الارشاد الروحىالبنيان

تمييز الإيمان الحقيقي – ما بين الانفعال النفسي والانفعال الروحي

الإيمان الحي الحقيقي ليس نتاج انفعال قبول فكرة نظرية جديدة، ولا هو فكرة حلوة يسمعها في عِظة فتؤثر في مشاعره حتى أنه من فرط التأثير يبكي أو يفرح أو يتهلل أو يرتاح مجرد راحة نفسيه، مع أن الإيمان الحي يُعطي راحة داخلية فعلية تؤثر أيضاً على نفسيته إيجابياً، وتجعله يدخل في حالة من الفرح والسلام.
ولكن هناك فرق عظيم وكبير للغاية، بين التأثير الآتي من الإيمان الحي المصحوب عادةً بإعلان ولقاء حقيقي مع الله الحي الذي لا يترك الإنسان على ما هو، بل يُغيره إيجابياً ويُظهر فيه عمل الله الذي تم في هذا القاء الحي؛ وبين الإيمان الغيبي والنظري، الذي يُثير عاطفة النفس نتيجة التأثير النفسي الناتج من عظة حلوة وعلى الأخص من شخصية مؤثرة، أو شخصيه يحبها فيستمع إليها ويتأثر بها فينفعل بالعاطفة ويظن أنه يحيا بالإيمان وأن كلمة الله لها تأثير في قلبه، مع أن الواقع الاختباري يثبت عكس ذلك بعد فقدان المؤثر الخارجي المؤقت…

  • والذين على الصخر هم الذين متى سمعوا يقبلون الكلمة بفرح وهؤلاء ليس لهم أصل فيؤمنون إلى حين وفي وقت التجربة يرتدون (لوقا 8: 13)

ومن قول الرب نجد أنه وضع أمامنا علامة واضحة لنُميز أن كنا نؤمن إيمان حقيقي حي له فعل وعمل إيجابي في حياتنا الشخصية، أم أن إيماننا نظري مبني على انفعالات نتيجة تأثير خارجي وليس له أصل فينا مثل الشجرة التي ليس لها أصل اي جذور ضاربة في الأرض لتمتص ما تحتاجه من غذاء فتنمو حتى تورق ويظهر الثمر؛ لذلك لا يكون إيمان حي فعال وبالتالي ليس له عمل واضح ظاهر، أي أنه إيمان بلا ثمر، لذلك فهو يعتبر – بالدرجة الأولى – إيمان ميت، لأن الكتاب المقدس يقول عن الإيمان: “الإيمان العامل بالمحبة” (غلاطية 5: 6)
 
لذلك لو نظرنا للإيمان الذي يُرضي الله نجده ظاهراً في إيمان إبراهيم أب الآباء، الذي قيل عنه أب الإيمان، فهو سمع دعوة الله فتأثر بها تأثير داخلي إيجابي، فصار له إيمان ذو أصل نبت فيه أدى بحركة فعل صنعه في الواقع العملي المُعاش وهو أنه أطاع وخرج، وهذا هو ثمر الإيمان الحي: [ وقال الرب لإبرام: “اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أُريك”… فذهب ابرام كما قال له الرب؛؛؛ بالإيمان إبراهيم لما دُعِيَ أطاع أن يخرج إلى المكان الذي كان عتيداً أن يأخذه ميراثاً فخرج وهو لا يعلم إلى أين يأتي ] (تكوين 12: 1؛ عبرانيين 11: 8)
وأيضاً حينما قال له قدم ابنك محرقة: [ فقال: “خذ ابنك وحيدك الذي تحبه اسحق واذهب إلى أرض المُريا واصعده هُناك مُحرقة على أحد الجبال الذي أقول لك”، فبكر إبراهيم صباحاً وشد على حماره وأخذ اثنين من غلمانه معه واسحق ابنه وشقق حطباً لمحرقة وقام وذهب إلى الموضع الذي قال له الله؛؛؛ بالإيمان قدم إبراهيم اسحق وهو مُجرب (القصد امتحان الإيمان)، قدم الذي قبل المواعيد وحيده ] (تكوين 22: 2 و3؛ عبرانيين 11: 17)
 
إذن فالإيمان الحي يأتي بحركة فعل يتم ظاهرياً في واقع حياة الإنسان الذي يؤمن بالله إيمان حقيقي، وحركة الإيمان الفعال لا تأتي أبداً بدون سماع دعوة الله وندائه، لأن الإيمان لا يُولَد من فراغ أو بسبب تهيُآت أو ظنون، بل من لقاء حقيقي مع الله وسماع صوته في كلمته الموجهة لي أنا شخصياً، ونتيجة تأثري الداخلي بها، بسبب زرعها في تُربة قلبي من الداخل، فأنها تُثمر فعل يُترجم لعمل يؤدي لمُجازاة عادلة: [ ألم يتبرر إبراهيم أبونا بالأعمال إذ قدم اسحاق ابنه على المذبح… وتم الكتاب القائل فآمن إبراهيم بالله فحُسِبَ لهُ بِراً ودُعِيَ خليل الله ] (يعقوب 2: 21 و23)
[ بذاتي أقسمت يقول الرب: “إني من أجل أنك فعلت هذا الأمر ولم تُمسك ابنك وحيدك، أُباركك مباركة وأكثر نسلك تكثيراً كنجوم السماء وكالرمل الذي على شاطئ البحر، ويرث نسلك باب أعدائه. ويتبارك في نسلك جميع أُمم الأرض من أجل انك سمعت لقولي ] (تكوين 22: 16 – 18)
 
إذن يلزمنا الآن ان نتعرف على ما هو الانفعال لكي نميز الأمور:
+ الانفعال يتكون من ثلاثة عناصر رئيسية هي: “الإدراك” و”الشعور” (متمثلة بالتغيرات الفسيولوجية والبدنية)، و”السلوك” الذي يلجأ اليه الشخص للتعامل مع المثير للانفعال، والانفعالات – عموماً – عامل مشترك بيننا جميعا بصفتنا بَشَر. وهي تلعب دوراً كبيراً في تحديد نوعية حياة كل إنسان، وتتحكم بسلوكه ومدى توافقه مع نفسه ومع بيئته الاجتماعية، وتحدد معالم شخصيته.
+ والانفعال هو شعور انساني ذو مضمون محدد وصيغة تعبيرية محددة، مثل الشعور بالفرح أو الغضب أو الخوف أو القلق أو القرف أو الخجل وغيرها، ويُعَبِّر الإنسان عنها بتعابير بدنية وفيسيولوجية محددة.
 
فالتعبير البدني والفسيولوجي للحزن أو الفرح أو القلق أو القرف أو الزهق أو الضيق.. الخ، هو واحد عبر الثقافات والمجتمعات والأجناس، وتكاد أن تكون الأحداث والمواقف المسببة لها (تقريباً) واحدة أينما كان الإنسان، وهذا بالطبع يختلف تماماً عن الانفعال الروحي لأن له مسببات أخرى تختلف تماماً عن الانفعال النفسي ومسبباته التي عادة تكون بسبب الواقع الاجتماعي الذي يعيش فيه الإنسان، وتختلف من شخصية لأخرى حسب تجاربها والظروف المحيطة بها.

  • لذلك يلزمنا أن نُفرق بين الاثنين تفريق دقيق، لكي نُميز ما بين حياتنا الحقيقية مع الله وحياتنا العادية في العالم، لأن كثيرين يختلط عليهم الأمر فيظنوا أنهم منفعلين روحياً مع أنهم في الواقع منفعلين نفسياً فقط، ولم يتذوقوا بعد الانفعال الروحي الحقيقي وبالتالي لا يميزونه، فيظنوا أن لهم حياة حقيقية مع الله مع أنهم لم يبدئوا بعد ؟؟؟

معنى الانفعال الإنساني الطبيعي:
الانفعال affection أو emotion هو حالة وجدانيّة يثيرها مؤثر ما خارجي في داخل النفس، وتصحبها تغيرات فسيولوجيّة عبارة عن اضطراب حاد يصيب الفرد أو رد فعل هيجاني مصحوب بمشاعر قوية واندفاع نحو سلوك ذي صفة معينة يلاحظه الآخرون في سلوك الشخص المنفعل، أو في نشاطه المضمر الداخلي الذي تقوم به العضلات والغدد الداخلية أو عضلة القلب بمساعدة أجهزة خاصة تكشف عن الانفعال. ويتحكم في نشاط هذه الأعضاء الجهاز العصبي اللاإرادي، وقد يرافقه نشاط عقلي وتغير في إيقاع التنفس ودقات القلب وضغط الدم وإفراز الأدرينالين، ويتم كل ذلك لمواجهة الخطر في حالات الخوف والعدوان والغضب والأسى والاشمئزاز والألم، وفي حالات إيجابية جذابة كالفرح والبهجة والسرور والحب.
 
ويفرق بعض علماء النفس بين حالات الانفعال البسيطة المؤقتة، والأخرى المعقدة التي تكون على شكل عواطف ثابتة نسبياً، وتتركز حول موضوع محدد مثل محبة شخص معين أو جماعة معينة، أو فكرة محددة، أو عقيدة قد تتوحد في شخصيته، فيعرف بها في سلوكه اليومي، وتسمى هذه الحالة “عاطفة”.
ويلزمنا أن نعرف الفرق بين العاطفة والانفعال والحالة المزاجية:

  • فالعاطفة استعداد ثابت نسبياً (لأنها عادةً تتغير وتتبدل حسب الظروف)، وهي مركبة من عدة انفعالات تدور حول موضوع معين مثل: الحب والكره.

  • أما الانفعال فهو حالة مؤقتة لا تدوم طويلاً، إلا إذا تكررت الظروف المثيرة للانفعال، أو أطال الفرد التفكير في تلك الظروف، لأن من ينفعل بشيء مُحدد باستمرار (دائم الانفعال به) فهو كثير التفكير فيه.

  • والحالة المزاجية: هي حالة معتدلة نسبياً، تغشى الفرد فترة من الزمن أو تعاوده بين الحين والآخر؛ فالحالة المزاجية أقل عنفاً وأطول بقاء من الانفعال؛ مع أنها غير ثابتة أيضاً، لأن الإنسان عموماً من السهل أن يتعكر مزاجه ويتغير من حين آخر حسب الظروف المُحيطة به.

فهذه كلها ينحصر فيها الإنسان الطبيعي، وهي تختلف تماماً عن الانفعالات الروحية لأن ما يحركها ليست العواطف الإنسانية الطبيعية ولا يأثر فيها الحالة المزاجية للإنسان الطبيعي، بل ما يُحركها هو الروح القدس، إذ يُنشئ حركة داخلية في النفس في شد وجذب خاص نحو الله الحي، ومن خلال استجابة النفس (لهذا الجذب) بثقة الإيمان بكمال وعيها وتمام رغبتها، فأنه يعمل فيها بالتغيير الفعلي القائم على عمل المسيح الخلاصي، لأن الرب أتى لكي يجعلنا خليقة جديدة فيه، والروح القدس يعمل في داخلنا لكي يجددنا فعلياً بتغييرنا على صورة شخص ربنا يسوع المسيح…
 
ولكي نبسط الصورة سأُعطي مثال لكي ما نفرق ما بين الحالة النفسية والحالة الروحية، فمثلاً حينما يُشاهد طفل مسلسل كرتوني أو يقرأ أو يستمع لقصة تُحكى لهُ، فأنه – طبيعياً – يتأثر بها ويتخيل نفسه بطلٌ فيها، ويقوم بخياله الواسع بكل ما في القصة من أحداث ويعيش دور البطولة، ومن كثرة تأثره بها، فأن عند نومه يحلم بكل تفاصيلها حتى يشعر أنه فيها فعلاً ويحقق انجازات رائعة، ويعيش هذه اللحظات حتى أنه يصدقها فعلاً وكأنها حقيقة حتى في اليقظة، ولكن مع الوقت يُصدم بالواقع ويعود لرشده، لأن الأحلام مؤقته ولا يُمكن أن تستمر مع واقع الحياة اليومية المُعاشه..
أو مثل رجل فقير يحلم في حلم الليل أنه غني ذو ثراء فاحش، وعنده أملاك كثيرة للغاية، حتى انه يصدق أن ليس له حاجة لشيء ما قط، لأنه غنى وقد استغنى في كل شيء، ولكن متى عبر الليل واتى النهار، فأنه حينما يستيقظ يجد نفسه فقير عرياناً مرة أُخرى، وليس عنده أقل ما يحتاجه في معيشته اليومية…
 
وهكذا كل إنسان ينفعل بكلمة أو عِظة أو كتاب أو موقفٍ ما، أو حتى ينفعل بمعجزة ويفرح بها وبنشرها في كل مكان، أو يقرأ كُتب روحية ولاهوتية وينفعل فكرياً بها وتصبح جزء من حياته اليومية ويكتب تعليم ويبشر الناس بالخلاص وبعمل الله، وربما يُمارس الصلاة ويعمل كل واجب روحي، حتى أنه يصدق – بسبب انفعالاته النفسية – انه يحيا في حالة من النشوة الروحية ويحيا في شركة مع الله والقديسين في النور، ولكن بعد وقت نلاحظ أن حياته تتقلب من حين لآخر، لأنه حينما يحيا في واقع حياته المُعاشه والاحتكاكات اليومية سواء مع الزملاء في العمل، أو الأصدقاء، أو الأخبار المحيطة به والأحداث اليومية الصعبة وضيق الحياة الحاضرة، فأن القشرة الروحية التي تُغطية تسقط أمام تقلباته النفسية، لأنه ينفعل بها ويتأثر من الداخل، ويبدأ في التساؤل المشهور:
“أين الله في كل هذا، هل الله تركني، واين عنايته بالعالم، وما هو موقفه من الفقراء”.. الخ، وفي النهاية كلنا نتعجب كيف تحول شخص كنا نراه عظيم في الإيمان ونشيط في الكرازة والخدمة، لشخص فاقد الإيمان، ويحاول الكثيرين إقناعه بأن يَعدل عن رأيه بشتى الطرق الممكنة والغير ممكنه حتى يعود لإيمانه السابق، ولكن هيهات، لأنه لم يكن مؤمناً من الأساس بل كان شخص منفعل نفسياً بكلمة الله والحياة المسيحية، لذلك حاله تبدل وانقلب للنقيض بسبب هبوط في المشاعر أو التقلب في المزاج.. الخ، ولأن ليس هناك أصل ولم تُذرع كلمة الحياة في قلبه من الأساس!!!
فكيف لفلاح جلس أمام أرضه فرحاً بعد أن بذل مجهود فيها وكنسها ونقى منها كل ما هو ردئ وأزال الأعشاب التي فيها وكل شيء يضرها ويتلفها، ولكنه لم يزرعها وانتظر أن يتبدل لونها لتصير خضراء مُزهرة، مع أنه لم يزرع شيء فيها قط !!!
 
فيا إخوتي الإيمان بالله والحياة معه ليست انفعالات نفسية تتقلب حسب حالاتنا، لأن الحياة الروحية ثابتة متجددة، تنمو بلا توقف، أحياناً بسرعة واحياناً ببطيء شديد، لكنها تنبض بالحياة وتنمو، وتجعل الإنسان يتقدم للأمام ناسياً كل ما هو للوراء…
+ لذلك اطرحوا كل نجاسة وكثرة شرّ، فاقبلوا بوداعة الكلمة المغروسة القادرة أن تخلِّص نفوسكم (يعقوب 1: 21)
كلمة الله تُغرس بعمل الله السري وقبول الإنسان لها، فمستحيل يدخل الإنسان في سرّ الخلاص إلا بالكلمة المغروسة، لأن البذرة تُغرس في الأرض الجيدة لكي تأتي بثمر، فلا يكفي أبداً أن تكون التربة جيدة، ولا يُلقى فيها البذار فقط، بل تُغرس فيها غرساً ثم تُسقى وتُسمد بالسماد التي تحتاج إليه، حتى تنمو وتأتي بثمر يليق بما زُرع…
+ الحق الحق أقول لكم: أن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتمت فهي تبقى وحدها، ولكن أن ماتت تأتي بثمر كثير (يوحنا 12: 24)
 
فالإيمان الحقيقي إيمان حي له ثماره في حياتنا الشخصية، ولا يُمكن أن يُقام إلا بناء على رؤية ولقاء خاص مع الله، لأن من يستطيع ان يحيا مع شخص لا يعرفه ولم يقابله في حياته قط !!!
أينعم الإيمان هو الثقة بما يُرجى والإيقان يأمور لا تُرى، ولكن الإيمان اليقيني قائم على رؤية شخصية ومشاهدة بإعلان (تعالى وانظر):
[ فيلبس وجد نثنائيل وقال له: “وجدنا الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء يسوع ابن يوسف الذي من الناصرة”. فقال له نثنائيل أمن الناصرة يمكن أن يكون شيء صالح”، قال له فيلبس: “تعال وانظر” ] (يوحنا 1: 45 – 46)
[ الذي كان من البدء، الذي سمعناه، الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة. فأن الحياة أُظهرت وقد رأينا ونشهد ونُخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأُظهرت لنا. الذي رأيناه وسمعناه نُخبركم به، لكي يكون لكم أيضاً شركة معنا، وأما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح. ونكتب إليكم هذا لكي يكون فرحكم كاملاً ] (1يوحنا 1: 1 – 4)
 
فمن أين تأتي الشهادة الحقيقية لله، أمن الكتب أم بكثر المعارف الروحية واللاهوتية، أم من السمع والرؤية والمشاهدة واللمس من جهة كلمة الحياة، لأن كيف لنا أن نعرف الحياة أن لم نحياها بأنفسنا كواقع نعيشه، يعني مثلاً الرب يسوع كان يسير وسط جمع هائل يزحمه، وفجأة توقف وقال من لمسني، لأنه وجد أن قوة خرجت منه، وذلك بسبب أن امرأة بسيطة مست هدب ثوبة فشُفيت في الحال، هذه المرأة تذوقت عمل الله بلمسة خبرة مستحيل أن تُنسى…
فهل ممكن ان نتخيل أن ينسى لعازر – الذي كان ميت وقد انتن – خروجه من قبره، هل ممكن ان يتبدل حاله ويتقلب مزاجه فينسى أنه كان ميتاً والرب أقامه !!!
 
يا إخوتي أظن الآن عرفنا السرّ في أن لماذا الناس تهرب من آلام الصليب، ولا تحتمل مشاكل العالم وتقول الرب وعد أن يكون لنا فيه سلام، وعليه أن يحمينا؛ وأيضاً عرفنا لماذا تتقلب حياة البعض، والذين كنا نراهم في قمة الحياة الروحية وقد أصبحوا في قاع حمأة الشك القاتل للنفس؛ ولماذا يتبدل في البعض الفرح الإلهي (كما يظنون) إلى حزن يؤدي للكآبة والقرف من الحياة بكل ما فيها؛ وكيف ينكر البعض أنه يوجد إله من الأساس، بعد لما كانوا في عمق الحياة الروحية ومواظبين على كل أعمالها الصالحة بانتظام شديد مع خدمة متفانية بحماسة تفوق كل إمكانيات اي إنسان آخر؛ فهذا كله لأنهم كانوا في حالة ليست روحية حقيقية بل انفعالات نفسية طبيعتها متقلبة، لأن الفرح والسلام الإلهي الفائق لا يظهر أصالته ويعرف أحد حقيقته إلا في وسط الظروف الصعبة وعمق الضيقات المُرة…
 
فالضيق والألم (اللذان يأتوا طبيعياً) هما امتحان النفس الحقيقي، لكي يختبر كل إنسان نفسه ويعرف هل هو في الإيمان الحي الحقيقي، وفرح الرب قوته وسلامه يسكن قلبه وفكره، أم أن كل هذه خيالات وأحلام خاصة مبنية على انفعالات نفسية لا أصل ولا جذر لها، لأن الإيمان يُمتحن، لا أمام الله لأنه يعرف خفايا النفس، بل أمام كل واحد فينا لكي يستفيق ويعرف من هوَّ:
[ وحدث بعد هذه الأمور أن الله امتحن إبراهيم فقال له يا إبراهيم فقال هانذا. فقال خذ ابنك وحيدك الذي تحبه اسحق واذهب إلى أرض المُريا وأُصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك. ] (تكوين 22: 1 و2)
[ جربوا أنفسكم هل أنتم في الايمان، امتحنوا أنفسكم، أم لستم تعرفون أنفسكم، ان يسوع المسيح هو فيكم أن لم تكونوا مرفوضين ] (2كورنثوس 13: 5)
 
انظروا الآن كيف امتحن الله إيمان إبراهيم، وكيف نجح في هذا الامتحان، وأظهر أن إيمانه غير مبني على العواطف والأحاسيس الجسدانية المتقلبة، فهو كمؤمن بالله وضع ثقته في الله حبيبه الخاص، فأنه تخلى حتى عن عاطفة الأبوة الطبيعية وقدمها ببذل ابنه، فلو كان إبراهيم إيمانه نظري مبني على الحالة النفسية، كان انهار بالتمام أمام تقدمة ابنه وحيده، حبيبه الذي ولده في شيخوخته بعد انتظار الوعد بسنوات طويلة للغاية، ولكن لأن إيمانه إيمان حي، وتفاعله مع كلام الله بتأثير روحي حقيقي وليس نفسي، ووثق في الله ثقة مطلقة بدون مناقشة ولا سؤال، بل في طاعة أظهرت أن إيمانه حي مبني على ثقة حقيقية في الله الحي، وهذا هو الإيمان الحقيقي المبني على أساس روحي سليم، وهذا هو الفرق الكبير بين الإيمان المبني على مجرد انفعالات نفسية متقلبة، وبين الانفعالات الروحية التي فيها يظهر معدن الإيمان وفعله، وهو عطاء وبذل كل شيء وتقدمته أمام الله بلا تردد وبلا سؤال ولا نقاش، بل بثقة شديدة، لأن من يؤمن إيمان حي حقيقي يقول مع الرسول:
[ لهذا السبب احتمل هذه الأمور أيضاً، لكنني لست أخجل، لأنني عالم بمن آمنت وموقن أنه قادر أن يحفظ وديعتي إلى ذلك اليوم ] (2تيموثاوس 1: 12)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار