجية التقليد
الرسولي لهيبوليتس يرجع نصها إلى نهاية القرن الثاني، ولكنها تحوي كلمات التأسيس
بدقة في حين أن ليتورجية كيرلس الأُورشليمي سنة 348م تخلو من ذكر
التأسيس نهائياً. إذاً، فليس العامل الزمني هو الذي كان يتحكم في تسجيل كلمات
التأسيس أو إهمالها، بل هو مقدار الاعتماد على “طقس التقدمة” الذي فيه التأسيس
بصورة عملية كرسم تقليدي مُسلَّم من الرب.

فالبلاد التي أهملت “طقس
التقدمة” أو فقدت رؤيتها الصحيحة له بسبب ابتعادها عن المنبع “اليهودي
المسيحي” الذي كان التقليد يفهمه ويوقره ويهابه، بدأت تتلمس ما يحل محله بسرعة
واقتبست من الأناجيل كل ما وقع تحت يديها منذ القرن الأول، ويقول في ذلك “دكس”:

[إن الكنائس كانت تسارع
لاتخاذ خطوة عندما كانت تفقد رؤيتها للمبادئ الرئيسية التي كانت تقوم عليها
تقاليدها وذلك قليلاً قليلاً.]([8])

أمَّا البلاد التي
حافظت على “طقس التقدمة” وأعطته أهميته وكرامته باعتباره رسماً عملياً ل“سر
العشاء الأخير” وظلت تمارسه بالتسليم السري كرسم أسسه الرب، اكتفت به مدة فتأخر
عندها تسجيل “التأسيس” الوصفي نوعاً ما داخل الإفخارستيا كمصر
وأُورشليم، بقي تسجيل التأسيس في صورة وصفية روائية مطوَّلة دون أن يأخذ قانونه
المحدد بألفاظه المحددة المتداولة مثل أنافورا سيرابيون
التي تأتي فيها رواية “التأسيس” كقصة يتخللها أدعية وأوصاف ومناظر للطبيعة وصلاة
من أجل الكنيسة، هذا كله يأتي بين التقديس على الخبز والتقديس على الكأس! كما
يتخلل التأسيس أيضاً في سيرابيون جمل التذكار
anamnesis
مما يوضح أن “التأسيس” عند سيرابيون لم يكن قد أخذ صيغته المحددة
والمتداولة المعروفة الآن حتى إلى منتصف القرن الرابع! وذلك لأن التأسيس لم يستقر
في الكنائس في حدوده القانونية وألفاظه الدقيقة إلاَّ بعد القرن الرابع،
بالرغم من ظهورها مبكراً جداً منذ القرن الثاني وربما القرن الأول.

ولكن نعود ونذكر أن أي
تأخر حدث في تسجيل النص الليتورجي المحدد للتأسيس كما هو مسجَّل في
الأناجيل لم يكن معناه نقصاً أو تأخراً في صياغة الإفخارستية، بل على
النقيض فهذا كان يعني تمسُّكاً أكثر بالتقليد العملي لعشاء الرب التقليدي
المُسلَّم من المسيح ممثلاً في “طقس التقدمة”، وتحاشياً للازدواج الذي بدا واضحاً
من ممارسة كلمات “التأسيس” مرة أخرى في الإفخارستيا بعد ممارستها عملياً في “طقس
التقدمة”
offertory.

كما أن الحاجة لم تبدو
ملحة في البداية إلى شرح ما كان يجري على المائدة عند ممارسة طقس سر العشاء بحسب
تقليده العملي الأول، لأن الجالسين على المائدة كان معظمهم من اليهود المتنصرين
وكانوا على دراية كاملة بكل
ما يجري أمامهم. أمَّا
الأُمم الذين دخلوا إلى الإيمان حديثاً فكان الرسل يكتفون بالشرح النظري لما يتم
أمامهم، وذلك قبل أن يزداد عددهم وتبدو الحاجة ملحة إلى إدخال هذا الشرح والتوضيح
في داخل الممارسة ذاتها للعشاء حيث بدأت الإفخارستيا تأخذ عن اضطرار طبيعتها
الوصفية التوضيحية لكل حركة.

ويقول في ذلك “دكس”:

[وإني أتصور أن الأُممي
المسيحي هناك في القرن الأول عندما كان يحضر الإفخارستيا لأول مرة بعد عماده، كيف
كان يشعر بالاكتفاء عندما يرى تقليداً لطقس أسسه المسيح نفسه دون أن يشعر بأي حاجة
إلى شرح تفصيلي يتخلل الصلاة ذاتها … وكذلك أيضاً بالنسبة للعلاقة بين
الإفخارستيا المسيحية وتقليد مائدة المحبة في الطقس اليهودي، فمنْ مِنْ الأُمميين
المتنصرين كان يمكن أن يفهم أو يخطر على باله أن يسأل من أجل توضيح هذه العلاقة؟ …
أمَّا اليهودي المتنصر فكان شعوره بأن ما يجري أمامه في الإفخارستيا هو بعينه
التقليد الأول إنما في معناه المسيحي الجديد، والأواشي هي بعينها البركات
والطلبات الأُولى إنما مُصاغة بمفهومها المسيحي للعهد الجديد، كان ذلك يكفيه كل
الكفاية ليذكره بالمسيح وما قاله وما عمله على العشاء الأخير. فلم يكن يشعر بأية
حاجة إلى مزيد من وصف تكراري. وقداس “أدّي وماري” يعبِّر عن هذه الحقيقة في
جملته التي يستعيض بها عن رواية التأسيس كلها بقوله مخاطباً المسيح: (نحن
تسلَّمنا بالتقليد “الرسم” الذي انحدر إلينا منك). ولكن بمجرد أن شاع تداول
الأناجيل في نهاية القرن الأول وبداية القرن الثاني بدأ التقليد الإفخارستي يقتبس
منها مباشرة نصوص التأسيس.]([9])
أه.

ولكن “دكس” يخطئ عندما
يعتقد([10])
أن قول الشهيد يوستين: [إننا تعلَّمنا أن الخبز يصير إفخارستيا بواسطة كلمة
الصلاة التي انحدرت إلينا منه (من الرب)
]([11])
أن هذا يعني نفس كلمات التأسيس كما نقرأها ونسمعها اليوم، لأن ما نقرأه وما نسمعه
اليوم في الإفخارستيا هو وصف لهذه الكلمة وليست هي الكلمة بذاتها،
أمَّا كلمة الرب التي قدَّس بها الخبز فعلاً فهي في الحقيقة البركة التي نطقها على
الخبز مباركاً الله الآب، والخبز موضوع على يديه وهو ناظر نحو الآب إلى السماء!
وهذا ما يمارسه الكاهن الآن تماماً وبالحرف الواحد في طقس تقديم الحمل في الكنيسة
القبطية! هذا هو سر [كلمة الصلاة التي انحدرت إلينا من الرب نفسه] التي يقصدها
يوستين الشهيد التي حوَّلت آنئذ، وما زالت تحول حتى اليوم، الخبز إلى إفخارستيا!

“التأسيس” ومفهوم
“الاستدعاء”
Epiclesis

“التأسيس” هو الكلمات
التي أسس بها (أو رسم) الرب العهد الجديد بدمه، على الخبز وعلى
الكأس، ليلة العشاء “الأخير”. وهي تسمَّى كلمات “التأسيس” أو كلمات “العهد”
أو “الحد” (الحد الأخير بين العهدين). وكلمة “الحد” هي كلمة “الرسم”
نفسها وهي كلمة “القانون”
Canon، وهي أيضاً تترجم بالسريانية “دستور”. ولكن ينبغي أن نكرر هنا ما
سبق وقلناه أن الرب ليلة العشاء الأخير لم يقل “وأخذ خبزاً على يديه وشكر وباركه
وقدَّسه وأعطاه لتلاميذه … وهكذا الكأس أيضاً بعد العشاء …” إلخ هذا لم يقله
المسيح قط، ولكن هذا مجرد وصف لما قاله وعمله المسيح لكي يقدِّس به الخبز والكأس!

إذاً، فماذا قال
المسيح؟ وما هي الكلمات الفعلية التي قدَّس بها الإفخارستيا؟ هذا كما سبق وقلناه
واضح أشد الوضوح
في “طقس التقدمة” في
الكنيسة القبطية حيث يقف الكاهن والخبز على يديه ويقول ما قاله المسيح مباشرة
مخاطباً الله “مبارك الله الآب ضابط الكل” ويرد الشعب “آمين”! حيث يرد الشعب هنا
على قول المسيح!

إذاً، ف “التأسيس” لا
يمكن أن يكون إلاَّ بالمخاطبة العملية لله بنطق البركة باسم الله، هذا الذي
استلمته الكنيسة من المسيح وأعطته الصبغة المسيحية،
إذ جعلت
البركة باسم الثالوث:

[مبارك الله الآب ضابط
الكل. آمين

مبارك ابنه الوحيد يسوع
المسيح. آمين

مبارك الروح القدس
الباراكليت. آمين]

ويبدو أن صيغة البركة “باسم
الآب والابن والروح القدس”
على الخبز والكأس سلمها المسيح لتلاميذه أيضاً كما
سلمهم نفس هذا الدعاء “باسم الثالوث الآب والابن والروح القدس” على المعمَّدين:
» عمدوهم باسم
الآب والابن والروح القدس
«(مت 19: 28). فالنداء باسم الثالوث على الخبز والخمر في الإفخارستيا هو تسليم من المسيح، وهو نفسه الذي أشار
إليه الشهيد يوستين بقوله:

[إن الخبز يصير إفخارستيا
بواسطة “صلاة الكلمة أو كلمة الصلاة” التي انحدرت إلينا منه (المسيح)].

ولكن هذا هو هو عينه
الدعاء بالاسم المسمَّى
Epiclesis أو Invocation حيث يدعو الكاهن الله بالاسم الشخصي للآب “ضابط الكل”
بانطوكراطور،
وبالاسم الشخصي للابن “الوحيد
المونوجينيس”،
والاسم الشخصي للروح القدس “المعزي الباراكليت”.

ثم هذا هو الذي ذكره
الآباء الأوائل تحت اصطلاح الاستدعاء
Epiclesis أو Invocation، كما مارسه الرب نفسه وكما استلمه الرسل منه. وقد أشار إليه
الآباء إشارات واضحة وكثيرة لا تقبل الشك ونورد منها ما وصل إلى أيدينا:

1 يقول
كليمندس نقلاً عن ثيئودوتس المصري سنة 160م:

[إن “الخبز”
يتقدَّس “بقوة اسم الله” … بهذه القوة يتحوَّل إلى قوة روحية.]([12])

2 وتقول
الدسقولية (سوريا سنة 250م):

[إذ يوضع الخبز
النقي الذي خُبز بالنار وقُدِّس بالاستدعاء (الاسم). أمَّا الصلوات فتقبل بتوسط
الروح القدس و «الإفخارستيا» تتقدَّس بواسطة الروح القدس.]([13])

3 ويقول
إيرينيئوس (سنة 202م):

[لأنه كما أن “الخبز”
الذي من الأرض حينما يقبل “الدعاء باسم الله” لا يعود بعد خبزاً عادياً بل
إفخارستيا…]([14])

4 ويقول
أوريجانوس (سنة 200254م):

[و “خبز” الإفخارستيا
هو الذي فوقه يُدعى باسم الله والمسيح والروح القدس.]([15])

5 ويقول
أيضاً:

[وإذا كان الشخص لكي
يُسمح له بأن يأكل من خبز الوجوه يلزم أن يكون طاهراً (1صم 4: 21): فماذا إن كان
سيتناول من “الخبز” الذي هو أعظم من خبز الوجوه، “هذا الذي” استُدعي
عليه اسم الله والمسيح والروح القدس،
ألا ينبغي أن يكون هذا الإنسان أكثر
طهارة حتى يتناول بالحق من الخبز للخلاص وليس للدينونة.]([16])

6 ويقول القديس أثناسيوس الرسولي (سنة 295
373م):

[وسترون الشمامسة
(اللاويين) يحضرون الخبزات وكأس الخمر ويضعونهما على المائدة، وطالما الاستدعاء
والصلوات لم تبتدئ فإنهما يكونان خبزاً وخمراً فقط.]([17])

7 ويقول سيرابيون
أسقف تمي في خولاجيه
(سنة 330م):

[فاجعل الذين يشتركون
فيه (في خبز الإفخارستيا وكأس الإفخارستيا) يحصلون على ترياق الحياة … لأننا
دعونا باسمك أنت غير المخلوق (الأبدي) بواسطة وحيد الجنس (مونوجينيس) وبالروح
القدس].

8 ويقول كيرلس
الأُورشليمي
(سنة 350م):

[لأنه كما أن الخبز
والخمر في الإفخارستيا قبل استدعاء الثالوث الكلي القداسة والعبادة كانا
مجرد خبز وخمر …]([18])

9 ويقول ثاوفيلس
الإسكندري البطريرك 23
(سنة 400م):

[إن “خبز الرب” الذي
يُستعلن فيه جسد المخلِّص والذي نكسره من أجل تقديسنا، والكأس المقدس، هذان اللذان
يوضعان على مائدة الكنيسة … يتقدسان باستدعاء “الاسم”
Invocation وبمجيء الروح القدس.]([19])

10نيلس
السينائي
(توفى سنة 430م):

[بعد الاستدعاءات
المهيبة ونزول الروح الصالح المحيي المسجود له، فإن الأشياء التي كانت موضوعة على المذبح لا تعود بعد مجرد خبز وخمر،
ولكنها تصير
جسداً ودماً كريمين زكيين.]([20])

ومن هذه النصوص يتبين
لنا أن كلمة “الدعاء”
Invocation تعني تماماً
الدعاء باسم الثالوث
الآب والابن والروح القدس الذي يُدعى
به على الخبز، أو كما يقول أوريجانوس يُدعى به “فوق” الخبز.

وإن كان بعض الآباء،
يختصرون في القول عندما يذكرون أن الخبز يتقدَّس بالاستدعاء وحسب فإن بعض
الآباء أوضحوا أنه باسم الله تمَّ، ثم كشف لنا بقية الآباء بغاية الوضوح والتأكيد
أن هذا الاستدعاء هو باسم الثالوث، وبعضهم حددوا اسم الآب والابن والروح
القدس، وبعضهم كشف بالأكثر لماذا يحدث التقديس عند الدعاء باسم الله عندما ذكروا
أن اسم الله “قوة”، فقوة اسم الله عند الدعاء به فوق الخبز تُحوِّل الخبز إلى قوة
روحانية!

كما يُلاحظ أن الآباء
الأوائل اكتفوا بأن تقديس “الخبز” والخمر يحدث باستدعاء الثالوث.

أمَّا الآباء المتأخرون
نوعاً ما قبل البابا ثاوفيلس الإسكندري فبدأوا يذكرون أن التقديس يحدث بالاستدعاء
وبحلول
الروح القدس.

وبعضهم مثل الدسقولية
أوضح أن بالاستدعاء باسم الله يَحْدُث تقديس الخبز، أمَّا بالروح القدس فتتقدَّس الإفخارستيا.

كما يُلاحَظ أن بعض
الآباء ذكروا الاستدعاء بالجمع
(استدعاءات)، ولكنَّه في الحقيقة مثنَّى، فَهُما استدعاءان الأول
باسم الثالوث على الخبز والخمر، واستدعاء ثانٍ لحلول الروح القدس.

كذلك فإنه تبين لنا من
النصوص الأكثر قدما أن بمجرد الدعاء باسم الثالوث على “الخبز” والخمر
يتقدسان ويصيران في الحال إفخارستيا أي جسد ودم يسوع المسيح. وهذه إشارة ضمنية إلى
اقتناع الكنيسة في العصور الأولى بمدى اكتمال فاعلية الاستدعاء باسم الآب والابن
والروح القدس لتقديس الخبز والخمر في “طقس التقدمة” الذي نعرفه جيداً الآن من واقع
ممارسته الفعلية في الكنيسة القبطية حتى اليوم.

كذلك
نلاحِظ من أقوال الآباء أن الآباء الأوائل يركزون على أن الاستدعاء يتم “على
الخبز”

فقط حيث لا يذكر

الكأس، مما يوضح أن طقس الاستدعاء باسم الثالوث (ونطق
البركة باسم الثالوث)
كان يتم على “الخبز” فقط، أمَّا الكأس فكان يصلَّى
عليه “صلاة الشكر” حسب التقليد، الذي بها يتم التقديس على الكأس. ونلمح هذا من قول
القديس أثناسيوس الرسولي عندما يذكر أن بالاستدعاء
ثم “الصلوات” يتم التقديس، أي يتم بهما تقديس الخبز و “الخمر” حيث الصلوات
التي
يقصدها هنا أثناسيوس هي صلوات
الشكر التي كانت تُقال على الكأس ولا تزال تُقال حتى اليوم في
“التقدمة”: [فلنشكر صانع الخيزات …]، وفي بداية
الإفخارستيا: [مستحق وعادل أن نسبحك ونشكرك … إلخ].

ولكن نلاحظ أن الآباء
المتأخرين يذكرون أن الاستدعاء يتم على “الخبز والخمر”. وهنا ينكشف حدوث
تعديل طقسي في وضع
التقديس على الخبز إذ
يضاف إليه الكأس فيصير الدعاء باسم الثالوث وتلاوة البركة على الخبز والكأس معاً
كما هو حادث الآن تماماً في “طقس التقدمة” (إذ يضع الكاهن على يده اليسرى
القربان، ويقدِّم الشماس قارورة الخمر بيده أمامه فيرسمهما معاً باسم الآب والابن
والروح القدس).

ومن هذا العرض السريع
لمقولات الآباء عن الاستدعاء يتضح:

1 إنه بدأ
بمفهوم واحد وهو الدعاء بالاسم فقط اسم الله في الثلاثة الأقانيم وذلك على الخبز
أو الخمر الموضوعين على المذبح (أو على كف الكاهن). وهذا يعني أن أصل الاستدعاء
Invocation في الإفخارستيا لم يبتدئ بنظرية “الحلول الشخصي Personal Presence” كما يعتقد “أويسترلي” في كتابه: “الخلفية اليهودية لليتورجيا
المسيحية”([21])،
ولكنه بدأ بدعاء الاسم وبالتحديد اسم الثالوث فوق الخبز والخمر لكي تحل فيهما
“قوة” اسم الله. وهذا تقليد طقسي قديم يقوم على مفهوم ذبائحي كتابي.

2 ثم بعد
ذلك بدأ
الاستدعاء يشمل الحلول الشخصي، ولكنه انحصر
أولاً في مفهوم حلول المسيح بصفته اللوغس الكلمة ليصير الخبز جسداً على أساس
لاهوتي بحسب إنجيل يوحنا، وبدأ هذا في مصر بصورة خاصة. كما يتفق في ذلك كل الآباء
ما قبل القرن الرابع. وقد بدأ هذا الحلول أن يكون على الخبز والخمر، ثم امتد ليشمل
المتناولين على أساس
» حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في
وسطهم.
«(مت 20: 18)

3 ثم تطور
الاستدعاء بعد ذلك ليشمل حلول الروح القدس على أساس ما تمَّ في الأردن([22])
ويوم الخمسين. ولكن يبرز هنا تقليد الرسل لهيبوليتس ليعارض هذا التسلسل الزمني،
ولكن يظن كثيرٌ من العلماء يظنون أن استدعاء الروح القدس في التقليد الرسولي مضاف
في زمن متأخر عن زمن هيبوليتس (ريتشاردسن).

ومن ذلك نستخلص أن هناك
مفهومين أساسيين للاستدعاء
Invocation:

الأول: ويعتبر
الأساس والأصل، وهو “الدعاء بالاسم” فقط وذلك للتقديس، وهذا يتم حرفياً في طقس
“تقديم الحمل” في مصر، وموضعه على الخبز والخمر أثناء البركة عليهما باسم الآب
والابن والروح القدس، أي أنه هو هو ذات التأسيس.

والثاني: امتداد
وتطور عن الأول، وهو استدعاء للحلول الشخصي بالنسبة للأقنوم الثاني ثم الثالث على
التوالي بالترتيب الزمني لتطور الإفخارستيا. وموضع هذا الحلول في الإفخارستيات
المختلفة يأتي في مكانين:

المكان الأول: بعد تقديس
الخبز والخمر، أي بعد التأسيس (العملي). وهو الأصل والأقدم كما في طقس تقديم الحمل
في مصر (حلول الكلمة).

والمكان الثاني: وهو التطور
المطابق لطقس تقديم الحمل ويأتي في كل الإفخارستيات (ما عدا روما) بعد التأسيس
أيضاً.

والذي أربك العلماء في
دراسة “الاستدعاء
Invocation” هو اعتبارهم أنه استدعاء واحد بصفة نهائية ويختص بالحلول الشخصي
للروح القدس، وأهملوا نهائياً الدعاء بالاسم الذي هو الأساس، مع أن كلمة
™pikale‹n, ™pikšklhtai, ™p…klhsij كلها تختص بذكر الاسم.
وبالرغم من ذلك فقد انحرف العالِم أويسترلي واتجه ناحية إثبات أصول الاستدعاء من
التقليد اليهودي على أساس الحلول الشخصي فقط
([23]).

ولكن الأصح
هو ما أثبته الطقس أمامنا بنصوصه أن الاستدعاء قد مَرَّ على مرحلتين متتابعتين
معاً ومتقاربتين جداً وربما في القرن الأول، ولكن بدأ بلا نزاع باستدعاء الاسم كما
حدث على يدي المسيح حينما نادى باسم الله الآب وباركه على الخبز والخمر، كما
يمارسه الكاهن القبطي تماماً بعد تلاوة صيغة النداء بالثالوث قبل نداء كل أقنوم
باسمه.

ثم تطور
الاستدعاء بالاسم إلى الحلول الشخصي حينما التزم الرسل باستدعاء المسيح نفسه
للحضور حسب وعده، وقد حقق المسيح هذا الحضور عياناً مرات كثيرة وفي أثناء إقامة
“كسر الخبز” في “أول الأسبوع” مما جعل الاستدعاء الشخصي هو القطب الجاذب والملفت
لانتباه الكنيسة كلها باحتساب أنه قد يظهر ويتراءى علانية بعد البركة وكسر الخبز.

على أنه ينبغي ألا يفوت عن بالنا أن “الاستدعاء بالاسم” الذي هو
استدعاء الثالوث على الخبز والخمر الذي يتم في “تقديم الحمل” الذي يعتبر أنه
“التأسيس” الأصلي يقوم على أساس تقليدي كتابي قوي للغاية يشمل كل قوة العبادة
اليهودية على مدى العهد القديم كله. وقد أفرد لذلك الموضوع العالِم “أرميتاج
روبنسن
Dean
Armitage Robinson
([24]) بحثاً مستفيضاً يثبت فيه أن التقديس في الإفخارستيا يقوم
على الدعاء بالاسم، ولكن للأسف، لم يضع هذا العالِم يده على الحقيقة تماماً لأنه
لم يعثر على الموضع الذي تستخدم فيه الإفخارستيا “الدعاء بالاسم”، فجاء بحثه نظرية
غير محققة أو كمجرد تخمين. لذلك استطاع العالِم “أويسترلي” أن ينقده ويستخف
بنظريته.

ولكن أهم
ما يسترعي انتباهنا في بحث العالم “أرميتاج” قوله:

[في كل من العبادة اليهودية والكنيسة المسيحية الأُولى ظل اسم الله (وكيفية الدعاء به) ممنوعاً ومحتجباً من الذين
لم يعرفوه بعد.
والسبب في هذا الاحتراس هو الاحتفاظ “بالقوة” المتوارثة من “ذكر الاسم”، وهذا
بالتالي طُبِّق بصورة حرفية في الكنيسة
(إذ جعلوه تسليماً سرياً خاصاً بالكهنة فقط ولا يُعلَّم به الشعب أو يقال أمامهم “يقدِّس الكاهن سراً والستارة مرخية” الدسقولية). وقد أوضح ذلك الكُتَّاب الأوائل الذين تحيروا بسبب
الغيرة الشديدة التي كانت تُبديها الكنيسة
في حراسة مواد الإفخارستيا وتقديسها.]([25])

ويعلِّق
على ذلك “أرميتاج” نفسه بقوله أن تقليد الكنيسة متوارث لأن “قوة النداء باسم الله”
كانت هي مركز العبادة اليهودية.

ولكن
في نظرنا نحن أن دعاء المسيح نفسه بالبركة لاسم الله الآب على الخبز وعلى الخمر
ليلة العشاء، هو في الواقع محور التضخم في سرية الدعاء بالاسم في الكنيسة الأُولى،
فهو المحور الذي انتقل عليه التقليد من اليهودية إلى الكنيسة المسيحية مضروباً في
مائة ضعف. لأن التقليد اليهودي الخاص بالبركة الذي كان يُحتسب أنه تعليم الناموس
أو الشيوخ جعله المسيح عندما مارسه بنفسه تعليماً
إلهياً ذا فاعلية أقوى مما كان له في العهد القديم ألف مرة.

وأهم
ما يعنينا في تصريح أرميتاج بالنسبة لدراسة التاريخ الإفخارستي وخاصة الجزء
المعروف ب “تقديم الحمل” وهو الجزء الوحيد من الإفخارستيا الذي يجري فيه الدعاء
باسم الثالوث بدقة ووضوح ومهابة على الخبز والخمر، إنه بسبب كون هذا الدعاء يحمل
كما يقول أرميتاج سر
التقليد وفاعليته أي “يحمل سر قوة النداء باسم الله” وحلولها في الخبز
والخمر، أصبح هذا الجزء من الإفخارستيا هو أكثر الأجزاء سرية واحتجاباً، فلم
يُوضَع بالكتابة في المخطوطات الأُولى ولم يذكر تفاصيله ولا عباراته حتى في
المخطوطات الأكثر حداثة فيما قبل القرن العاشر، بل كان يلمح عنه تلميحاً، كأن تقول
الدسقولية مثلاً أن “الكاهن يحمل الخبز والخمر وأمامه الأسقف يحمل البخور يدورون
حول المذبح مجداً للثالوث”. وكان يسمَّى آنئذ ب “الدعاء” فقط، ثم بعد ذلك
بأكثر تصريح يسمَّى “الدعاء بالاسم” ثم “الدعاء باسم الثالوث”، ثم “الدعاء
باسم الآب والابن
والروح القدس”.
ولكن لم يُذكر ولا مرة واحدة من المرات
كيفية هذا الدعاء ومنطوقه! لأن الكنيسة كانت تدرك أن في ذلك يكمن سر “قوة” الاسم
المتوارثة، أي “قوة ميراث المسيح في الله” التي ورثتها الكنيسة، وهي كل الذخيرة
التي آلت إليها من ليلة العشاء الأخير! لذلك ظل طقس “تقديم الحمل” وما يجري فيه
غير مذكور بالمرة في المخطوطات. فنجد أن الديداخي لا تأتي ولا بكلمة واحدة بخصوصه
إلاَّ النداء الخاص به فقط: [مَنْ كان طاهراً فيلتقدَّم ومَنْ كان غير طاهر فليتب].
والتقليد الرسولي لهيبوليتس يعبر عليه دون أن يذكره بكلمة أكثر من أن الأسقف “يضع
يديه على الخبز والخمر”. وكذلك سيرابيون، بل وكل المدونات الإفخارستية على وجه
العموم وبدون استثناء، أغفلته عمداً وحجبته عن الشعب، العامة منه والخاصة، وجعلته
تسليماً وتعليماً سرياً خاصاً بالكهنة فقط. ولذلك وللأسف ضعف مفهومه وقلت الدراية
به حتى توارى نهائياً وفقد نفس قيمته العملية السرية التي كانت هي الداعي الأول
إلى توقيره والاهتمام به.

وببساطة
يمكن أن نقول أن ما يسمَّى الآن بالتأسيس
Institution هو في حقيقته الأُولى الذي كان يسمَّى عند الآباء
الأوائل “استدعاء الاسم”
Invocation of the Name والذي كان في اعتقادهم ذا فعل مباشر في التقديس([26])
أي التقديس الكامل لمواد الإفخارستيا. بمعنى أنه بمجرد استدعاء اسم الثالوث (الكلي
القداسة والعبادة) على الخبز والخمر يصيران جسداً ودماً للمسيح نفسه تماماً كما في
العشاء الأخير. ولحظنا السعيد ظل “استدعاء الاسم” بكل مواصفاته الرسمية في طوره
الجنيني
Embrionic
Stage
كما
هو منذ العشاء الأخير حتى اليوم في مصر في طقس “تقديم الحمل”. وعلى نمطه تماماً
تشكل ومنذ القرن الأول أيضاً وبيد الرسل أنفسهم خدمة للأُمم
وصفاً كاملاً دقيقاً لهذا الاستدعاء لاسم الله بالبركة الذي تمَّ ليلة العشاء
الأخير كما ورد في الأناجيل “أخذ خبزاً على يديه “وبارك” الله
وقال هذا جسدي وكسر وأعطى”
» وأخذ كأساً (وبارك) وشكر وأعطى وقال هذا دمي « فصار هذا الوصف
الكامل الدقيق “الدعاء بالاسم” (بالبركة)
الذي حدث
ليلة العشاء الأخير هو طقس الاستدعاء المتوارث، ولكن قليلاً قليلاً أهمل الاستدعاء
العملي الأول، ثم نُسِيَ ذكره، ثم أُسقط نهائياً باعتباره إجراءً إفخارستياً له
فعله التقديسي، وبقي التأسيس الوصفي ونُسِبَ إليه كل فعل التقديس الذي
“لاستدعاء الاسم”، خصوصاً بسبب الانتقال من الوصف إلى التشخيص في قوله “هذا هو
جسدي”، “هذا دمي”.
التأسيس الوصفي: di£taxij

والآن
نعود إلى التأسيس في الأنافورا، ولكن واضعين كأساس لرؤيتنا في دراستنا أن التأسيس
كما هو في أي أنافورا حالياً هو في أصله الأول عبارة عن الدعاء باسم الثالوث
“الكلي القدس والعبادة” بالبركة على الخبز والخمر كما يتم في “تقديم الحمل”، إنما
تُقدِّمهُ الأنافورا بصورة وصفية بمقتضى ما تمَّ ليلة العشاء الأخير. ولهذا يبتدئ
التأسيس بهذه الرواية: [لأن ابنك الوحيد ربنا … يسوع المسيح في الليلة التي أسلم
ذاته فيها ليتألم عن خطايانا … أخذ خبزاً …].

ثم يدخل مباشرة في وصف
ضمني للدعاء بالاسم كما قاله المسيح دون أن يذكر تفاصيله علناً مكتفياً بما تمَّ
سرًّا في “تقديم الحمل” إذ يقول: [وأخذ يسوع خبزاً “وبارك” مت 26: 26]
وهنا نستعير التسجيل الذي في الأناجيل مؤقتاً حيث لا يُذكر “شكر
وباركه وقدَّسه” بل “بارك” فقط لأن هذا هو ما تمَّ فعلاً، أي أن
المسيح نادى باسم الله الآب مباركاً اسمه. ولكن جميع الإنجيليين وكذلك بولس الرسول
في رسالته إلى كورنثوس امتنعوا عن ذكر ما هي هذه “المباركة” وكيف قيلت ولمن قيلت؟
ولكن الكنيسة ظلت تمارس هذه البركة في طقس التقديم سراً إنما بصورة تسليمية كاملة،
ثم بدأت تفصح قليلاً إنما بطريقة طقسية عن ما يتم في هذه البركة في الإفخارستيا
العلنية في ما يسمَّى الآن ب“التأسيس”، حيث يصف الكاهن البركة المثلثة للآب والابن
والروح القدس بدون تكرار النداء بالاسم، فيقول “فوق” الخبز وهو على يديه “وشكر،
وباركه، وقدَّسه”
بثلاث حركات (رسم الصليب) على القربانة، علماً بأن هذه
الأفعال الثلاثة هي واحد أصلاً ومعنىً وأثراً! لأن الأناجيل قالت فقط: “وبارك”،
فتكرارها هنا متعمد ليشير إشارة سرية رائعة إلى مباركة الثالوث بنداء اسم الآب
والابن والروح القدس التي تمت سابقاً في “طقس تقديم الحمل”
= [مبارك
الله الآب ضابط الكل آمين. مبارك ابنه الوحيد يسوع المسيح آمين. مبارك الروح القدس
الباركليت آمين].
ويُلاحَظ أن كلمة
“آمين” التي يَرُدُّ بها الشعب كله (الشماس الآن خطأ) بعد كل بركة لكل أقنوم هي
نفس كلمة “آمين” التي يَرُدُّ بها الشعب كله بعد كل فعل من الثلاثة الأفعال “وشكر”،
“وبارك”، “وقدَّس” في القداس الوصفي.

ونعود ونذكِّر القارئ
أن قدَّاس الإفخارستيا هو تطبيق وصفي دقيق لطقس “تقديم الحمل” إنما مشروحاً
ومفسَّراً علماً بأن كلمة “بارك” بالعبرية تعني “شكر” أيضاً،
وتعني “قدَّس” بالضرورة، إذا كانت موجهة لله.

ولكن الذي نريد أن
نؤكده أن كل خصائص ومفاعيل الدعاء باسم الثالوث بالبركة على الخبز والخمر
في طقس “تقديم الحمل” (الذي يستمد قوته أصلاً من بركة المسيح على الخبز والكأس
ليلة العشاء) انتقلت بكاملها إلى “تأسيس” في الأنافورا الوصفية وهذه
الخصائص هي التقديس وصيرورة الخبز جسداً للمسيح والخمر دماً للمسيح الذي هو جوهر
“الإفخارستيا”، لأن الإفخارستيا بحد ذاتها هي “فعل” تقديسي.

والتركيز بهذه الصورة
على التأسيس كمركز تقديس يكشف لنا عن سر عدم وجود استدعاء للروح القدس في تقليد
ليتورجية “روما” واعتبار “التأسيس” فيها طقساً ولاهوتاً
هو لحظة وفعل التقديس بالنسبة للتأسيس وأصله باعتباره استدعاء
“الثالوث” بالدرجة الأُولى ولكن للأسف لم تحتفظ بوعيه، فبقي الطقس
وسقط الوعي. وهكذا ظلَّ غياب استدعاء الروح القدس في ليتورجية روما حتى اليوم مصدر
حيرة وقلق ودراسات بلا نتيجة مع شعور بالنقص من جهة “التقديس”، الأمر الذي انتهى
ببعض العلماء مثل “دكس” لكي يُنكر أهمية فعل “التقديس” من الإفخارستيا
عموماً دفاعاً عن طقس روما الأمر الذي لا يجوز إطلاقاً، إذ يقول:

[وبقولنا هذا وبتأكيدنا
على أن الصلاة (الإفخارستيا) من جهة الغرض منها أصلاً ليست هي “صلاة تقديس” ولا
“صلاة صعيدة” ولكن “صلاة شكر إفخارستيا”، إذاً، فليس هناك حاجة أن
نناقش الفكرة الشائعة الرائجة في العالم أن الصلاة في الإفخارستيا هي للتقديس …
فالتقديس في الحقيقة هو فقط في وصف التقدمة وقبولها كذبيحة.]([27])

هذا في الواقع تجنٍّ
مريع على طقس الإفخارستيا كله لأن حتى الشكر في حد ذاته هو تقديس!!

أمَّا
ردنا على هذا فهو أن الإفخارستيا لا تكون إفخارستيا بالمرة إلاَّ بصلاة التقديس، فالتقديس
أولاً هو الذي يجعلها “إفخارستيا”والتقديس هو “فعل” محدد أُعطي
للكنيسة سرُّه، وسرُّه هو “ميراث قوة الاسم” المسلَّم من
المسيح رأساً اسم الثالوث حينما ينطقه الأسقف أو الكاهن بالبركة
كأمر الرب كما هو حادث في المعمودية تماماً وأي إنكار
لفاعلية التقديس بنطق اسم الثالوث سواء في المعمودية أو الإفخارستيا يخرجنا في
الحال عن دائرة “السر”، وبالتالي عن الله.

ولكن خداع النظر الذي
وقع فيه “دكس” كان بسبب كما يقول هو غياب حتى التأسيس
من بعض الأنافورات مثل أنافورا “كيرلس الأورشليمي”([28])
وبعض نصوص آباء ما قبل القرن الثالث([29]). ولكن ردنا
على ذلك أن التأسيس أصلاً هو “فعل”
action داخل الإفخارستيا منحدر بالتسليم كانت الكنيسة
تمارسه قبل أن تحوِّله إلى وصف داخل الأنافورا. فحتى غياب “التأسيس” الوصفي
من الأنافورا لا ينقص من الأنافورا لأنه يشرحها فقط، أمَّا حدوث التقديس بالفعل
فيتم وقت التقديم عملياً.

ولكن يعود “دكس”
ومن
واقع الأنافورات عامة، ويعترف أنه بمجرد أن كان يدخل “التأسيس” أية أنافورا،
كان يصير في الحال هو مركزها،
حيث تشير إليه الصلوات
وتنبثق منه([30]).
ولكن هذا الاعتراف في الواقع يبقى ضعيفاً مهتزاً لأن السؤال المترتب على ذلك يكون:
وماذا قبل أن يدخل “التأسيس” داخل الأنافورا؟ وهل
تعتبر
الأنافورا آنئذ أنها كانت بلا مركز أو بمعنى آخر أنها كانت بلا قوة تقديسية؟
الحقيقة غير ذلك لأن كل الإفخارستيات التي كان يتكلَّم عنها بعض آباء ما قبل القرن
الثالث وكما يقول دكس التي كانت بدون “رواية”
التأسيس كانت إفخارستيات ذات قوة وذات فعالية، ومنها ورثت الكنيسة حتى اليوم قوتها
وكيانها. هنا يظهر بلا لبس وبلا شك أن الطقس العملي في “التقديم” آنئذ
والذي سبق الأنافورا وجوداً وتاريخاً كان مستوفياً كل
الشروط اللازمة للإفخارستيا للتقديس عملياً، لذلك فإن غياب رواية التأسيس من
الأنافورا قديماً لم يؤثر في قوة التقديس وحدوث إفخارستيا مقبولة
مائة بالمائة.

التأسيس في أنافورا
القديس مرقس والبرديات الموازية:

والآن نأتي لدراسة
واقعية “للتأسيس” كما
يجيء الآن في أنافورا
مرقس الرسول (الكيرلسي) متتبعين نموه وتطوره على ضوء البرديات والمخطوطات الموازية
التي احتفظت لنا برواية التأسيس. وهذه هي:

1 مخطوطة
باللغة اليونانية على رق الغزال محفوظة تحت رقم 465 في مكتبة “ج. رايلاند” في
مانشستر، وقام بنشرها “ك. ه. روبيرتسن” وهي مخطوطة من القرن السادس. ويقرر ناشرها
أنها كثيرة الشبه والتطابق للنص القبطي لمار مرقس وكثيرة الاختلاف مع النص
“الملكاني” الخلقيدوني البيزنطي لمار مرقس. ويبدأ النص فيها من بعد تسبحة
الشاروبيم حتى نهاية استدعاء الروح القدس([31]).

2 مخطوطة
باللغة القبطية محفوظة في مكتبة لوفان تحت رقم 27. أعاد بحثها “لوفور” في منشورات
موزون 53 (1940)([32]).

3 مخطوطة
سيرابيون (انظر صفحة 532).

4 مخطوطة
دير البلايزة (انظر صفحة 552).

 

نص التأسيس

أولاً جملة الربط قبل
“لأن … في الليلة”

يُلاحَظ
أن في جميع القداسات المصرية تأتي رواية التأسيس غير مرتبطة بتسلسل منطقي لجمل
سابقة، فهي تأتي خاصة بذاتها بدون توقُّع مسبق بعكس كل القداسات ذات الطابع
السرياني، فإن “تلاوة التأسيس” تأتي مرتبطة منطقياً بما يسبقها من شكر
على تدبير التجسُّد والفداء،
هذا ما جعل أنافورا سيرابيون تمهد لرواية التأسيس
بتوسُّل اعترافي مشار إليه في النص بالرقم (2) يقابله في أنافورا مرقس الرسول جملة
اعتراضية أصغر حجماً وأقل توسعاً مُشار إليها أيضاً
بالرقم (2).

 

بردية دير البلايزه

(مكتوبة في القرن
السادس)

وتمثِّل القرن
الثالث

أنافورا سيرابيون

(منتصف القرن
الرابع)

أنافورا القديس مرقس
الرسول

(نسخة القرن الثالث
عشر)

 

أ

املأنا نحن أيضاً من
مجدك

وتفضل وأرسل روحك
القدوس على خليقتك هذه أيضاً

يا رب القوات املأ
أيضاً هذه الذبيحة بقوتك وشركتك.

املأ الصعيدة التي لك
يا رب بالبركة التي من قبلك بحلول روحك القدوس عليها بالبركة
بارك وبالتقديس قدِّس

 

 

ب

اجعل هذا الخبز جسداً
لربنا ومخلِّصنا يسوع المسيح والكأس أيضاً دماً للعهد الجديد لربنا ومخلِّصنا
يسوع المسيح

لأننا لك نقدِّم هذه
الذبيحة الحية والصعيدة غير الدموية. [(2) نحن قدَّمنا لك الخبز مثيلاً لجسد
الوحيد. هذا الخبز مثيلاً للجسد المقدَّس]

قرابينك هذه المكرمة التي
بُدِئ
(سابقاً)](2)

بوضعها أمامك]

هذا الخبز وهذه الكأس

 

لأن ربنا يسوع المسيح

 

في الليلة

لأن ربنا يسوع المسيح

 

في الليلة

لأن ابنك الوحيد ربنا
وإلهنا ومخلِّصنا وملكنا كلنا يسوع المسيح.

في الليلة

ويُلاحَظ أن الجملة (ب)
التي جاءت في أنافورا سيرابيون تتفق تماماً مع الجملة (ب) التي جاءت في أنافورا
مرقس الرسول في الإشارة إلى “التقديم” السابق، هذا يعني أن أنافورا
سيرابيون وأنافورا مرقس الرسول تعتمدان فيما سيُتلَى من الصلوات أو الكلمات على
“طقس التقديم” السابق، بمعنى أن حرف “الآن” الذي يأتي بعد الإشارة إلى
التقديم السابق (ب ب) يفيد أن كل ما أكمل حتى الآن في الأنافورا هو
حق وهو حقيقي، وهو يعتمد اعتماداً أساسياً على طقس العشاء الأخير الذي أجراه الرب
وسلَّم به سرَّه لتلاميذه وأوصاهم أن يصنعوه كما صنعه هو.

أي أن “رواية
التأسيس”
مع كل ما سيأتي بعدها هو بنظر سيرابيون ومرقس الرسول السند الأساسي
والرسمي بالنسبة للكنيسة “نحن” في كل ما قدمته عملياً منذ أول طقس التقديم،
ثم صلاة الشكر ثم التسبيح ثم طلب الملء أو الحلول.

ويمكن توضيح ذلك من
إبراز أهمية “لأن” كحرف ربط بين ما تم وما سيتم هكذا في أنافورا سيرابيون:

[نحن قدَّمنا لك
لأن الرب يسوع المسيح في الليلة التي أُسلم فيها أخذ … وقال …].

وفي أنافورا مرقس
الرسول:

[نحن سبق أن
وضعنا أمامك قرابينك … لأن ابنك … في الليلة التي أخذ … وقال …]

وهذا يعني أن
الليتورجيا بأجمعها تنقسم الآن أمامنا بكل وضوح إلى قسمين:

القسم الأول:

عملي سّري تسليمي بدون
شرح يبدأ منذ وضع القرابين على المذبح، والدعاء باسم الثالوث على القرابين، وصلاة
الشكر الصغيرة، واستدعاء اللوغوس [وهنا تعترض القراءات وقانون
الإيمان والقبلة] ثم صلاة الإفخارستيا الكبرى، ومقدِّمة التسبحة
الشاروبيمية وطلب الملء.

القسم الثاني:

نظري علني وهو وصفي
تماماً يشرح الحركات والمبادئ والأهداف تاريخياً وطقسياً ولاهوتياً، ويبدأ بحرف “لأن”
ويدخل مباشرة في رواية التأسيس حتى التناول. باعتبار أن هذا الوصف التاريخي الطقسي
اللاهوتي يؤكد ويختم و“يكمِّل” كل ما تمَّ في النصف الأول.

ويتحتَّم علينا هنا أن
نستدرك ما سبق أن قلناه من جهة تقسيم الإفخارستيا إلى نصفين، لأن التقسيم الذي اقترحه
“دكس” والذي أتينا على شرحه (صفحة 633) يعتبر
أمامنا الآن ناقصاً إذا لم نضف عليه “طقس التقدمة”، وذلك بحسب الإشارة
الواضحة (ب) التي يصرّ على أهميتها كل من سيرابيون والقديس مرقس الرسول قبل الدخول
في النصف الثاني من الأنافورا: [نحن نقدِّم لك … لأن الرب في الليلة …]

أمَّا أنافورا دير
البلايزه (ب) فلا نجد فيها هذه الإشارة إلى “التقديم” السابق قبل الدخول في
التأسيس [لأن في الليلة …] بل عوضاً عن ذلك نجد أن طلب الملء يتجاوز تقليده
ويصرّ فيه على طلب حلول الروح القدس لتحويل الخبز إلى جسد والخمر إلى دم “ربنا
ومخلِّصنا يسوع المسيح”، قبل الدخول في النصف الآخر من الأنافورا.

هذا الوضع يتعارض مع
اتفاق بعض العلماء بأن أنافورا دير البلايزه تمثِّل طقساً أقدم عهداً من سيرابيون
في 200 300م([33]).
مما لا يجعل مجالاً للشك في أن هذا الاستدعاء لحلول الروح القدس وتحويل الخبز
والخمر هو تكملة أُضيفت على المخطوطة بعد القرن الرابع، بعد طلب الملء. وهذا بحد
ذاته مرحلة من مراحل استدعاء حلول الروح القدس المأخوذ من الطقس الإسكندري. لذلك
جاء بالتالي استدعاء الروح القدس للتحويل قبل رواية التأسيس، وهذا وضع استثنائي
جداً ليس له نظير في أي أنافورا مما يشير إلى أنه طور من أطوار الاستدعاء توقف عند
هذه المرحلة فبدا ناقصاً، لذلك فإن الأنافورات الأخرى التي جاءت بعد زمن بردية دير
البلايزه نقلت حلول الروح القدس ليجيء بعد التأسيس وبعد التذكار.

أمَّا لماذا لم تشر
أنافورا دير البلايزه (طقس سنة 200 300م) كبقية تقليد الإسكندرية إلى
“التقديم السابق” كما أشار سيرابيون والقديس مرقس، فيبدو أنه لم تكن هناك
قراءات تعترض، فكان الطقس مستمراً بلا توقف، لأن بحسب شرح “سراولي” كانت أنافورا
دير البلايزه طقس إفخارستيا للمعمدين([34]). فكان يتحتم
إجراء الإفخارستيا بعد العماد مباشرة.

1 “لأن
الرب يسوع المسيح في الليلة التي أُسلم فيها”:

تشترك جميع الليتورجيات
القبطية في هذه الوصلة التقليدية التي تميز التقليد الإسكندري عامة والتي تدخل بها
الأنافورا إلى التأسيس [لأن الرب أو ربنا يسوع المسيح
في الليلة التي أُسلم فيها]، وذلك بدون أي حذف إنما توجد إضافات. ولكن مخطوطة
“لوفان” القبطية تتميز باستخدام حرف آخر غير
سÓti = لأن، إذ تستخدم kaqëj aÙtÒj Ð KÚrioj ومعناها الحرفي “كما أن الرب نفسه” أو “بمقتضى
أن الرب نفسه …”. وبه تكشف المعنى المقصود تماماً من دخول التأسيس على الأنافورا
(كما سبق وشرحنا صفحة 645) ولكن بوضوح أكثر، إذ
تعني أن ما سبق من الأنافورا
“يقوم على أساس” أو “بمقتضى” أو “بناءً على”: “أن الرب نفسه في الليلة التي أسلم فيها ذاته أخذ …”.


وبينما نجد أن بردية لوفان ومعها أنافورا سيرابيون تلتزم الاختصار المطلق في وصف
يسوع المسيح بكلمة “الرب”.


نجد بردية دير البلايزه تبدأ لتعطيه صفة زائدة “ربنا”، وتليها رقوق مانشستر
فتؤكِّد شخصه: “لأن ربنا
نفسه”.
ونعتقد أن هذا التأكيد “لشخص” المسيح يعود إلى مطابقة ما يعمله الأسقف أو الكاهن
على المذبح بالخبز والخمر على ما عمله المسيح
“نفسه”،
أي أن موقف الكاهن الخديم مستمد من المسيح رأساً.

ولكن رقوق
مانشستر (القرن السادس) تكشف عن إضافات قرنين من الزمان، فمقارنتها بأنافورا
سيرابيون (القرن الرابع) نجد أوصاف المسيح وقد زادت بأوصاف جديدة واضح فيها
الإتجاه اللاهوتي الذي يخرج عن الضرورة الإفخارستية كاشفاً عن قصد آخر جانبي:
“إلهنا”
و
“مخلِّصنا” و“ملكنا”
كلنا.

أمَّا أنافورا القديس مرقس الرسول فتعطينا إضافات لاهوتية
أخرى على أوصاف المسيح “ابنك الوحيد”. ومناداة المسيح بالمونوجينيس فقط تميز
دائماً اللاهوت الإسكندري، حيث “المونوجينيس” بدأت
كما في سيرابيون بدون أية قرينة أخرى، إذ كان المسيح يُدعى “بالمونوجينيس”.
وطبعاً كل هذه الأوصاف جاءت نتيجة المصارعات اللاهوتية التي احتدمت في القرن
الرابع وما بعده.


وبينما تشترك بردية لوفان القبطية مع أنافورا سيرابيون مع بردية دير البلايزه بعد
ذلك في الدخول مباشرة في رواية التأسيس [أخذ خبزاً]، نجد كلاً من رقوق مانشستر
وأنافورا القديس مرقس تضيفان أسباباً لاهوتية تختص بالصليب لتعكسها على مفهوم
الجسد المكسور والدم المسفوك في سر خبز وكأس العشاء الأخير. حيث نجد أن رقوق
مانشستر بعد [في الليلة التي أسلم فيها] تضيف
[عن خطايانا
ومات عن الكل]،
ولكن تُحوِّل الفعل “أُسلم” المبني للمجهول إلى
المبني للمعلوم بإضافة
[ذاته] كمفعول به
جاعلة المسيح هو الذي
أسلم ذاته
ليموت عن خطايانا. وواضح أن هذا لم يتم في هذه الليلة ولكنها محاولة لربط العشاء
الأخير بالصليب ربطاً لاهوتياً. ويلزم هنا أن ننبه أن الأفعال المبنية للمجهول مثل
“أُسلم”، و“يُكمل
في
ملكوت الله”، “يُرفع” ابن الإنسان هي إحدى
المميزات الأساسية في التقليد العبري القديم الذي مارسه المسيح أيضاً للتعبير عن
الله
“كفاعل” حيث يحذف اسم الله للتوقير الشديد،
ومثل ذلك تماماً حذف اسم الله “كمفعول به” في أفعال “وشكر” “وبارك”.
لذلك فأي محاولة للإفصاح عن الفاعل أو المفعول به في هذه الأفعال الإلهية إنما تدل
إما على التقدم في الزمن والابتعاد عن التقليد العبري القديم

عن جهل

وإما كمحاولة لتفهيم الشعب الأممي الذي وُلد مفصولاً عن التراث والتقليد العبري
القديم.


ثم تجيء أنافورا القديس مرقس وتضيف أيضاً إلى ما يُعبِّر عن أن المسيح
أسلم
ذاته بإرادته
فتقول: [أسلم ذاته ليتألم
عن خطايانا، والموت الذي قبله
بذاته بإرادته وحده عنَّا كلنا].

وهذا
الإتجاه اللاهوتي ظهر أولاً في تقليد أورشليم في ليتورجية يعقوب الرسول “النسخة
السريانية”، ثم في النسخة اليونانية المأخوذة عنها بتطويل وإسهاب أكثر: [وبينما هو
قادم على احتمال موته الإرادي المحيي بواسطة الصليب، البار من أجل الأثمة

في الليلة التي أُسلم فيها بل أسلم ذاته فيها عن حياة وخلاص العالم]
([35]).
وعلى هذا النمط أخذت جميع الليتورجيات السريانية والبيزنطية على السواء بين تطويل
كثير واختصار كثير.

ولكن لا
ينبغي أن يتوه عن نظرنا أصل الجملة بحسب الحدود الإفخارستية أنها لم تخرج عن فعل
واحد مبني للمجهول
“أُسلم”، ولكن بسبب
الكثافة الروحية واللاهوتية المذخرة في هذا التعبير الطقسي المبدع أو بالحري في
هذا الإجراء الذبائحي العميق، استلزم هذا الشرح والتطويل. وهنا ننبه ذهن القارئ
إلى أن الطقس أو الإجراء الطقسي هو المصدر الذي ينبثق منه اللاهوت دائماً: وبقدر
ما كان الطقس واعياً لما يدور فيه ينبثق منه اللاهوت في أعماق بلا حدود!! لذلك لا
ينبغي قط أن نستكثر الشرح الطقسي ولا نمل من التطويل في الليتورجيا، أليس العشاء
الأخير وبالتالي الإفخارستيا وكل القداس هو التعبير العملي الذي يبرهن لنا على صدق
حقيقة “أن المسيح صُلب بإرادته”؟

وعليك أن
تتأمل في هذه الآية:

+ » كما أحب المسيح أيضاً الكنيسة وأَسلم نفسه
لأجلها لكي يقدِّسها، … لكي يُحضرها لنفسه كنيسة مجيدة لا دَنَس فيها ولا غضن أو
شيءٌ من مثل ذلك بل تكون مقدَّسة وبلا عيبٍ … فإنه لم يُبغض أحدٌ جسده قط بل
يقوته ويُربِّيه كما الرب أيضاً للكنيسة، لأننا أعضاء جسمه من لحمه ومن عظامه …
يكون الإثنان جسداً واحداً هذا السرُّ عظيمٌ … من نحو المسيح والكنيسة.
«(أف 5: 2532)

2
“أخذ خبزاً على يديه”:

نرجو من
القارئ أن يعود ليتفهَّم الشرح المبدئي لهذا النص الإنجيلي (صفحة 153). ولكن يُلاحَظ هنا أن الكاهن يبدأ فيوقِّع
الكلمات على الحركات الموازية لها فيأخذ الخبز بكلتا يديه بحسب ما ينطق ثم يردده
من اليمين للشمال [أخذ خبزاً على
يديه]
بحسب التقليد وهو تسليم كهنوتي يعرفه الكهنة ولكنه أصلاً تقليد ذبائحي يمتد إلى
العهد القديم (انظر صفحة 281).

أوصاف اليد:

بدأ الطقس
بعدم ذكر أوصاف لليد باعتبارها يداً إلهية تحمل كل الأوصاف ولا يحملها أي وصف،
وهذا ما نجده في بردية دير البلايزه وأنافورا سيرابيون وبردية لوفان، ولكن
ليتورجية هيبوليتس تتميز عن كل هؤلاء بأنها لا تذكر اليد بل تكتفي بالقول “أخذ
خبزاً” وذلك من واقع تسجيل الأناجيل حيث لا يذكر فيها قط أن المسيح أخذ خبزاً
“على
يديه”.
إذاً، فتقليد هيبوليتس ينتمي إلى التسجيل الإنجيلي أكثر منه إلى
التسجيل الطقسي، وهو يعطي نصاً أكثر مما يعطي طقساً!!

أمَّا
أنافورات الإسكندرية التي أمامنا فكلها تذكر “اليد” وبصورة “المثنى” [يدين]
لأنها في
الواقع تصف وتشرح وتمارس معاً الإفخارستيا المسلَّمة بالتقليد الطقسي، وتشدِّد
جميعها على أن الخبز
[على] اليد
(ولكن ليتورجية يوحنا ذهبي الفم هي الوحيدة التي تقول: [
في
اليدين]).

أمَّا
بداية أوصاف اليد
([36])
فنجدها في رسالة كليمندس الروماني إلى كورنثوس 4: 33:
» يديه
الكهنوتيتين اللتين بلا عيب
«

ثم أول وصف
لليد في الأنافورات الإسكندرية نجده في بردية دير البلايزه حيث تذكر: [أخذ خبزاً
على يديه
“المقدستين”]. وتصف ليتورجية كليمندس (قوانين
الرسل الكتاب الثامن): [يديه المقدستين اللتين
بلا عيب].
ثم
تضيف
أنافورا رقوق مانشستر: [المقدستين اللتين بلا عيب
ولا دنس].
ثم تضيف أنافورا مرقس الرسول: [المقدستين اللتين بلا عيب ولا دنس
“الطوباويتين”
“المحييتين”
]. وواضح أن أنافورا القديس مرقس استعارت كلمة “المحييتين”
من ليتورجية القديس يعقوب (المتطورة) من النص اليوناني الذي تجيء فيه
“غير
المائتتين
¢qan£twn حيث النص السرياني لا يحوي هذا الوصف([37]).

ومن هذا
التدرج يتضح لنا عملية النمو في الأنافورا فيما يختص بصياغة ووصف التأسيس ليلة العشاء.

3
“ونظر إلى فوق”:

هذه
الكلمات واردة في إنجيل القديس متى الرسول:
» ورفع
نظره نحو السماء وبارك وكسر وأعطى

«(مت 19: 14)، ولكن الإنجيل يذكر ذلك في معجزة
الخمس خبزات، وليس في ليلة العشاء، وبالتالي فلابد أن تكون هذه الحركة من صميم طقس
التقديس بالبركة على الخبز وهي عملية تقديم أو تقريب أو رفع الذبيحة لله عملياً.
ولكن لا تأتي إطلاقاً على الكأس، إذ يلزم أن تكون يمين الكاهن على مستوى الكأس
تماماً ولا يرفع عينيه بل يظل مطأطأً حسب طقس الصلاة على كأس البركة. لذلك
فالأنافورات التي تميل إلى التوازي، أي تكرار ما يُقال وما يعمل على الخبز ليُقال
ويعمل على الكأس وقعت دون أن تدري في هذا المحظور إذ خالفت الطقس والتقليد الأصيل حينما ذكرت أن الرب رفع عينيه وهو يبارك على الكأس
مثل أنافورا الملكيين
الخلقيدونيين لمار مرقس([38])، وأنافورا يعقوب الرسول في التقليد البيزنطي، أمَّا
التقليد السرياني فكان أكثر
حرصاً([39]).

ولكن
الأنافورات لا تكف قط عن شرح الحركات، فلم تكتف بأن تقول: [ورفع عينيه] أي “نظر
إلى فوق”:


فنجد أولاً أنافورات لم تذكر هذه الحركة جملة، مثل بردية دير البلايزه، وقداس
سيرابيون، وبردية لوفان القبطية، والتقليد الرسولي لهيبوليتس، وكذلك ليتورجية
يوحنا ذهبي الفم.


أول مَنْ أضاف إلى “نظر إلى فوق” ليتورجية كليمندس (قوانين الرسل

الكتاب الثامن): [ونظر إلى فوق نحوك يا الله أباه].


أمَّا القديس باسيليوس في ليتورجيته البيزنطية فحاول أن يشرح هذا النظر إلى فوق
عملياً فقال: [ورفعه إليك يا الله الآب.]
([40])

وهذا في
الواقع يكشف عن وعي ذبائحي طقسي مُبدع، وهو طقس رسولي بلا نزاع وقد أخذه القديس
باسيليوس من أنافورا القديس يعقوب الرسول حسب النص السرياني.


أمَّا أنافور رقوق مانشستر فتضيف: [ونظر إلى فوق
نحو السماء
إليك يا الله أباه].


أمَّا أنافورا القديس مرقس القبطية فتضيف أيضاً على ذلك: [ونظر إلى فوق إلى السماء
نحوك يا الله أباه وسيد كل
أحد].

وواضح أن
هذه الزيادات كلها معها كلمة [ونظر إلى السماء] منقولة من طقس القديس يعقوب الرسول
حسب التقليد السرياني ثم البيزنطي، فالسرياني هو الذي بدأ يشرح التقديم إلى الآب،
والبيزنطي أكمل عليه: [ونظر نحو السماء وقدَّمه إليك يا الله أباه].

ومن هذا التدرُّج تتضح لنا عملية النمو في الأنافورا فيما يخص صياغة ووصف
التأسيس ليلة العشاء.

4
«وبارك»: الصيغة المثلثة: “وشكر وبارك وقدَّس”:

أ
توجد أنافورات امتنعت قصداً عن ذكر هذه الصيغة المثلثة للبركة على الخبز، وحتى على
الكأس، ودخلت مباشرة على كلمة “وكسر” دون ذكر البركة. لأن المعروف والمسلَّم به
تماماً أن هذه الصيغة كانت تتبع التعليم السري
Disciplina arcani وكانت هذه البركة تُسلَّم كميراث “لقوة الاسم” كما سبق شرحه صفحة 638. واكتفت الأنافورات بتتميمها
عملياً في “طقس التقديم” بالنداء بالاسم (الثالوث)، ثم بالبركة المثلثة على الخبز
و“الكأس”: [مبارك الله الآب ضابط الكل/ آمين. مبارك ابنه الوحيد يسوع المسيح/ آمين.
مبارك الروح القدس الباراكليت/ آمين]. والليتورجيات التي امتنعت عن ذكر أو عن وصف
هذه البركة داخل الأنافورا هي أنافورا سيرابيون، وأنافورا كليمندس (قوانين الرسل
الكتاب الثامن)، وأنافورا كيرلس الأورشليمي.

ب
وتوجد أنافورات وصفتها وصفاً عاماً بدون تحديد طقسي وبدون ذكر الصيغة المثلثة التي
تشير إلى النداء والبركة باسم الثالوث هي:


ليتورجية التقليد الرسولي لهيبوليتس، حيث ذكر في موضع تقديس الخبز هكذا: [أخذ
خبزاً
“وشكر” قائلاً]. ومن هذه الصيغة نفهم أن
هيبوليتس لم يحاول إعادة وصف الطقس التقليدي الذي يتم في
“التقديم”
بالرشم ثلاث مرات. وبذلك تعتبر إفخارستية هيبوليتس وصفية غير طقسية أي بدون إجراء
الرشم المثلث. وأخذت عنه ليتورجية عهد ربنا إذ تقول [أخذ خبزاً وأعطى لتلاميذه] النص السرياني المعرَّب
انظر كتاب “عهد الرب” للأب يوحنا تابت مطبوع في لبنان سنة 1975.


أنافورا بردية لوفان القبطية: وتذكر فعلين فقط وليس ثلاثة [وشكر عليه وباركه]،
وهذه أيضاً تشترك مع هيبوليتس في كونها لا تتبع حركات “طقس التقدمة”.

ج أنافورات
تتبعت حركات طقس التقدمة الثلاث وقدَّمت وصفاً لها بحكمة وحذق منقطع النظير إذ
نجحت في وصف عملية النداء والبركة باسم الآب والابن والروح القدس دون ذكرها عملياً
مكتفية بذكر المضمون المثلث للفعل أو للأفعال المتأتية من بركة الثالوث [وشكر
وبارك وقدَّس].

وهنا تنقسم
هذه الأنافورات إلى قسمين، قسم كان فيه واضع الأنافورا ملتزماً بالتقليد العبري
القديم فاهماً أن البركة هي باسم الله على الخبز وليست مباركة الخبز ذاته، فلم يقل
“وباركه” بل قال [وبارك]
مثل إنجيل
متى 26: 26
أي بارك الله عليه. وقسمٌ تحرر من
هذا الإلتزام العبري إمَّا للجهل به وإمَّا للخروج من نيره من أجل جعل الكلام
مفهوماً لدى الأمم لأن الشعب غير اليهودي لن يفهم من كلمة
“وبارك”
المضمون الذي تنطوي عليه، فسهَّل الكاتب على المستمع الأمر وقال: “وباركه”

مثل 1كو 16: 10.


أنافورات التزمت بنص التقليد العبري تماماً من جهة توجيه الشكر والبركة والقداسة
لله وليس للخبز، مثل رقوق مانشستر حيث قال الكاتب
[“وشكر”
“وبارك” “وقدَّس”]،
حيث كلمة “قدَّس” تفيد أنه “قدَّس
اسم الله” على
الخبز.


أنافورات تحررت من هذا الإلتزام مثل أنافورا القديس مرقس الرسول إذ قال: [وشكر
وباركه وقدَّسه]. ولكن على كل حال لم تستطع أية أنافورا أن تفلت من هذا الإلتزام
التقليدي الذي بحسب الطقس
العبري
في موضوع
“الشكر”، فالكل قال “وشكر”.
ومن هنا ينكشف الأصل في التقليد، لأنه لم يستطع أحد أن يقول أيضاً “وشكر الله” بل
تركها صامتة بحسب التقليد.

فلمَّا
فَصَلَ التلاميذ
العشاء (أي
الأغابي) عن
سر العشاء (أي كسر
الخبز والشكر على الكأس) صارت البركة على الخبز والشكر (الإفخارستيا) على الكأس
تأتيان تباعاً متصلتين. هذا استلزم بالضرورة أن يُرجأ كسر الخبز (أي القسمة) إلى
ما بعد
“الشكر” أيضاً على الكأس. هذا ما كان يتم
بالفعل في التقليد الرسولي الأول، وهذا ما يزال يتم بالحرف الواحد في
“طقس
تقديم الحمل”
في الكنيسة القبطية، غير أن كسر الخبز أي
القسمة لا يجرى بعد صلاة الشكر الصغيرة على الكأس في طقس تقديم الحمل، بل رُفع الكسر (القسمة) من طقس تقديم الحمل كلية ليدخل في
الأنافورا الوصفية.

5
“وقسَّمه”
= “وكسر”:

يُلاحَظ في
“طقس تقديم الحمل” أنه بعدما يبارك الكاهن على الخبز داعياً ومباركاً باسم الثالوث
أنه لا
يقسِّم
الخبز ولا يعطيه لأحد، كذلك يُلاحَظ في الأنافورا نفس الشيء تماماً أنه بعد أن
“يصف”
الكاهن كيف أن المسيح في الليلة التي أُسلم فيها أخذ خبزاً “وشكر” “وبارك”
“وقدَّس” ثم يقول “
وقسَّمه وأعطاه”
دون أن يجري عملية القسمة أو الإعطاء (ولكنه يشق الخبز فقط رمزاً للتقسيم ولكن لا
يكمِّله).

إذاً،
فالأصل في تأجيل القسمة إلى نهاية الأنافورا يرجع إلى أن الأنافورا اتبعت في وصفها
نفس الخطوات التي تتم في طقس التقديم، فكما حدث في
“طقس
التقديم”
أن القسمة (وكسر) رفعت من بعد البركة على الخبز
(وذلك أصلاً بسبب رفع العشاء كله “الأغابي” من الطقس)، كذلك انضم شكر الكأس إلى
بركة الخبز مباشرة. هكذا اتبعت الأنافورا نفس الترتيب في وصفها وشرحها.

وبهذا نجد
أن وضع القسمة في الأنافورا لا يتبع المذكور في الأناجيل حيث في الأناجيل كلها
تأتي القسمة [وكسر]
قبل الشكر على
الكأس، كما في إنجيل لوقا: [أخذ خبزاً وبارك
“وكسر”
… وكذلك الكأس
بعد العشاء].

إذاً، هنا يتضح لنا أن في “طقس العشاء الأخير” تغيَّر ترتيب القسمة أي كسر الخبز فصارت بعد الشكر على الكأس. وأول طقس تقليدي في الكنيسة
ظهر فيه هذا التغيُّر هو “طقس تقديم الحمل في مصر”. وهذا يبدو أنه طقس رسولي من
القديس مرقس الرسول لأن درجاته الأُولى تظهر في إنجيل مرقس الرسول نفسه، فهو أول
إنجيلي أسقط ذكر العشاء من بين البركة على الخبز والبركة على الكأس، ورفع العشاء
أو جعله يتقدَّم السر كله
أي قبل البركة على الخبز وكسره والبركة على الكأس وشربه:

+ » وفيما هم يأكلون أخذ يسوع
خبزاً وبارَكَ وكسَّرَ وأعطاهم وقال
خذوا كلوا هذا هو جسدي ثم أخذ
الكأسَ وشكرَ
وأعطاهم فشربوا منها كلُّهم. «(مر 14: 22و23)

فإذا علمنا
أن جميع الصلوات والتذكارات كانت بحسب الطقس القديم تُتلى
بعد
العشاء
مباشرة، كما هو مذكور ومشروح بالحرف الواحد في الديداخي فصل 10:

[فإذا امتلأتم (بعد العشاء) اشكروا هكذا: نحن نشكرك أيها الآب القدوس من
أجل اسمك … ومن أجل المعرفة والإيمان ومن أجل عدم الموت … أنت السيد المقتدر
الذي خلقت كل شيء .. اذكر يا رب كنيستك نجِّها من كل شر واجعلها كاملة في محبتك،
اجمع شملها … لملكوتك الذي أعددته. ليت النعمة تأتي، وليت العالم ينتهي. أوصنا
لإله داود (هنا يبدأ الدخول
إلى السر): مَنْ كان طاهراً
فليتقدَّم. والذي ليس طاهراً فليتب. تعالَ أيها الرب يسوع. “آمين”
].

من هذا
يتبيَّن لنا سبب مجيء الأواشي أي الصلوات والتذكارات كلها في تقليد أنافورا مرقس
الرسول قبل البدء في سر البركة على الخبز والشكر على الكأس! وهو نفس الشيء تماماً
الحادث في “طقس تقديم الحمل” حيث تتلى جميع الصلوات والتذكارات وأوشية القرابين
وأصحابها قبل البدء في البركة على الخبز والشكر على الكأس! (انظر الجدول صفحة 586).

وقد حذا
إنجيل متى في ذلك حذو إنجيل مرقس، ولكنه رفع ذكر العشاء جملة وتفصيلاً وهذه في
الحقيقة تعتبر في تاريخ الليتورجيا درجة كبيرة من التطور.

ونجد في
ليتورجية كليمندس (قوانين الرسل
الكتاب
الثامن) تطبيقاً لهذا التصرُّف حيث لا يذكر في رواية التأسيس أي ذكر “للعشاء”، حيث
تتبع الكلمات واقعية الطقس بعد تعديله.

كما نجد
أيضاً في ليتورجية تقليد الرسل لهيبوليتس نفس التصرُّف، فلا يذكر في رواية التأسيس
أي شيء عن العشاء.

6
“وأعطاه لتلاميذه قائلاً”:

تشترك
الليتورجيات: بردية لوفان القبطية، وأنافورا سيرابيون، في هذه الجملة بدون أوصاف.
ما عدا بردية دير البلايزه فتزيد “ورسله” إنما أيضاً بدون ذكر أوصاف للتلاميذ.

أمَّا رقوق
مانشستر فتضيف على “لتلاميذه ورسله” كلمة
“القديسين”.

وتأتي
أنافورا مرقس الرسول فتزيد أوصافاً أخرى هكذا: “لتلاميذه
“الكرام”
القديسين ورسله
“الأطهار””. وفي
نسخة برايتمان ونسخة ليتزمان لا توجد صفة “الأطهار”
([41])
مما يفيد أنها زيدت بعد القرن الثالث.

وأول مَنْ
بدأ سلسلة هذه الصفات للتلاميذ والرسل هو قداس القديس يعقوب الرسول (الطقس
السرياني) في نسخته السريانية
([42])
حيث أضاف صفة “القديسين”. وبدأت تقتبس منه ليتورجيات الإسكندرية بعد القرن الرابع.
وشاع ذلك
التقليد
حتى ملأ الدنيا كلها، فلم يعد يذكر اسم أي تلميذ أو رسول إلاَّ ويعطي لقب قديس
(مار).

ولكن قبل
هذا كله تأتي ليتورجية التقليد الرسولي لهيبوليتس بدون ذكر هذه الجملة أساساً، أي
بدون “وأعطاه لتلاميذه”. مما ينبه ذهننا أن عملية وصف التقديس (التأسيس) ليلة
العشاء جاء في الليتورجيات متدرجاً ونما قليلاً قليلاً حتى أخذ هذه الصورة الحالية
في أنافورا مرقس الرسول.

ومن هذا التدرُّج يتضح لنا عملية النمو في الأنافورا فيما يخص صياغة ووصف
التأسيس ليلة
العشاء.

7
“خذوا كلوا”:

تشترك كافة
الليتورجيات في هذه الصيغة حيث توردها بردية لوفان القبطية بهذا الاختصار هي
وأنافورا سيرابيون، وليتورجية يعقوب الرسول (الطقس البيزنطي)، أو في قُدَّاس
القديس باسيليوس والقديس يوحنا ذهبي الفم عند الروم.


ثم تزيد على هذه الجملة حرف
“منه” كل من
ليتورجية قوانين الرسل
الكتاب الثامن،
وليتورجية القديس يعقوب (الطقس السرياني).


ثم تزيد عليها بردية دير البلايزه “خذوا كلوا
منه كلكم
وكذلك رقوق مانشستر وأنافورا القديس مرقس الرسول. وهذه الزيادة بدأت بسبب محاولة
اجراء توازٍ بين ما يُقال على الكأس وما يُقال على الخبز. وواضح أن التوازي هنا
جاء على الشرب
“من” الكأس،
لأنه في العادة لا يُقال “كلوا
من الخبز” ولكن
يُقال “اشربوا
من الكأس”. وواضح أن أول مَنْ
أدخل هذا الحرف
“منه” هي
ليتورجية القديس يعقوب في الطقس السرياني
([43]).

ولكن وبعد
هذا كله نجد أن ليتورجية التقليد الرسولي لهيبوليتس لا تورد هذه الجملة أساساً أي
لا تقول “خذوا كلوا”، مما يكشف لنا أنه يوجد فعلاً عملية تدرُّج ونمو في وصف
العشاء الأخير داخل الأنافورا.

8 “هذا هو
جسدي
المكسور
عنكم لمغفرة الخطايا”:

تشترك جميع الليتورجيات
بلا استثناء في ذكر هذه الجملة السرائرية، ولكن تأتي بعضها بكلمة “المبذول” بدل
“المكسور”. وتضيف رقوق مانشستر بعد “جسدي” كلمة “الذي للعهد الجديد” رغبة
في التوازي على ما يُقال على الكأس.


ولكن تضيف عليها الأنافورات
رقوق
مانشستر ومار مرقس
كلمة
“عنكم
وعن كثيرين”. وهذه مقتبسة أصلاً من ليتورجية
القديس يعقوب الرسول الطقس السرياني، لأن الطقس البيزنطي يخلو منها.


ولكن تحتفظ ليتورجية كليمندس (قوانين الرسل

الكتاب الثامن) بوضعها الخاص إذ لا تذكر
“عنكم”.
بل تقول مباشرة
“عن كثيرين”.


كما تضيف رقوق مانشستر وأنافورا مرقس الرسول كلمة
“يُعطى”
قبل “لمغفرة الخطايا”. وهي مقتبسة من ليتورجية يعقوب الرسول الطقسين السرياني
والبيزنطي.


ولكن عندما نفحص ليتورجية هيبوليتس لا نجدها تذكر “يُعطى لمغفرة الخطايا” نهائياً.

9 “هذا
اصنعوه لذكري”


تأتي أنافورا دير البلايزه خالية من هذه الجملة تماماً، ويشترك معها في هذا
ليتورجية القديس يوحنا ذهبي الفم عند الروم، سواء على الخبز أو على الكأس.


ولا يذكرها هيبوليتس إلاَّ بعد الكأس ليشمل
“الذِكْر” كل
ما يُعمل على الخبز وعلى الخمر معاً. ويشاركه في هذا ليتورجية كليمندس (قوانين
الرسل

الكتاب الثامن) والقديس باسيليوس عند الروم والقديس يعقوب الرسول الطقسين السرياني
والبيزنطي.


أمَّا أنافورا رقوق مانشستر وأنافورا القديس مرقس الرسول القبطية فتذكرها
مرتين،
مرة
بعد الخبز ومرة بعد الكأس.
ويبدو أن هذه الإضافة نشأت مؤخراً بعد القرن الخامس

أي بعد مجمع خلقيدونية
لأن
ليتورجية القديس مرقس المستخدمة عند الملكانيين لا تحوي هذا “الذِكْر” إلاَّ بعد
الكأس فقط.

كذلك يُلاحظ
اهتمام الكنيسة القبطية الواضح في إعطاء “الذِكْر” هذا التأكيد ليس فقط بالتكرار
بعد كل من الخبز والكأس، ولكن بإعطاء وقفة خاصة عند كل ذِكْر لكي يؤمِّن الشعب على
هذه الوصية الثمينة، حيث يرد الشعب
“هذا هو بالحقيقة آمين”.


أمَّا أنافورا سيرابيون فيبدو لأول وهلة أنها أغفلتها، ولكن في الحقيقة أن أنافورا
سيرابيون تُعتبر من الوثائق الهامة في تاريخ التذكار لأنها تقدِّمة لا كجملة ولكن
كحقيقة قائمة ممثَّلة في الذبيحة الموضوعة على المذبح: الخبز لتذكار الجسد والخمر
لتذكار الدم أو بحسب لغة أنافورا سيرابيون: “هكذا
نحن أيضاً
إذ نصنع مثال موته نقدِّم
هذا الخبز
ونضرع إليك أن بهذه الذبيحة تتصالح معنا
… وهكذا أيضاً إذ
نقدِّم الكأس نقدِّم مثيل الدم”.

وهذه تعتبر
أول محاولة للطقس حسب التقليد الإسكندري، لكي يورد صيغة “التذكار” داخل الأنافورا
حراً من التقليد السرياني لا من جهة الصيغة كجملة محددة بل من جهة الأسلوب العملي
الفريد في نوعه الذي يؤكد الفعل الذبائحي السرائري للإفخارستيا مطبَّقاً تطبيقاً
لاهوتياً على ذبيحة الصليب، إذ يقول عن
الإفخارستيا بكل دقة ووضوح: “ونضرع إليك أن بهذه الذبيحة
تتصالح معنا”.

كذلك يظهر من تكرار
التذكار في طقس سيرابيون نفس الأسلوب الذي اتخذته أنافورا مرقس الرسول في تكرار
التذكار بعد الخبز وبعد الكأس مما يكشف عن أصول عميقة في التقليد الإسكندري الخاص بالتذكار معتبراً الخبز
والخمر عنصرين متميزين للذبيحة، كلاًّ منهما يمثلها بمفرده.

10 “وهكذا
أيضاً بعد العشاء أخذ كأساً”:

جميع الأنافورات
الإسكندرية تتبع هذا النص بحرفيته، وهو مطابق لليتورجيا القديس يعقوب الرسول في
الطقس البيزنطي. ولكن أنافورا القديس مرقس الرسول تغيِّر أوضاع الكلمات فتأتي: “وهكذا
الكأس أيضاً
بعد العشاء” وبسبب هذا التقديم سقط فعل “أخذ”.
ويشترك مع أنافورا القديس مرقس الرسول في هذا ليتورجية يوحنا ذهبي الفم. وهذا
الترتيب مأخوذ من ليتورجية القديس يعقوب الرسول النص السرياني.


ولكن تتميز أنافورا سيرابيون بأنها توردها مختصرة بدون “وهكذا أيضاً”.


أمَّا ليتورجية كليمندس (قوانين الرسل

الكتاب الثامن) فلا تذكر “وهكذا أيضاً بعد العشاء”، بل تأتي مختصرة
“وهكذا
الكأس”
فقط، ويشترك معها في ذلك ليتورجية القديس باسيليوس (الطقس البيزنطي).

11
“ومزجها من خمر وماء”:


هنا تقف كل أنافورات الإسكندرية القديمة خالية من هذا النص تماماً: أنافورا
سيرابيون، وبردية دير البلايزه، ورقوق مانشستر، وبحسب أبحاث العالم الألماني
شيرمان في كتابه عن الليتورجية المصرية أثبت أن مزج الخمر في مصر كان ممنوعاً في
الأيام القديمة
([44])،
واستشهد بأقوال لأوريجانوس في عظته

على سفر إرميا العظة الثانية عشر. ولكننا نعترض على ذلك لأن كليمندس
الإسكندري وهو أسبق في عصره وتقليده على أوريجانوس يشرح مزج الخمر في الإفخارستيا
بطريقة لا يمكن أن يتسرَّب إليها الشك هكذا:

[نحن نشرب
دم المسيح لكي نكون شركاء في عدم الموت الذي للرب، وكما أن الروح هو الفعَّال بالنسبة للكلمة، كذلك الدم بالنسبة للجسد
وكما
يُمزج الخمر بالماء
كذلك
يكون “الروح” في الإنسان، ومزيج الخمر والماء
يغذي الإيمان وأمَّا الروح فإنه يقود إلى عدم
الموت.]
([45])

ولكن لا يزال يقف
أمامنا الطقس يشهد فعلاً أنه كان هناك تقليد قديم ربما أقدم من كليمندس الإسكندري
كان لا ينص على مزج الخمر، وبذلك يكون كلام كليمندس هو دفاع عن بداية دخول
طقس مزج الخمر. وربما أن هذا الطقس الذي كان ينص على عدم مزج الخمر، كان يعتمد
على استخدام عصير طازج من الزبيب
كما كان سارياً إلى عهد قريب، وربما حتى إلى
اليوم في بعض كنائس الصعيد في مصر([46])،
وهذا الطقس يشير إليه خفياً طقس القديس باسيليوس (البيزنطي) عندما يستبدل كلمة
“الخمر” بكلمة “نتاج الكرمة”. ولكن القديس باسيليوس يذكر المزج ويشدِّد
عليه([47])
مثل ليتورجية كليمندس (قوانين الرسل الكتاب الثامن).

12 “وشكر”:

وهنا نعود مرة أخرى إلى
قضية التعليم السري والتلميح الوصفي لصيغة التقديس بدون ذكر تفاصيل النطق ذاته.
وهنا يبدأ التدرُّج:

(أ) إفخارستية سيرابيون
ترفض نهائياً ذكر أي فعل من الأفعال: “أخذ كأساً بعد العشاء وقال لتلاميذه الأخصاء
خذوا اشربوا”. وواضح هنا إصرار الأنافورا في إخفاء أفعال التقديس، ويشاركها في هذا
ليتورجية هيبوليتس وليتورجية يوحنا ذهبي الفم.

(ب) أنافورات ذات الفعل
الواحد مثل أنافورا دير البلايزه، حيث تذكر “وبارك” فقط، وهذا أقرب إلى
التقليد العبري. أمَّا أنافورا رقوق مانشستر فتقول “وشكر”، وهذا أقرب إلى
تقليد العشاء الأخير (كأس الإفخارستيا أي الشكر).

أمَّا ليتورجية كليمندس
(قوانين الرسل الكتاب الثامن) فتقول “وقدَّس” وتقصد تقديس اسم الله وهذا
تعبير عن مضمون الفعل الحادث أي تقديس الإفخارستيا.

(ج) أنافورات ذكرت
ثالوث الأفعال “وشكر وبارك وقدَّس” في وضعها التقليدي الأصيل بدون إضافة حرف
“الهاء” أي ليس “باركه” أو “قدسه” بل “بارك وقدَّس” مثل ليتورجية القديس باسيليوس
(الطقس البيزنطي). ويشاركه في هذا ليتورجية القديس يعقوب الرسول كل من الطقس
السرياني والطقس البيزنطي وليتورجية القديس مرقس للملكانيين.

(د) أمَّا أنافورا
القديس مرقس الرسول الطقس القبطي القرن الثالث عشر فتلتزم بالأفعال
الثلاثة حسب التقليد الصحيح القديم “شكر وبارك وقدَّس”([48]).
ولكن للأسف فإن النسخة المطبوعة المستخدمة خرجت عن هذا التقليد في عصر ما بعد
القرن الثالث عشر ووضعتها هكذا “وشكر وباركها وقدَّسها”.

13 “وذاق”:

طقس مصري صميم (بدأ
متأخراً نوعاً ما)([49]):

(أ) تأتي أنافورا
سيرابيون دون ذكر لهذا التقليد، وكذلك أنافورا القديس باسيليوس الطقس القبطي
والطقس اليوناني (رينودوت)، والنسخة الصعيدية التي من النصف الأول من القرن الرابع([50]).
وكذلك ليتورجية كليمندس (قوانين الرسل) والقديس باسيليوس الطقس البيزنطي، ويوحنا
ذهبي الفم، والقديس يعقوب الرسول الطقس السرياني والطقس البيزنطي، والقديس مرقس
للملكانيين.

(ب) وبذلك لا يتبقى
إلاَّ بعض أنافورات الإسكندرية هي التي أصرت على أنه “ذاق” أو “شرب”، فالذين أصروا
على أن الرب “شرب” من الكأس هي أنافورا دير البلايزه وأنافورا رقوق مانشستر.

أمَّا أنافورا القديس
مرقس الطقس القبطي فاختصت دون الليتورجيات بكلمة “ذاق”.

وهذا الطقس المصري صميم،
وهو يعتمد على نص إنجيلي (مت 29: 26). ولكن هذا المبدأ كان معروفاً أيضاً عند
الآباء، فالقديس إيرينيئوس أشار إليه وهو يعلِّق على نص إنجيل متى المذكور([51]).

بل وهناك أيضاً شاهد من
صميم الطقس، فالكاهن يصنع ذلك تماماً فهو يذوق قبل أن يعطي مشيراً بذلك إلى أن هذا
هو التسليم([52]).
كما فعل الرب، لأن الطقس في الأنافورا هو شرحي وتوضيحي لما أُكمل وقت العشاء
الأخير.

14 “وأعطاه
لهم قائلاً “خذوا اشربوا” منه كلكم”:


تتفق
الأنافورات الإسكندرية كلها في هذا النص تقريباً.


ما
عدا أنافورا سيرابيون، فتأتي مختصرة خالية من “منه كلكم” مكتفية فقط ب“خذوا
اشربوا”.


وبدل
“وأعطاه لهم” كما جاءت في كل الأنافورات كما وفي إنجيل متى، جاءت هنا “وقال
لتلاميذه الأخصاء”
مما يفيد أن تقليد سيرابيون يبدو هنا حاملاً آثاراً قديمة
من تقليد رسخ في الإسكندرية قبل أن تنتشر الأناجيل.


ولكن
ليتورجية يوحنا ذهبي الفم تأتي مختصرة هنا أكثر من سيرابيون، فتحذف “وأعطاه لهم
قائلاً خذوا” وتكتفي ب“اشربوا منها كلكم”.


ولكن
أكثر الأنافورات استطالة في هذا الموضع هي أنافورا مرقس الرسول للأقباط وتأتي هكذا:
“وأعطاه أيضاً لتلاميذه الكرام ورسله الأطهار قائلاً خذوا اشربوا منها كلكم
لأن”.


والملاحَظ
في كافة الأنافورات الإسكندرية أنها تحافظ بوضوح على اصطلاح “خذوا اشربوا”
مهما كان الحذف أو الإضافة، مما يدل على أنه تقليد رسولي عتيق في مصر([53])
لا يشترك فيه من جهة الليتورجيات الأخرى العتيقة سوى ليتورجية يعقوب الرسول
الطقس السرياني،
أمَّا الطقس البيزنطي فخال منه، مما يدل على أن الطقس
السرياني أُخذ هنا عن مصر. كما يُلاحَظ أن هذا الاصطلاح مستخدم في الخبز بنفس
الالتزام. وهو وارد في أقوال كليمندس الإسكندري([54])
وعند أوريجانوس([55]).


أمَّا
التقليد الرسولي لهيبوليتس فيخلو تماماً من كل هذا بأجمعه فيأتي الكلام على الكأس “وهكذا
الكأس قائلاً هذا دمي”
مما يزيدنا تأكيداً هنا أن هيبوليتس ينقل لنا نصاً
ولا ينقل طقساً، ولا يسلِّم تقليداً بل يسلِّم نموذجاً أولياً.

15 “هذا
هو دمي

الذي للعهد الجديد

 الذي يُسفك عنكم
وعن كثيرين يُعطى لمفغرة الخطايا”:


هذا النص وارد كله أو بعضه في أنافورات الإسكندرية.


وأكثر الأنافورات اختصاراً هي بردية دير البلايزه فتأتي “هذا هو دمي المسفوك عنكم
لمغفرة الخطايا”، وهي خالية من
ذكر “العهد الجديد”. ويشترك مع بردية البلايزه في عدم ذكر
“العهد
الجديد” على الكأس
ليتورجية تقليد الرسل لهيبوليتس وليتورجية كليمندس (قوانين الرسل

الكتاب الثامن) فقط. أمَّا جميع
الليتورجيات بعد ذلك شرقاً وغرباً فتحرص على ذكر العهد الجديد بالنسبة للكأس.

وهنا نرى
بردية دير البلايزه تقف مع أقدم النصوص ولكن ليس مع أقدم الطقوس.


ولكن بدراستنا لأقوال كليمندس الإسكندري، لا نرى هذا الربط الذي يربط الدم بالعهد
الجديد، إذ يقول:

[لقد بارك
المسيح الخمر قائلاً
“خذوا اشربوا” هذا دمي،
وهنا إشارة أيضاً إلى الكلمة (اللوغوس) الذي انسكب للكثيرين لمغفرة الخطايا، نهراً
مقدَّساً للبهجة.]
([56])

كذلك
فإن أوريجانوس لا يأتي هو الآخر على ذكر الرباط الذي ربط الدم بالعهد الجديد، إذ
يقول: [“خذوا اشربوا” هذا هو دمي المسفوك عنكم لمغفرة الخطايا هذا اصنعوه
كُلَّما شربتم لذكري.]([57])

وهكذا نجد أن كلاًّ من
كليمندس وأوريجانوس لا يأتي على ذكر هذا الطقس مما يكشف لنا عن جذر من جذور الطقس
الإسكندري للأنافورا قبل أن تتطابق في أوصافها مع النصوص الإنجيلية.


أنافورا
القديس مرقس الرسول القبطية تضيف أكثر من النص الوارد في سيرابيون وبردية دير
البلايزه كلمة “وعن كثيرين” وكلمة “يُعطى” ويشاركها في هذا رقوق مانشستر.
وواضح أنها اقتبستها من ليتورجية يعقوب الرسول الطقس السرياني.

16 “هذا
اصنعوه لذكري”:


تأتي أنافورا دير البلايزه خالية من هذا النص. ويشاركها في هذا ليتورجية القديس
يوحنا ذهبي الفم، ولكن تعود بردية دير البلايزه وتورد نصاً آخر على كل من الخبز
والخمر للتذكار.

أنافورا سيرابيون تعطي نصاً آخر غير مباشر يفيد التذكار،
كما كان على الخبز كذلك على الكأس “نقدِّم مثيل الدم”. ويؤكد العالم بومشتارك أن
هذا يُعتبر مع الخبز الموازي له تذكاراً أصيلاً
([58]).


أنافورا القديس مرقس الرسول (القبطية) مع رقوق مانشستر، تقدِّم هذا النص بوضوح مثل
باقي الليتورجيات السريانية والبيزنطية.

17 “كل مرة
تأكلون من هذا الخبز وتشربون من هذه الكأس

تبشرون بموتي وتعترفون
بقيامتي وتذكرونني إلى أن أجيء”:

(أ) هذا النص موجود
أصلاً في كل من أنافورا سيرابيون وليتورجية القديس يوحنا ذهبي الفم.

(ب) يأتي بصورة مختصرة
في ليتورجية كليمندس
(قوانين الرسل): “كل مرة تأكلون من هذا الخبز وتشربون من هذه الكأس
تبشرون بموتي إلى أن أجيء”. هذا النص هو محاولة ربما تكون أول
محاولة للتطابق مع نص وصية بولس الرسول في 1كو 11.

(ج) بردية دير البلايزه
لأنها لم تسبق وتذكر “هذا اصنعوه لذكري” تعوض ذلك بأن تورد هنا قراءة مختصرة بحسب
قراءة ليتزمان وهو حجة في قراءة المخطوطات القديمة: “كل مرة تأكلون من هذا الخبز
وتشربون من هذه الكأس تبشرون بموتي تذكرونني”، فهي هنا قريبة من قراءة ليتورجية
كليمندس (قوانين الرسل) ولكن بدون أن تذكر “إلى أن أجيء”.

(د) تأتي مختصرة في
رقوق مانشستر “كل مرة تأكلون من هذا الخبز وتشربون من هذه الكأس تبشرون بموتي وتعترفون
بقيامتي
” بدون “وتذكرونني إلى أن أجيء”.

(ه) ليتورجية القديس
باسيليوس (الطقس البيزنطي) تضيف “وتعترفون بقيامتي”، ولكن لا تذكر “إلى أن
أجيء”.

(و) ليتورجية القديس
يعقوب الرسول (الطقس السرياني) هي التي بدأت بإضافة “وتعترفون بقيامتي إلى أن
أجيء
”.

(ز) أنافورا القديس
مرقس الرسول (الطقس القبطي):

1 أنافورا
القديس مرقس الرسول (الطقس القبطي) هي الأنافورا الوحيدة في طقس الإسكندرية التي
اقتبست “إلى أن أجيء” من ليتورجية القديس يعقوب الرسول (الطقس السرياني).

2 كذلك
فإنها ورثت من بردية البلايزه إضافة “وتذكرونني” في هذا الموضع، مع أنها
سبقت وأضافت في وقت سابق جملة التذكار كبقية الأنافورات “هذا اصنعوه لذكري”،
ولذلك جاء التذكار في أنافورا القديس مرقس الرسول (الطقس القبطي) مكرراً هكذا: “هذا
اصنعوه لذكري … وتذكرونني إلى أن أجيء”. ولكن أنافورا القديس مرقس الرسول
(للملكانيين) لم تسلك هكذا بل اكتفت بالتذكار الأول فقط. لذلك فواضح أن تكرار
التذكار ظهر في أنافورا مرقس الرسول بعد القرن الخامس (بعد الانشقاق).

3 كذلك يُلاحَظ
أن أنافورا القديس مرقس (الطقس القبطي) حملت معها في رقوق مانشستر بعد “تبشرون
بموتي” جملة “وتعترفون بقيامتي” وقد اقتبستها مبكراً قبل القرن الخامس من ليتورجية
القديس يعقوب الرسول (الطقس السرياني) الذي أخذت عنه جميع الليتورجيات دون حذر،
لأن الشرح الذي سلَّمه بولس الرسول، أن يكون التذكار للموت فقط “كلما أكلتم هذا
الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء” (1كو 26: 11)،
فالأمر يختص “بتذكار موت الرب” وحتى كلمة “إلى أن يجيء” لا تدخل أصلاً ضمن
الوصية إنما هي استطراد من بولس الرسول شخصياً. لذلك فإضافة ذكر “القيامة” هنا كان
بداية إضافة كل أعمال الرب الأخرى.

ويُلاحَظ أن طقس
الإسكندرية حسب التقليد الرسولي القديم ظل حريصاً لا يذكر إلاَّ موت الرب حتى إلى
بداية زمن دير البلايزه أو رقوق مانشستر حتى القرن الخامس مع بداية اقتباس المردات
من الطقس السرياني.

وبناءً عليه، فإن المرد
التقليدي للشعب الذي يُقال الآن “آمين آمين آمين بموتك يا رب نبشِّر وبقيامتك
المقدَّسة وصعودك إلى السموات نعترف … إلخ” نجده أنه كان في بردية البلايزه حتى
إلى ما قبل القرن الخامس مختصراً للغاية هكذا: “بموتك يا رب نبشِّر وبقيامتك نعترف
ونتضرع إليك” حيث يجيء ذكر القيامة ليس كتذكار ولكن كاعتراف([59])
أساسي للكنيسة.

كذلك يُلاحَظ في نهاية
مرد الشعب بالنسبة للتذكار أنه مُنتهٍ عند “ونتضرع إليك” وليس له بقية، حيث كلمة
“ونتضرع إليك” التي تأتي في آخره هي في الواقع بادئة أخرى للتوسُّل من أجل حلول
الروح القدس، مما يفيد أن كل ما يأتي بعد كلمة “ونتضرع إليك” من جهة التذكار مرة
أخرى هو في الواقع إضافة نشأ عنها تكرار التذكار، لذلك حاول التقليد أن يجعله
شاملاً كل أعمال المسيح الخلاصية حيث يمكن اعتباره لا كتذكار في الحقيقة ولكن
كاعتراف.

وفي نهاية التأسيس يلزم
أن نلخِّص المميزات التقليدية الهامة لطقس الإسكندرية كما وردت فيه:


البادئة التقليدية لطقس الإسكندرية التي جاءت في أول التأسيس
«لأن الرب يسوع المسيح في الليلة … Óti Ð KÚrioj ‘Ihsoàj CristÒj»([60])
هي في الواقع مفتاح فهم الأنافورا الإسكندرية كلها، لأنها تربط كل ما تمَّ عملياً
في الطقس وهو
تقديم الحمل
بما فيه مطلع صلاة الشكر
الذي أصبح
محسوباً أنه من الأنافورا
ثم مقدِّمة
التسبيح ثم التسبيح الشاروبيمي، ثم الاستدعاء الصغير
تربطه
بما سيأتي في الأنافورا وهو وصف في حقيقته عبارة عن وصف العشاء الأخير الذي ستبدأ
الأنافورا تشرحه من أول أحداثه “لأنه في الليلة التي أَسلم فيها ذاته …”.


ينفرد طقس الإسكندرية
([61])
في رواية التأسيس بإنهائه بجملة تذكارية “وتذكرونني إلى أن أجيء”

أو ما يماثلها في بردية أنافورا سيرابيون. ثم يشدِّد عليها تشديداً قوياً وبلا
استثناء مرتين: مرة بعد الخبز ومرة بعد الكأس. وذلك مسجَّل منذ بداية القرن الرابع
في أنافورا سيرابيون والنسخة الصعيدية لقداس القديس باسيليوس (الطقس القبطي) وهي
من أوائل القرن الرابع.

هذا في
الواقع ينبغي أن ينبه ذهننا لنفهم أن تقليد الإسكندرية فيما يختص برواية التأسيس
يحاول وضع التأسيس كله في موضع تذكاري تأكيدي بمعنى أن الأنافورا موضوعة هنا لتكون
هي مجال التذكار والبرهان بالنسبة للفعل الذبائحي العملي الذي تم في طقس تقديم
الحمل

وكأن واضع الأنافورا يريد أن يقول: أن كل ما أكملناه عملياً فيما يختص بتقديم
الحمل بالخبز والخمر كذبيحة هو حق وصدق “لأنه في الليلة التي أسْلم فيها ذاته …”
أي أن ما أكملناه في طقس تقديم الحمل هو حقيقة وسر نافذ المفعول، لأن المسيح هو
بنفسه الذي أكمله في تلك الليلة. وهذ الإصرار والتشديد على كلمة “المسيح
بنفسه
واردة كذلك في رقوق مانشستر مما يعزز قولنا هذا.


كذلك نرى أن فكرة الإمعان في إعطاء ألقاب لاهوتية وخلاصية للمسيح في الأنافورا
القبطية بصورة فريدة وبالذات في مقدمة التأسيس وذلك منذ ما قبل القرن السادس كما
هو وارد في رقوق مانشستر، هكذا: “لأن ربنا يسوع المسيح
بنفسه
إلهنا ومخلِّصنا وملكنا كلنا
في الليلة التي أسلم فيها ذاته”،
هو بقصد التأكيد على أن
التأسيس هو عمل إلهي خلاصي يشملنا
كلنا وبالتالي فإن العمل التقديسي الذي عمله الكاهن على المذبح على الخبز والخمر
في تقديم الحمل يستمد كل قوته وسلطانه من المسيح نفسه!!


تنفرد الأنافورا المصرية التي تمثلها البرديات الأثرية لطقس مار مرقس بمبدأ أن
المسيح
“ذاق” من الكأس قبل أن يعطيه لتلاميذه، هذا في الواقع
ينصبُّ على مبدأين:

الأول: طقسي، لأنه
يستحيل حسب التقليد العبري القديم أن يشكر رئيس المتكأ أو يبارك على الكأس دون أن
يبدأ هو ويذوق منه أولاً.

الثاني: لاهوتي وهو
من أجل الحفاظ على المفهوم اللاهوتي “للشركة” بصورة طقسية، “فالشركة” في
المفهوم اللاهوتي السرائري أن يكون الإنسان شريكاً في الطبيعة الإلهية (انظر 1كو
16: 10 و1618)، وفي المفهوم الطقسي هو الأكل والشرب من “خبزة” واحدة
وكأس واحدة. فذوق المسيح من الكأس جعل ما في الكأس في الحال
متصلاً وممتداً معه بصورة سرية للغاية. فذوق المسيح من الكأس في تلك الليلة هو من
جهة الطقس السرائري تأكيد لاتصال وامتداد أبدي من المسيح إلينا في كل كأس
إفخارستيا، كأس الشركة الإلهية، كامتداد دمه على الصليب فينا.


كذلك يتميز التأسيس في أنافورا الإسكندرية عامة وفي قداس مار مرقس بصفة خاصة
بممارسة عملية دقيقة يقف فيها الكاهن موقف
المسيح ويشير بيديه مع الألفاظ والأوصاف المقولة إشارات
طقسية مُحكمة
ذبائحية تقليدية حسب التسليم العبري الأول الذي مارسه المسيح ليلة العشاء، وقد
أشرنا إليه في عدة مواضع. هذا بحد ذاته مع الأوصاف التمجيدية للمسيح والآب التي
يشدِّد عليها التأسيس في قداس مار مرقس بصفة خاصة

يعطي الأنافورا المصرية هيبة ووقاراً، كما يقول عنها كوكان:

[إن تلاوة
التأسيس

كما هو حادث في قداس مار مرقس تمده وتقويه أكثر بكثير من الليتورجيات
الأخرى، حيث يدخل التأسيس في تلك الليتورجيات الأخرى كمجرَّد جزء من تذكار عظائم
الله
.] ([62])

هذه هي المميزات ذات
القيمة الليتورجية الهامة للتأسيس في التقليد الإسكندري الطقسي، أمَّا
المميزات اللغوية واللفظية والتركيبية للجمل فقد ذُكرت في موضعها.

ويلزم هنا أن ننبه مرة
أخرى أن كنيسة روما (الكنيسة الكاثوليكية الطقس اللاتيني) تعتمد على صيغة
التأسيس
= كلمات الرب على الخبز والخمر، باعتبارها إجراءً تقديسياً
كاملاً، فيها يتحوَّل الخبز والخمر إلى جسد ودم المسيح، هذا وأن القداس اللاتيني
يخلو من حلول الروح القدس المعروف ب
Epiclesis أي الاستدعاء

وهذا الطقس يُعتبر
طقساً أصيلاً بحسب ليتورجية ما قبل القرن الرابع وفي هذا يقول ذهبي الفم:

[“هذا هو جسدي”، يقول
الكاهن هذا وبهذا القول يتحوَّل
(metarruqm…zei) كيان التقدمة،وهكذا إذ قِيلت مرة (بفم المسيح) صارت تجعل الذبيحة كاملة على كل مائدة في
الكنائس منذ ذلك اليوم وحتى
إلى مجيئه الثاني،

وبتلاوة هذه الكلمات يقف الكاهن ليكمِّل دوره (scÁma plhrîn) … أمَّا القوة والنعمة فهما من
الله.
]([63])



مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار