علم التاريخ

ثورة باركوكبا والقضاء على بقية آمال اليهود في معونة الله (132-135م):



ثورة باركوكبا والقضاء على بقية آمال اليهود في معونة الله (132-135م):

ثورة باركوكبا والقضاء على بقية آمال اليهود في معونة الله
(132135م):

كانت النكبة التي مُني بها الوطنيون المتطلعون لتحرير
بلادهم سنة 70م كفيلة أن تجعلهم بلا قوة وبلا حراك؛ بل وبلا أي تفكير أو أمل في
القيام بمحاولة من نفس النوع مدة لا تقل عن خمسين سنة. وبالرغم من أن يهود الشتات
قد قاموا بنصيبهم الكافي بالثورات والمذابح تنفيساً عن طبيعتهم الثورية، وتعبيراً
عن بغضهم الجنسي والديني والإنساني لكافة الأُمم، إلاَّ أن يهود فلسطين ظلوا غير
قادرين على التشبه بهم.

ولكن لم يستطع الشعب اليهودي أن يعيش في هذه السكينة إزاء
بعض تصرفات أباطرة الرومان، مثل هادريان، الذي أصدر منشوراً عاماً في المسكونة
كلها يحرِّم الإخصاء والختان
([1]) تحريماً قاطعاً، ومَنْ يخالف يُعاقب بالموت. فأصاب هذا المنشور كوامن
اليهود مرَّة أخرى ورفع غضبهم إلى درجة الاشتعال، باعتبار أن الختان هو الإجراء
الديني الوحيد الذي يجعل اليهودي يهودياً، ولا بديل له على الإطلاق. فاعتبروا أن
هذا المنشور يعني إبادة اليهودية نفسها.

هذا بالإضافة إلى محاولة هادريان مسخ يهودية مدينة أُورشليم
بأن أسماها “آيلا كابيتولينا” وقام بمشروع بناء هيكلٍ كبير فيها لزيوس
ولتعمير المدينة المخرَّبة
([2]).

وقد كان قيام اليهود بثورتهم الجديدة والأخيرة أمراً
مفاجئاً ومدهشاً، إذ في لحظات قليلة كانت اليهودية كلها تحمل السلاح بطريقة غير
مترقَّبة. لأن نداء الواجب العنصري والديني عند اليهود كان في الواقع شديداً
وقوياً وكفيلاً أن يؤدِّي إلى أي ثورة في أي وقت. وكان اعتمادهم دائماً أبداً ليس
على كمية السلاح ولا عدد المحاربين، بل على رجاء معونة يهوه وإيماناً بمجيء
المسيَّا في لحظة الحرب الحاسمة ليقود ويعطي النصرة.

وفي هذه الثورة بالذات برز عنصر الاعتقاد بمجيء المسيَّا
وظهوره في شخص كان يدعى سمعان باركوزيبا أي ابن الكذب، ودُعِي من اليهود المسيَّا
رئيس اليهود، فكان سبباً في تحمُّس كافة اليهود بجميع طبقاتهم وأحزابهم. ومما زاد
في تضليل الشعب ورفع حماستهم إلى درجة الجنون أن رابِّي عُقيبة أكبر المعلمين
الدينيين في اليهودية تولى إعلان وتقديم باركوزيبا للشعب بصفته هو المسيَّا
المنتظر رجاء إسرائيل، ودعاه باركوكبا تطبيقاً لنبوَّة بلعام بن بعور “ويبرز
كوكب من يعقوب” (عد 17: 24). وزاد على ذلك أن أعلنوا بدء ملكوت المسيَّا
وصكوا نقوداً عليها: “سمعان رئيس اليهود، لأجل تحرير إسرائيل، لأجل تحرير
أُورشليم”.

أمَّا حاكم اليهودية وكان يُدعى تينينوس روفوس فقد وجد نفسه
في لحظة في موقف حرج، لأن قواته المرابطة في مواقعها كانت أضعف من أن تواجه هذه
الثورة العارمة المنتشرة في البلاد كلها. فاستغاث بالإمبراطور هدريان وجاءت النجدة
تلو النجدة، ولكن لم يستطع أن يحكم الموقف أو يتصدَّى للثائرين
([3])، لأن اليهود طبَّقوا نظام حرب المكابيين، حرب العصابات في الجبال والأماكن
المختارة والتحصينات في كل ركن من كل مدينة
([4])، بحيث أن كل يهودي كان مجنَّداً للهجوم والدفاع، ومَنْ يتخلَّى كان يُقتل([5]).

وقد اضطُرَّ هدريان إلى إرسال أكفأ قواده المشهورين يوليوس
ساويرس الذي ظلَّ يطوِّق العصابات المنتشرة عصابة عصابة، ويطهِّر المدن مدينة
مدينة. فاستغرقت منه هذه العمليات الحربية الشاقة والخطرة ثلاث سنوات ونصف حتى
سلَّم اليهود نهائياً، وذلك في السنة الثامنة عشر لهدريان (134-135م). وقد وقع من
كلا الطرفين قتلى وخسائر فادحة فوق الوصف. فقد قُتل أكثر من نصف مليون يهودي، هذا
بخلاف من مات بالجوع والوبأ، حتى صارت اليهودية كلها خَرِبَة كبريَّة قاحلة.

أمَّا الجيش الروماني فقد أضناه التعب والخسائر، حتى أن
هدريان عندما وقف ليعلن خبر انتصار جيشه أمام السناتو لم يستطع أن يذكر الجملة
التقليدية التي كان يبدأ بها الإمبراطور عادة الخبر، وهي “إن الأمور كانت مواتية
له ولجيشه” لأن الخسائر كانت فوق العادة
([6]).

وقام هدريان بمسح أُورشليم وإعادة بنائها باسم أيلا
كابيتولينا وأسكن فيها مواطنين من الأُمم، ولم يسمح لأي يهودي أن يعيش في أُورشليم
أو حتى يدخل المدينة وإلاَّ كان الموت جزاءه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار