علم التاريخ

اليهودية تحكم نفسها: 640-609 ق



اليهودية تحكم نفسها: 640-609 ق

اليهودية
تحكم نفسها: 640-609 ق.م

عرفنا
أن منسَّى ظل موالياً لنينوى حتى نهاية حكمه إلى أن خلفه ابنه آمون (642640
ق.م)، والذي مارس سياسة أبيه ولكنه اغتيل داخل بيت أسرته([1])
بعد أن عاش 48 سنة حكم منها سنتين، وقد يُشك أن تكون هذه الجريمة قد اقترفت بيد
معادية لأشور وذلك بغية تغيير السياسة التي وضعها منسَّى وسار عليها ابنه([2]).
ولكن لم يستجب سكان الأرض لهذا الإيحاء وقبضوا على القتلة وحاكموهم وأقاموا يوشيا
بن آمون ليكون ملكاً، وكان صغيراً ابن 8 سنوات، وأجلسوه على العرش.

 

الحكم
أيام يوشيا
(640-609 ق.م):

بدأ
الاستقلال منذ بدء حكمه واضحاً وواقعاً- ولكن تسجيلات الحكم في السنين الأُولى له
ظلت غامضة وكانت على يد الحكماء الذين تولوا رعايته. ولكن على العموم كان الحكم
موالياً لأشور غير أنه كان معروفاً منذ تنصيبه ملكاً أن الاستقلال لابد قادم على
يديه. ففي السنة الثانية عشرة من حكمه (629 ق.م) سنحت له الفرصة لأول مرَّة عندما
كان أشوربانيبال قد شاخ وابنه شِن شار إشكون
Sin-shar-ishkun كان قد استولى على الحكم خلفاً له، عندئذ ابتدأت قبضة أشور تنفك
عن الممتلكات الغربية كلها دون تدخُّل منه، في ذلك الوقت ابتدأ يوشيا بالتحرُّك
لإصلاح مملكته على غرار داود الملك كما يمدنا سفر أخبار الأيام الثاني: “وفي
السنة الثانية عشرة (من ملكه) ابتدأ يطهِّر يهوذا وأُورشليم من المرتفعات والسواري
والتماثيل والمسبوكات وهدموا أمامه مذابح البعليم وتماثيل الشمس.. وكسر السواري
والتماثيل والمسبوكات ودقَّها ورشَّها على قبور الذين ذبحوا لها، وأحرق عظام
الكهنة على مذابحهم
” (2مل 34: 37). وطهَّر يهوذا وأُورشليم ومدن
منسَّى وأفرايم وشمعون حتى أرض نفتالي في الشمال، هدم المذابح كما صنع في يهوذا
وعاد إلى أُورشليم. وهكذا مسح الأرض كلها من العبادات الغريبة وامتد فامتلك إقليم
السامرة ومجدو وجلعاد التي كان الأشوريون قد فصلوها عن إسرائيل في الشمال، كما
امتد حتى شواطئ البحر الأبيض حتى جنوب يافا([3]). وقد اكتشفت
فيها حفريات وشقافة تثبت ملكية يوشيا لهذه المناطق. وقد رحَّب به أهل إسرائيل
المتبقون في الأرض وانضموا إليه لمقاومة بعض الفرق الأشورية المتبقية في الأرض،
حيث كانت أشور غير واعية لنفسها وقد رضيت بفقده كموالٍ لها، غير أنها بقيت كما هي
قوة معادية. وفي نفس الوقت كان بسماتيك ملك مصر قد بدأ يظهر كقوة في الجنوب. ويحكي
إرميا كيف كان يوشيا حيراناً بين مصر وأشور لأيهما ينضم، فوقف له إرميا بالمرصاد
يحذِّره: “والآن مالك وطريق مصر لشرب مياه شيحور، ومالك وطريق أشور لشرب مياه
النهر

(إر 18: 2). وهكذا بينما كان يسير يوشيا نحو القمة في القدرة والإصلاحات كانت أشور
تتدهور إلى الحضيض.

 

ملامح
نهضة يوشيا:

كان
يوشيا يسير بخطى النهضة والإصلاح كأفضل ما رأته اليهودية في تاريخها، ويأتي وصفها
في سفر الملوك الثاني هكذا: “وعمل المستقيم في عيني الرب وسار في جميع طريق
داود أبيه ولم يحد يميناً ولا شمالاً
” (2مل 2: 22). وفي السنة الثامنة عشرة للملك بدأت
إصلاحاته على أعلى مستوى إذ جمع الفضة التي استودعت في الهيكل وأرسل إلى البنائين
والصُنَّاع وجمع عمَّال الترميم وبدأوا في ترميم هيكل الرب: نجَّارون وبنَّاءون
ونحَّاتون، وشراء أخشاب وحجارة منحوتة لأجل ترميم البيت!! وإزاء هذه الحركة
المباركة من قلب الملك تحرَّكت السماء لتنعم على هذا الملك الأمين بما يتوافق مع مقاصده.
إذ حدث أن حلقيا الكاهن العظيم وجد سفر الشريعة في بيت الرب بينما كان يبحث عن
كنوز الذهب المخفية لبناء الهيكل، وكان في السابق قد نُسي سفر الشريعة هذا لأنه
اختفى وضاع. فاستحضره الملك وسمع منه كلام الشريعة وخاصة في التحذيرات والويلات
للذين يستهينون بالمقدسات “فلمَّا سمع الملك كلام الشريعة مزَّق ثيابه

” وأرسل الكاهن
العظيم والمسئولين عن البيت قائلاً: “اذهبوا واسألوا الرب لأجلي ولأجل الشعب
ولأجل كل يهوذا من جهة كلام هذا السفر الذي وُجد
” (2مل 21: 1113). فأرسلوا إلى نبيَّة في
أُورشليم اسمها خلدة، فأمَّنت على كل ما عمل الرب ويعمل في أُورشليم بسبب أن
الملوك السابقين خرجوا عن الشريعة وعبدوا الأوثان، أمَّا عن شخص يوشيا فقالت:
“هكذا قال الرب إله إسرائيل من جهة الكلام الذي سمعتَ- (في التوراة)- من أجل
أنه قد رقَّ قلبك وتواضعتَ أمام الرب حين سمعتَ ما تكلمتُ به على هذا الموضع
(بالشر) وعلى سكانه أنهم يصيرون دهشاً ولعنة ومزَّقتَ ثيابكَ وبَكيتَ أمامي. قد
سمعتُ أنا أيضاً يقول الرب. لذلك هاأنذا أضمُّك إلى آبائك فتُضم إلى قبرك بسلام
ولا ترى عيناك كل الشر الذي أنا جالبه على هذا الموضع
” (2مل 22: 1820).

وقد جال هذا الملك التقي أرض إسرائيل كلها من الشمال إلى
الجنوب ومسحها مسحاً وأباد الأصنام التي كان قد صنعها سليمان الملك والملوك الذين
بعده إلى آخر ما صنعه أبوه، وذبح كهنة البعل وأحرق عظامهم. وأقام قضاة في الأرض
كلها لاستتباب العدل والأمان. ودعا جميع الكهنة واللاويين من كافة الأعمار وبدأ
يقرأ لهم من سفر الشريعة فيما يخصهم، وبعدها وقف في وسطهم وأجبرهم أن يُعطوا عهداً
بقسم ليعبدوا الرب ويقيموا الناموس بحسب شريعة موسى، فارتضوا من أنفسهم ووعدوه،
وفي الحال قاموا بتقديم الذبائح وصلوا أمام الله أن يكون رحيماً مع الشعب وكثير
الإحسان كعادته. وبعد أن طهَّر البلاد هكذا دعا الشعب للاجتماع في أُورشليم وعمل
أمامهم الفصح للرب في أُورشليم وذبحوا الفصح في الرابع عشر من نيسان: “ولم
يُعمل فصح مثله في إسرائيل من أيام صموئيل النبي

[4])
(2أي 18: 35)، وقد دخل مع الشعب في عهد أمانة لله. هذا كله حدث في السنة الثامنة
عشر من ملكه التي توافق 622 ق.م.

وكان تجديد الهيكل وإقامة الشريعة بطقوسها شاهداً لنهضة
كبرى تمَّت على يد ذلك الملك. على أن نيَّة كسر نير الأشوريين بدأت عند يوشيا في
السنة الثامنة من ملكه سنة 633 ق.م، وفي السنة الثانية عشرة الموافقة 629 ق.م-
يوافق هذا التاريخ اعتلاء شن شارإشكون عرش أشور- بدأت أعمال تطهير العبادة وامتدت
حتى الشمال لإسرائيل. وفي السنة الثامنة عشرة الموافقة 622 ق.م ارتخت يد
الأشوريين
وزالت سطوتهم وهي السنة التي وُجدت فيها الشريعة فكان دافعاً قوياً للامتداد وفرصة
سانحة لقطع دابر عبادة الأشوريين في البلاد.

وأعلن
يوشيا أنه لا خلاص للبلاد مما حاق بها وسيحيق بها إلاَّ بالتوبة.

 

نهضة
يوشيا: العوامل والقيمة:

كان
لاكتشاف سفر الشريعة والمعتبر الآن أنه سفر “التثنية” أثر كبير، لأن معظم انفعالات
يوشيا كانت بإيحاء من سفر التثنية، خاصة فيما يكون عليه الكهنة والخدمة والهيكل
وهي التي ابتدأ بها في التجديد. ولأن سفر التثنية يحتسب أن عبادة الأوثان تُعد
جريمة عظمى فكان ذلك هو السبب في رفع حرارة يوشيا ضد الأوثان وعبادتها وعبادها
وكهنتها إلى أقصى حدود العنف. فقد ذبح الكهنة الذين كانوا يتعاملون معها حتى ولو
كانوا من أنصاف عبَّاد يهوه وأحرق عظامهم.

كذلك
كانت شجاعة يوشيا في تحطيمه العبادات الغريبة التي استقدمها أبوه من أشور تغلي في صدره بعامل الضد بالنسبة لأبيه
في كل شيء، بعد أن
رأى البلاد
وخاصة على ضوء الناموس كيف صارت لعنة بالنسبة لإسرائيل الأُولى.

كذلك
فإن عبادة أشور في البلاد وداخل أُورشليم والهيكل، وهو العدو المحتل الذي أذل
اليهود، تمثل بالنسبة ليوشيا المذكِّر بالذل، فإن مقاومتها تسري في دمه بعامل
الوطنية الحرة وروح الخلاص كحركة تحرير من الأساس. وتطهيره للعبادة حتى أقصى
البلاد في الشمال كان جزءاً من طموحه لضم وتوحيد البلاد لتكوين إسرائيل الحرة.
فكان توحيد العبادة الصحيحة أعظم خطوة لتوحيد البلاد سياسياً.

وسرت
روح الحرية في يوشيا بعد ما نجح في إزالة كل الأصنام والعبادات الوثنية في
البلاد، وهي الروح التي كانت تدفعه لرؤية البلاد تستعيد أمجادها الأُولى كأيام
داود.

ودخول
عنصر الأنبياء وإعطاؤه الفرصة ليستمعه الشعب وسط هذه الإصلاحات الجريئة كان أكبر
معين ليوشيا، إذ جهَّز له الشعب لقبول هذه الإصلاحات دون معارضة تذكر. كما أمدَّ
الملك بإحساس رضى الله عن أعماله ودفعه للمزيد من الجهاد في الإصلاح إذ سمع من
نبوَّة صفنيا أجمل ما يمكن أن تسمعه أذناه:

+
“ترنَّمي يا ابنة صهيون (في الجنوب)، اهتف يا إسرائيل (في الشمال) افرحي
وابتهجي بكل قلبك يا ابنة أُورشليم (عاصمة الملك ومقر هيكل الله العظيم) قد نزع
الرب الأقضية عليكِ أزال عدوكِ، ملك إسرائيل الرب، في وسطك، لا تنظرين بعد شرًّا..
الرب إلهك في وسطك جبَّار” (صف 3: 1419)

 

السنين
الأخيرة ليوشيا:

لقد
امتدت إصلاحات يوشيا بامتداد الأرض أمامه من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال وليس من
محاسب، لا جزية ولا رقابة. فكانت هذه الحرية بالنسبة له العامل الذي ظلَّ يلح عليه
نحو المزيد من إصلاحاته. على أنه اهتم بالناحية العسكرية ليحمي حريته التي اغتصبها
من يد الغاصب. والمعروف أنه بقطع عبادة الأوثان وإصلاح عبادة يهوه وسماع كلمات
الشريعة دُفعت البلاد إلى عهد إصلاح أخلاقي وسلوكي وأدبي جديد لم تكن تعرفه، وعادت
أُورشليم لتكون مركز العبادة ومقر حج الألوف من الساعين إليها من جميع البلاد (إر
5: 41).

ولكن
بالرغم من كل هذه المظاهر الجيدة التي سارت في موكب النهضة وما رافقها من عودة إلى
الشريعة وعبادة يهوه في الهيكل، كانت كل هذه التجديدات تحتاج إلى مَنْ يرسِّخها
بالتعليم والرعاية والقدوة. كذلك فإن مظاهر العبادة وبداية التمسُّك بالناموس دون
دوافع حقيقية في الداخل أدخلت المظاهر الريائية التي ابتدأ يرثها جيل وراء جيل.
كذلك الكهنة والمعلمون لمَّا كان استدعاؤهم بأمر تكليف وضغط وليس عن عمق معرفة
وسعي داخلي، بقيت الديانة عندهم صنعة ومهنة وتوارثها الخلف عن السلف. لذلك كانت
نهضة يوشيا الملك بادرة ذات لمعان خارجي ولكنها تخلو من حقيقة النور والروح والحق.

 

موت
يوشيا الملك وفقدان الحرية المؤقتة:

في
هذه الأثناء التي كنَّا منشغلين فيها بيوشيا الملك وقيام عصر النهضة والحرية التي
يمكن أن تبشِّر بالخير لو ترسَّخت ودامت، قامت مملكة بابل ومادي وأنزلت بأشور حتى
التراب سنة 612 ق.م وسقطت مدينة نينوى. ولكن بالرغم من أهمية هذا الخبر ليوشيا
واليهودية إذ سقط الجبار الذي استبد بهم، ولكن ما فتئ أن قامت النسور الجارحة
تقتسم الجثة والخاسر الوحيد فيها في ذلك الوقت هو اليهودية، لأن يوم الحرية
والتحرر كان لا يزال بعيداً جداً.

فلمَّا
قامت مملكة بابل باتفاق مع مادي في الانقضاض على أشور، يخبرنا سفر أخبار الأيام
الثاني (20: 35) أن نخو الثاني ملك مصر (610594 ق.م) الذي خلف بسماتيك
أباه قام بقوة كبيرة متجهاً إلى كركميش على الفرات ليساعد أشور أوباليت
Asshur-uballit ليسترد معه حاران التي سقطت في يد البابليين: “صعد نخو ملك
مصر إلى كركميش ليحارب عند الفرات (لحساب أشور) فخرج يوشيا للقائه

” (2أي 20: 35)،
فكانت حماقة من ملك اليهودية أن يتصدى لملك قوي كأنه قادر أن يصده عن التحالف مع
أشور. وبالرغم من أن نخو ملك مصر أرسل إليه: “فأرسل إليه رسلاً يقول: مالي
ولك يا ملك يهوذا لست عليك أنت اليوم ولكن على بيت حربي والله أمر بإسراعي، فكفّ
عن الله الذي معي فلا يهلكك
” (2أي 21: 35). ولكن للأسف لم يسمع يوشيا ولم يرتدع:

+
“ولم يحوِّل يوشيا وجهه عنه بل تنكَّر لمقاتلته ولم يسمع لكلام نخو من فم
الله بل جاء ليحارب في بقعة مجدُّو. وأصاب الرماة الملك يوشيا فقال الملك لعبيده انقلوني لأني جُرحت جداً.. وساروا
به إلى
أُورشليم فمات ودُفن في
قبور آبائه وكان كل يهوذا وأُورشليم ينوحون على يوشيا
” (2أي 35: 2224)

+
“ولم يكن قبله ملك مثله قد رجع إلى الرب بكل قلبه وكل نفسه وكل قوته حسب كل
شريعة موسى وبعده لم يقم مثله” (2مل 25: 23)

وقد رثاه إرميا النبي بمرثاة طويلة وكذلك حزقيال النبي،
علماً بأن هذين النبيين هما كاهنان بالميلاد حسب تحقيق يوسيفوس المؤرِّخ([5]).
وقد سكن إرميا في أُورشليم في السنة الثالثة عشرة لحكم يوشيا حتى سقطت المدينة
والهيكل وتمَّ خرابها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار