المسيحية

المسيحية في الجزيرة



المسيحية في الجزيرة

المسيحية
في الجزيرة

حسب
ما قرأنا في الفصول السابقة كانت هناك أديان عديدة قد انتشرت في شبه الجزيرة
العربية؟ ولعل المسيحية كانت أكثر هذه الأديان انتشاراً؟ وهذا لأنها ديانة مُبشرة
وليست ديانة مغلقة كاليهودية, وبالرغم من عدم وجود تاريخ محدد لانتشار المسيحية في
وسط العرب؟ إلا أن المرجح عندي أنها بدأت في الانتشار في أواخر القرن الأول
الميلادي تقريباً؟ فلو نظرنا للإنجيل- كمرجع تاريخي- نجد أنه كان هناك عرب في
مدينة أورشليم في يوم الخمسين (يوم العنصرة) سمعوا البشارة من بطرس تلميذ المسيح
(أعمال الرسل 2: 12) بل إن الأمر بلغ أن يكون حاكم دمشق ونائب قيصر عليها هو
الحارث العربي (2 كورنثوس 11: 32),

ولم
يقتصر الأمر على هذا بل إن بعض الباحثين يرى أن تلاميذ المسيح أرسلوا بعضاً منهم
لدعوة العرب إلى المسيحية؟ وهذا مثل ما قاله شيخو: من أن متى؟ برتلماوس؟ تداوس؟
وتوما؟ ومتيا قد ذهبوا إلى الجزيرة لحمل بشارة المسيح للعرب (النصرانية وآدبها-
شيخو ص 23),

والرأي
السابق وإن كان فيه شيء من المغالاة إلا أنه يعطي صورة ليست بعيدة عن الواقع فكتب
التاريخ الإسلامي تذكر قصصاً لتنصر قبائل عربية بكاملها لسبب أو لآخر مثل ما ذكره
ابن كثير في البداية والنهاية من قصة فيميون- لعله فيليمون- الذي عاش في نجران
وتسبب في أن يتبعه أهل نجران على دين النصرانية (البداية والنهاية 2: 168), ومثل
قصة أصحاب الأخدود التي لا يخلو منها أي تفسير للقرآن (راجع تفاسير القرطبي؟ وابن
كثير؟ والرازي؟ في تفسير سورة البروج),

ويذكر
الدكتور جواد علي ما كان بشأن إحدى البدع عند نصارى العرب وأنه أقيم مجمع سنة 246
م سُمي مجمع العربية لمقاومة هذه البدعة (المفصل 6: 634:؟
Religious Encyclopaedia, vol, I,p.122.A

وهذا
الحادث يوضح ما كان عليه العرب النصارى من شأن فلو لم يكن عددهم كبيراً وله تأثير
لما أقيم مجمع خاص بهم؟ ولعل ما يوضح الصورة أكثر هو عدد القبائل العربية التي
دخلت في المسيحية سواء في شمال أم في جنوب الجزيرة,

القبائل
المسيحية في شبه الجزيرة:

1-
بكر وتغلب بنو وائل بن ربيعة:

وهما
من أقوى القبائل العربية؟ وقد بلغ من قوتها أن قال عمرو الشيباني فيها: لو تأخر
الإسلام لأكلت بنو تغلب الناس (شرح معلقة عمرو بن كلثوم للتبريزي- النصارنية لشيخو
125), وقد قال عمرو بن كلثوم متفاخراً بشرف قبيلته:

ظعائن
من بني جُشم بن بكر

جمعن
بميسم شرفاً وديناً

والدين
المقصود هنا هو المسيحية حيث كانت هي ديانة بني تغلب, وتذكر كتب السيرة تحول بني
تغلب إلى المسيحية (المفصل 6: 590)؟ وقد اتفق معظم الباحثين على اعتناقهم المسيحية
مثل ما قاله البغدادي: وكان بنو تغلب أيضاً من نصارى العرب وكانت لهم شوكة وقوة يد،

2-
الغساسنة:

وهم
عرب سوريا الذين هاجروا من اليمن؟ وقد ارتبطوا بالأمبراطورية الرومانية منذ القرن
الرابع؟ ومن ثم أخذوا دورهم كدولة حاجزة ضد هجمات القبائل العربية وأيضاً ضد
الفرس, وكان بنو جفنة هم أشهر الغساسنة؟ وهم أيضاً ملوكهم؟ وفيهم يقول النابغة:

1مجلتهم
ذات الإله ودينهم

2قويم
فما يرجون غير العواقب

(في
بعض الروايات محلتهم- والمقصود هنا بالمجلة الإنجيل- المفصل 6: 678),

ويذكر
شيخو أن ملوك غسان ابتنوا عدة أديرة منها: دير هند؟ ودير حالي؟ ودير أيوب
(النصرانية وآدابها ص 31),

3-
اللخميون:

وكما
كان للروم عملاء على حدودهم فكذلك كان للفرس فكان اللخميون المستقرون في عاصمتهم
الحيرة وما حولها يقومون بدورهم في تأمين حدود فارس مع العرب, وقد نقل ياقوت في
معجم البلدان نص كتابة وُجدت في دير بالحيرة نصها: بنت هذه البيعة هند بنت الحارث
بن عمر؟ الملكة سليلة الملوك؟ وأم الملك عمرو بن المنذر؟ أمة المسيح وأم عبده وبنت
عبيده (معجم البلدان 2: 609- النصرانية ص 91),

4-
مكة:

كان
للمسيحيين في مكة شأن مختلف فقد كان معظمهم من الأحابيش الذين جُلبوا للعمل
والخدمة عند أسياد مكة؟ ويقول جواد علي: وقد ترك هؤلاء الأحابيش أثراً في لغة أهل
مكة يظهر في وجود عدد من الكلمات الحبشية في لغة قريش؟ مثل المصطلحات الدينية
والأدوات التي يُحتاج إليها في الصناعات وفي الأعمال اليدوية التي يقوم بأدائها
العبيد, وقد أشار العلماء إلى عدد من هذه الكلمات التي ذكروا أنها تعربت فصارت من
الكلام العربي, وقد أشاروا إلى وجود بعضها في القرآن الكريم والحديث النبوي
(المفصل 6: 606),

وقد
أورد السيوطي في كتابه الاتقان في علوم القرآن فصلاً خاصاً لهذه الكلمات (الاتقان
ج 1 ص 366 وما بعدها), والملاحظ أيضاً على نصارى مكة غير العرب- قبل الإسلام- أنهم
لم يكونوا ينتمون فقط إلى الحبشة؟ بل كان بعضهم رومي؟ أو يوناني؟ مما جعل العرب
ينظرون لهم نظرة أخرى, فقد كانت تلك الجماعة من العبيد أكثر فهماً- في أمور شتى-
من أربابها؟ فكانت توكل لهم الأعمال التي تحتاج إلى وعي وإدراك, وتذكر لنا كتب
التاريخ الإسلامي كثيراً من هؤلاء الأغراب مثل: صهيب الرومي الذي عمل مع عبد الله
بن جُدعان- ثري مكة- حتى أصبح تاجراً ثرياً؟ ولعل قصة فراره إلى المدينة؟ ومطاردة
قريش له؟ وقبولهم منه افتداءه نفسه بماله الذي أخفاه بمكة؟ توضح لنا ما بلغه من
ثراء (البداية والنهاية- ابن كثير- ج 3 ص 173),

وهناك
العديد من الأسماء التي يذكرها المفسرون؟ فقد أورد القرطبي في تفسير آية سورة
النحل 16: 103 أن قريش قالت: والله ما يعلم محمداً إلا جبر النصراني،

وقال
عكرمة: اسمه يعيش عبد لبني الحضرمي؟ وكان يقرأ الكتب، ويورد القرطبي؟ والسيوطي عدة
أسماء لهذا العبد فقيل: بلعام؟ ويسار؟ وعداس؟ وأبو فُكيهة؟ وعابس ثم يقول القرطبي:
والكل محتمل؟ فإن النبي ربما جلس إليهم في أوقات مختلفة ليعلمهم مما علمه الله؟
وكان ذلك بمكة، وقال النحاس: هذه الأقوال ليست بمتناقضة؟ لأنه يجوز أن يكونوا
أوْمَؤُا إلى هؤلاء جميعاً؟ وزعموا أنهم يعلمونه (تفسير القرطبي ج 10 ص 117- أسباب
النزول للسيوطي- سبب نزول النحل 16: 103),

وقد
بلغ تأثر أهل مكة بالمسيحيين أن جعلوا في دعائم الكعبة صور الأنبياء وصور الشجر
وصور الملائكة, فكان فيها صورة إبراهيم خليل الله شيخ يستقسم بالأزلام؟ وصورة عيسى
ابن مريم وأمه؟ وصور الملائكة عليهم السلام أجمعين, فلما كان يوم فتح مكة دخل رسول
الله فأرسل الفضل بن العباس فجاء بماء زمزم وأمر بثوب مبلل بالماء؟ وأمر بطمس تلك
الصور فطمست,,, ووضع كفيه على صورة عيسى بن مريم وأمه؟ وقال: امحوا كل شيء إلا ما
تحت يدي، فرفع يديه عن صورة عيسى بن مريم وأمه, ونظر إلى صورة إبراهيم فقال: قاتلهم
الله! جعلوه يستقسم بالأزلام, ما لإبراهيم والأزلام (المفصل 6: 436),

الأدب
الكتابي:

نتيجة
لانتشار المسيحية في الجزيرة؟ ومحاولة المسيحيين الدعوة لدينهم بشتى الطرق؟ نشأ
نوع من الأدب الديني؟ الذي يدور حول الكتاب المقدس والدعوة إلى المسيحية؟ وأهم ما
يميز هذا الأدب اختلافه عن الأدب القبطي؟ حيث كان مسيحيو الجزيرة ينتمون إلى طوائف
مختلفة يعتبرهم الأقباط هراطقة مثل:

النساطرة:

وهم
ينسبون إلى نسطورس الذي انتُخب بطريركاً للقسطنطينية عام 428م وطُرد في مجمع أفسس
431 م (المنجد في الأعلام باب النون), وكان نسطورس يقول: إن للمسيح طبيعتين أحدهما
قبل التجسد؟ والأخرى بعده؟ وقد ربط بينهما اتحاد معنوي بسيط, ونتيجة لهذه الأقوال
تم طرد نسطورس وأتباعه من الكنيسة في مجمع أفسس عام 431 م, ويقول د, قنواتي: بعد
مجمع أفسس انفصل النساطرة عن الكنيسة وتقربوا من الكنيسة السورية في إيران والتي
اعتمدت النسطورية رسمياً في سنودس سلوكية؟
Seleucie عام 485 م, وفي
عام 489 م طرد الأمبراطور زينون النساطرة من الرها؟ فهاجروا إلى فارس, ومنذ ذلك
الحين انفصلت الكنيسة النسطورية عن الكنيسة البيزنطية التي كانمقرها الأساسي في
القسطنطينية (المسيحية والحضارة العربية- جورج قنواتي- دار الثقافة- ص 42),

الأريوسية:

وهي
تُنسب إلى أريوس الذي كان كاهناً مصرياً في القرن الرابع الميلادي؟ وكان ينادي
ببدعة في معتقد الكنيسة المصرية؟ وكان أريوس قد تعلم على يد الأسقف لوسيان في
أنطاكية؟ الذي كان عالماً لاهوتياً؟ ومفسراً مشهوراً, وكان لوسيان يُعلّم إن الإله
الواحد لا يمكن أن يظهر بالجسد على الأرض؟ ولا يمكن أن يكون الله شخصاً في المسيح؟
إنما الله ملأ المسيح بكلمته؟
Logos أو بقوته؟ والكلمة صار أقنوماً في المسيح؟ والكلمة جوهر ثان من
ذات الله خلقه قبل كل الدهور؟ والكلمة نزل إلى الأرض وصار جسداً (ضحى المسيحية-
مكتبة المشعل- بيروت 57- ص 16),

ونتيجة
لتتلمذ أريوس على يد لوسيان؟ اعتنق الأول هذه التعاليم ونادى بها بعد أن صار
كاهناً, وكانت تعاليم أريوس تتلخص- كما يبدو من رسائله- في خمس نقاط هي:

1-
كان زمن لم يكن فيه للابن وجود؟ أو قبل أن يُولد لم يكن,

2-
خُلق من جوهر لم يكن موجوداً من قبل؟ أو صنع من مادة لا وجود لها (أي أنه حُلق من
العدم),

3-
خُلق من جوهر يتميز عن جوهر الله (أي مخالف لجوهر الله),

4-
ولأنه خُلق ولم يُولد؟ فإنه يشارك المخلوق في صفاته,

5-
ولأنه مخلوق لا مولود؟ فإنه قابل للتغير والاستحالة (المرجع السابق ص 18),

وقد
طرد أريوس وأتباعه من الكنيسة في مجمع نيقية عام 325 م؟ وبقيت الأريوسية حتى القرن
السابع الميلادي؟ وكان أكثر انتشاراً لها بين القوط واللومبارد (المنجد في
الأعلام- باب الألف),

الغنوصية:
Gnostic؟

ليس
من المعروف على وجه اليقين أين نشأت الغنوصية في أول الأمر ولا من هم مبتدعوها؟ وهي
تتميز بخليط من فكر فارس؟ ومصر وأفلاطون (تاريخ الكنيسة- لوريمر- دار الثقافة- ج 1
ص 103), وتعتمد الغنوصية بالدرجة الأولى على المثنوية القائلة: إن مُبدع هذا
العالم الغارق في الشرور؟ لا بد وأن يكون هو نفسه شريراً, وأن السبيل الوحيد
للخلاص من شرور التواجد الجسدي وعالم المادة هو المعرفة الباطنية، وكان النهي عن
الأكل من شجرة المعرفة تكوين 2) برهاناً جلياً على أن إله العهد القديم- وهو الإله
الخالق الأدنى في الرتبة من الكائن الأسمى- هو عدو البشرية الذي سعى بنهيه هذا إلى
منع الإنسان من الوصول إلى غاية الصلاح, وقد أظهر خبثه ثانية بعد تذوق الإنسان
ثمرة المعرفة بأن سد الطريق المؤدي إلى شجرة الحياة, وعلى نقيض ذلك كانت الحية-
التي هي أحيل الحيوانات (تكوين 3: 1) صديقاً للإنسان حيث أنها أعلنت لحواء حسد
وكذب الخالق والتأثير الصحيح للثمرة المحرمة (؟ “
History Of Religions Moore 156(أما أهم تعاليم الغنوصية فهي أنها كانت تُعلِّم بوجود نوعين من
الألوهية:


النوع الأول: وهو الإله السامي؟ أو العظيم؟ وهذا الإله يرأس سلسلة كثيرة الحلقات
من الآلهة المتميزين الواحد عن الآخر في الدرجة والسلطان قد انبثعوا سواء من هذا
الإله الأعظم أو خرجوا الواحد من الآخر،وهذه الكائنات سواء كانت منفردة منعزلة أو
كانت أزواجاً فإنها كوّنت معاً ما يسمى المجموعة الإلهية, وقد حدث خلل في هذه
المجموعة نتيجة لسقوط أحدها؟ ولكن هذا الكائن الإلهي الذي سقط سيرد إلى رتبته
وطهارته عندما تتم عملية الفداء,


والنوع الثاني: وهو يشبه النوع الأول من حيث النظام والتكوين؟ ولكنه يختلف من حيث
النوع لأن الذي يرأس هذه المجموعة إله شرير؟ الإله الذي خلق المادة؟ نصف الإله وقد
ساعد الإله؟ وتعاون معه الآلهة الأشرار والمخربون, والصراع بين إله الشر وأعوانه؟
وإله الخير وأعوانه مستمر (تاريخ الفكر المسيحي- حنا الخضري- دار الثقافة- ص 476),

الأبيويون؟
Ebionites؟ وهم جماعة من اليهود المتنصرين عُرفوا بهذا الاسم الذي يعني
بالعبرانية الفقراء ومن غير المعروف على وجه اليقين كيفية نشأتهم؟ أما عقيدتهم فهي
مزيج من اليهودية والمسيحية؟ فقد كانوا يعتقدون بوجود إله واحد خالق الكون؟
ويعظمون السبت؟ ويرفضون رأي بولس في المسيح؟ ويقولون أن المسيح إنسان امتاز عن
غيره بالنبوة؟ وإنه أي المسيح رسول الله أرسله للناس أجمعين؟ وأنكروا الصلب وذهبوا
إلى أن الذي صُلب شخص آخر غير المسيح؟ وقد شُبه على من صلبه؟ فاعتقد أنه المسيح
(المفصل 6: 635),

المريميون:

وقد
كانوا في الأصل يعبدون كوكب الزهرة ويسمونها ملكة السماء؟ وكانوا يقولون إن الشمس
تزوجت القمر فأنجبا الزهرة؟ وقد بالغ أصحاب هذا الرأي في عبادة مريم العذراء
وتأليهها؟ وكانوا يقدمون لها نوعاً من القرابين عبارة عن أقراص العجين والفطائر؟
فعرفوا بالفطائريين؟ “
lyridiens؟ وكانوا ينادون بثالوث مكون من الله والمسيح ومريم,

وقد
ذكرهم ابن تيمية في كتابه الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ولكنه أسماهم
بالمريمانين؟ أو المريمانية, وقد انتشر هؤلاء في أنحاء مختلفة من الجزيرة العربية؟
ولكنهم لم يكونوا كغيرهم من المسيحيين بل كانوا أقل عدداً وانتشاراً (النصرانية 1:
113- المفصل 6: 637),

كانت
هذه الجماعات المسيحية الموجودة في الجزيرة العربية قبل الإسلام؟ بعضها بقرون
عديدة والآخر بفترة قصيرة؟ وقد حارب النبي هذه الجماعات وشدد في محاربتهم وقد قال:
أخرجوا المشركين من جزيرة العرب (الطبقات- ابن سعد-2: 242)؟ وقد نزلت كثير من
الآيات المدنية التي تحرض المؤمنين على القتال وتأمر بقتال المشركين أينما وُجدوا
ففي سورة التوبة 9: 29 قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِا للَّهِ وَلاَ بِا
لْيَوْمِ الْآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ
يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا
الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ، ونتيجة لمحاربة الإسلام لفكر هولاء نجد
أنه لم يصل إلينا معظم ما كتبوه؟ إما لفقده أو لتحريم روايته؟ ولكن يمكننا أن نجد
بعض الإشارات في أشعار الجاهليين- سواء كانوا من أتباع هذه الديانات أو من
المتأثرين بها- ما يعطينا فكرة عما كان يدعو له هؤلاء؟ وسوف نتناول الآن بعض من
نرى تأثرهم بما أطلقنا عليه الأدب الكتابي وبعض هؤلاء ثبت- لدينا- تهودهم أو تنصرهم
والبعض الآخر هناك شك في تبعيتهم لأي دين كتابي بل كانوا يؤمنون بعقائد هي في
الواقع خليط من عدة ديانات وهم من يُطلق عليهم الحنفاء أو المحودون,

1-
أمية بن أبي الصلت

هو
أمية بن أبي الصلت؟ عبد الله بن أبي ربيعة بن عوف الثقفي (البداية والنهاية 2: 220-
دار الفكر), توفي سنة 630 م- 8 أو 9 ه- والأرجح أنه لم يسلم قبل موته, ويمتلئ شعره
بذكر الجنة والنار؟ واليوم الآخر؟ والبعث والحساب؟ والكثير من الأمور الدينية؟
وكثير من الشعر المنسوب إليه منحول تتضح فيه الصنعة والتكلف؟ مثل قصيدته التي
يَرثي فيها النبي ويدعو فيها لطاعته فيقول فيها:

أطيعوا
الرسول عباد الإله– تنجون من شر يوم ألم

تنجون
من ظلمات العذاب– ومن حرّ نار على من ظلم

فهذه
القصيدة- أوردها شولتس في ديوان أمية تحت رقم 23- واضحة الانتحال وأنها نُسبت إلى
أمية بعد موته بمدة؟ فالمعروف أن أمية مات قبل موت النبي؟ ولم يمت مسلماً بل قال
قبل موته: قد دنا أجلي وهذه مرضة منيتي؟ وأنا أعلم أن الحنيفية حق ولكن الشك
يداخلني في محمد (شعراء النصرانية- 225), فهل يمكن لصاحب هذا الرأي أن يقول مثل
ذلك الشعر؟ وهناك أشعار أخرى تُنسب لأمية لا يحتاج القارئ للحكم عليها لاكثر من
قرائتها بتمعن؟ مثل قوله في قصة موسى:

وأنت
الذي من فضل ومن رحمة

بعثت
إلى موسى رسولاً منادياً

فقلت
له يا اذهب وهارون فادعوا

إلى
الله فرعون الذي كان طاغياً

وقولا
له أأنت سويت هذه

بلا
وتد حتى اطمأنت كما هيا

وقولا
له أأنت رفعت هذه

بلا
عمد ارفق إذا بك بانيا

فهذا
الشعر نموذج للأشعار المنتحلة وليس بنا حاجة إلى رد القارئ إلى آيات القرآن التي
صيغ منها هذا الشعر؟ وبالرغم من الشك الذي يحيط بأصالة شعر أمية إلّا أن هناك بعض
الأشعار التي ترجح نسبتها له- أو أتفق معظم رواة الشعر عليها- وهناك أيضاً بعض
الأخبار المتفرقة التي رواها المُحدثون في أحاديث لم يطعن أحد في صحتها مثل ما ورد
في صحيح مسلم عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال: ردفت رسول الله يوماً فقال: هل معك
من شعر أمية بن أبي الصلت شيء؟ قلت: نعم؟ قال: هيه فأنشدته بيتاً فقال: هيه ثم
أنشدته بيتاً فقال: هيه حتى أنشدته مائة بيت- زاد بعضهم قول النبي: كاد ليُسلم-
(صحصح مسلم- شرح النووي- دار الشعب- ج 5 ص 110)؟ وعن ابن عباس أن النبي أُنشد قول
أمية:

رجل
وثور تحت رجل يمينه

والنسر
للأخرى وليث مرصد

فقل:
صدق وهذه صفة حملة العرش (لبلوغ الأرب- البغدادي- دار الكتب العلمية بيروت- ج 2 ص
253),

2-
قُس بن ساعدة:

وهو
قس بن ساعدة بن عمرو الأيادي؟ أسقف نجران؟ خطيب العرب وحكيمها؟ عُرف عنه الفصاحة
حتى قيل أفصح من قس؟ كان مؤمناً- لنصرانيته- بالبعث والحساب؟ واليوم الآخر؟ وأغلب
شعره مفقود ولكن هناك خطبته المشهورة التي قالها بسوق عكاظ فيما يرويه المسعودي؟
قال: قدم وفد من إياد على النبي فسألهم عن قُس بن ساعدة, قالوا: هلك، فقال: رحمه
الله كأني أنظر إليه بسوق عكاظ على جمل له أحمر؟ وهو يقول: أيها الناس اجتمعوا
واسمعوا وعوا؟ من عاش مات؟ ومن مات فات؟ وكل ما هو آت آت؟ أما بعد فإن في السماء
لخبراً وإن في الأرض لعبراً؟ نجوم تُمور؟ وبحار تغور؟ وسقف مرفوع؟ ومهاد موضوع؟
وأقسم قُس قَسماً لا حانثاً فيه ولا آثماً إن- لدِينا هو أرضى من دين أنتم عليه,
مالي أراهم يذهبون ولا يرجعون؟ أرضوا بالمقام فأقاموا أم تَُركوا فناموا؟ سبيل
مؤتلف؟ وعمل مختلف, وقال أبياتاً لا أحفظها فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال: أنا
أحفظها يا رسول الله فقال: هاتها فقال:

في
الذاهبين الأولين– من القرون لنا بصائر

لما
رأيت موارداً للموت ليس لها مصادر

ورأيت
قومي نحوها يسعى الأصاغر والاكابر

لا
يرجع الماضي إليّ ولا من الباقين غابر

أيقنت
أني لا محالة حيث صار القوم صائر

فقال
النبي: رحم الله قُساً إني لأرجو أن يبعثه الله أمة وحده (مروج الذهب-
المسعودي-المكتبة الإسلامية- بيروت- ج 1 ص 69؟ 70),

3-
ورقة بن نوفل:

وهو
ابن عم خديجة زوج النبي وكان قد تنصر وقرأ كتب اليهود والنصارى وتعلم علمهم؟ وهو
الذي أخبر السيدة خديجة بنبوة الرسول وفي ذلك يقول:

ووصف
من خديجة بعد وصف– فقد كال انتظاري يا خديجا

ببطن
المكتين على رجائي– حديثك أن أرى منه خروجا

بما
خبرتنا من قول قُس مِنْ– الرهبان أكره أن يعوجا

بأن
محمداً سيسود يوماً– ويخصم من يكون له حجيجا

ومات
ورقة بعد البعثة النبوية وقد سمع زيد بن عمرو بن نفيل يتحدث عن النبي القادم فقال:
أنا أستمر على نصرانيتي إلى أن يأتي هذا النبي، وقد اختلف الإخباريون في ما إذا
كان ورقة قد أسلم قبل موته أم لا (البداية والنهاية- بلوغ الأرب- ترجمة ورقة بن
نوفل),

4-
زيد بن عمر بن نفيل:

تذكر
كتب التاريخ الإسلامي أنه تهود ثم تنصر ثم صار من الحنفاء- لذلك سنورده في الفصل
القادم بتفصيل أكبر- وكان زيد لا يذبح للأوثان؟ ولا يأكل الميتة والدم؟ ويحيي
الموؤودة ولايشرب الخمر وتغلب على شعره النزعة الدينية؟ ويقول في شعره معلناً كفره
بالأوثان:

أرباً
واحداً أم ألف رب

أدين
إذا تقسمت الأمور

عزلت
اللات والعزى جميعاً

كذلك
يفعل الجلد الصبور

(البداية
والنهاية- بلوغ الأرب- ترجمة زيد بن عمرو)

5-
عديّ بن زيد:

من
شعراء البلاط في الجاهلية؟ وله قصيدة نظمها في معاتبة النعمان على حبسه يقول في
بيت منها:

سعى
الأعداء لا يألون شراً

عليك
ورب مكة والصليب

ولعله
يبدو غريباً أن يقسم شاعر مسيحي بالكعبة قبل الإسلام وهي مجمع الأوثان والأصنام,
ولكن ما أوردناه سالفاً من تحول بعض أحياء مكة للمسيحية؟ ووجود صور مسيحية داخل
الكعبة؟ قد جعل المسيحيين يقدسونها ويعظمونها,

ولعدي
أيضاً أبيات يذكر فيها بدء الخليقة كما وردت في سفر التكوين يقول فيها:

اِسمع
حديثاً لكي يوماً تجاوبه– عن ظهر غيب إذا ما سائل سألا

أن
كيف أبدى إله الخلق– نعمته فينا وعرفنا آياته الأولاد

كانت
رياحاً وماءً ذا عراثية– وظلمة لم يدع فتقاً ولا خللا

فأمر
الظلمة السوداء فانكشفت– وعزل الماء عما كان قد شغلا

وبسط
الأرض بسطا ثم قدرها– تحت السماء سواءً مثل مع فعلا

(جواد
علي- المفصل- ج 6 ص 668)

هذا
ما كان بشأن تواجد المسيحية في شبه الجزيرة قبل الإسلام؟ وبالرغم من أن المسيحية
لا تحتوي على تشريعات محددة؟ إلا أنها تحوي الكثير من التعليم التي كان يتخذها
معتنقو المسيحية نبراساً لهم, وفي رأيي أن كثيراً من هذه التعاليم قد رسخت في
الموروث الأخلاقي والتشريعي في الجزيرة قبل الإسلام؟ والذي كان بمثابة إعداد للعرب
لتلقي التعاليم الدينية, هذا بالإضافة إلى القصص المسيحي- خاصة في المواضيع التي
لم يتعرض لها القرآن ولا الحديث النبوي- وهذا القصص لا يكان يخلو منه كتاب سيرة أو
تفسير؟ وهذا القصص بعضه من الكتاب المقدس والبعض الآخر من خرافات وهرطقات مسيحيّي
الجزيرة؟ ولعل أكثر من تأثر بهذا الأدب وتلك القصص هم جماعة المحودين والحنفاء
الذين سأتكلم عنهم بالتفصيل في الفصل القادم,

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار