علم المسيح

المسيح يأكل الفصح



المسيح يأكل الفصح

المسيح يأكل الفصح

 

«وَلَمَّا
كَانَ ٱلْمَسَاءُ اتَّكَأَ مَعَ ٱلٱثْنَيْ عَشَرَ. وَفِيمَا
هُمْ يَأْكُلُونَ قَالَ: «ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ، إِنَّ وَاحِداً مِنْكُمْ
يُسَلِّمُنِي». فَحَزِنُوا جِدّاً، وَٱبْتَدَأَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ
يَقُولُ لَهُ: «هَلْ أَنَا هُوَ يَا رَبُّ؟» فَأَجَابَ وَقَالَ: «ٱلَّذِي
يَغْمِسُ يَدَهُ مَعِي فِي ٱلصَّحْفَةِ هُوَ يُسَلِّمُنِي. إِنَّ
ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ مَاضٍ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنْهُ، وَلٰكِنْ
وَيْلٌ لِذٰلِكَ ٱلرَّجُلِ ٱلَّذِي بِهِ يُسَلَّمُ ٱبْنُ
ٱلإِنْسَانِ. كَانَ خَيْراً لِذٰلِكَ ٱلرَّجُلِ لَوْ لَمْ
يُولَدْ». فَسَأَلَ يَهُوذَا مُسَلِّمُهُ: «هَلْ أَنَا هُوَ يَا سَيِّدِي؟» قَالَ
لَهُ: «أَنْتَ قُلْتَ» (متى 26: 20-25).

 

رأينا
المسيح يتسلط على هيكل أورشليم فيطهره، وعلى السبت اليهودي فيحرره، وعلى الكتاب
الإلهي فيفسره، والآن نراه يتسلط على الفصح العبراني ويغيّره. قضت الفريضة في
التوراة أن تمارس كل عائلة عشاء الفصح معاً، ولكن المسيح فضَّل العلاقات الروحية
على العلاقات الجسدية، فجعل تلاميذه أهل عائلته وفقاً لقوله: «من هي أمي ومن هم
إخوتي؟ من يصنع مشيئة الله هو أخي وأختي وأمي». لقد كانت أمه وقت الفصح في أورشليم
ومعها إخوته. فيكونون قد مارسوا الفصح في مكان آخر منفصلين عن قريبهم الأعظم. وهذا
يُظهر لنا المقام الممتاز الذي وهبه المسيح للتلاميذ وليس لغيرهم.

 

في
هذا العشاء امتزاج الابتهاج والكآبة في قلب المسيح. وقد ظهر ابتهاجه من قوله:
«شهوة اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم». ابتهج وهو يشترك مع تلاميذه في عيد الفصح
الغني بالمعني، والذي يشير في رسمه وتفاصيله وممارسته إلى عمله الخلاصي، الذي
سيتمّمه سريعاً، لأن ساعة انتصاره على قوات الجحيم ورئيسها قد اقتربت – وقتها يسحق
رأس الحية التي سمح لها أن تسحق عقبه. وقد ابتهج المسيح أيضاً لقرب رجوعه إلى حضن
أبيه – وهذا يبهجه ويبهج تلاميذه أيضاً، لأنه يثبتهم ويجعلهم يقومون بأعمالهم
العظيمة وينجحون نجاحاً باهراً في المستقبل القريب، ولهذا قال لهم: «أَنْتُمُ
ٱلَّذِينَ ثَبَتُوا مَعِي فِي تَجَارِبِي، وَأَنَا أَجْعَلُ لَكُمْ كَمَا
جَعَلَ لِي أَبِي مَلَكُوتاً» (لوقا 22: 28 و29).

 

ومع
كل ابتهاج المسيح نراه يكتئب، لأن سعيه كل هذه المدة لإصلاح يهوذا الخائن ذهب
أدراج الرياح. ومرارة هذه الخيانة أصعب من مرارة مقاومة الرؤساء. يكتئب المسيح
لأنه يعلم أن تلاميذه جميعاً يشكُّون في تلك الليلة وتتحقق نبوة التوراة «اِضْرِبِ
ٱلرَّاعِيَ فَتَتَشَتَّتَ ٱلْغَنَمُ» (زكريا 13: 7). وأن عميدهم
الصخرة، سمعان بطرس، سيفوق الجميع في الارتداد الوقتي. يكتئب المسيح لأن هذه
الساعة هي ساعة فراق مؤلم، ولا سيما لتلاميذه الأحباء الضعفاء والمتكلين على قيادته
الشخصية. وهو يكتئب كابن الإنسان لما ينتظره من العذابات الجسدية والنفسية الأصعب
منها.

 

ثم
قال المسيح لتلاميذه إن واحداً منهم سيسلّمه ليد أعدائه شيوخ اليهود. ولما سأله
الإسخريوطي: «هل أنا يا سيد؟» قال له: «أنت قلت». ثم غمس لقمة في الأعشاب المُرَّة
وناولها له.

 

انتهى
عشاء الفصح اليهودي، ويهوذا يرفض أن ينقاد إلى المحبة التي قدَّمها له المسيح، فمع
اللقمة المغموسة «دخله الشيطان» أي قوَّى سلطته فيه، فقال له المسيح: «ما أنت
تعمله فاعمله بأكثر سرعة». أما رفقاؤه فبعد كل ما قيل في مسامعهم وحدث أمام
عيونهم، لم يفهموا هذا القول، ولا تصوَّروا أن المسيح يشير إلى خيانة يهوذا، بل
إلى أعمال خيرية هي مسئوليته لأنه أمين الصندوق. فلما أخذ يهوذا اللقمة خرج للوقت
وكان ليلاً. وأيُّ ليلٍ هذا الذي ليس بعده ليالٍ أظلم منه بما لا يقاس في الدينونة
الأبدية. وعن مقام عال شريف بين تلاميذ المسيح هوى منه يهوذا الآن بنفسه إلى أعماق
الخيانة والقساوة، ثم اليأس والعذاب والعقاب في النار الأبدية.

 

سقط
يهوذا من ذلك النعيم إلى هذا الجحيم تدريجياً كغيره. سقط لأنه لم يسهر ويصلِّ
ليسلَم من الطمع والرياء، فوصل إلى ما وصل إليه. وزادت قساوة قلبه لرفعة مقامه
السابق، ولأنه رفض الوسائط الحسنة التي قدَّمها المسيح له. سار مع ميوله الفاسدة،
وكان لم يزل سهلاً عليه أن يقهرها ويميتها، فقويت عليه وأهلكته.

 

خرج
الإسخريوطي من بين التلاميذ ليفتش عن شركائه الجدد، ويخبرهم أن المسيح في المدينة،
ويمكّنهم أن يلقوا القبض عليه بسهولة. وارتفع عن قلب المسيح ثِقلٌ، فقال: «الآن
تمجد ابن الإنسان وتمجد الله فيه. وأن الله سيمجده في ذاته سريعاً».

 

هنا
تأكد التلاميذ أن سيدهم يُسلَّم إلى مبغضيه ويقتلونه صلباً. لكنهم لم يدركوا معنى
ذلك، فأوضح لهم ذلك المعنى بواسطة فريضة جديدة حسيّة، هي العشاء الرباني الجديد،
الذي ربطه بعشاء الفصح القديم، ليسهّل عليهم قبوله وفهم تعليمه.

 

«وَفِيمَا
هُمْ يَأْكُلُونَ أَخَذَ يَسُوعُ ٱلْخُبْزَ، وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَى
ٱلتَّلامِيذَ وَقَالَ: «خُذُوا كُلُوا. هٰذَا هُوَ جَسَدِي». وَأَخَذَ
ٱلْكَأْسَ وَشَكَرَ وَأَعْطَاهُمْ قَائِلاً: «ٱشْرَبُوا مِنْهَا
كُلُّكُمْ، لأَنَّ هٰذَا هُوَ دَمِي ٱلَّذِي لِلْعَهْدِ
ٱلْجَدِيدِ ٱلَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ لِمَغْفِرَةِ
ٱلْخَطَايَا. وَأَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي مِنَ ٱلآنَ لا أَشْرَبُ مِنْ
نِتَاجِ ٱلْكَرْمَةِ هٰذَا إِلَى ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ
حِينَمَا أَشْرَبُهُ مَعَكُمْ جَدِيداً فِي مَلَكُوتِ أَبِي». ثُمَّ سَبَّحُوا
وَخَرَجُوا إِلَى جَبَلِ ٱلزَّيْتُونِ» (متى 26: 26-30).

 

أخذ
المسيح قطعة من خبز الفطير الذي يشير إلى الخلوّ من الخمير العتيق والفساد، وشكر
وكسر وبارك وأعطى التلاميذ، وقال: «خذوا كلوا. هذا هو جسدي المكسور لأجلكم الذي
يُبذل عنكم. اصنعوا هذا لذكري».

 

في
الشكر ذكّر المسيح تلاميذه أنه عند تناول خيرات الأرض نشكر رب السماء، مصدر كل
عطية صالحة وكل موهبة تامة. وفي التكسير نذكر أنه كما أن الخبز لا يحيي الأجساد
إلا بعد كسره، كذلك لا يحيي المسيح موتى الذنوب والخطايا إلا بعد أن يتألم ويُصلب
أولاً. وفي المباركة ذكّرهم المسيح أنه صاحب السلطان المعطى له من الآب. هو الذي
بركته «تُغْنِي، وَلا يَزِيدُ ٱلرَّبُّ مَعَهَا تَعَباً» (أمثال 10: 22).
وفي إعطاء الخبز من يده ليدهم تذكَّروا أنه هو الطريق والحق والحياة، وليس أحد
يأتي إلى الآب إلا به. وفي قوله: «خذوا كلوا» ذكّرهم أن كل ما يعمله لأجل خلاصهم
وحياتهم الروحية يذهب سُدى ما لم يأخذوه روحياً، ويخصّصوا شخصه وعمله لنفوسهم
فرداً فرداً بالإيمان، بفعل روحي يشابه الأكل الجسدي.

 

في
قوله: «هذا هو جسدي المكسور لأجلكم» أوضح لهم أنه قد عيَّن الخبز المكسور في هذا
العشاء الجديد، رمزاً لجسده المكسور لأجل حياة العالم. سبق له من مدة سنة أن قال
كلاماً قوياً لليهود في مجمع كفر ناحوم في موضوع أكل جسده وشرب دمه، بمعنى روحي.
ولو أن كلامه أعثر السواد الأعظم من تابعيه (يوحنا 6) فليس جديدٌ في تعليمه أن
جسده، خبز الحياة، يؤكل روحياً في ممارسة العشاء الرباني. ويكفي ذلك الكلام القديم
تفسيراً لهذا الكلام الجديد، ونفياً للتفسير الحرفي الذي حذرهم منه وقتئذ.

 

يقصد
المسيح بقوله: «هذا هو جسدي» قصداً روحياً لا حرفياً. وما ينفي التفسير الحرفي
لذلك قول المسيح: «اَلرُّوحُ هُوَ ٱلَّذِي يُحْيِي. أَمَّا ٱلْجَسَدُ
فَلا يُفِيدُ شَيْئاً. اَلْكَلامُ ٱلَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ هُوَ رُوحٌ
وَحَيَاةٌ» (يوحنا 6: 63). وينفيه أيضاً أن جسده لم يكن مكسوراً عندما قال: «هذا
هو جسدي المكسور». بل كان سالماً، وكان الخبز موضوعاً على حدة، فلا يكونان شيئاً
واحداً. ولم يتكلم في صيغة المستقبل ليؤخذ كلامه عن أمر سيحدث بعدما تكلم. وينفيه
كلام الرسول بولس الذي يقول: «كُلَّمَا أَكَلْتُمْ هٰذَا ٱلْخُبْزَ»
بعد قوله: « هٰذَا هُوَ جَسَدِي» (1 كورنثوس 11: 24، 26) وتنفيه شهادة
الحواس التي هي وضع إلهي، والوسيلة الوحيدة لتحقيق المعجزات، لأنه لا توجد معجزة
واحدة بين كل ما ذُكر في الكتاب إلا ظهر برهانها للحواس. فمعجزة تحويل الخبز إلى
جسد لا تصدّقها حاسة واحدة، بل تخالف تماماً شهادة الحواس الأربع، أي البصر واللمس
والشم والذوق. صحيح أن الأمور الروحية خارجة عن شهادة الحواس وفوقها، لكن تحويل
الخبز إلى جسد، أمر مادي تدركه الحواس.

 

ثم ناول
المسيح تلاميذه كأس الخمر بعد أن شكر، وقال: «هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي،
الذي يُسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا».

 

كان
للدم أعظم أهمية في كل التعليم الإلهي لشعب العهد القديم، منذ أيام هابيل الذي
قبِلَ الله تقدمته الدموية، بعد أن رفض تقدمة أخيه غير الدموية. وكان سفك الدم
أساس النظام الموسوي كله، لكن لا معنى ولا فائدة لدم التيوس والعجول والحملان في
الدين، إلا كرمز لدم المسيح حمل الله الذي يُسفك لأجل رفع خطية العالم. لأنه كما
أنقذ الدم الموضوع على القوائم والأعتاب في بيوت العبرانيين في مصر الأبكار من
الملاك المُهلك (خروج 12: 13)، ينقذ دم حمل الله الخاطئ من الهلاك الأبدي. لذلك لا
تشبه كأس العهد الجديد الكأس التي شربوها بحضور الإسخريوطي والمباحة لجميع أفراد
نسل إبراهيم، بصرف النظر عن صفاتهم، بل هي رمز للدم الذي بعد بضع ساعات سيُهرق على
الصليب، وتُخصَّص فائدته للمؤمنين الحقيقيين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار