اللاهوت الروحي

الفصل الرابع



الفصل الرابع

الفصل الرابع

مصالحة السماء والأرض

29- مُصالحة السماء مع الأرض

وفي صلح السماء مع الأرض الذي جبلته بركة
الميلاد لم تقتصر الصلة على ظهور الملائكة والأحلام المقدسة والظهورات المقدسة، بل
أيضاً رجعت روح النبوة مرة أخري، ورجع عمل الروح القدس في الناس وامتلاؤهم منه.
نقرأ عن يوحنا المعمدان في بشارة الملاك عنه أنه: ” من بطن أمه يمتلئ من
الروح القدس” (لو1: 15). ونقرأ في بشارة الملاك للعذراء قوله لها: “الروح
القدس يحل عليك، وقوة العلي تظللك” (لو1: 35). ونقرأ في زيارة العذراء
للقديسة أَلِيصَابَات أنه: “لما سمعت اليصابات سلام مريم، إرتكض الجنين في
بطنها، وإمتلات اليصابات من الروح القدس” (لو1: 41). ونقرأ عن زكريا الكاهن
بعد إنقضاء فترة صمته ” وامتلأ زكريا أبوه من الروح القدس وتنبأ قائلاً..”
(1: 67). ونقرأ أيضاً عن سمعان الشيخ أنه كان رجلاً باراً: “والروح القدس كان
عليه وكان قد أوحي إليه بالروح القدس..” (لو2: 25: 26).

 

عجيب جداً هذا العمل الواسع للروح القدس في
الناس في تلك الفترة المقدسة. وعجيب هذا الإمتلاء من الروح القدس وهذا الحلول،
وهذا التنبوء أيضاً.. لقد تنبأ زكريا الكاهن، وتنبأت إمراته أَلِيصَابَات، وتنبأ
سمعان الشيخ، وتنبأت حنّة بنت فنوئيل (لو2: 36). وبدا أن الله رجع يتكلم في أفواه
الأنبياء وكل ذلك كان من بوادر إنتهاء الخصومة بميلاد السيد المسيح، أو كانت هذه
هي تباشير الصلح الذي تم على الصليب.

 

وكان من تباشير الصلح أيضاً رجوع المعجزات.
والمعجزات دليل عمل يد الله مع الناس.. كان إنفتاح رحم اليصابات العاقر هو المعجزة
الأولي. وكان صمت زكريا الكاهن ثم إنفتاح فمه بعد تسعة أشهر معجزتين أخريين. وكانت
معجزة المعجزات هي ولادة السيد المسيح من عذراء. وكان إرتكاض الجنين بإبتهاج في
بطن أَلِيصَابَات تحيه الإله الذي في بطن العذراء هو معجزة أخري. ولا نستطيع أن
نحصي المعجزات التي رافقت ميلاد المسيح وطفولته. أما معجزاته في أرض مصر، فلعل
أبرزها هو ما يشير إليه أشعياء النبي قائلاً: “هوذا الرب راكب على سحابة
سريعة وقادم إلى مصر.. فترتجف أوثان مصر من وجه، ويذوب قلب مصر داخلها” (إش19:
1). وفعلاً سقطت أوثان مصر بدخول الرب إليها..

 

كل هذا يدل على أن يد الرب قد بدأت تعمل، وأن
ميلاد السيد المسيح كان مقدمة لصلح السماء مع الأرض، الصلح الذي قلنا إن أولي
تباشيره كان ظهور الملائكة. ويحسن أن نقف وقفة تأمل بسيطة عند ظهورات الملائكة هذه..

 

· أول ملاك ظهر وذكره الإنجيل المقدس، كان هو
الملاك الذي ظهر لزكريا الكاهن. إنها لفته كريمة من الرب يعطى بها كرامة للكهنوت،
فيكون ظهور الملائكة اولاً للكهنة، بعد فترة الاحتجاب الطويلة. ولفته كريمة أخري
للكهنوت، أن يظهر الملاك في مكان مقدس: “واقفاً عن يمين مذبح البخور ”
وفي لحظة مقدسة عندما كان زكريا البار يكهن للرب ويرفع البخور أمامه (لو1: 8 10)..

 

جميل من الرب أنه عندما أرسل خدامه السمائيين
أولاً إلى بيته المقدس وإلى خدام مذبحة الطاهر. ولا شك أن هذا كله يشعرنا بجمال
المذبح الذي وقف الملاك عن يمينه في أول تباشير الصلح. كم بالأكثر جداً مذبح العهد
الجديد في قدسيته الفائقة للحد، حيث ملاك الذبيحة الصاعد إلى العلو يحمل إلى الله
تضرعنا..

 

30- مصالحة السمائيين مع الأرضيين

نعود إلى الملاك الطاهر الذي ظهر لزكريا الكاهن..

كان ملاكاً يحمل بشارة مفرحة. لقد عاد الرب يفرح
وجه الأرض التي حرمت كثيراً من أفراحه في فترة القطعية والخصومة. وهل هناك فرح
أعظم من تبشير زوج العاقر بأنها ستلد إبناً: “لم يقم بين المولودين من النساء
من هو أعظم منه” (مت11: 11)، إبناً سيكون: ” عظيماً أمام الرب”
(لو1: 15)!! عبارات: “الفرح” تدفقت من فم الملاك، فقال: “لا تخف يا
زكريا، لأن طلبتك قد سمعت، وامرأتك اليصابات ستلد لك إبناً، وتسميه يوحنا، ويكون
لك فرح وإبتهاج، وكثيرون سيفرحون بولادته”.

 

وكانت إيحاءه جميلة من الرب في تباشير هذا الصلح،
أن يسمي الطفل “يوحنا”.. وكلمة يوحنا معناها: “الله حنان”!!

 

وكأن الله يقصد أنه وإن تركنا زمناً، إلا أن
محبته دائمة إلى الأبد، ” مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئها” (نش8: 7).
وأنه وإن حجب وجهه حيناً، فإنه لا يحجب قلبه الحنون. فعلي الرغم من فترة القطيعة
بين السماء والأرض التي سبقت ميلاد السيد المسيح، وعلى الرغم من الخصومة القائمة،
كان الله ما يزال كما هو، كله حنان وشفقة.. ” الله حنان ” أو ”
الله حنون”. لعل هذا يذكرنا بقول الرب من قبل:

 

” لأنه كإمراة مهجورة ومخزونة الروح دعاك
الرب، وكزوجة الصبا.. لحيظة تركتك، وبمراحم عظيمة سأجمعك. بفيضان الغضب حجبت وجهى
عنك لحظة وبإحسان أبدي أرحمك” (إش54: 6 8).

 

إنها نبوءة أشعياء عن مصالحة الرب لشعبه وكنيسته،
قد بدأت تتحقق.. تلك النبوءة العجيبة، الجميلة في موسيقاها، التي بدأها الرب
بنشيده العذب: “ترنمي أيتها العاقر التي لم تلد..” (إش54: 1). تري
أكاذيب أَلِيصَابَات: “العاقر التي لم تلد ” رمزاً للكنيسة في إفتقاد
الرب لها؟ وهل كان إسم إبنها يوحنا: “الله حنان” رمزاً أيضاً لمصالحة
الله لكنيستة؟ وهل ترنم اليصابات: “العقر التي لم تلد ” كان بشيراً
يتحقق باقي مواعيد الله إذ يقول لكنيسته في نفس النشيد:

 

“كما حلفت أن لا تعبر بعد مياة نوح على
الأرض، هكذا حلفت أن لا أغضب عليك ولا أزجرك. فإن الجبال تزول، والآكام تتزعزع،
أما إحساني فلا يزول عنك، وعهد سلامي لا يتزعزع، قال راحمك الرب “.

 

“أيتها الذليلة المضطربة غير المتعزية،
هأنذا أبني بالأثمد حجارتك، وبالياقوت الأزرق أؤسسك. وأجعل شرفاتك ياقوتاً،
وأبوابك حجارة بهرمانية، وكل تخومك حجارة كريمة. وأجعل كل بنيك تلاميذ الرب، وسلام
بنيك كثيراً” (إش54: 11 13).

 

هل كان هذا الإصحاح الرابع والخمسون من نبوءة
أشعياء موضع تأمل القديسة أَلِيصَابَات في خلاص الرب القريب، طوال الستة أشهر التي
مرت ما بين بشارة الملاك لزكريا وبشارة الملاك للعذراء؟! إن هذه الفكرة تملأ قلبي،
وتضغط على عقلي بإلحاح شديد.. ولا شك أن هذه القديسة الشيخة التي كانت تحمل إبناً
نذيراً للرب في أحشائها، كانت تشعر أنه ليس بأمر عادي هذا الذي حدث لها وإذ نتأمل
في هذا الفصل من اشعياء الذي ينطبق عليها وعلى الكنيسة يهز كيانها كله هذا ”
النبي الإنجيلي ” إذ يقول: “ها العذراء تحبل وتلد إبناً وتدعو إسمه
عمانؤئيل” (إش7: 14).

 

قلنا إنه من تباشير الصلح بين السماء والأرض كان
ظهور الملائكة للبشر.. وكان الملاك الأول هو الذي بشر زكريا الكاهن.

 

· أما الملاك الثاني، فكان جبرائيل، الذي بشر
السيدة العذراء.

 

نلاحظ أن هذا الملاك كان له مع العذراء أسلوب
معين. لقد بدأها بالتحية، بأسلوب كله توقير وإحترام لها. في بشارة زكريا لم يبدأه
الملاك بالتحية، وإنما قال له ” لا تحف يا زكريا فإن طلبتك قد سمعت “.
أما في بشارة العذراء فقال لها الملاك:

 

” السلام لك ايتها الممتلئة نعمة. الرب معك
“. وعندئذ بعد هذه المقدمة بدأ الملاك في إعلان رسالته. وحتى هذه الرسالة
أدمجها بعبارة مديح أخري فقال: “لا تخافي يا مريم، لأنك قد وجدت نعمة عند
الله ” ثم بعد ذلك بشرها بالخبر الذي جاء من أجلة: “ها أنت ستحبلين
وتلدين إبناً وتسمينه يسوع.. “.

 

إنه اسلوب إحترام عجيب يليق بالتحدث مع والدة
الإله الممجدة، المملكة الجالسة عن يمين الملك.

 

لم يستطع رئيس الملائكة جبرائيل أن ينسى أنه
واقف أمام أقدس إمرأة في الوجود، وإنه واقف أمام أم سيده، التي ستكون سماء ثانية
لله الكلمة. فخاطبها بأسلوب غير الذي خوطب به الكاهن البار زكريا..

 

هنا نلاحظ أنه لم يبدأ فقط صلح بين السمائيين
والأرضيين، بل بدأ تقدير وتوقير من سكان السماء لسكان الأرض في شخص أمنا وسيدتنا
العذراء مريم.. فمرحباً بهذا الصلح.

 

· أما الظهور الثالث، فكان ظهور ملاك الرب
للرعاة.

 

هنا نجد تقدماً ملموساً في العلاقات، إذ لم
يقتصر الأمر على أن ” ملاك الرب وقف بهم ” بل يقول الكتاب أكثر من هذا: “ومجد
الرب.. أضاء حولهم “. وبعد أن بشرهم الملاك ” بفرح عظيم ” يكون
” لجميع الشعب “، وبولادة ” مخلص “، ” ظهر بغتة مع
الملاك جمهور من الجند السماوي مسبحين الله وقائلين: “المجد لله في الأعالي،
وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة “.

 

· وهنا نسمع عبارات الفرح، والمسرة، والسلام،
والخلاص.. وبدلاً من ظهور ملاك واحد، نري جمهوراً من الجند السماوي يسبحون.

إنها تباشير الصلح العظيم، المزمع أن يتم على
الصليب. ونلاحظ أن هذا الصلح قد بدأه الله لا الناس.

 

31- الله يصالح البشرية

أول ما نتذكره في هذا المجال، هو أن الله يسعى
لخلاص الإنسان، حتى لو كان الإنسان لا يسعى لخلاص نفسه.

 

نلاحظ هذا منذ البدء: عندما أخطأ آدم وسقط، لم
يسع لخلاص نفسه، بل نراه على العكس من ذلك قد هرب من الله، وخاف من الله، وإختفي،
بل نراه. لم يحدث أنه سعي إلى الله، طالباً الصفح والمغفرة، وطالباً النقاوة
والطهارة. بل إنه: “لما سمع صوت الرب الإله ماشياً في الجنة.. ” اختبأ
هو وإمراته من وجه الرب” (تك3: 8). وهكذا أوجد حجاباً وحاجزاً بينه وبين الله.
وبدأت الخصومة.

 

من الذي سعي لخلاص آدم؟ إنه الله نفسه، دون أن
يطلب آدم منه ذلك.

 

آدم شغله الخوف عن الخلاص أو حتى عن مجرد
التفكير فيه.. وهكذا بحث الله عن آدم.. وأعطاه وعداً بأن نسل المرأة سوف يسحق رأس
الحية (تك3: 15).

 

لقد أعتبر الله أن المعركة الدائرة هي بينه وبين
الشيطان، وليست بين الشيطان والإنسان. أعتبر أن قضيتنا هي قضيته هو. وإذا بنسل
المرأة الذي يسحق رأس الحية هو الله نفسه الذي أتي في ملء الزمان من نسل المرأة.
هو الله إذن الذي دبر قصة الخلاص كلها، لأنه: يريد أن الجميع يخلصون، وإلى معرفة
الحق يقبلون” (1تى2: 4). هو يريد خلاصنا جميعاً ويسعى إليه، حتى إن كنا نحن
في تكاسلنا أو في شهواتنا غافلين عن خلاص أنفسنا!..

 

في قصة الخروف الضال، نرى أن هذا الخروف الضال
لم يسع لخلاص نفسه، وإنما تائهاً وبعيداً. والراعي الصالح هو الذي جرى وراءه.

 

هو الذي فتش عليه وسعي إليه، وهو الذي تعب من
أجله إلى أن وجده، وحمله على منكبيه فرحاً، ورجع به سالماً إلى الحظيرة..

 

وفي قصة الدرهم المفقود، نجد نفس الوضع أيضاً..

 

فإن تعطل خلاص الإنسان، يكون السبب بلا شك
راجعاً إلى الإنسان ذاته وليس إلى الله.

 

وهذا الأمر واضح في تبكيت الرب لأورشليم، إذ قال
لها: “يا أورشليم يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها. كم
مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها، ولم تريدوا”
(مت23: 37).. أنا أردت، وأنتم لم تريدوا..

 

مثال أخر هو عروس النشيد.. الله هو الذي سعي
لخلاصها “طافراً على الجبال، وقافزاً على التلال” وقال لها: “افتحي
لي يا أختي يا حبيبتي يا حمامتي يا كاملتي، لأن رأسي قد إمتلأ من الطل وقصصي من
ندي الليل” (نش5: 2). وتكاسلت النفس في الإستجابة، وتعللت بالأعذار. فماذا
كانت النتيجة.. كانت أنها عطلت عمل النعمة فيها بعض الوقت وصاحت في ندم: “حبيبي
تحول وعبر “..

 

تأكد أنك إن كنت تريد الخلاص من الخطية، فإن
الله يريد ذلك أضعافاً مضاعفة..

 

المهم إنك تبدي رغبتك المقدسة هذه. هناك عبارة
لطيفة قالها أحد القديسين. قال: [إن الفضيلة تريدنا أن نريدها لا غير]. يكفي أن
نريد، إرادة جادة، والله يتولي الباقي. بل حتى هذه الإرادة هو يمنحها لنا، لأجل
خلاصنا.

 

ومن القصص العجيبة عن سعي الله لخلاصنا، ما
يقوله الله في سفر حزقيال النبي للنفس الخاطئة الملوثة: ” مررت بك ورأيتك
مدوسة بدمك.. وقد كنت عريانة وعارية. فمررت بك ورأيتك وإذا زمنك زمن الحب. فبسطت
ذيلي عليك.. ودخلت معك في عهد يقول السيد الرب فحممتك بالماء، وغسلت عنك دماءك،
ومسحتك بالزيت.. وجملت جداً جداً، فصلحت لمملكة” (خر16).

 

تلك النفس المسكينة لو تركت لذاتها لبقيت على
حالها مطروحة وملوثة، عريانة وعارية. ولكن الله فعل من أجلها الكثير، وأنقذها مما
هي فيه..

 

ولكن ليس معني سعي الله لخلاصنا، أننا نتكل على
ذلك ونكسل! كلا وإلا فإنه يتحول ويعبر كما حدث مع عروس النشيد. إنما يجب أن تتحد
إرادتنا بإرادته. وعملنا بعمله. هو ينزل إلى عالمنا، ونحن نقدم له ولو مزوداً
ليستريح فيه..

 

إن الله يسعى لخلاصنا، ويسعى ليصالحنا معه.
الصلح يبدأ من جانب الله.. إنه درس لنا حينما تكبر قلوبنا على أخوتنا الصغار، فلا
نسعي لمصالحتهم بحجة أننا الكبار!!..

 

32- الكبير يسعى لمصالحة الصغير

في كل تباشير الصلح التي ذكرناها نرى أن الله هو
الساعي لمصالحة البشرية. النور الذي لا يدنى منه، يسعى لمصالحة التراب والرماد!
ملك الملوك ورب الأرباب يتقدم ليصالح عبيده.. نراه أنه هو الذي أرسل الملائكة
للبشر وهو الذي بعث إليهم برسائل في الأحلام. وهو الذي أرجع لهم روح النبوة، وهو
الذي عمل على إعادة العلاقات كما كانت.. بل هو الذي أرسل إليهم إبنه الوحيد
ليخلصهم، من فرط محبته لهم.

 

وكما قال القديس يعقوب السروجي: [إنه كانت هناك
خصومة بين الله والإنسان. فلما لم يتقدم الإنسان لمصالحة الله نزل الله ليصالح
الإنسان].

 

ولم يحدث هذا في الميلأد فقط، وإنما كان هو دأب
الله دائماً. نراه وهو الكبير العالي غير المحدود يسعى لمصالحة الإنسان. يقول: “أنا
واقف على الباب وأقرع. من يفتح لي أدخل وأتعشى معه” (رؤ3: 29). ونحن نتساءل
في عجب: كيف يارب تقف على الباب وتقرع. البشر هم الذين أذهب إليهم. أنا لست أبحث
عن كرامة لي، وإنما أبحث عن خلاصهم هم، ولا أستريح حتى أطمئن على خلاصهم.

 

حقاً، ما أعجب قلب الله المحب، وما أعجب تواضعه..

 

الله يرسل الأنبياء والرسل لكي يصالحوه مع البشر.
يعترف القديس بولس الرسول بهذا فيقول: “نسعي كسفراء عن المسيح، كأن الله يعظ
بنا، نطلب عن المسيح: تصالحوا مع الله” (2كو5: 20).

 

حقاً: هل كان هناك عمل آخر للأنبياء سوى عقد صلح
بين الله والناس. والله هو الذي طلب الصلح فأرسل أنبياءه! بل ما أعجب الرب في سعيه
للصلح إذ يقول:

 

” بسطت يدي طول النهار، إلى شعب معاند
ومقاوم” (رو10: 21). مازال الرب باسطاً يده، يطلب صلحاً معنا ويقول: “هلم
نتحاجج” (إش1: 18).

 

الله هو الذي صالح يونان النبي لما إغتم وإغتاظ،
مع أنه غضبه لم يكن حسب مشيئة الرب. أعد له يقطينه: ” فارتفعت فوق يونان
لتكون ظلاً على رأسه، لكي يخلصه من غمه ” وظل يجاذبه الحديث قائلاً له: “هل
اغتظت بالصواب؟ ” ويونان يجيب: “اغتظت بالصواب حتى الموت ” لم يزل
به حتى أقنعه وصالحه (يون4).

 

والسامرة التي أغلتق أبوابها في وجهه، لأن وجهه
كان متجماً نحو أورشليم، لم يتضايق من تصرفها هذا، ولم ينزل ناراً من السماء
ليحرقها كما لإقترح التلميذان، بل ذهب إليها ليصالحه، وهي المخطئة. وبذل من حبه
حتى أصلحها وصارت له (يو4).

 

وفي قصة الابن الضال، نرى أن الإبن الكبير لما
غضب ورفض أن يدخل، ورفض أن يشترك في الفرح برجوع أخيه، مع أن غضبه لم يكن مقدساً،
ومع أن إرادته كانت ضد إرادة إلآب، إلا أن الآب ذهب إليه ليصالحه.. وفي ذلك يقول
الكتاب:

 

” فخرج أبوه يتول إليه” (لو15: 28).
مع أن كلام هذا الإبن كان قاسياً في حديثه مع أبيه، وكانت إتهاماته كثيرة وظالمة،
إلا أن الأب إحتمله، وأطال أناته على حتى صالحة. ولم يقل له كيف وأنت صغير تكلمني
هكذا!

 

ولما أخطأ القديس بطرس وأنكر السيد المسيح، لم
ينتظر الرب حتى يأتي القديس بطرس تائباً ومعتذراً، بل هو الذي بداه بالكلام، وسهل
الأمر عليه، وأرجع العلاقات كما كانت، بنفس الدالة..

 

إن الرب لا يرى في سعيه للصلح إنقاصاً لقدرة أو
إضاعة لكرامته، بل على العكس إنه يبرهن على محبه وعلى وتواضعه فيزداد حب الناس له.

 

وإن كان الله بميلاده قد جاء ليصالحنا، فإذهب
أنت يا أخي وصالح غيرك. لا تقل كيف أذهب أنا؟ هم الذين يأتون. كلا، فإن الذي يقوم
بالصلح، هو الذي ينال بركته.. ولا تقل كيف أصالح ابني، أو أخي الأصغر، أو خادمي،
أو مرؤوسى، وأنا الكبير؟! إعرف أن الكبير هو الكبير في قلبه وفي حبه، في فضائله
وفي احتماله. والله لا يقيس الناس بمقياس السن أو المركز، بل بنقاوة القلب.

 

ومهما كنت كبيراً، فلن تكون مطلقاً في درجة الله
الذي سعي لمصالحة عبيده ومخلوقاته!

 

وحاذر من أن تطلب إحتراماً يليق بك، حتى لو كان
يليق بك المجد والكرامة!! بل أطلب محبة الناس وبركتهم. وفي ذكري الميلاد تذكر
تواضع الرب الذي نزل من سمائه إلينا، فكيف لا نتنازل بعضنا للبعض..

 

وفي مصالحة الناس، لا تفكر في خطية غيرك كبيراً
كان أم صغيراً وإنما فكر في نقاوة قلبك، وضع أمامك تواضع الرب في مصالحته للبشر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار