علم الاخرويات

الفصل السابع: الدينونة والمصير



الفصل السابع: الدينونة والمصير

الفصل
السابع: الدينونة والمصير

الجزء
الثالث

طبيعة
اليوم الأخير:

فناء
أم اكتمال؟


هل القدوم الثانى للمسيح يعنى فناء الكون أى البشرية؟”
.

 أولاً:
ما معنى ” القدوم الثاني” للمسيح؟:

1
-لقد ظهر المسيح على أرضنا فى حقبة من تاريخن، فعاش بيننا ومات وقام وصعد إلى
السموات
.

وعندما
انفصل عن التلاميذ بالجسد ماضيا إلى الآب الذى منه خرج، تلقى هؤلاء الوعد بأن:

(وَقَالاَ:
{أَيُّهَا اَلرِّجَالُ اَلْجَلِيلِيُّونَ مَا بَالُكُمْ وَاقِفِينَ تَنْظُرُونَ
إِلَى ‏اَلسَّمَاءِ؟ إِنَّ يَسُوعَ هَذَا اَلَّذِي اِرْتَفَعَ عَنْكُمْ إِلَى
اَلسَّمَاءِ سَيَأْتِي هَكَذَا ‏كَمَا رَأَيْتُمُوهُ مُنْطَلِقاً إِلَى
اَلسَّمَاءِ} ‏]
(أعمال الرسل 1: 11].

 

2_هذا
المجئ الثانى الموعود به يختلف عن الأول
.

فالأول
كان خَفِرً، متواضع، تواضع البذرة التى تدفن فى الأرض لتُؤتى ثمرًا:

(اَلْحَقَّ
اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ اَلْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ
وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلَكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ
كَثِيرٍ
) (يوحنا 12:
24
).

تواضع
الخميرة التى لا بدّ لها أن تغيب فى العجين لتخمّره كلّه:

(قَالَ
لَهُمْ مَثَلاً آخَرَ: { يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ خَمِيرَةً أَخَذَتْهَا
امْرَأَةٌ وَخَبَّأَتْهَا فِي ثَلاَثَةِ أَكْيَالِ دَقِيقٍ حَتَّى اخْتَمَرَ
الْجَمِيعُ }
)(متى 13: 32).

أمّا
المجئ الثانى فمجيد، أى أنه زمن الثمار والنضج، زمن اعتلان مجد الله
.

وبما
أن ” مجد الله، هو أن يحيا الإنسان”، كما علمنا القديس إيريناوس، فإن
إعتلان مجد الله إنما يعنى بالتالى إعتلان الحياة، إعلان ظفرها فى الإنسان والكون،
ذلك الظفر الذى زرع المسيح بذوره عند مجيئه الأول
.

 

3-المجئ
الثانى أشار إليه العهد الجديد بالعبارة اليونانية
PAROUSIA
وهى عبارة تعنى ” حضورًا” وقدوما” وكانت فى العالم اليونانى
-الرومانى تُستعمَل للإشارة إلى الزيارات الرسمية التى كان يقوم بها الملوك
.

من
هنا أن المجئ الثانى يعنى أن المسيح يأتى كملك (هذا هو، على كل حال، معنى كلمة
” المسيح”: أنه الذى تلقى المسحة الملوكية)
.

وتنظره
كل عين وينوح عليه كل قبائل الأرض

(وَحِينَئِذٍ
تَظْهَرُ عَلاَمَةُ ابْنِ الإِنْسَانِ فِي السَّمَاءِ. وَحِينَئِذٍ تَنُوحُ
جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ وَيُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ آتِياً عَلَى سَحَابِ
السَّمَاءِ بِقُوَّةٍ وَمَجْدٍ كَثِيرٍ
) (متى 24: 30].

يتحدّث
إلينا الكتاب المقدس والتقليد المقدس مرات عديدة عن المجئ الثانى
.

والكتاب
والتقليد لا يعطياننا أى أساس للافتراض بأنه -عن طريق تقدّم مستمر فى الحضارة فإن
العالم سيصير أفضل فأفضل بالتدريج إلى أن ينجح الجنس البشرى فى تأسيس مملكة الله
على الأرض
.

إن
الرؤية المسيحية لتاريخ العالم تتعارض تماما مع هذا النوع من التفاؤل المبنى على
التطوّر
.

ولكن
الكتاب المقدس يعلّمنا أن نتوقع كوارث فى عالم الطبيعة، وحروب متزايدة بين الشعوبو
وارتباك وارتداد بين أولئك الذين يدعون أنفسهم مسيحيين:

(فَأَجَابَ
يَسُوعُ: { اُنْظُرُوا لاَ يُضِلَّكُمْ أَحَدٌ.

فَإِنَّ
كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ بِاسْمِي قَائِلِينَ: أَنَا هُوَ الْمَسِيحُ وَيُضِلُّونَ
كَثِيرِينَ.

 

وسَوَفَ
تَسْمَعُونَ بِحُرُوبِ وَأَخْبَارِ حُرُوبٍ. اُنْظُرُوا لاَ تَرْتَاعُوا. لأَنَّهُ
لاَبُدَّ أَنْ تَكُونَ هذِهِ كُلٌّهَا. وَلَكِنْ لَيْسً اَلْمُنْتَهَى بَعْدُ.

لأَنَّهُ
تَقُومُ أُمَّةً عَلَى أُمَّةٍ وَمَمْلَكَةٍ عَلَى مَمْلَكَةٍ وَتَكُونُ
مَجَاعَاتٌ وَأَوْبِئَةٍ وَزَلازِلُ فِى أَمَاكِنَ

وَلَكِنَّ
هَذِهِ كُلَّهَا مُبْتَدَأُ الأَوْجَاعِ.

حِينَئِذٍ
يُسَلِّمُونَكُمْ إِلَى ضِيقٍ وَيَقْتُلُونَكُمْ وَتَكُونُونَ مُبْغَضِينَ مِنْ
جَمِيعِ الأُمَمِ لأَجْلِ اسْمِي.

وَحِينَئِذٍ
يَعْثُرُ كَثِيرُونَ وَيُسَلِّمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً وَيُبْغِضُونَ بَعْضُهُمْ
بَعْضاً.

وَيَقُومُ
أَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ كَثِيرُونَ وَيُضِلُّونَ كَثِيرِينَ.

وَلِكَثْرَةِ
الإِثْمِ تَبْرُدُ مَحَبَّةُ الْكَثِيرِينَ.

وَلَكِنِ
الَّذِي يَصْبِرُ إِلَى الْمُنْتَهَى فَهَذَا يَخْلُصُ.

وَيُكْرَزُ
بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ هَذِهِ فِي كُلِّ الْمَسْكُونَةِ شَهَادَةً لِجَمِيعِ
الأُمَمِ. ثُمَّ يَأْتِي الْمُنْتَهَى }.

{
فَمَتَى نَظَرْتُمْ (رِجْسَةَ الْخَرَابِ) الَّتِي قَالَ عَنْهَا دَانِيآلُ
النَّبِيُّ قَائِمَةً فِي الْمَكَانِ الْمُقَدَّسِ -لِيَفْهَمِ الْقَارِئُ –

فَحِينَئِذٍ
لِيَهْرُبِ الَّذِينَ فِي الْيَهُودِيَّةِ إِلَى الْجِبَالِ

وَالَّذِي
عَلَى السَّطْحِ فَلاَ يَنْزِلْ لِيَأْخُذَ مِنْ بَيْتِهِ شَيْئاً

وَالَّذِي
فِي الْحَقْلِ فَلاَ يَرْجِعْ إِلَى وَرَائِهِ لِيَأْخُذَ ثِيَابَهُ.

وَوَيْلٌ
لِلْحَبَالَى وَالْمُرْضِعَاتِ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ!

وَصَلُّوا
لِكَيْ لاَ يَكُونَ هَرَبُكُمْ فِي شِتَاءٍ وَلاَ فِي سَبْتٍ

لأَنَّهُ
يَكُونُ حِينَئِذٍ ضِيقٌ عَظِيمٌ لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ مُنْذُ ابْتِدَاءِ
الْعَالَمِ إِلَى الآنَ وَلَنْ يَكُونَ.

وَلَوْ
لَمْ تُقَصَّرْ تِلْكَ الأَيَّامُ لَمْ يَخْلُصْ جَسَدٌ. وَلَكِنْ لأَجْلِ
الْمُخْتَارِينَ تُقَصَّرُ تِلْكَ الأَيَّامُ.

حِينَئِذٍ
إِنْ قَالَ لَكُمْ أَحَدٌ: هُوَذَا الْمَسِيحُ هُنَ وهُنَاكَ فَلاَ تُصَدِّقُوا.

لأَنَّهُ
سَيَقُومُ مُسَحَاءُ كَذَبَةٌ وَأَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ وَيُعْطُونَ آيَاتٍ
عَظِيمَةً وَعَجَائِبَ حَتَّى يُضِلُّوا لَوْ أَمْكَنَ الْمُخْتَارِينَ أَيْضاً.

هَا
أَنَا قَدْ سَبَقْتُ وَأَخْبَرْتُكُمْ.

فَإِنْ
قَالُوا لَكُمْ: هَا هُوَ فِي الْبَرِّيَّةِ فَلاَ تَخْرُجُوا! هَا هُوَ فِي
الْمَخَادِعِ فَلاَ تُصَدِّقُوا!

لأَنَّهُ
كَمَا أَنَّ الْبَرْقَ يَخْرُجُ مِنَ الْمَشَارِقِ وَيَظْهَرُ إِلَى الْمَغَارِبِ
هَكَذَا يَكُونُ أَيْضاً مَجِيءُ ابْنِ الإِنْسَانِ
) (متى 24: 3
-27]
.

 هذه
الفترة من الضيق تصل ذروتها بظهور إنسان الخطيئة:

(لاَ
يَخْدَعَنَّكُمْ أَحَدٌ عَلَى طَرِيقَةٍ مَا، لأَنَّهُ لاَ يَأْتِي إِنْ لَمْ
يَأْتِ الاِرْتِدَادُ أَوَّلاً، وَيُسْتَعْلَنَ إِنْسَانُ الْخَطِيَّةِ، ابْنُ
الْهَلاَكِ،. الْمُقَاوِمُ وَالْمُرْتَفِعُ عَلَى كُلِّ مَا يُدْعَى إِلَه
ومَعْبُوداً، حَتَّى إِنَّهُ يَجْلِسُ فِي هَيْكَلِ اللهِ كَإِلَهٍ مُظْهِراً
نَفْسَهُ أَنَّهُ إِلَهٌ
) (2 تسالونيكى
2: 3، 4]
.

أى
ضد المسيح، الذى بحسب التفسير التقليدى للكنيسة الأرثوذكسية، ليس هو الشيطان نفسه
بلّ هو إنسان – إنسان تتركّز فيه قوى الشر، والذى سوف يُخضع كلّ العالم تحت سيطرته
لفترة من الزمن
.

والفترة
القصيرة التى يسيطر فيها ضد المسيح سوف تنتهى فجتاة بمجئ الرب يسوع المسيح ثانية –
ليس بطرقة خفيّة كما حدث وقت ولادته فى بيت لحم، بلّ:

(جَالِساً
عَنْ يَمِينِ اَلْقُوَّةِ وَآتِياً عَلَى سَحَابِ السَّمَاءِ
) (متى 26: 64).

وهكذا
فإن مسيرة التاريخ سوف تنتهى بطرقة فجائية وحاسمة، عن طريق التدخل الإلهى
.

ميعاد
المجئ الثانى أخفاه الله عن، كما يقول الإنجيل:

(لَيْسَ
لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا الأَزْمِنَةَ وَالأَوْقَاتَ الَّتِي جَعَلَهَا ‏الآبُ فِي
سُلْطَانِهِ ‏]
(أعمال 1: 7).

وسيأتى
الرب كلصّ:

(أَنَّكُمْ
أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ بِالتَّحْقِيقِ أَنَّ يَوْمَ اَلرَّبِّ كَلِصٍّ فِي
اَللَّيْلِ هَكَذَا يَجِيءُ]
(1تسالونيكى 5: 2].

وهذا
يعنى أننا يجب أن نتحاشى التفكير فى تحديد ميعاد لمجئ الرب، كما أننا يجب من
الناحية الأخرى فى حالة استعداد دائم
.

يقول
القديس اندراوس الكريتى:


نفسى، يانفسى، قومى! لماذا أنت نائمة؟

النهاية
تقترب، وحالاً سيعتريك الاضطراب،

اسهرى
إذن، حتى يحفظك المسيح إلهك،

فهو
حاضر فى كل مكان ويملأ كلّ الأشياء”
.

ثانيًا:
ماذا يعنى هذا القدوم الثانى فناء الكون والبشرية؟:

نحن
كمسيحيين لا نؤمن فقط بخلود النفس بلّ أيضا بقيامة الجسد
.

بحسب
أمر الله فى خلقتنا الأولى، فإن النفس والجسد يعتمد كل منهما على الآخر
.

وكنتيجة
للسقوط يحدث الانفصال بينهما فى الموت الجسدى، ولكن هذا الانفصال ليس نهائيا وليس
دائما
.

فعند
مجئ المسيح الثانى، سوف نُقام من الأموات بالنفس والجسد مع، وهكذا بعودة النفس
والجسد متحدين، سوف نظهر أمام الرب للدينونة الأخيرة
.

 

إن
الدينونة، كما يؤكد القديس يوحنا تتم باستمرار طوال فترة وجودنا على الأرض
.

فكلما
اخترنا الخير والصلاح فإننا ندخل مسبقا منذ الآن إلى الحياة الأبدية، وحينما نختار
الشر فإننا ننال من الآن تذوقا مسبقا للجحيم
.

من
الأفضل أن نفهم الدينونة الأخيرة على أنها ” لحظة الحق” حينما ينكشف كل
شئ فى النور، وحينما تصير كل اختياراتنا مكشوفة لنا بكل ما تتضمنه من نتائج،
وحينما نعرف بوضوح كامل من نحن وماذا كان المعنى العميق لحياتنا وما هو هدفها
.

هكذ،
فبعد هذا التوضيح الكامل – فإننا سندخل بالنفس والجسد متحدين معا – إما إلى السماء
وإلى جهنّم، أى إما إلى الحياة الأبدية والموت الأبدى
.

 

المسيح
هو الديان، ومع ذلك – من وجهة نظر أخرى، فإننا نحن الذين ننطق بالحكم على أنفسنا
.

فإن
ذهب أحد إلى جهنم فذلك ليس لأن الله قد حبسه هناك، ولكن لأنه هو الذى اختار لنفسه
أن يكون هناك
.

الهالكون
فى جهنم هم الذين حكموا على أنفسهم بذلك، وهم الذين جعلوا أنفسهم عبيدًا
.

لقد
قيل بصواب أن أبواب جهنم هى معلّقة من الداخل
.

 

ربما
يتساءل البعض، كيف يمكن أن يقبل إله المحبة أن يبقى ولو واحد فقط من خلائقه فى
جهنم إلى الأبد؟
.

يقول
مار إسحق السريانى:


من الخطأ أن نتصوّر أن الخطأة فى الجحيم محرومين من محبّة الله لهم، فالحب الإلهى
موجود فى كل مكان، ولا يرفض أحدًا
. ولكننا أحرار فى أن نرفض الحبّ الإلهى. ولا يمكن
أن نفعل هذا دون أن نسبب ألما لأنفسنا وكلما كان رفضنا للحب نهائيا كلما كانت
آلامنا مرة جدًا”
.

 

تقول
عظات القديس مكاريوس: ” فى القيامة تقوم كل أعضاء الجسد ولا تهلك شعرة
واحدة”
(لوقا 21:
18]
. وفى نفس
الوقت يُسمى جسد القيامة ” جسمًا روحانيا”
(1 كورونثوس
15: 35- 46]
. هذا لايعنى
أن أجسادنا فى القيامة لا يكون لها قوام مادى، بل ينبغى أن نتذكّر أن المادة كما
نعرفها فى هذا العالم الساقط بكل جمودها وعتامته، ليست كالمادة التى قصدها الله أن
تكون بالمرة
. جسد
القيامة عندما يتحرر من كثافة الجسد الساقط قإنه سيشترك فى خصائص جسد المسيح وقت
التجلّى بعد قيامته
. رغم ان جسدنا فى القيامة سيتغير، فإنه سيظلّ
يمكن التعرّف عليه على أنه نفس الجسد الذى لنا الآن
. إذ سيكون
هناك استمرار بين الإثنين
.

 

وكما
يقول القديس كيرلس الأورشليمى:

إنه
فى نفس الجسد الى سيقام، برغم أنه لن يكون فى نفس حالة الضعف الحاضرة لأنه
(سيلبس عدم
فساد
) (1 كورونثوس
15: 35
).

وهكذا
فإنه سيتغير
. إنه لن
يحتاج إلى الأطعمة التى نأكلها الآن لحفظ جسدنا حي، ولن يحتاج إلى سلم ليصعد عليه،
لأنه سوف يصير روحانيًا
.

 

1
– صور كتابية توحى بذلك:

ولكن
هل يقوم هذا المُلك على أنقاض البشرية والكون؟
.

هل
يعنى مجئ المسيح الثانى فناءهما؟
.

هناك
صور وردت فى العهد الجديد توحى بهذا المدلول إذا ما أخذها القارئ بحرفيتها
.

أ
– فقد ورد مثلاً فى إنجيل مرقس على لسان الرب يسوع المسيح:

(وَأَمَّا
فِي تِلْكَ اَلأَيَّامِ بَعْدَ ذَلِكَ اَلضِّيقِ فَالشَّمْسُ تُظْلِمُ
وَاَلْقَمَرُ لاَ يُعْطِي ضَوْءَهُ وَنُجُومُ اَلسَّمَاءِ تَتَسَاقَطُ
وَاَلْقُوَّاتُ اَلَّتِي فِي اَلسَّمَاوَاتِ تَتَزَعْزَعُ.وَحِينَئِذٍ يُبْصِرُونَ
اِبْنَ اَلإِنْسَانِ آتِياً فِي سَحَابٍ بِقُوَّةٍ كَثِيرَةٍ وَمَجْدٍ فَيُرْسِلُ
حِينَئِذٍ مَلاَئِكَتَهُ وَيَجْمَعُ مُخْتَارِيهِ مِنَ اَلأَرْبَعِ اَلرِّيَاحِ
مِنْ أَقْصَاءِ اَلأَرْضِ إِلَى أَقْصَاءِ اَلسَّمَاءِ
) (مرقس 13:
24، 25
).

 

ب
– وقد ورد فى رسالة بطرس الثانية:

(وَلَكِنْ
سَيَأْتِي كَلِصٍّ فِي اَللَّيْلِ، يَوْمُ اَلرَّبِّ، اَلَّذِي فِيهِ تَزُولُ اَلسَّمَاوَاتُ
بِضَجِيجٍ، وَتَنْحَلُّ اَلْعَنَاصِرُ مُحْتَرِقَةً، وَتَحْتَرِقُ اَلأَرْضُ
وَاَلْمَصْنُوعَاتُ اَلَّتِي فِيهَا
. مُنْتَظِرِينَ
وَطَالِبِينَ سُرْعَةَ مَجِيءِ يَوْمِ الرَّبِّ، الَّذِي بِهِ تَنْحَلُّ
السَّمَاوَاتُ مُلْتَهِبَةً، وَاَلْعَنَاصِرُ مُحْتَرِقَةً تَذُوبُ
) (2 بطرس 3:
10، 12
).

فى
الولايات المتحدة الأمريكية، فى أيام الحرب الباردة، كان كثيرون من الأصوليين
المسحيين يؤولون هذه العبارات تأويلاً حرفي، فيدّعمون موقفهم السياسى المؤيّد لحرب
نووية تشنّها بلادهم على ” معسكر الشر” الذى كان يمثله الاتحاد
السوفييتى بنظرهم، وكانوا يقولون أن الله سيعرف كيف ينجّى ذويه من هذا الفناء
الشامل!!
.

 

2
– المعنى الحقيقى لهذه الصور:

ولكن
التأويل الحرفى لهذه العبارات يتجاهل الخلفية الحضارية التى انطلقت منها والتى لا
بدّ لنا من أخذها بعين الاعتبار إذا شئنا أن ندرك فحوى الرسالة التى لا يزال الله
يوجهها إلينا اليوم عبر هذه الكلمات
.

 

أ
– إن علماء التفسير بيّنوا أن العبارات المذكورة أعلاه إنما هى صورة مألوفة فى
الأدب الرؤيوى الذى كان شائعا عند اليهود فى الزمن الذى ظهر فيه العهد الجديد، وأن
الأدب الرؤيوى هذا (الذى ترك فى الكتاب المقدس أثرين هما سفر دانيال فى العهد
القديم وسفر الرؤيا فى العهد الجديد، ناهيك عن مقاطع متفرّقة فى العهدين) كان
يستعمل هذه العبارات ليشير بلغة رمزية إلى عمق التغيير الذى يجريه الله فى الكون
عند مجيئه إليه
.

 

ب
– النار التى قيل أن الكون يلتهب بها فى اليوم الأخير، إنما هى إشارة كتابية إلى
الله:

[لأَنَّ
إِلَهَنَا نَارٌ آكِلَةٌ
) (عبرانيين
12: 29]
.

(لأَنَّ
اَلرَّبَّ إِلهَكَ هُوَ نَارٌ آكِلةٌ إِلهٌ غَيُورٌ
) (تثنية 4: 24).

(تَحْبَلُونَ
بِحَشِيشٍ تَلِدُونَ قَشِيشاً. نَفَسُكُمْ نَارٌ تَأْكُلُكُم
. ‏ارْتَعَبَ
فِي صِهْيَوْنَ اَلْخُطَاةُ. أَخَذَتِ اَلرِّعْدَةُ اَلْمُنَافِقِينَ. مَنْ مِنَّا
‏يَسْكُنُ فِي نَارٍ آكِلَةٍ؟ مَنْ مِنَّا يَسْكُنُ فِي وَقَائِدَ أَبَدِيَّةٍ؟
) (إشعياء 33:
11، 14]
.

وينبغى
بالتالى أن لا تؤخذ هذه النار بالمعنى الحرفى، المادى
.

والدليل
على ذلك إنما هو العليقة التى تجلّى الله فيها لموسى فرآها هكذا:

(وَظَهَرَ
لَهُ مَلاَكُ اَلرَّبِّ بِلَهِيبِ نَارٍ مِنْ وَسَطِ عُلَّيْقَةٍ فَنَظَرَ وَإِذَا
‏اَلْعُلَّيْقَةُ تَتَوَقَّدُ بِالنَّارِ وَاَلْعُلَّيْقَةُ لَمْ تَكُنْ
تَحْتَرِقُ
) (خروج 3: 2].

مما
يستحيل حصوله فى حالة نار مادية
.

ولنا
عودة إلى هذه العليقة فى ما بعد
.

 

ج
– أمّا تساقط الكواكب وإظلامه، فينبغى أن يُفهما هما أيضا من المنظور الرمزى نفسه
.

فالشمس
والقمر والنجوم كانت تتعبّد لها الشعوب الوثنية كآلهة
.

لذلك
كان شعب الكتاب يمقت فيها تلك الهالة الصنمية التى أحيطت بها
.

من
هنا الاعتقاد لدى هذا الشعب بأن تلك الأجرام السماوية إنما تتحكّم بها القوى
الشريرة النتشرة فى الفضاء:

(فَإِنَّ
مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ مَعَ الرُّؤَسَاءِ، مَعَ
السَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ الْعَالَمِ، عَلَى ظُلْمَةِ هَذَا الدَّهْرِ، مَعَ
أَجْنَادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ
) (أفسس 6: 12].

وتستخدمها
لإيذاء الناس
.

لذا
فزوال الكواكب يعنى، من هذا المنظار، تلاشى قوى الشر الفاعلة فى الكون، عند إعتلان
ظفر الله
.

إنه
حدث سعيد يوازى، كما قال أحد المفسرين، إذا ما عُبّر عنه بلغة اليوم، تدمير مخزون
الأسلحة النووية التى تهدد الأرض بالدمار، وزوال الأنظمة الجائرة التى تتحكّم
بالناس وتقهرهم وتذلّهم
.

 

3
– ما المقصود إذًا ب ” اليوم الأخير”؟:

فى
ضوء ما سبق، يمكن أن نبلغ إلى فهم أفضل لعبارة ” اليوم الأخير” التى
ترادف، فى إيمانن، عبارة ” المجئ الثانى للمسيح”
.

فكلمة
” أخير” لها فى اللغة معنيان:

إنها
تعنى الزوال (هذا فلسى الأخير، هذا هو اليوم الأخير من العطلة
.

كما
أنها تعنى الاكتمال والتتويج (هذا رأيى الأخير: أى ما نضج فىّ من رأى بعد طول
تفكير ومناقشة مع نفسى ومع الآخرين وتجربة واختبار)
.

 

من
هنا أن ” اليوم الأخير” يعنى، بالنسبة للكون، زوالاً واكتمالاً بآن:

أ
– إنه زوال لوضعه الحاضر الذى سوف يتغيّر بفعل الله بشكل بالغ الجذرية تعبّر عنه
الصور الكارثية التى أتينا على ذكرها:

(وَالَّذِينَ
يَسْتَعْمِلُونَ هَذَا اَلْعَالَمَ كَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَعْمِلُونَهُ. لأَنَّ
هَيْئَةَ هَذَا اَلْعَالَمِ تَزُولُ
) (1كورونثوس
7: 31
).

 

ب
– ولكنه، من وجه آخر، اكتمال العالم وتتويجه وتجديده بفعل نور الله وقوته
.

وما
زوال وضعه الحاضر إلا لإفساح المجال أمام وضعه المستقبل البهىّ
.

إنه
موت العتاقة فيه لكى تتاح ولادة الجديد:

(فَقَالَ
لَهُمْ يَسُوعُ: { الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الَّذِينَ
تَبِعْتُمُونِي فِي التَّجْدِيدِ مَتَى جَلَسَ ابْنُ الإِنْسَانِ عَلَى كُرْسِيِّ
مَجْدِهِ تَجْلِسُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ كُرْسِيّاً
تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ الاِثْنَيْ عَشَرَ
) (متى 19: 28).

(وَيُرْسِلَ
يَسُوعَ اَلْمَسِيحَ اَلْمُبَشَّرَ بِهِ لَكُمْ قَبْلُ. الَّذِي يَنْبَغِي أَنَّ
‏اَلسَّمَاءَ تَقْبَلُهُ إِلَى أَزْمِنَةِ رَدِّ كُلِّ شَيْءٍ اَلَّتِي تَكَلَّمَ
عَنْهَا اَللهُ بِفَمِ جَمِيعِ ‏أَنْبِيَائِهِ اَلْقِدِّيسِينَ مُنْذُ اَلدَّهْرِ
) (أعمال الرسل
3: 20، 21
).

(وَلَكِنَّنَا
بِحَسَبِ وَعْدِهِ نَنْتَظِرُ سَمَاوَاتٍ جَدِيدَةً وَأَرْضاً جَدِيدَةً، يَسْكُنُ
فِيهَا اَلْبِرُّ
) (2بطرس 3: 13).

(وَقَالَ
اَلْجَالِسُ عَلَى اَلْعَرْشِ: { هَا أَنَا أَصْنَعُ كُلَّ شَيْءٍ جَدِيداً }.
وَقَالَ لِيَ: { اكْتُبْ، فَإِنَّ هَذِهِ اَلأَقْوَالَ صَادِقَةٌ وَأَمِينَةٌ }]
(رؤيا 21: 5).

 

ج
– صورة المخاض تجمع بين هذين الوجهين: فالمخاض هو ذلك التأزم الحاد، الشديد الوطأة
على الوالدة (التى كثيرًا ما كانت، فى ما مضى، تموت عند وضع طفلها) وعلى الولد
(الذى يعانى من ” صدمة الولادة” التى رأى التحليل النفسى أنها تترك
أثرًا فى اللاوعى يدوم مدى الحياة)، والذى تزول عبره الحياة الجنينية (وهى حياة
طفيلية، ناقصة، منطوية) لتبرز الحياة المستقلة المكتملة على رحاب الكون:

(لأَنَّ
اِنْتِظَارَ اَلْخَلِيقَةِ يَتَوَقَّعُ اِسْتِعْلاَنَ أَبْنَاءِ اَللهِ.

إِذْ
أُخْضِعَتِ اَلْخَلِيقَةُ لِلْبُطْلِ – لَيْسَ طَوْعاً بَلْ مِنْ أَجْلِ اَلَّذِي
أَخْضَعَهَا – عَلَى اَلرَّجَاءِ.

لأَنَّ
اَلْخَلِيقَةَ نَفْسَهَا أَيْضاً سَتُعْتَقُ مِنْ عُبُودِيَّةِ اَلْفَسَادِ إِلَى
حُرِّيَّةِ مَجْدِ أَوْلاَدِ اَللهِ.

فَإِنَّنَا
نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ اَلْخَلِيقَةِ تَئِنُّ وَتَتَمَخَّضُ مَعاً إِلَى اَلآنَ
) (رومية 8: 19
-22
).

 

هذا
النصّ يُظهر الارتباط الوثيق بين مصير الكون ومصير الإنسان
.

فالإنسان
يختصر الكون فى تركيبه (عناصر الطبيعة المادية ومقوّمات المادة الحية موجودة فيه)
وهو، بآن، تتويج لمسيرة الكون التصاعدية عبر مليارات السنين
.

ومن
خلاله يتابع هذا الكون خطه التطوّرى
.

من
هنا هذا الارتباط الصميم بينهما
.

 

4
– قيامة المسيح فاتحة ” اليوم الأخير”:

هذا
” اليوم الأخير”، دشنه قيامة المسيح
.

فيها
بدأ تجديد الإنسان
.

إن
هذا التجديد قد تجلّى أولاً فى إنسانية المسيح الممجّدة بالقيامة
.

وقد
كشف لنا الإنجيل بعض معالم هذه الإنسانية المتجددة، التى هى باكورة الكون الجديد
” السماء والأرض الجديدة”
.

فمنه
نعرف أنها إنسانية حقة: فيسوع يُجسّ ويُلمس بعد القيامة:

[اُنْظُرُوا
يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ: إِنِّي أَنَا هُوَ. جُسُّونِي وَاِنْظُرُوا فَإِنَّ
اَلرُّوحَ لَيْسَ لَهُ لَحْمٌ وَعِظَامٌ كَمَا تَرَوْنَ لِي
) (لوقا 24: 39).

(ثُمَّ قَالَ
لِتُومَا: { هَاتِ إِصْبِعَكَ إِلَى هُنَا وَأَبْصِرْ يَدَيَّ وَهَاتِ يَدَكَ
وَضَعْهَا فِي جَنْبِي وَلاَ تَكُنْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بَلْ مُؤْمِناً }]
(يوحنّا 20:
27
).

يأكل
أمام تلاميذه:

(وَبَيْنَمَا
هُمْ غَيْرُ مُصَدِّقِين مِنَ اَلْفَرَحِ وَمُتَعَجِّبُونَ قَالَ لَهُمْ: {
أَعِنْدَكُمْ هَهُنَا طَعَامٌ؟ } فَنَاوَلُوهُ جُزْءاً مِنْ سَمَكٍ مَشْوِيٍّ
وَشَيْئاً مِنْ شَهْدِ عَسَلٍ. فَأَخَذَ وَأَكَلَ قُدَّامَهُمْ
) (لوقا 24: 41
– 43
).

يتحدّث
إليهم
.

ولكنها
مختلفة جذريا عن وضعها السابق:

فيسوع
القائم من بين الأموات يدخل والأبواب مغلّقة، يتراءى ثم يحتجب، لا يُعرف إلا إذا
عرّف هو عن نفسه:

(فَلَمَّا
اِتَّكَأَ مَعَهُمَا أَخَذَ خُبْزاً وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَنَاوَلَهُمَا
فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَرَفَاهُ ثُمَّ اِخْتَفَى عَنْهُمَا
. وَأَمَّا
هُمَا فَكَانَا يُخْبِرَانِ بِمَا حَدَثَ فِي اَلطَّرِيقِ وَكَيْفَ عَرَفَاهُ
عِنْدَ كَسْرِ اَلْخُبْزِ
) (لوقا 24:
30، 31، 35
).

(قَالَ لَهَا
يَسُوعُ: { يَا اِمْرَأَةُ لِمَاذَا تَبْكِينَ؟ مَنْ تَطْلُبِينَ؟ } فَظَنَّتْ
تِلْكَ أَنَّهُ اَلْبُسْتَانِيُّ فَقَالَتْ لَهُ: { يَا سَيِّدُ إِنْ كُنْتَ
أَنْتَ قَدْ حَمَلْتَهُ فَقُلْ لِي أَيْنَ وَضَعْتَهُ وَأَنَا آخُذُهُ }. قَالَ
لَهَا يَسُوعُ: { يَا مَرْيَمُ! } فَالْتَفَتَتْ تِلْكَ وَقَالَتْ لَهُ: {
رَبُّونِي } اَلَّذِي تَفْسِيرُهُ يَا مُعَلِّمُ
) (يوحنا 20: 15،
16
).

(وَلَمَّا
كَانَ اَلصُّبْحُ وَقَفَ يَسُوعُ عَلَى اَلشَّاطِئِ. وَلَكِنَّ اَلتّلاَمِيذَ لَمْ
يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ يَسُوعُ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: { يَا غِلْمَانُ
أَلَعَلَّ عِنْدَكُمْ إِدَاماً؟ }. أَجَابُوهُ: { لاَ! }. فَقَالَ لَهُمْ: { أَلْقُوا
اَلشَّبَكَةَ إِلَى جَانِبِ اَلسَّفِينَةِ اَلأَيْمَنِ فَتَجِدُوا }. فَأَلْقَوْا
وَلَمْ يَعُودُوا يَقْدِرُونَ أَنْ يَجْذِبُوهَا مِنْ كَثْرَةِ اَلسَّمَكِ.
فَقَالَ ذَلِكَ اَلتِّلْمِيذُ اَلَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ لِبُطْرُسَ: {
هُوَ اَلرَّبُّ }. فَلَمَّا سَمِعَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ أَنَّهُ اَلرَّبُّ
اِتَّزَرَ بِثَوْبِهِ لأَنَّهُ كَانَ عُرْيَاناً وَأَلْقَى نَفْسَهُ فِي
اَلْبَحْرِ]
(يوحنا 21:
4- 7]
.

لا
تطاله صروف الدهر من ألم ومرض وموت:

[عَالِمِينَ
أَنَّ اَلْمَسِيحَ بَعْدَمَا أُقِيمَ مِنَ اَلأَمْوَاتِ لاَ يَمُوتُ أَيْضاً. لاَ
يَسُودُ عَلَيْهِ الْمَوْتُ بَعْدُ]
(رومية 6: 9].

إنها
إذًا إنسانية حقة ولكنها إنسانية متحرّرة من محدوديتها وقيودها
.

 

نظرًا
لهذا التطابق بين قيامة المسيح وبين حالة ” اليوم الأخير”، فإن عبارة
” يوم الرب” تشير بآن إلى يوم قيامة السيد وإلى يوم مجيئه الثانى، كما
أن هناك معادلة بين ” اليوم الأول” (وهو الأحد، يوم القيامة، ويوم بدء
الخليقة الجديدة) وبين ” اليوم الثامن” وهو أيضا أحد بالطبع أى مرتبط
بقيامة المسيح، ولكنه يشير أيضا رمزي، بصفته يأتى بعد اختتام الأسبوع، إلى ”
اليوم الأخير”)
.

 

5-
طلائع تجديد الكون كما تعاش فى الليتورجيا:

هذا
التجديد الذى دشنته قيامة السيد المسيح، نختبره منذ الأن فى الحياة الليتورجية
بفعل الروح القدس الذى يستحضر فينا وفى مادة الكون، المسيح القائم من بين الأ موات
.

 

أ
– فى الأسرار:

فالأسرا
تتخذ مادة الكون لتجعل منه، بفعل الروح القدس، مكان حضور مكثف لله، يحيا به
الإنسان ويتجدّد
.

والمادة
هنا تحافظ طبعا على طبيعتها المادية (فالماء يبقى ماء، والخبز خبزًا والخمر خمرًا
والزيت زيتا
.) ولكنها
تكتسب بآن قدرة محيية بفعل حلول الروح القدس فيها (كما يحلّ المعنى فى الصوت فيجعل
منه كلمة)
.

***
ففى المعمودية، يتحوّل الماء إلى مكان للولادة الجديدة
.

***
وفى سرّ الميرون، يتحوّل الزيت والعطور إلى ختم تمنح به للمعمد مواهب الروح القدس
.

***
وفى سر الزيت المقدّس تصبح مادة الزيت ناقلة لقوة شافية للروح والجسد
.

***
وفى سرّ الزواج تتحوّل الغريزة الجنسية، وهى من طاقات الكون، لا إلى لغة للحب
وحسب، بل إلى قناة للحب الإلهى ينقله كل من الزوجين إلى الآخر من خلال حبّه له،
ويتجدّد به الحب البشرى ليتسن له أن يحقق طاقته المحيية ووعده بالإخلاص والديمومة
.

***
وفى سرّ الشكر، يصبح الخبز والخمر، مع ما يحملانه من مادة الكون وما يمثلانه من
طاقات كونية سمحت بنشوئهما (التربة والهواء والمطر والشمس) ومن أعمال إنسانية أدّت
إلى إنتاجها (مختلف التقنيات الزراعية والصناعية ومحهود البشر)، يصبحان ” جسد
المسيح ودمه”، أى يتحوّلان إلى قناة ينقل لنا المسيح عبرها حضوره الشخصى
وحياته
.

 

ب
– فى الأيقونة:

والأيقونة
مكان يتحوّل فيه الجمال الفنى (وهو أنسنة للمادة كما رأينا) إلى جمال من نوع آخر،
بفعل خبرة روحية يغذيها راسم الأيقونة بالصلاة والصوم
.

هكذا
فإننا فيها نختبر مسبقا شيئا من وجهى التحوّل الذى يحققه المجئ الثانى: إذ فيها
انتفاء للوضع الحاضر (الأيقونة ترفض مقاييس الجمال الطبيعى والتناسق المألوف وتغفل
البعد الثالث للمدى)، وتحوّل المادة على مرتبة أسمى وأرقى (للأيقونة جمال أخاذ،
وإن كان يخالف مقاييس الجمال الطبيعى، وجمالها المختلف يفتح لنا كوة فى مادة الكون
يُطلّ منها الله علينا)
.

 

ج
– الموسيقى الكنسية والأداء الطقسى:

ما
يصحّ فى الأيقونة ينطبق أيضا على الموسيقى الكنسية (التى تجرّد الألحان من
الانفعالات البشرية لترفعها إلى مرتبة من الجمال الرائق الصافى) ومختلف مظاهر
الأداء الطقسى (من ملابس كهنوتية وحركات وبخور وشموع)، مما يجعل من الاحتفال الليتورجى
صورة عن الملكوت المنتظر ومقدمة له
.

هذا
ما خبره موفدو الأمير ” فلاديمير ” الروسى فى القرن التاسع عندما زاروا
كنائس القسطنطينية، فنقلوا انطباعاتهم على الوجه التالى:


قادونا إلى البيوت التى يحتفلون فيها بإلههم، ولم نعد ندرى إذا كنا فى السماء وعلى
الأرض، فليس فى الأرض من جمال مماثل، لذا لا نجد كلمات نصفه به، كل ما نعلمه هو أن
الله هناك يقيم بين البشر”
.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار