اللاهوت الروحي

الفصل الرابع



الفصل الرابع

الفصل
الرابع

النسيان

38-
النسيان.. ما الذي تنساه؟

قال
أحد القديسين: كل خطية، يسبقها إما الشهوة أو الغفلة أو النسيان. وأريد اليوم أن
أكلمكم عن النسيان باعتباره حرباً روحية يؤدي إلى السقوط.

 

ففي
وقت الخطية، نكون ناسين الله، وناسين الوصية، وناسين حياتنا الروحية كلها، بل
أيضاً ناسين الموت والأبدية، وناسين أرواح الملائكة وأرواح القديسين التي تبصرنا
ونحن في ذات الفعل!!

 

ولو
أن الإنسان تذكر كل هذا، ما كان يخطئ، أو على الأقل كان يؤجل، أو أنه كان يخجل أو
يخاف، ويبتعد..

 

في
الواقع أن الإنسان في ساعة الخطية، لا يكون شيء من هذا كله في ذاكرته.

 

يحذره
الشيطان تحذيراً كاملاً لكي ينسي. أو تخدره الشهوة أو الانفعال. ينسي أو تناسي،
ولا يحب أن يذكره أحد بالله والوصية والأبدية، بل ينسي أيضاً الأيام المقدسة، إن
كان ذلك في صوم أو في عيد.. وينسي المواضع المقدسة، وينسي إنه هيكل الله، وروح اله
ساكن فيه، وينسي دم المسيح الذي سفك من أجله، وينسي وعوده وعهوده لله.

 

وما
هو الوعظ، سوي أن الواعظ يذكر الناس بكل هذا. حتى يبعدهم التذكر عن جو الخطية،
خوفاً وخجلاً واستحياء، وسمواً بأنفسهم عن السقوط..

 

39-
الله يذكرنا ولا ينسانا

ولأن
الله يعرف أضرار النسيان، ويريد إنقاذنا، لذلك وضع أشياء عديدة، بها نصحو ونفيق.
فما هي هذه الأمور، التي يعالج الله بها نسياننا..؟

 

كان
الله قد وضع في داخلنا الضمير لكي يذكرنا بطريق البر.

 

إنه
يسمي الشريعة الطبيعية، التي بها كتب الله شريعته على قلوبنا.

 

فيوسف
الصديق مثلاً، حينما قال: “كيف أفعل هذا الشر العظيم، وأخطئ إلى الله!”
(تك39: 9) لم تكن أمام يوسف وصية مكتوبة، وإنما كانت في داخله الشريعة غير
المكتوبة، الشريعة الطبيعية التي تذكره بأن هذه خطية..

 

ولما
بدأ البشر ينسون الشريعة الطبيعية، أعطاهم الله على يد موسى النبي أول شريعة
مكتوبة.

 

وأمرنا
الله أن نضع هذه الشريعة أمامنا في كل حين، حتى لا ننسي..

 

فقال:
“لتكن هذه الكلمات التى أنا أوصيك بها اليوم على قبلك. وقصها على أولادك،
وتكلم بها حين تجلس في بيتك وحين تمشي في الطريق، وحين تنام وحين تقوم. واربطها
علامة على يدك. ولتكن عصائب بين عينيك. وأكتبها على قوائم أبواب بيتك وعلى
أبوابك” (تث6: 6- 9).

 

كل
ذلك لكي لا ننسى الوصية وأمرنا أن نلهج بها نهاراً وليلاً.

 

وهكذا
قال داود النبي: “لو لم تكن شريعتك هي تلاوتي، لهلكت حينئذ في مذلتي”
(مز119.

 

وقل
عن الرجل البار في المزمور الأول: “في ناموس الرب مسرته، وفي ناموسه يلهج
نهاراً وليلاً فيكون كشجرة مغروسة على مجاري المياه” (مز1: 2، 3).

 

وقال
الرب ليشوع بن نون:

 


لا يبرح سفر هذه الشريعة من فمك. بل تلهج فيه نهاراً وليلاً، لكي تتحفظ للعمل حسب
كل ما هو مكتوب فيه” (يش1: 8).

 

ولما
رأي الله أن أسفار الشريعة الخمسة قد كثرت على الناس، ساعدهم على تذكرها بأن لخصها
لهم في سفر واحد هو سفر التثنية، أو تثنية الاشتراع. وسفر التثنية هذا، كان يأخذه
كل ملك، تدون له نسخة لكي يقرأها باستمرار حتى لا ينسي ويخطئ.

 

وهذه
الوصايا كانت توزع للقراءة على الناس في الهيكل والمجامع على مدار السنة حتى لا
ينسوها.

 

ومازالت
الوصايا موزعة علينا نسمعها في الكنائس في كل قداس وكل صلاة طقسية، حتى لا ننسي.

 

ففي
كل قداس نستمع إلى قراءات من الإنجيل ومن الرسائل ومن المزامير وفي الصوم الكبير
وفي أسبوع البصخة تتلي علينا فصول من العهد القديم. وفي ليلة سبت النور (ابو
غالمسيس) يقرأ سفر الرؤيا وكل تسابيح وصلوات الأنبياء. كل ذلك لكي لا ننسي.

 

ولكي
لا ينسى البشر أرسل الله لهم الأنبياء والرسل. بل أرسل لهم الروح القدس قائلاً: “يذكركم
بكل ما قلته لكم” (يو14: 26).

 

ولنفس
الغرض أرسل الله الرعاة والوعاظ والمعلمين وكل رتب الكهنوت، لكي يذكروا الناس
بكلمة الله حتى لا ينسوها. وسماهم” خدام الكلمة” وقال القديس بولس
الرسول عن ذلك: “كأن الله يعظ بنا” (2كو5: 20).

 

وما
أجمل قول مار أوغريس:

 

كل
فكر يحاربك، ضع أمامك وصية، حينئذ يضعف وتنتصر عليه.

 

إنك
بهذا تأخذ قوة من الوصية، وتأخذ معرفة واستناره، فتميز فكر المحاربة وتطرده. وهذه
القديس بولس الرسول يعزينا قائلاً:

 


كلمة الله حية وفعالة، وأمضي من كل سيف ذي حدين” (عب4: 12).

 

ولكي
لا ننسي أعطانا الرب وسيلة أخرى هي المواسم والأعياد.

 

فمثلاً
لكي لا ننسي صلبه من أجلنا، مع ما يقدمه هذا الصلب من مشاعر مقدسة.. وضعت لنا
الكنيسة أسبوع الآلام كتذكار سنوي. ووضعت لنا صوم الأربعاء والجمعة كتذكار أسبوعي
لنا صلاة الساعة السادسة من النهار كتذكار يومي.

 

كل
ذلك حتى لا ننسي الدم الطاهر الذي سفك لأجلنا، فنستحي من الخطية.

 

ولذلك
فإن الذي لا يصوم، يمكن أن ينسي. أو الذي يصوم بغير فهم ولا عمق، يمكن أن ينسي.
والذي لا يصلي صلوات الساعات، يمكن أن ينسي.

وهكذا
ما أسهل أن يسقط من لا يمارس هذه الوسائط الروحية.

 

40-
الكنيسة تذكرنا

 كل
احتفالات الكنيسة بالمواسم والأعياد، تذكرنا بحقائق إيمانية نافعة لنا، وتهبنا
مشاعر روحية تمنعنا من الخطية.

 

ونفس
الوضع بالنسبة إلى الأصوام، وكذلك كل طقوس الكنيسة وصلواتها، وكل ما فيها من أنوار
وأيقونات وبخور.

 

ولهذا
كانت الأصوام أياماً روحية تمنع عنا حروباً كثيرة. وعلى الأقل تذكرنا بأن الروح
يجب أن تنتصر على رغبات الجسد، ليس في الأكل فقط، بل في كل شئ.

 

والأيقونات
تذكرنا بحياة القديسين، وسيرتهم العطرة، لنأخذها مثالاً.

 

والأنوار
تذكرنا بأننا نور العالم (مت5: 14). والشموع تذكرنا بأن نبذل أنفسنا لتنير للآخرين.

 

بل
الأنوار تذكرنا أيضاً بالملائكة. وبأن الكنيسة كالسماء، وبأننا نضئ كالكواكب في
السماء، وتذكرنا الأنوار بكلمة الرب التى هي مضيئة تنير العينين (مز19) والتي قال
عنها داود النبي: “مصباح لرجلي كلامك، ونور لسبيلي” (مز119: 105).

 

وصلاة
القداس نفسها، تذكرنا بحياة الرب كلها وبموته عنا وبمجيئه الثاني ليدين العالم..

 

وتذكرنا
بأن ننتظره إلى أن يجئ. بل تذكرنا أيضاً بالاستعداد الروحي اللازم لنا لكي نتناول
من تلك السرائر الإلهية التى تهبنا الحياة..

 

41-
من فوائد التذكر

التذكر
يساعدنا لكي لا نخطئ. وهكذا فعل الرب مع آدم وحواء ونسلهما.

كان
الموت هو أجرة الخطية. وهذا الموت تخلصنا منه بالكفارة والفداء. وعلى الرغم من
تمام الفداء وكفايته، وضع الله عقوبة لآدم أنه بعرق جبينه يأكل خبزه وعقوبة لحواء
أنها بالوجع تحبل وتلد أولاداً (تك3: 19، 16).

 

استبقى
الله هذه العقوبة بعد الفداء، لكي نتذكر، فنتضع ونتوب.

 

ويمكن
لمحبة الله إن تغفر كل شئ، ولكن العقوبة لازمة لنا، حتى لا ننسي أن الخطية خاطئة
جداً، وحتى لا ننسي الدينونة أيضاً.

 

لذلك
لا يليق بنا أن نتذمر بسبب العقوبة. إنما نستفيد منها روحياً. كما أن تذكرنا
لخطايانا يفيدنا أيضاً.. وهكذا قال داود النبي: “خطيتي أمامي في كل حين”
(مز50).

 

نتذكر
خطايانا، لكي نندم عليها، ولكي ننسحق بسببها، ولا نرتفع مهما وصلنا إلى مستوي وحي
بعد التوبة..

 

وهكذا
فإن القديس بولس الرسول حتى بعد أن صعد إلى السماء الثالثة لم ينس إنه اضطهد
الكنيسة فقال: “أنا الذي لست أهلاً لأن أدعي رسولاً لأني اضطهدت كنيسة
الله” (1كو15: 9). ولماذا أيضاً لا ننسي خطايانا؟

 

لا
ننساها، لكي نشفق على الساقطين (عب13: 3). وأيضاً لكي نحترس فلا نقع في الخطية مرة
أخري.. كذلك نذكرها لكي يفغرها لنا الله.

 

وفي
ذلك قال القديس أنطونيوس الكبير: [إن نسينا خطايانا، يذكرها لنا الله. وإن ذكرنا
خطايانا، ينساها لنا الله].

 

لا
تقل إذن: مادام الله قد غفر لي خطاياي، فلأنسها، إنها مُحِيَت!!

 

إنك
لست أفضل من داود النبي، ولست أفضل من بولس الرسول. وكل منهما ذكر خطاياه بعد
مغفرتها له.

 

وكما
لا تنسي خطاياك، لا تنس إحسانات الله إليك. لأن نسيانك إحسانات الله، يفقدك فضلية
الشكر، ويقلل محبتك لله.

 

وهذان
الأمران لهما خطورة كبيرة على حياتك الروحية..

 

أمر
الرب الشعب أن يقيموا تذكاراً لكي ينسوا عبور الأردن (يش4: 9) وعبور البحر الأحمر
لا ننساه في التسبحة، والمن وضع تذكاره في تابوت العهد وكذلك عصا هارون التى أفرخت.

 

أذكر
إحسانات الله، وأذكر معها وعودك لله ونذورك، فهذا نافع لروحياتك.

 

أذكر
كل ما وعدت الرب به في ضيقاتك، وفي خطاياك التى سترها.. واذكر ما وعدت الله به في
كل اعتراف وتناول، واخجل من موقفك بعد كل ذلك.

 

إن
القديسين لم ينسوا مطلقاً كل ما فعله الرب معهم من إحسانات.

 

إذا
وضعت محبة ربنا أمامك.. تشتعل محبته في قلبك..

 

الكنيسة
وضعت لنا صلاة الشكر في مقدمة كل صلاة، لكي لا ننسي إحسانات الله. أضف إليها في
ذاكرتك تفاصيل من عندك. وهكذا تحب الله، وتخجل من محبته لك، فلا تخطئ.

 

كذلك
لا تنسي وعود الله وعنايته، حتى لا تقع في الخوف أو في القلق.

 

كلما
تحيط بك ضيقة. تذكر أبوة الله لك، وحفظه ورعايته، وقوله: “لا أهملك ولا أتركك-
لا يقف إنسان في وجهك كل أيام حياتك” (يش1: 5)” أنا معك لا يقع ب أحد
ليؤذيك” (أع18: 9).

 


يسقط عن يسارك ألوف، وعن يمينك ربوات. وأما أنت فلا يتقربون إليك” (مز91: 7).

 

إن
الذي يخاف ويقلق. هو بلا شك إنسان ينسي محبة الله ووعوده.

 

وحتى
إن نسي، عليه إن يقول للرب كما قال داود النبي: “أذكر لي يارب كلامك الذي
جعلتني عليه أتكل. هذا الذي عزاني في مذلتي” (مز119).

 

هذا
كله يحيمك أيضاً من حروب الشك وقت التجربة.

 

لذلك
أحفظ الآيات التي تمنحك الرجاء والثقة في عمل الله من أجلك، وتمنحك أيضاً عمقاً في
الإيمان. ضعها في ذهنك باستمرار. ورددها كثيراً لكي لا تنساها، ولكي تطمئن وتفرح
بالرب.

هناك
أمر هام آخر يجب ألا ننساه مطلقاً وهو: أن تذكر غربتك على الأرض.

 

42-
اذكر غربتك على الأرض

في
هذا الأمر كان داود النبي يتأمل باستمرار قائلاً في صلواته: “غريب أنا على
الأرض، فلا تخف عني وصاياك” (مز119)،” أنا غريب عنك، نزيل مثل جميع
آبائي” (مز39: 12).

 

والشعور
بالغربة- كان يذكر داود أيضاً بالموت.. فتنفعه الذكري لذلك هو يقول: “عرفني
يا رب نهايتي، ومقدار أيامي كم هي، فأعلم كيف أنا زائل” (مز39: 4).

 

وليس
داود النبي فقط، بل جميع الآباء أيضاً، قال عنهم القديس بولس الرسول: “أقروا
أنهم غرباء ونزلاء على الأرض” ولذلك كانوا” يبتغون وطناً أفضل أي
سماوياً” (عب11: 13، 16).

إن
تذكر الإنسان للأبدية، يمنعه عن الخطية. كل الآباء النساك كانوا يذكرون الموت.

نقطة
أخيرة هي: أذكر ضعفك..

 

43-
اذكر ضعفك

حينما
تفتكر ضعفك، ستبتعد عن مجالات الخطية وعن كل العثرات.. وأيضاً ستحترس وتدقق في
حياتك. وبهذا تنجح في حروبك الروحية.

إن
الذين اغتروا بأنفسهم سقطوا.

وقد
قيل عن الخطية إنها” طرحت كثيرين جرحي، وكل قتلاها أقوياء” (أم7: 26).

أما
الذي يشعر بضعفه، فإنه يتضع والاتضاع يلاح قوي تخافه الشياطين. والذي يتضع يصلي
طالباً معونة الله، والصلاة سلاح يجعله ينتصر.

 

إن
عرفت هذا كله، قاوم النسيان الضار. واستغل نسيانك فيما يفيد. كأن تنسي إساءات
الناس إليك، وتنسي الأعمال الطيبة التي عملتها، وتنسي أمور العالم الباطل، وتنسي
كل المخاوف التي يخوفك بها العدو.

 

44-
وضع الخطية أمامك كل حين بدون تفاصيلها

سؤال:

ولعل
البعض يسأل- من جهة التذكر والنسيان- هل أنا مطالب بأن أضع خطيتي أمامي في كل حين
(مز50)، إذا كنت حينما أتذكر خطاياي، أعود فأسقط فيها مرة أخري؟

 

وطبعاً
ليس المقصود بتذكر الخطايا، أن يتذكر الإنسان التفاصيل المعثرة التي تتعبه وتسقطه.
على أنني بمشيئة الرب سأجيب على هذا السؤال بالتفصيل في الباب الخاص بحروب الفكر.

 

فليس
المقصود بهذه العبارة أن تتذكر التفاصيل المعثرة التي تتعبك.

 

يكفي
في حالتك أن تذكر الخطية جملة وليس تفصيلاً.

 

ونقطة
أخري: هي أن الآباء قالوا إن الخطايا الشهوانية أو الإنفعالية هي التي تحارب
الإنسان بالخطايا مرة أخري.

 

فلنفرض
مثلاً أنك اشتهيت مركزاً معيناً، أو اشتهيت أن تقتني شيئاً تحبه، أو أنك وقعت في
شهوة جسدية فتذكار تفاصيل هذه الشهوات قد يتعبك.

 

أو
أن وقعت في خطية إنفعالية مثل الغضب أو الحسد أو الرغبة في الانتقام، فربما تذكار
التفاصيل يتعبك.

 

وعن
هذه الخطايا وأمثالها، قيل في القداس الإلهي:

 


تذكار الشر المُلْبِس الموت”.

 

لذلك
يمكن أن تتذكر خطاياك في إنسحاق لتندم عليها وتتضع. أما إن وجدت التذكر سيدنس فكرك،
أو يعيد شهوة رديئة إلى قلبك، أو أنه يجعلك تنفعل بالغضب أو الحسد أو الانتقام أو
محبة العالم.

فحينئذ
اهرب من تذكار الخطية. تذكار الخطية هو وسيلة لهدف.

وكل
ممارسة روحية، اعملها بحكمة ولا تكن حرفياً في ممارسة الفضائل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار