علم المسيح

المسيح يبكي على أورشليم



المسيح يبكي على أورشليم

المسيح يبكي على
أورشليم

 

«وَفِيمَا
هُوَ يَقْتَرِبُ نَظَرَ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ وَبَكَى عَلَيْهَا قَائِلاً:
«إِنَّكِ لَوْ عَلِمْتِ أَنْتِ أَيْضاً حَتَّى فِي يَوْمِكِ هٰذَا مَا هُوَ
لِسَلامِكِ. وَلٰكِنِ ٱلآنَ قَدْ أُخْفِيَ عَنْ عَيْنَيْكِ. فَإِنَّهُ
سَتَأْتِي أَيَّامٌ وَيُحِيطُ بِكِ أَعْدَاؤُكِ بِمِتْرَسَةٍ، وَيُحْدِقُونَ بِكِ
وَيُحَاصِرُونَكِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وَيَهْدِمُونَكِ وَبَنِيكِ فِيكِ، وَلا
يَتْرُكُونَ فِيكِ حَجَراً عَلَى حَجَرٍ، لأَنَّكِ لَمْ تَعْرِفِي زَمَانَ
ٱفْتِقَادِكِ» (لوقا 19: 41-44).

 

ولما
وصل هذا الموكب إلى أول مكان يرون منه المدينة المقدسة، وقع نظر المسيح عليها،
أبرقت في بصيرته النبوية صورتها الساحرة للأبصار. صورة سوف يراها بعض هؤلاء
المحتفلين به، فطار عنه كل ما ولَّده هذا الاحتفال الحبي البهيج من الفرح، ورفع
صوته بالرثاء والبكاء المسموع. بكى على قبر لعازر بهدوء. أما الآن فيبكي بشدة على
أورشليم التي ستُخرب، وهذا يعلّمنا أن نحب الوطن، وأن نحب الخطاة، ونبكي على
مصيرهم الأليم.

 

وما
كان أشد دهشة هذا الجمهور عندما سمعوا بكاءه دون أن يروا سبباً لذلك. إن كل آلامه
الفائقة الوصف، حتى تعليق على الصليب، لم تُنزل له دمعة ولا أَسمعَتْ له أَنَّة
لكن حبه لهذه المدينة وشعبها العاصي أبكاه. أذابت خطاياهم والويلات التي تترصَّدهم
قلبه الحنون، فبكى عليهم. لقد رأى بعلمه الفائق أورشليم بعد أربعين سنة وقد حاصرها
الجيش الروماني والعذابات الهائلة التي ستحلّ بها، ثم الخراب التام للمدينة ولهيكل
الله العظيم. رأى أسوارها تُهدم وتُطرح إلى الحضيض وتُحرق بالنار. رأى لوعة
المجاعة التي جعلت الأمهات يبعن أولادهن للذبح، ويأكل بعضهن أولادهن في جنون
الجوع. رأى الأمة تتشتَّت تشتُّتاً دائماً وتزول فرائضها المقدسة. وسيكون عذابهم
وهلاك مدينتهم على يد القيصر الذي فضَّلوه عليه، وتباهوا بأنه ليس ملك إلا هو. رأى
المسيح الرومان بعد أربعين سنة ينصبون متاريسهم في ذات المكان الذي يبكي فيه الآن،
وهم يقذفون منه على أسوار المدينة آلاتهم المدمرة. وهناك يحفرون خنادق الحصار،
فيتمّ بذلك القول النبوي القديم: «إِنَّ صِهْيَوْنَ تُفْلَحُ كَحَقْلٍ وَتَصِيرُ
أُورُشَلِيمُ خِرَباً وَجَبَلُ ٱلْبَيْتِ شَوَامِخَ وَعْرٍ» (إرميا 26: 18).
وقد حدث ما رآه المسيح فعلاً. وفي هذا الحصار ذاق اليهود تلك الأهوال التي جعلت
المؤرخين يقولون إنها أشد من كل ما ورد في تاريخ العالم، حتى قيل إن القائد
الروماني تيطس ذاته لما دخل المدينة، ورأى الجثث مكدسة في الأزقة، رفع يديه نحو
السماء، واستشهد آلهته أنه ليس هو المسؤول عن هذا الخراب، ولكن الذين اضطروه إليه
هم المسؤولون عنه.

 

كانت
هذه الحوادث المؤلمة كلها مكشوفة لبصيرة المسيح. في هذه الساعة تحركت في صدره
الرحب الصفوح عواطف حب الوطن والإنسانية، وشعور الإشفاق والغفران على الذين أرادوا
أن يقتلوه، فتحوَّل فكره من احتفاء القوم به وسرور تلاميذه، إلى ذَرْف الدموع
السخينة، ورثاء هذه المدينة، وبكائه عليها، وعلى شعبها المحبوب المتمرد، فقال
مخاطباً أورشليم: «لو علمتِ أنت أيضاً حتى في يومك هذا ما هو لسلامك. لكن الآن قد
أُخفي عن عينيك. فإنه ستأتي أيام ويحيط بك أعداؤك بمترسة، ويحاصرونك من كل جهة،
ويهدمونك وبنيك فيك، ولا يتركون فيك حجراً على حجر، لأنك لم تعرفي زمان افتقادك».

 

دخل
هذا الموكب أورشليم من الباب الشرقي العظيم، بجانب الهيكل، فعرفت المدينة كلها من
الهتاف المتواصل ورَفْعِ سعف النخل أن حادثاً خطيراً وقع في وسطهم. فتساءل
المارَّة وسكان البيوت والتجار في حوانيتهم: «من هذا؟» وكان الجواب: «هذا يسوع
النبي، الذي من ناصرة الجليل».

 

عندما
وصل هذا الجمع إلى الهيكل كان النهار قد مال، فاكتفى المسيح بأن نظر حوله إلى ما
يجري في الهيكل، ورأى أنه يستدعي عملاً هاماً وخطيراً يُطلب منه. وهذا لا يفعله
إلا في اليوم التالي، لأن أبواب الهيكل تُغلق في المساء قبل أن يمكنه إتمامه. وهو
لا يريد أن يبيت في المدينة لئلا يعرِّض نفسه لمكائد الرؤساء فيقضون عليه قبل أن
تأتي ساعته. لذلك عاد مع تلاميذه إلى بيت عنيا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار