اللاهوت العقيدي

النعمة فى كتابات آباء الكنيسة



النعمة فى كتابات آباء الكنيسة

النعمة
فى كتابات آباء الكنيسة

 

هناك
تيّاران في لاهوت النعمة عند الآباء:

فالآباء
الشرقيّون يرون النعمة في تأليه الإنسان.

بينما
يرى الآباء الغربيّون النعمة في التحرّر من الخطيئة.

فالتيّار
الأوّل يستند إلى كتابات يوحنا الإنجيلي، ويشدّد على تجسّد الكلمة الذي بواسطته
يصبح الإنسان ابن الله، بينما يرتكز التيّار الثاني على رسائل بولس الرسول، ويرى
في النعمة مساعدة يعطيها الله للإنسان ليحيا حياة قداسة على مثال المسيح. فالتيار
الأول يركّز على كيان الإنسان، بينما يركّز التيّار الثاني على عمله. فالنعمة عند
آباء الكنيسة الشرقيّة تهدف إلى رفع كيان الإنسان ليصير على صورة الله. أمّا عند
آباء الكنيسة الغربيّة فتهدف إلى تحرير الإنسان من الخطيئة.

 

أولاً-
آباء الكنيسة الشرقيّة

لقد
عبر الآباء عن أفكارهم في موضوع النعمة بمناسبة ما كتبوه في الأسرار وما قام من
جدل لاهوتي حول سريّ التجسّد والثالوث الأقدس.

 

أ)
النعمة والأسرار

النعمة
هي حضور الثالوث الأقدس في نفوس الذين يتقبّلون سرّ المعموديّة، فيولدون من جديد،
ويتّحدون بالله، وما حياتهم إلاّ تطبيق لما حصلوا عليه بالمعموديّة.

 

1-
ايريناوس: يشدّد على الولادة الجديدة أكثر ممّا على مغفرة الخطايا. فبالمعموديّة
ينال المؤمن الروح القدس الذي يسكن فيه ويتّحد به.

 

وهذا
الروح يجعل من المؤمن ابن الله، شبيهاً بالابن، إنساناً روحياً، بانتظار ملء النعم
في رؤية الله في المجد الأبديّ.

 

“فالاتّحاد
بالروح القدس لا يمكن فصله عن الاتّحاد بالابن والآب. فالنعمة إذاً هي قبل كل شيء
موهبة غير مخلوقة: إنها حضور الثالوث في المؤمن لتقديسه ومساعدته على أن يكون
إنساناً روحيّاً.

 

2-
أوريجانوس: يرى في المعموديّة أساس الحياة الروحيّة كلها في مختلف مراحلها.
فالمعمودية تشرك الإنسان في حياة الكلمة؛ والروح، بالإيمان والمعرفة والمحبة،
يقوده إلى الآب. فيصير إنساناً جديداً، قد تحرر من الاستعباد للخطيئة، وأخاً
للمسيح وابناً للآب.وهكذا يشترك في الطبيعة الالهيّة بالمحبة والروح اللذين أفيضا
في قلبه.

 

بالروح
يشترك المسيحيّ في الكلمة الذي يصبح فيه مبدأ حياه إلهية. وهكذا يتجدّد سكنى الكلمة
في أحشاء مريم وميلاده في أعضاء جسده السري. وتلك السكنى تصيّر الإنسان على صورة
الكلمة. “إني أعلم ما في النفس التي يسكنها الله، وها هي النفس المقفرة. إن
لم يكن الله فيها، إن لم يكن فيها المسيح الذي قال: أنا وأبي سنأتي إليه وعنده
نجعل مقامنا، إن لم يكن فيها الروح القدس، فالنفس مقفرة. ولكن إن سكن فيها الله
والمسيح والروح القدس، فهي ممتلئة من الله.

 

3-
كيرلس الأورشليمي: إن المعموديّة تمنحنا الروح القدس ومواهبه المختلفة: “إن
المعموديّةَ التي ستتقبلونها هي أمر عظيم: إنها انعتاق الأسرى، مغفرة الخطايا، موت
الخطيئة، ولادة جديدة للنفس، ثوب من نور، ختم مقدس لا يمحى، طريق إلى السماء، نعيم
الفردوس، عربون الملكوت، موهبة التبّني”. ثم يذكر سكنى الروح القدس في النفس،
التي تصبح “مسكنا إلهيّا”.

 

ب)
التجسد مبدأ التأليه والتبنّي

1-
التأليه والصورة والمثال: يرى آباء الكنيسة الشرقية في تألّه الإنسان النعمة
الكبرى التي يمنحها الله “للإنسان. فبينما كان الفلاسفة اليونان ينشرون
نظريّة أفلاطون في التشبّه بالله، والأديان اليونانية تسعى إلى الوصول إلى خلود
الآلهة بواسطة طقوس سحريّة أو طرق تقشّف بشريّة، راح اللاهوتيّون المسيحيّون يعلنون
أن الاشتراك في الطبيعة الإلهية والتشبه بخلود الله والتأله لا يستطيع الإنسان أن
يصل إليها بجهوده الخاصّة، بل هي نعمة من الله. فالله نفسه نزل إلى البشر وتجسّد
ليرفع الإنسان إليه ويشركه في حياته الإلهية. وقد صار أمراً تقليديًّا في اللاهوت
الشرقيّ تقسيم تاريخ الخلاص إلى ثلاث مراحل:


خلق الله للإنسان على صورته ومثاله


سقوط الإنسان بالخطيئة الأصليّة


إعادة الصورة القديمة بالتجسّد والفداء

ويقوم
التألّه، أو اشتراك الإنسان في الطبيعة الإلهية الذي ورد ذكره في رسالة بطرس
الثانية (1: 4)، على الخلود وعدم الفساد والحياة الأبديّة بعد الموت. فالإنسان
مائت من طبيعته، أمّا الله فمن طبيعته لا يموت. ومن ثمّ فالاشتراك في طبيعة الله
يعني أولاً عدم الموت.

وعندما
يفسّر آباء الكنيسة قول الكتاب المقدّس إنّ الله خلق الإنسان “على صورته
ومثاله” يميّز بعضهم بين الصورة والمثال.

فالصورة
هي في طبيعة الإنسان، إمّا في جسده، ونفسه حسب إيريناوس، إمّا في نفسه فقط حسب
أكّليمنضوس الإسكندريّ وأوريجانوس. وهذه الصورة لا تُفقد بالخطيئة.

أمّا
المثال فقد فقده الإنسان بالخطيئة، وأعاده إلينا الكلمة المتجسّد. فمن يقبل خلاص
المسيح وفداءه يشترك في الطبيعة الإلهية، أي في عدم الفساد وفي الحياة الأبديّة.

 

أمّا
أثناسيوس وغريغوريوس النبيصيّ فيريان في “الصورة” ختماً إلهيًّا يضعه
الله في روح الإنسان وعقله. وهذا الختم يصبح قاتماً بالخطيئة، ويعيده الفداء إلى
بهائه الأوّل. أمّا “المثال” فهو الاقتداء والتشبّه بالله. فالإنسان
يصير تدريجياً على مثال الله يتألّه باشتراكه في حياة المسيح الإله، وذلك بواسطة
الإيمان وسري المعموديّة والافخاريستيا.

 

2-
التبنّي: يرى أثناسيوس وكيرلّس أنّ التألّه لا يمكن أن يحصل عليه الإنسان إلاّ
بالتبنّي. فالطبيعة الإنسانيّة معرّضة للفساد وبعيدة كلّ البعد عن الله. الله وحده
يستطيع أن يؤلّه الإنسان. وقد صنع ذلك بواسطة الابن الذي تجسّد ليجعل من جميع
الناس أبناء الله. فالابن وحده صورة الله المماثلة للآب. فهو وحده إذاً يستطيع أن
يجعل الإنسان على مثال الله. “الابن إله، لأنّه يؤلّهنا”. “لقد صار
الله إنساناً لكي يصير الإنسان إلهاً.”

 

ج)
الروح المحيي:

يشدّد
آباء الكنيسة اليونانية على ما يميّز الروح القدس عن الخلائق. فالروح يقدّس
الإنسان ويؤلّهه، فهو إذاً قدوس وإله، يقول أثناسيوس. وكذلك يقول القدّيس
غريغوريوس النزينزيّ: “إذا كان الروح القدس لا يحقّ له السجود والعبادة
(كإله)، فكيف يصيّرني إلهاً بالمعموديّة؟” ويتكلّم باسيليوس عن حضور الروح
القدس في النفس حضوراً مقدّساً ومؤّلهاً. “وهذا الروح هو قدوس من طبيعته كما
أنّ الآب هو قدوس والابن قدوس من طبيعتهما”.

 

يشبّه
كيرلّس الإسكندريّ موهبة الروح بالختم الذي نقشت عليه زهرة. فالختم هو الروح القدس
نفسه، والزهرة المنقوشة على الختم هي النعمة الخلوقة. فلا وجود للنعمة في نفس
المؤمن إلاّ إذا حضر الروح القدس نفسه ليسكن في تلك النفس. وهكذا يشترك المسيحيّ
ليس فقط بمساعدات الروح القدس، بل يشترك في الطبيعة الإلهية ذاتها.

 

ثانياً:
آباء الكنيسة اللاتينية

يرى
آباء الكنيسة اللاتينيّة في النعمة حافزاً داخلياً به يقود الله الإنسان ويساعده
على عمل الخير وعلى السير بثبات نحو الحياة الأبدية. وقد أكّدوا دور الروح القدس
الذي يعمل في داخل الإنسان ليسير به على طريق القداسة. في هذا المعنىّ يقول
ترتوليانوس إن النعمة هي “قوة إلهية”.

 

فبينما
يشدّد الآباء الشرقيّون على تحوّل كيان الإنسان الذي يتألّه ويصبح بالنعمة ابن
الله، يركّز اللاتينيّون على دور النعمة في عمل الإنسان: فتشفيه من ميوله وشهواته
المنحرفة وتساعده على تتميم وصايا الله.

 

أ)
القديس أوغسطينوس

لقد
كان للقديس أوغسطينوس تأثير حاسم على لاهوت النعمة في الغرب حتى يومنا هذا. لذلك
لا بدّ من التعمّق في أفكاره في هذا الموضوع.

 

تتميّز
نظرته إلى النعمة بالتشديد على مجانيّة هبة الله:

1-
فالإنسان، بسبب سقطة الخطيئة الأصلية، هو عبد للشهوة والخطيئة، ولا يملك في ذاته
الِحرّية والقدرة ليحب الخير ويتمّمه. فالحرّية تقوم على محبة الخير وعلى توجيه كل
عمل يقوم به الإنسان نحو الحياة مع الله.

 

2-
إلاّ أن نعمة المسيح تبرّر الإنسان الساقط، وتعيد إليه الحريّة وتضع في قلبه محبة
الخير وتساعده على تتميم وصايا الله. فالتبرير هو عمل الله الذي يهدي الخاطئ إلى
طريق البر، فيحرّره تدريجياً من الشهوة ويملأه من المحبة.

 

3-
إن الإيمان الذي به يقبل الإنسان رسالة المسيح هو أيضاً نعمة من الله.

 

4-
بالمعموديّة يولد الإنسان من جديد ويصبح عضواً في جسد المسيح وابناً لله وهيكلاً للروح
القدس. في هذا يتفق أوغسطينوس مع آباء الكنيسة اليونانيّة.

 

5-
التبرير يتضمّن موهبة الروح القدس غير الخلوقة وموهبة المحبة الخلوقة. فالنعمة في
كتابات أوغسطينوس هي تارة الروح القدس نفسه وتارة نتيجة حضوره أي موهبة المحبة
التي تساعد الإنسان على تتميم إرادة الله.

 

6-
إن النعمة لا تعطي فقط الإنسان إمكانيّة عمل الخير والقدرة على عملِ الخير، بل إن
كل عمل صالح وخلاصيّ يقوم به الإنسان هو من فعل النعمة. فالنعمة إذاً في هذه
النظرة هي المساعدات المستمرّة التي يمنحها الله للإنسان ليتمّم بملء رضاه أعمال
البرّ والصلاح.

 

7-
إن الإنسان الذي يقبل نعمة الله ويعمل أعمال البرّ يستحقّ الحياة الأبديّة، إلاّ
أن الخلاص الأبديّ لا ينتج عن استحقاقات الإنسان بل هو موهبة من الله لا يستطيع
الإنسان الحصول عليها إلاّ بالصلاة.

 

8-
التحديد السابق من قبل الله لخلاص بعض الناس: إستناداً إلى رو 8: 29 “إن
الذين سبق فعرفهم، سبق أيضاً أن يكونوا مشابهين لصورة ابنه”، يرى أوغسطينوس
أنّ الله يعرف منذ الأزل ويحدّد الأشخاص الذين سيخلصون. فهؤلاء ينالون من الله
موهبة الثبات في النعمة. أمّا الذين يهلكون فيهلكون بحرّيتهم، إلاّ أنهم لم ينالوا
نعمة الثبات. فالله يختار بعض الناس ويمنحهم نعمة خاصّة، مع أنه يدعو الجميع إلى
الخلاص.

 

لا
يمكننا اليوم قبول نظرية أوغسطينوس هذه. فالله لا يميّز بين أبنائه بالنسبة إلى
الخلاص. بل يمنحهم جميعاً النعمة الكافية لكي يصلوا إلى الحياة الأبديّة. والنعمة
التي تعطى للجميع، تبقى نعمة، وإن أعطيت للجميع. أمّا أوغسطينوس فيعتبر أن النعمة
لا تكون نعمة إذا أعطيت لجميع الناس.

 

كذلك
لا يعطي أوغسطينوس لحريّة الإنسان الأهميّة التي يجب إعطاؤها. وكأنه لا يرى قدرة
الإنسان على رفض النعمة.

 

ب)
بيلاجيوس ومجمع قرطاجة

1-
بيلاجيوس راهب إيرلندي الأصل عاش في رومة حوالي سنة 400، ثم انتقل إلى شماليّ
إفريقيا ثم إلى أورشليم.

 

يمكننا
إيجاز تعليمه في النعمة في العبارة التالية: ان الإنسان يستطيع تتميم وصايا الله
بقواه الذاتيّة، ولا حاجة له إلى مساعدة إلهيّة لا لإرادة الخير ولا لتتميمه.

 

يميّز
بيلاجيوس في الإنسان ثلاثة أمور: القدرة والإرادة والكيان. فالقدرة على عمل الخير،
أي الحريّة، هي “النعمة” التي وهبها الله للإنسان. أما إرادة عمل الخير
وتنفيذ هذا العمل في كيان الإنسان فيعودان إلى الإنسان فقط. إلاّ أن الله يساعد
الإرادة بمساعدات خارجيّة: تعاليم الكتاب المقدّس، موعد الخيرات الآتية في الحياة
الأبديّة، التحذير من فخاخ الشيطان. ولكن بيلاجيوس يرفض أيّ وجود لمساعدات داخليّة
يمنحها الله للإنسان، وذلك لسببين: 1) لأن الإنسان ليس بحاجة إليها، فحريّته تكفي
لذلك، 2) لأنّ الله لا يمكن أن يكون عنده “محاباة وجوه” لتفضيل إنسان
على آخر.

 

2-
مجمع قرطاجة (411) حرم تعاليم بيلاجيوس في البنود التالية:

البند
3. لا تقتصر نعمة التبرير على مغفرة الخطايا التي ارتكبها الإنسان، بل هي أيضاً
مساعدة لكي لا يخطأ الإنسان.

 

البند
4. ان نعمة المسيح التي تساعدنا على الابتعاد عن الخطيئة لا تمنحنا فقط معرفة
الخير والشر، بل نهبنا أيضا محبة الخير والقدرة على تتميمه.

 

البند
5. إن النعمة لا تمنح فقط سهولة أكثر، بل بدونها لا نستطيع أن نتمم وصايا الله.

 

البنود
6، 7، 8. لا يستطيع أي من القديسين أن يجتنب الخطيئة. وعندما يقولون “اغفر
لنا خطايانا” يقولون ذلك عن حقّ وليس عن تواضع.

 

ج)
البيلاجية المعتدلة:

 

نشأت
في بعض أديرة للرهبان في مرسيلية. وكانت ردة فعل -ضرورية ولكن متطرّفة- ضد تعاليم
أوغسطينوس في التحديد السابق والنعمة الكافية التي لا بدّ منها للخلاص. فأكّدوا أن
الله يريد خلاص جميع الناس، إلاّ أنّه يمنحهم نعمه على قدر طلبهم. إن الله يعرف من
هم الذين سيخلصون، إلاّ أنه لا يميّز بين شخص وآخر، بل يحبّهم جميعا دون تفرقة.
إنما ينتظر من قبل الإنسان إبداء الرغبة في الحصول على نعمة الإيمان وطلب تلك
النعمة. فبداية الإيمان ليست من عمل النعمة بل من عمل الإنسان.

 

كذلك
يعتبرون أن الخلاص الأبديّ ليس نعمة خاصة من الله، بل هو ناتج عن استحقاقات
الإنسان.

 

د)
مجمع اورانج (529) شدَّد على أمرين: الله هو مصدر كل إيمان وخلاص، ولا يستطيع
الإنسان أن يقوم بأي عمل خلاصي دون النعمة.

 


فالنعمة تسبق كل جهد بشريّ، وهي مصدر كل صلاة ورغبة صالحة وكل عمل خلاصيّ ولا
يستطيع إنسان أن يصل إلى الإيمان من دونها.

 


ثم إن النعمة ضروريّة للثبات في الإيمان وتتميم الوصايا والنموّ في الحياة
المسيحيّة.

 


أما بالنسبة لتحديد الله السابق للمخلّصين، فقد أعلن الجميع أنه لا تحديد سابق من
قبل الله للهالكين. فجميع من اعتمدوا يمنحهم الله النعمة الكافية للخلاص، إن هم
ارادوا وتجاوبوا مع تلك النعمة.

 

الفصل
الثالث البروتستنتيّة والمجمع التريدنتيني

إن
موضوع النعمة هو الموضوع الرئيس الذي قسم الكنيسة الغربية إلى كاثوليكية
وبروتستنتيّة. فمحور النقاشات كان الدور الذي يجب أن يعطى لنعمة الله من جهة
ولأعمال الإنسان من جهة أخرى في “تبرير الخاطئ أمام الله” وحصول الإنسان
على الخلاص.

 

ولقد
اعتبر المصلحون البروتستنتيّون أن طاعتهم للبابا وبقاءهم في الكنيسة الكاثوليكية
هما رهن بقبول البابا نظرتهم في هذا الموضوع. إلاّ أن الكنيسة الكاثوليكيّة، في
المجمع التريدنتيني، رفضت النظرة البروتستنتيّة وحرمت أتباعها.

 

ما
هي بالإيجاز تعاليم البروتستنتيّة وتعاليم المجمع التريدنتينيّ في موضوع النعمة؟

 

أولاً-
النعمة في لاهوت الإصلاح البروتستنتي

1-
الخطيئة الأصليّة أفسدت بطريقة جذريّة طبيعة الإنسان. ومن ثمّ لا وجود للحريّة
التي تتيح للإنسان تتميم أعمال برّ وصلاح. فالإنسان خاطئ في كيانه وفي جميع
أعماله. نعمة الله هي التي تبرّره وتعمل فيه كل عمل صالح يقود إلى الحياة
الأبديّة. والشرط الكافي والضروري للحصول على هذا التبرير هو الإيمان. والإيمان
ليس اعتناقاً فكرياً لحقائق عقائديّة، بل هو عمل إرادة به يثق الإنسان برحمة الله
الذي ينحني على الإنسان ويغفر له خطاياه.

 

2-
التبرير الذي يحصل عليه المؤمن لا ينفذ إلى صميم طبيعته الإنسانيّة. بل يبقى
عرضيًّا وخارجيًّا. يبقى الإنسان المبرَّر خاطئاً. إلا أن خطيئته لا تحسب عليه.
انه، حسب تعبير لوتر، “خاطئ وبارّ في آن معاً”.

 

3-
الأعمال لا تقود إذاً إلى التبرير. فالإيمان وحده يبرّر الإنسان. إلا أن الإنسان
يجب ألاّ يكتفي بالإيمان، بل أن يقرن الإيمان بالعمل.

 

يقول
ملنختون إن الأعمال هي ثمار الإيمان. وإن لم تكن هي التي تبرّر الإنسان إلا أن
الله قد أوصى بها، ولا بدّ للمسيحيّ من أن يظهر إيمانه بحياة جديدة في تتميم جميع
وصايا الله وجميع تعاليم المسيح.

 

إلاّ
أن الخلاص الأبديّ لا يحصل عليه المؤمن بما يقوم به من أعمال صالحة. فالإنسان،
مهما قام بجهد ومهما صنع من أول صالحة ومهما بلغ من كمال وقداسة، فإنه يبقى
خاطئاً، ولن يستحقّ بأعماله وبحياته الحياة الأبديّة. فالخلاص هو نعمة مجانيّة
استحقها لنا “المسيح وحده” بموته الفدائيّ وقيامته. “النعمة وحدها،
“المسيح وحده”، “الإيمان وحده”، هي العبارات الثلاث التي توجز
فكرة المصلحين في النعمة والتبرير والخلاص الأبديّ.

 

ثانياً:
المجمع التريدنتينيّ (الدورة السادسة، 13 كانون الثاني 1547)

أعلن
المجمع التريدنتينيّ العقيدة الكاثوليكية حول النعمة في “القرار في
التبرير”. وفيه يتكلم عن التبرير الذي يحصل عليه الإنسان البالغ. أمّا
الأطفال الذين يتبرّرون بالمعمودية دون أيّ مساهمة من قبلهم، فلا يأتي المجمع على
ذكرهم في هذا القرار.

 

في
16 فصلا و33 بنداً يعرض المجمع للخلاص والتبرير اللذين يمنحهما الله للإنسان
باستحقاقات يسوع المسيح، ويؤكد ضد التعاليم البروتستنتية مساهمة الانسان في الخلاص
والتبرير باستحقاقات إعماله الصالحة. سنكتفي هنا بإيجاز الفصول الستة عشر:

 

1-
إن الخطيئة الأصلية قد جعلت الناس “عبيداً للخطيئة”، بحيث لا يستطيعون
الحصول على التبرير بقواهم الطبيعية أو بتتميم الناموس.

 

2
و3- المسيح، بموته، برّرنا. ومن يولد من جديد يشترك في آلام المسيح ويصبح ابن الله
ويصل على النعمة التي تصيّره باراً.

 

4-
تبرير الإنسان يتمّ بالمعموديّة، كما كتب: “لا أحد يستطيع أن يدخل ملكوت الله
ما لم يولد من الماء والروح” (يو 3: 5).

 

5-
إن الله قد أحبّنا أولاً. فهو إذاً يعطي النعمة للإنسان دون أيّ استحقاق من قبل
الإنسان. إلا أن الإنسان لا يفقد حريّته، بل يستخدمها عندما يقبل نعمة الله
السابقة. والنعمة السابقة هي التي تسبق ارتداد الإنسان وتبريره.

 

6-
التمهيد للحصول على التبرير: يهيّأ الإنسان للحصول على التبرير بطرق مختلفة: نعمة
الله السابقة؛ الإيمان بالوحي وبأن الله هو الذي يبرّر الخاطئ؛ التوبة؛ التصميم
على نيل المعموديّة وعلى بدء حياة جديدة وعلى تتميم وصايا الله.

 

7-
التبرير ليس مجرد غفران للخطايا بل تجديد الإنسان الداخليّ بتقبل النعمة. فالإنسان
الخاطئ يصبح بارًّا في صميم كيانه ووارثاً للحياة الأبديّة.

 

8-
الإيمان يبرّر الإنسان بمعنى ان الإيمان هو بدء الخلاص والتبرير.

 

9-
لا أحد يستطيع أن يعرف معرفة أكيدة لا تحتمل الشكّ والخطأ انه نال النعمة. فمن جهة
يجب آلا نشك في رحمة الله، ومن جهة أخرى يجب أن نعي دوماً ضعفنا وإهمالنا
وتقصيرنا.

 

10-
البرّ الذي يحصل عليه الإنسان ينمو بالأعمال الصالحة.

 

11-
تتميم الوصايا ممكن وضروريّ للإنسان المبرّر. فالإيمان وحده لا يكفي

 

12-
لا أحد يستطيع أن يقول إنه من عداد المخلّصين الذين سبق الله فحدّد أن يحصلوا على
الخلاص. لأن كل إنسان معرض للخطيئة ويمكن أن يقع في الخطيئة

 

13-
نعمة الثبات في الإيمان وفي النعمة: لا أحد يستطيع أن يقول إن الله سيمنحه إياها
حتى وإن كان هو غير أمين لله بتتميم الأعمال الصالحة.

 

14-
من نال النعمة التبرير ثم عاد فسقط في الخطيئة يفقد الخالع. لكنه يستطيع بسر
التوبة استعادة النعمة التي فقدها.

 

15-
بالخطيئة المميتة لا يفقد الإنسان إلاّ النعمة، أمّا الإيمان فلا يُفقَد سوى
بالجحود.

 

16-
ثمار التبرير: إستحقاقات الأعمال الصالحة، حسب قول بولس الرسول: “كونوا
مستزيدين على الدوام في عمل الرب، عالمين أن تعبكم ليس بباطل في الرب” (1 كو
15: 58)، “ان الله ليس بظالم حتى لينسى عملكم الصالح والمحبة التي ابديتموها
لأجل اسمه” (عب 6: 10)، “لا تفقدوا ثقتكم فإنّ لها جزاء عظيما…”
(عب 10: 35). لذلك فالحياة الأبديّة هي في آن معاً نعمة وعد بها المسيح أبناء الله
ومكافأة يمنحها الله جزاء الأعمال الصالحة. ذلك هو “إكليل البر الذي سيجزي به
الله الديّان العادل… مع الذين أحبّوا ظهوره” (2 تي 4: 7).

 

ان
يسوع هو الذي يمنح دوماً قوّته للمبرّرين، “كالرأس للأعضاء” (اف 4: 15)،
و”كالكرمة للأغصان” (يو 15: 5). وهذه القوة تسبق وتصحب وتتبع دوماً
أعمالهم الصالحة، وبدونها لا يمكن أن تكون هذه الأعمال مرضيّة أمام الله ومستحقّة
الجزاء.

 

إن
محبة الله للبشر عظيمة إلى حدّ أنها تجعل من مواهبه استحقاقات لهم.

 

ثالثًا-
ماذا بقي اليوم من هذا النقاش بين الكاثوليك والبروتستنت؟

يُعتبر
اليوم النقاش الذي جرى بين الكاثوليك والبروتستنت في القرن السادس عشر أمراً عفّاه
الزمن. ويمكننا اليوم أن نرى بوضوح كيف كان كل فريق يؤكّد بشدة ناحية معيّنة من
العقيدة الواحدة. وبلغت حدّة النقاش بالبعض إلى مواقف متصلّبة منافية لتعليم
كنيستهم. نذكر على سبيل المثال قول أحد اتباع لوثر الغيورين، نيكولا فون امسدورف:
“إن الأعمال الصالحة مضرّة للخلاص وللحياة الأبديّة”. ان نقطة انطلاق
لوثر هي مجانيّة الخلاف، إلا أن قولا كهذا يناقض آراءه التي نجد فيها اعتدالا. فمع
تشديده على مجانيّة الخلاص وأوّلية الإيمان بالنسبة إلى الأعمال، يعتبر، في تقديمه
للرسالة إلى الرومانيين في طبعته الألمانيّة للكتاب المقدّس، أن “الإيمان الحيّ
والقويّ لا يسعه إلا أن ينتج عنه باستمرار عمل الخير”.

 

من
جهة أخرى يجب قراءة تأكيدات المجمع التريدنتينيّ للأعمال الصالحة على ضوء ما يقوله
في نهاية الفصل السادس عشر في أوّلية نعمة الله: “إن محبة الله للبشر عظيمة
إلى حد أنها تجعل من مواهبه استحقاقات لهم”.

 

نخلص
إلى القول إن الأعمال الصالحة التي يقوم بها المؤمن لا بدّ منها للخلاص. ذلك أنها
الدليل في آن واحد على صحّة إيمانه وعلى نعمة الله التي تعمل فيه.

 

رابعاً-
النعمة المقدِّسة والنعمة الحاليّة

هناك
تمييز تقليدي في اللاهوت الغربي بين النعمة المقدِّسة والنعمة الحالية. ما معنى
هاتين اللفظتين؟ إن التبني والولادة الجديدة بالمعموديّة واشتراك المؤمن المبرَّر
بالطبيعة الإلهية وسكنى لروح المقدس في نفسه، كلّ هذه الأمور التي تكلّمنا عنها في
الفصول السابقة هي طرق مختلفة للتعبير عن الحقيقة نفسها: وتلك الحقيقة هي أن
الإنسان الخاطئ يصبح مبرِّراً، ينتقل من حالة الخطيئة إلى حالة البر تلك الحالةَ
الجديدة تدعى أيضاً “حالة النعمة”. أمّا النعمة التي يحصل عليها الإنسان
بانتقاله إلى تلك الحالة الجديدة فتدعى “النعمة المقدِّسة”، لأنها هي
التي تقدّس الإنسان وتبرّره.

 

تلك
النعمة هي “موهبة مخلوقة”، وبهذا تتميّز عن “الموهبة غير
المخلوقة”، التي هي الروح القدس نفسه الذي يهبه الآب بالابن. تلك النعمة ليست
موهبة عابرة، بل حقيقة ثابتة، “طبيعة” جديدة: كما أن الطبيعة الإنسانيّة
هي مبدأ أعمال الإنسان الاعتياديّة لطبيعيّة، كذلك النعمة المقدِّسة هي مبدأ أعمال
الإنسان الفائقة الطبيعة.

 

النعمة
المقدّسة هي نتيجة لحضور الروح القدس في النفس. وقد ركّز آباء الكنيسة على هذا
الحضور، انطلاقا من العهد الجديد ولا سيما من يوحنا وبولس.

 

النتيجة
الأولى للنعمة المقدّسة هي “الاشتراك في الطبيعة الإلهية”. هذا الاشتراك
لا يقوم فقط على التشبّه بالله بتتميم الفضائل (اشتراك ادبيي)، ولا هو اندماج
حلوليّ مع الله، بحيث يزول كلّ فرق بين الإنسان والله. إن المفهوم الكاثوليكيّ
لهذا الاشتراك هو حلّ وسط بين هذين المفهومين المتطرّفين. إن الله يرفع الطبيعة
الإنسانيّة إلى درجة سامية يدعوها الآباء وهذا التألّه يصبح في الإنسان مبدأ أعمال
صالحة، دون أن يزيل الفرق بين الإنسان والله.

 

النتيجة
الثانية للنعمة المقدَسة هي “التبنّي”: فبالنعمة يصبح الإنسان ابن الله
بالتبنّي.

 

النعمة
الحالية هي المساعدة العابرة التي يرسلها الله للإنسان الغير المبرّر لينير عقله
ويلهم إرادته ويوصله إلى البرّ، وللإنسان المبرّر ليثبّته في طريق البرّ وفي حالة
النعمة.

 

إن
عبارة “النعمة الحالية” لا نجد لها أيّ أثر في كتابات الآباء ولا في
القرون الوسطى قبل القرن السادس عشر. وقد استعملت للإجابة على سؤال عمليّ: كيف
نعبّر عن النعمة التي ينالها الإنسان قبل تبريره؟ بما انه لا يحصل على النعمة
المقدِّسة إلا بالمعموديّة والتبرير، فلا بدّ من وجود نعم أخرى يمنحها الله
للإنسان ليقوده إلى الارتداد وبالتالي إلى قبول النعمة المقدِّسة. وتلك النعم
دعاها اللاهوتيون “النعم الحاليّة”.

 

وتلك
النعم الحاليّة هي إمّا إلهامات مباشرة من قبل الله وإمّا مساعدات يرسلها الله
بواسطة البشر، كسماع المواعظ وقراءة الكتب المقدّسة، والأمثلة الصالحة، وإرشادات
الأصدقاء.

 

كيف
ينظر اللاهوت المعاصر إلى هذا التمييز بين النعمة المقدّسة والنعمة الحاليّة وإلى
مفهوم النعمة بنوع عام؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار