اللاهوت الروحي

الفصل الرابع



الفصل الرابع

الفصل الرابع

الروح القدس المُعطي

18- الروح القدس المُعطي

الروح القدس هو دائم العطاء، منذ بدء الخليقة..
ولا تزال يعطى باستمرار. ونلمس عطاه في الكنيسة كل يوم. ولكى نتبع هذا العطاء،
نذكر النقاط الآتية:

 

· الروح القدس هو اقنوم الحياة في الثالوث
القدوس. فطبيعى إذن أنه يعطينا الحياة.

لولاة كنا لا نزال على الأرض. ولكنه منحنا
الحياة. ” جبل الرب الإله آدم تراباً من الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة. فصار
آدم نفساً حية” (تك2: 7). وكانت هذه أول عطية نلناها من الروح القدس، اعنى
الروح، عطية الحياة. وإن كان روح الله قد وهبنا الروح والحياة، فطبيعى كذلك أنه
وهبنا ما لهذه الروح من عقل وفهم وضمير وخلود، وباقى صفات الروح.

 

والروح القدس لم يهب الحياة لنا فقط، بل لكل
الكائنات الحية أيضاً.

كانت الأرض خربة وخاليه ومظلمة ” وروح الله
يرف على وجه المياه” (ك1: 2). ثم ” قال الله لنفض المياة زحافاً ذات نفس
حية، وليطير طير فوق الأرض..” (تك1: 20). وهكذا فإن روح الله الذى كان يرف
على وجه المياة، اخرج منها هذه الكائنات الحية. وهذه الكائنات الحية، يحفظ روح
الله وجودها، فيجدده على الأرض. ويقول عنها المرتل في المزمور ” كلها إياك
تترجى، لترزقها قوتها في حينه.. تنوع أرواحها فتموت، وإلى ترابها تعود. ترسل روحك
فتخلق وتجدد وجه الأرض” (مز104: 27 30).

 

· روح الله يعمل أيضاً في القيامة، فيعيد الحياة
للبشر.

حسب قول الرب للعظام في سفر حزقيال ” هأنذا
داخل فيكم روحاً فتحيون.. واجعل روحى فيكم فتحيون” (حز37: 5، 14).. تقال هذه
عن القيامة الجسدية، وعن القيامة الروحية أيضاً.

 

· الروح القدس يعمل إذن في التوبة.

يقول الرب في ذلك “أعطيكم قلباً جديداً،
واجعل روحاً جديدة في داخلكم.. واجعل روحى في داخلكم، واجعلكم تسلكون في فرائضى،
وتحفظون أحكامى وتعلمون بها ” (حز36: 26، 27). الروح القدس هو الذى يبكينا
على خطية (يو16: 8). وتبكيت الروح القدس أقوى جداً من تبكيت الضمير البشرى العادى.
ولا يقتصر عطاء الروح على تبكيتنا، وإنما يقودنا في الحياة الروحية. وقد قال
الرسول في ذلك ” لأن كل الذين ينقادون بروح الله، فاولئك هم أبناء الله (رو8:
14).

التفاصيل كثيرة جداً ولكى ألخصها في عبارة قصيرة
وشاملة وهي:

 

· الله يعطينا روحه القدوس ليسكن فينا. وروح
الله يعطينا كل شئ..

لقد اعطى الروح القدس للتلاميذ في يوم الخمسين
(أع2: 2، 3). والتلاميذ أعطوا الروح للناس أولاً بوضع اليد (أع8: 17، 18) ثم
بالمسحة المقدسة (1يو2: 20، 27). ويعطينا الله روحه حالياً بسر المسحة، سر الميرون
المقدس. وكما يقول الرسول “أما تعلمون أنكم هيكل الله، وروح الله يسكن
فيكم” (1كو6: 19).

والله يعطينا روحه بسخاء، كما قال المعمدان:
” لأنه ليس بكيل يعطى الله، الروح” (يو3: 34).

أي أن عمل روح الله فينا، يكون بوفرة كبيرة.
والروح يعطينا كل شئ، لأن “كل عطية صالحة وكل موهبة تامة هي من فوق نازله من
عند أبى الأنوار” (يع1: 17).

والعطايا التى يعطيها الروح، بعضها طبيعية،
وبعضها فائق للطبيعة لذلك نقول:

 

· الروح القدس هو مصدر جميع المواهب ومعطيها:

جميع المعجزات والمواهب الفائقة للطبيعة، وجميع
العجائب والقوات، كلها بعمل الروح القدس في الإنسان، وليس بقوة بشرية خاصة. وقد
شرح القديس بولس ذلك في اصحاح كامل من رسالته إلى كورنثوس (1كو12) فقال في ذلك:

 

“أنواع مواهب موجودة، ولكن الروح واحد.. ولكنه
لكل واحد يعطى إظهار الروح للمنفعة، فإنه لواحد بالروح يعطى بالروح كلام حكمة.
ولآخر كلام علم بحسب الروح الواحد. ولآخر إيمان بالروح الواحد. ولآخر مواهب شفاء
بالروح الواحد ولآخر عمل قوات. ولآخر نبوة ولآخر تمييز أرواح. ولآخر أنواع السنة
ولآخر ترجمة ألسنة ولكن هذه كلها يعملها الروح الواحد بعينه، قاسماً لكل واحد
بمفرده كما يشاء” (1كو12 4: 11).

 

وغرض هذه المواهب هو المنفعة الروحية.

حسب قول الرسول ” يعطى اظهار الروح
للمنفعة” (1كو12: 7)، وحسب قوله لتبنى الكنيسة” (1كو14: 4). وكما قال
أيضاً ” لأجل تكميل القديسين، لعمل الخدمة، لبنيان جسد المسيح، إلى أن ننتهى
جميعنا إلى وحدانية الإيمان ومعرفة ابن الله” (أف4: 12، 13).

فالمواهب التى يعطيها الروح القدس، ليست
للافتخار والمجد الباطل، إنما لبنيان الكنيسة.

وأعظم العصور التى مرت على الكنيسة، هى العصور
التى كان يعمل فيها الروح القدس بهذه المواهب.

فنمو الكنيسة وانتشار الإيمان، لم يكن نتيجة
للنشاط البشرى أو الجهاد الفردى أو يكرز، والراعى يرعى. ولكن الروح القدس هو الذى
كان ينخس القلوب، وبغيرها ويجددها ويعطيها حرارة.. فالرسل كانوا يبشرون ”
شاهداً الله معهم بآيات وعجائب وقوات متنوعة، ومواهب الروح القدس حسب إرادته”
(عب2: 4).

وحتى في الوعظ والتبشير، نقول:

 

· كان الروح القدس هو الذى يعطى الكلمة.

وفي هذا يقول القديس بولس الرسول ” مصلين
بكل صلاة وطلبة.. لأجل جميع القديسين ولأجلى، لكى يعطى لى كلام عند افتتاح فمى،
لاعلم جهاراً بسر الإنجيل” (اف6: 18، 19). وهذا ما قاله السيد المسيح
لتلاميذه ” لأن لستم أنتم المتكلمين، بل روح أبيكم الذى يتكلم فيكم”
(مت10: 20). فها في كل خدمة تقوم بها، تكون أنت المتكلم أن تطلب من الروح القدس أن
يعطيك كلمة، ويعطى السامعين تاثراً؟!

 

ويقول السيد الرب لتلاميذه عن هذه النقطة من عمل
الروح القدس:

وأما المعزى الروح القدس. فهو يعلمكم كل شئ،
ويذكركم بكل ما قلته لكم” (يو14: 26).

 

ويقول القديس يوحنا الرسول في ذلك “وأما
أنتم، فلكم مسحه من الروح القدس، وتعلمون كل شئ” “كما تعلمكم هذه المسحة
عينها عن كل شئ” (1يو2: 20، 27). الروح القدس يعلمنا، ويرشدنا، ويذكرنا.. كل
هذه عطايا من عنده..

 

وفي عصور الأنبياء، كانت النبوة أيضاً هي عطية
من الروح القدس.

وفي ذلك يقول معلمنا القديس بطرس الرسول ”
لأنه لم تأت نبوة قط بمشيئة إنسان، بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح
القدس” (2بط1: 21). ويقول، الرب في سفر يؤئيل النبى “اسكب روحى على كل
بشر. فيتنبأ بنوكم وبناتكم. ويحلم شيوخكم أحلاماً. ويرى شبابكم رؤى” (يو24:
28). ولعله بسبب هذا، قيل عن الروح القدس في قانون الإيمان “الناطق في
الأنبياء”.

 

إنه مصدر النبوءة والتبشير والتعليم.

وهكذا يقول معلمنا بولس الرسول عن كرازته
“ونحن لم نأخذ روح العالم، بل الروح الذى من الله، الأشياء الموهوبة لنا من
الله، التى نتكلم بها أيضاً، لا بأقوال تعلمها حكمة إنسانية، بل بما يعلمه الروح
القدس، قارنين الروحيات بالروحيات” (1كو2: 12، 13).

 

الروح القدس أيضاً يعطى قوة.

ولذلك سمي روح القوة (2تى1: 7)، (أش11: 2) وهكذا
قال الرب لتلاميذه “ولكنكم ستنالون قوة، متى حل الروح القدس عليكم، وحينئذ
تكونون لي شهوداً” (أع1: 8). وقال لهم في ذلك لا تبرحوا أورشليم إلى أن
“تلبسوا قوة من الأعالى” (لو24: 49). ويقول القديس بولس الرسول ”
لكى يعطيكم بحسب غنى مجده أن تتأيدوا بالقوة بروحه” (أف3: 16). وما أجمل كلمة
الرب إلى زربابل “لا بالقدرة ولا بالقوة، بل بروحى قال رب الجنود” (زك4:
6).

 

· الروح القدس يعطى أيضاً ثمر الروح.

· إنه الثمر الذى بنتيجة لانقياد روح الإنسان
بالروح القدس. وعنه قال القديس بولس الرسول ” وأما ثمر الروح فهو محبة فرح
سلام، طول أناة، لطف صلاح إيمان، وداعة تعفف” (غل5: 22، 23). وعن المحبة التى
هي أولى ثمار الروح يقول ” لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا، بالروح القدس
المعطى لنا” (رو5: 5). بل الفضائل كلها بلا استثناء، ننالها عن طريق شركتنا
مع الروح القدس. فهو العامل فينا.

· حتى الإيمان، هو من الروح القدس:

 

وفي ذلك يقول الرسول ” ليس أحد يقدر أن
يقول يسوع رب، إلا بالروح القدس” (1كو12: 3). ولعله بعمل الروح القدس، استطاع
كرنيلوس أن يؤمن (1كو12: 9). ولعله يقصد هنا الإيمان الذى يقول عنه الرب ” كل
شئ مستطاع للمؤمن” (مز9: 23).

 

· الروح القدس هو الذى يعطى العزاء

ولذلك سمى البارقليط، الروح المعزى. وعنه يقول
السيد الرب لتلاميذه ” ومتى جاء المعزى.. روح الحق الذى من عند الآب ينبثق،
فهو يشهد لى” (يو15: 26) وأيضاً ” وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزياً آخر
ليمكث معكم إلى الآبد، روح الحق..” (يو14: 15). وأما المعزى الروح القدس الذى
سيرسله الآب باسمى، فهو يعلمكم كل شئ” (يو14: 26). والمقصود طبعاً أنه مصدر
كل تعزية روحية. أو هو الذى يعطى العزاء الروحى.

 

· الروح القدس هو معطى القداسة:

ولذلك سمى أيضاً ” روح القداسة” (رو1:
4). ولا يمكن لأنسان أن يصل إلى القداسة، إلا بعمل الروح القدس فيه.. والأمر لا
يقتصر على البشر فقط، وإنما أيضاً:

الروح القدس يقدس كل المقدسات:

الروح القدس بمسحة الميرون المقدس، يقدس الكنائس
والمذابح، يدشنها. ويمنح القداسة لآوانى الخدمة المقدسة، وللمعموديات والايقونات..
وكل ما ندهنه بزيت الميرون المقدس.

 

· والروح القدس يمنح الميلاد الجديد في سر
المعمودية:

 

· إنه يقدس ماء المعمودية، ويمنح من يغطسه
الكهنة فيه نعمة الميلاد الجديد أو الميلاد الثاني. ولذلك قال الرب لنيقوديموس ”
إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله” (يو3: 5)
” المولود من الجسد، جسد هو. والمولود من الروح هو روح” (يو3: 6). وعن
هذا الميلاد الثاني قال القديس بولس الرسول “.. بل بمقتضى رحمته خلصنا، بغسل
الميلاد الثاني، وتجديد الروح القدس” (تى3: 5).

 

· تذكرنا هذه الآية، بأن الروح القدس يمنح
التجديد أيضاً:

 

· ولذلك فإن الذى يولد من الماء والروح في
المعمودية يسلك ” في جدة الحياة” (رو6: 4)، أي في الحياة الجديدة في
المسيح يسوع ” عالمين هذا. أن إنساننا العتيق قد صلب معه” (رو6: 6)
” وفي هذه الحياة الجديدة نلبس المسيح” (غل3: 27) أي نلبس البر الذي من
المسيح.

 

والروح القدس يمنح أيضاً الكهنوت وسلطانه، بوضع
اليد. ويمنح الدعوة الإلهية:

أما عن الدعوة الإلهية فواضحة من قول الروح
القدس “افرزوا لى برنابا وشاول، للعمل الذى دعوتهما إليه” (أع13: 2)
فلما وضعوا عليهما الأيادى “هذان إذ أرسلا من الروح القدس.. انحدروا إلى
سلوكية” (أع13: 4). ويقول القديس بولس الرسول لاساقفة أفسس ” احترزوا
إذن لأنفسكم ولجميع الرعية التى أقامكم الروح القدس فيها أساقفة لترعوا كنيسة الله
التى اقتناها بدمه” (أع20: 28). ويقول عن ذلك في رسالتيه إلى تيموثاوس الأسقف
“موهبة الله التى فيك، بوضع يدى” (2تى1: 6). “والموهبة التى
فيك” (1تى4: 14).

 

· والروح القدس هو الذى يمنح المغفرة، عن طريق
الكهنوت:

 

· ولهذا لما منح الرب تلاميذه سلطان الكهنوت،
نفخ في وجوههم، وقال لهم: اقبلوا الروح القدس. من غفرتم خطاياه، غفرت له، ومن
امسكتموها عليه امسكت” (يو20: 22، 23). فبالروح القدس الذى أخذوه يغفرون
الخطايا. وهكذا يقول الأب الكاهن في صلاة سرية في أواخر القداس عن الشعب ”
يكونون محاللين من فمى، بروحك القدوس”.

 

في كل سر من أسرار الكنيسة، الروح القدس يمنح
نعمة سرية:

 

فكما تحدثنا عما يمنحه في المعمودية والميرون،
وسر التوبة وسر الكهنوت، نتحدث عن باقى أسرار الكنيسة أيضاً. على أنه في سر
الكهنوت لا يمنح فقط سلطان المغفرة، سلطان الحل والربط (مت18: 18)، إنما يمنح
أيضاً سلطاناً آخر لممارسة المقدسة، وسلطاناً في الرعاية أيضاً. وفي مسحة الملوك
بواسطة الأنبياء في العهد القديم، كان أيضاً يمنح سلطاناً مديناً. في سر مسحة
المرضى يمنح الشفاء. وفي سر الزواج، يمنح شريعة الحياة شرعية الحياة الزوجية،
ويمنح الوحدة بين الزوجين، فلا يكونان اثنين بل واحد (مت19: 6). وهذا هو الفرق بين
الزواج الكنسى، والزواج المدنى الذى لا نستطيع أن نقول فيه “ما جمعه
الله”.

 

* أننا لا نستطيع أن نحصى كل ما يعطيه روح الله:

فكل عطية صالحة، وكل موهبة تامة، هي نازلة من
عنده.. لذلك لست استطيع أن أدعي أننى استوفيت هذا الموضوع، أو قلت فيه كل ما ينبغي
أن يقال.

 

· على أننى أريد أن أختم بكلمتين:

1 إن كان روح الله، هكذا في عطائه، فليتنا نقابل
عطاءه بالشكر.

2 إن كنا نحن قد خلقنا على صورة الله، والله
هكذا في عطائه، فلنتعلم منه العطاء في النطاق المتاح لنا كبشر. وهو نطاق واسع بلا
شك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار