المسيحية

الله واحد فى أقانيم ثلاثة



الله واحد فى أقانيم ثلاثة

الله
واحد
فى أقانيم
ثلاثة

في
التوراة، كشف الله عن ذاته، موحياً فيها أنه هو الإله الذي خلق الكون، وأن لا إله
إلا هو. وأكّد الإنجيل على هذا الوحي الصادق، إلاّ أن الله أوحى فيه أن وحدته لا
تعني وحدانية أو عزلة، فكشف أنه واحد في “أقانيم” ثلاثة هي: الله
كلمته روحه. فيقول الرسول يوحنا في مطلع إنجيله:

 

“في
البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، والكلمة كان الله. كلٌّ به خُلِقَ،
وبدونه لم يُخلق شيء مما خُلق.. والكلمة صار جسداً وسكن بيننا” (يوحنا 1: 1-14).

 

هذا
هو كلام الوحي الإنجيلي. إنه يخبرنا أن الله عنده “كلمة”، وأن الكلمة هو
الله. فالله وكلمته جوهر واحد، كما أن الإنسان وكلمته جوهر واحد. الكلمة الذي
“صار جسداً وسكن فينا” هو المسيح، “كلمة الله”، كما أوحى الله
ذلك في القرآن أيضاً.

 

وقد
أوصى المسيح تلاميذه أن يُعمِّدوا المؤمنين به “باسم الآب والابن
(الكلمة) والروح القدس” (متّى 19: 28). لاحظ أن المسيح لم يقل لرسله أن
يعمّدوا “بأسماء”، بل “باسم” الآب والابن والروح القدس، لأن
الله واحد، واسم الله يذكره المسيح بصيغة المفرد (إسم)، لا بصيغة الجمع (أسماء).
من هذا الكلام يستنتج المؤمن أن الله هو: آب وابن وروحٌ قدس، أو بعبارة أخرى، لا
تختلف عن الأولى: الله وكلمته وروحه.

 

إن
المسيح، قبل أن يترك هذا العالم، وإذ رأى تلاميذه غارقين في حزن عميق لعلمهم أنه
سيرحل عنهم، قال لهم إنه سيرسل لهم من يُعزّيهم بعد ذهابه، قاصداً الروح القدس، إذ
قال: “..أنا أسأل الآب فيعطيكم مُعزّياً آخر ليقيم معكم إلى الأبد، روح الحق
(الروح القدس).. لا أدعكم يتامي؛ إني آتي إليكم” (يوحنا 16: 14-18).
فَهِم المؤمنون من هذا الكلام أن الروح المُعزّي الذي سيأتي بعد انتقال المسيح إلى
السماء، هو روح الله، روح المسيح، الله نفسه، ولذلك قال لهم “لا أدعكم يتامى،
إني آتي إليكم”. بقوله “إني آتي إليكم”، بعد قوله إنه سيرسل
“المُعزّي وروح الحق”، يقصد أن هذا الروح والمسيح واحد. لذلك سُمّي
المسيح كلمة الله وروح الله. ويُصدّق على ذلك القرآن الكريم:

] إنّما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى
مريم وروح منه [(النساء 171).

 

يظن
البعض أن الروح المعزّي الذي وعد به المسيح رسله هو النبي محمد. إلاّ أن هذا
التفسير لا ينطبق على ما جاء في الإنجيل ولا في القرآن عن الروح. فيقول الإنجيل إن
المسيح أرسل الروح القدس على رسله بعد صعوده إلى السماء بعشرة أيام
“فامتَلأوا من الروح القدس وأخذوا يتكلّمون بلغات مختلفة” (أعمال الرسل
4: 2). هذه الآية وسائر الآيات الإنجيلية والقرآنيّة عن الروح القدس لا تنطبق على
النبي محمد. إن الإنجيل والقرآن كلاهما يخبران أن الروح القدس حلّ على مريم لتحمل
في أحشائها السيد المسيح:


جاوب الملاك مريم: “الروح القدس يحلّ عليك، وقدرة العليّ تظلّلك” (لوقا
1: 35).

              
] المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه [(النساء
171).

              
].. فأرسلنا إليها روحنا، فتمثّل لها بشراً سويّاً [(مريم 17).

 فكيف
يمكن أن يكون هذا الروح هو النبي محمد؟ هذا التفسير خطأ من أساسه لأنّ النبي محمد
لم يُولد إلاّ ستّة قرون بعد تلك البشارة.

 

لقد
أوحى الله حقيقة الثالوث في التوراة أيضاً، إلاّ أن المؤمنين لم يفهموها حتى تجلّى
الوحي الإنجيلي. فإننا نجد في سفر (كتاب) التكوين، في الفصل الثامن عشر منه، أن
الله ظهر لأبينا إبراهيم، خليل الله، بشكل ثلاثة أشخاص. الأمر الغريب في هذه
القصّة التوراتية هو أن إبراهيم يخاطب الثلاثة كواحد، مُستعملاً صيغة الفرد حيناً
وصيغة الجمع حيناً، ويبدو وكأنه في حيرة أمام هذا الظهور الإلهي. إليكم بعض
المقتطفات: “تجلّى الرب له (لإبراهيم).. فرفع إبراهيم عينيه ونظر،
فإذا ثلاثة رجال واقفين أمامه. فلمّا رآهم (صيغة الجمع) بادر إلى لقائهم،
وسجد إلى الأرض وقال: يا سيدي (صيغة المفرد)، إن نلتُ حظوة في عينيك فلا تجز عن
عبدك.. أقدّم كسرة خبز فتسندون (صيغة الجمع) بها قلوبكم ثم تمضون..” (تكوين
18).

 

تلك
هي أهم النصوص الكتابيّة التي أوحاها الله للكشف عن حقيقة “الثالوث”، أو
“الثالوث القدوس”، كما اصطلح علماء اللاهوت على تَسميتها.

مسيحيّون
كثيرون خلطوا، في فجر المسيحيّة، بين “الثالوث” و”التثليث”(*).
الثالوث هو الإيمان بأنّ الله واحد، وأنّ في جوهره الإلهي الواحد
“أقانيم” ثلاثة، لا آلهة ثلاثة.

إن
كلمة “أقنوم”
جمعها أقانيم كلمة اصطلح عليها علماء اللاهوت، وهي تنطبق في علم اللاهوت على
حقيقة روحية تتعلّق بالله وحده، لا بغيره.

 

يدعونا
الله في الوحي الإنجيلي إلى تمييز كلمته وروحه في ذاته الإلهية. فذات الله
هي “الآب” أو “الله”، وكلمته المُنبثقة منه، أو
“المولودة” منه وفيه
روحياً طبعاً هي “الابن، وذهنية الله هي “الروح القدس”. يجب
الملاحظة ان الكلمة والرّوح هما كلمة الله وروحه، لا كلمة وروح إلهين آخرين. هذا
ما نعنيه بأقانيم ثلاثة في جوهر واحد.

 

هناك
مَن يسأل: “لماذا كل هذا التمييز وكل هذه الكلمات المُعقّدة؟ “
نجاوب: ” لأن الله هو الذي بادر وأوحى ما يريدنا أن نعلم عن
ذاته الإلهية. فبالتالي إنه من واجبنا أن نجتهد لنفهم”.

 

أما
التثليث، فهي عقيدة تختلف عن الثالوث تماماً، لأنها تقول بوجود آلهة ثلاثة
في جواهر إلهية ثلاثة، لكل إله جوهره الخاص به، كإله الخير وإله الشر وإله العقاب
مثلاً، والثلاثة أزليّون. وهذا بالطبع كُفر أدانه الرسل والمسؤولون المسيحيون في
القدم والقرآن.

 

لقد
قام بعض اليهود، منذ أن نشأت المسيحية، بمحاربتها وشقّ صفوفها عن طريق نشر البدع،
منها بدعة التثليث، وادعى البعض أن مريم أمّ المسيح هي من الآلهة الثلاثة. وقد
انتشرت البدعة التثليثيّة في القرون الأولى من المسيحيّة. لذلك يُدين القرآن بدعة
التثليث بقوله: ] لقد كَفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة (تفسير الجلالين: أي
أحدهما والآخران عيسى وأمّه وهم فرقة من النصارى) وما من إله إلا إله واحد [(المائدة
73).

 

لاحظ
أن “فرقة من النصارى”، لا كلّهم، هم المقصودون في الآية. ويوضح القرآن
أن الآلهة الثلاثة، التي كانت تعبدها تلك الفرقة، هي الله وعيسى ومريم، فقال:

-]
وإذ قال الله: يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس إتخذوني وأمّي إلهين من دون الله؟
قال: سُبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق [(المائدة 116).

 

] يا أهل الكتاب لا
تغلوا (تتجاوزوا الحدّ) في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى
ابن مريم رسول الله وكلمته، ألقاها إلى مريم، وروح منه، فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا
(إنهم آلهة) ثلاثة (الله وعيسى ومريم). انتهوا (من قول هذا)، خيراً لكم. إنما الله
اله واحد سبحانه [(النساء 171).

 

لا
يوجد اليوم فرقة من المسيحيين تؤمن بأن مريم إلاهة، ولا أن الله “ثالث
ثلاثة”، فهذا بالطبع كُفر. إن الإنجيل لم يوحِ أن الله “ثالث
ثلاثة”، فليس هناك إلا إله واحد، جوهره الله وكلمته وروحه، وهذا لا يعني آلهة
ثلاثة، بل إله واحد فيه أقانيم ثلاثة، لا آلهة ثلاثة. كلّ مَن يستطيع التمييز بين
الأقانيم الثلاثة في ذات إلهية واحدة، وآلهة ثلاثة، أي بين “الثالوث الواحد
في الجوهر”، و”التثليث المتعدّد الجواهر” يُظهر أنه بلغ قدرة عالية
في التفكير السليم، الناضج والمُتّزن.

 

كل
مسيحي يتّفق مع القرآن ويقول: “لقد كفر الذين قالوا أن الله ثالث ثلاثة”.
فليس مِن مسيحي جدير بهذا الاسم يمكنه أن يقول كلام الكُفر هذا، بل وبالعكس إنه
يَشجُبه، فالله ليس “ثالث” ولا “ثاني” ولا “أول
ثلاثة”. إنما الله واحد لا إله إلا هو سبحانه. فكلّنا مع القرآن الكريم لنفي
التثليث. ولو قصد القرآن نفي الثالوث لقال: “لقد كفر كلّ من قال إن الله واحد
في ثلاثة”.

 

فَلْيَعلَم
المسيحيون اليوم أن القرآن لا ينعتهم بالكُفر لأجل عقيدتهم، ولا يقصدهم في هذه الآيات
الشريفة. ولِيَعلم المسلمون ذلك أيضاً عن القرآن وعن إخوانهم المسيحيين.

 

فلماذا
نفور الواحد من الآخر وهناك اتفاق في الكتب المقدّسة؟! ‍‍

 

إليك توضيحٌ مبسّطٌ عن
الثالوث: إن الإنسان وكلمته جوهر واحد. والإنسان وروحه جوهر واحد. إذاً، الإنسان
وكلمته وروحه جوهر واحد. مَن أعطى كلمته، أعطى كل ذاته، وحتى روحه. فكما أن
الإنسان وكلمته (أو فكره، فالكلمة تعبّر عن تفكير الإنسان) وروحه كيان واحد، هكذا
الله وكلمته وروحه واحد.

 

إن عمليّة جمع، نُضيف
فيها الرجل على كلمته وروحه، لا يَنتُج عنها رجال ثلاثة، بل رجل واحد، الرجل نفسه،
في طاقاته الثلاث. الإنسان، إذاً، هو أيضاً ثالوثٌ، وصورة مصغّرة للثالوث الإلهي.
ولا عجب، فهو مخلوق على صورة الله.

 

في الإنسان حركة حياتية
روحية بينه وبين نفسه، فيستشير المرء نفسه، ويرضى عن أفعاله أو يكرهها. الإنسان
ليس مُنغلقاً عن نفسه، مُنعزلاً عنها.. إلاّ إذا أصابه مرضٌ نفسانيٌّ وعُقَدٌ
نفسانيّة، تَظهر عوارضها سريعاً في شخصية غير متّزنة ومنشقّة.

 

تلك الحركة الحياتية
الروحية والفكرية متوفّرة عند الله تعالى بشكلٍ كامل، لا انشقاق فيه. إننا، بفضل
الوحي الإنجيلي، عَلِمنا أن الله ليس واحداً فحسب، بل إنه ليس وحدانياً، فهو ليس
مُنعزلاً عن نفسه، بل مُنفتحاً عليها وفي حضرتها، لا مُنغلقاً على نفسه كالصنم.
وعلمنا من الإنجيل أن الله يحب نفسه، لأنه يعلم أنه الجمال الكامل المُستحب. لذلك
كلّ من تأمّل في الله شعر بانسجامه تعالى مع ذاته، فهو الاتّزان الكامل، ولا نقص فيه
سبحانه، وهو الوحيد الذي يكتفي بنفسه وبغير حاجة إلى أحد.

 

إن الله، وتفكيره عن
نفسه، ومحبّته لها، هو ما يَعنيه الإنجيل بالآب (الله) والابن (الكلمة أو الفكرة
الإلهية: “بنات أفكاره”) والروح القدس (بيئة المحبة الروحية التي يعيش
فيها الله).

 

نقول عن إنجاز أَتَمّه
إنسان أنه “بنات أفكاره” لأنه وليدها. إن الله يفكّر بذاته، وهذا
التفكير هو “الكلمة”، كلمة الله، أو نطقه، في ذاته وعن ذاته. هذا هو
“الكلمة الذي صار جسداً وسكن بيننا” كما جاء في إنجيل يوحنا عن المسيح.

 

من استطاع التمييز بين
الثالوث والتثليث
وهذا ما يدعونا إليه القرآن قد خَطا خطوة روحانية وفكرية ناضجة تؤهّل للاتحاد الأبدي مع
المولى الحبيب المشكور على ما أوحاه لنا، نحن غير المستحقّين، عن ذاته الفائقة
الجمال والكمال والحياة.



(*) بالفرنسية:
الثالوث هو
“Trinité”، أما التثليث فهو“Trithéisme”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار