اللاهوت الروحي

الفصل الخامس



الفصل الخامس

الفصل الخامس

الروح القدس روح القوة

19- الروح القدس روح القوة

قبل أن يصعد السيد المسيح إلى السماء، أوصى
تلاميذه أن لا يبرحوا أورشليم ” إلى أن يلبسوا قوة من الأعالي” (لو24:
49). فلماذا كانت تلك القوة؟ لقد قال لهم:

 

” ولكنكم ستنالون قوة، متى حل الروح عليكم.
وحينئذ تكونون لي شهوداً” (أع1: 8).

 

وقد أخذوا هذه القوة في اليوم الخمسين، وانتشر
بها الملكوت. ويقول سفر الأعمال عن كرازته “وبقوة عظيمة كان الرسل يؤدون
الشهادة بقيامة الرب يسوع. وتحقق قول السيد المسيح لهم “إن من القيام عهنا
قوماً لا يذوقون الموت حتى يروا ملكوت الله قد أتى بقوة” (مز9: 1).

حقاً، كان ملكوت الله قد أتى بقوة.

في حوالى ثلاثين سنة فقط، كانت البشارة بالملكوت
قد ملأت كل البلاد اليهودية والسامرة، والنتقلت إلى أنطاكية، وإلى قبرص وآسيا
الصغرى، وإلى مصر وليبيا وإلى بلاد اليونان، وايطاليا، وإلى بلاد الشرق.. بقوة..
بقوة في قلوب التلاميذ، الذين ما كانوا يخافون الموت ولا السجن ولا الجلد أو
التهديد.. وقوة أخرى في تأثير كلامهم على السامعين، وأيضاً قوة آيات ومعجزات
وعجائب.

 

قوة ساعدت على انتشار الإيمان.

نسمع مثلاً عن كرازة القديس اسطفانوس أول
الشمامسة أنه وقف أمام ثلاثة مجامع يحاورنه، ” ولم يقدروا أن يقاوموا الحكمة
والروح الذى كان يتكلم به” (أع6: 9، 10).. فليس من السهل مقاومة الكلام
الصادر من الروح “الروح القدس الناطق في الأنبياء”.

 

نفس الوضع يقال على بولس الرسول:

أنه نفسه يقول “وكلامى وكرازتى لم يكونا
بكلام الحكمة الإنسانية المقنع، بل ببرهان الروح والقوة. لكى لا يكون إيمانكم
بحكمة الناس، بل بقوة الله” (1كو2: 4).. ولهذا استطاع القديس بولس الرسول أن
يأتى بثمر كثير في خدمته، وأن ينشر الإيمان في أفطار عديدة..

 

ونفس الكلام يقال عن باقى القديسين.

وكلمهم قد بدأوا رسالتهم بعد أن حل الروح القدس
عليهم “وامتلأ الجميع من الروح القدس” (أع2: 4). ولذلك قيل “وكانت
كلمة الله تنمو، وعدد التلاميذ يتكاثر جداً في أورشليم. وجمهور كثير من الكهنة
يطيعون الإيمان” (أع12: 24). وقيل أيضاً ” وأما الكنائس في جميع
اليهودية والجليل والسامرة، فكان لها سلام وكانت تبنى وتسهر في خوف الله، وبتعزية
الروح القدس كانت تتكاثر” (أع9: 31).

 

وقبل رسل السيد المسيح، كانت كرازة يوحنا
المعمدان بنفس قوة الروح.

 

هذا الذي قال عنه الملاك المبشر به، إنه ”
يتقدم بروح إيليا وقوته” (لو1: 17).. وكيف أتيح له ذلك؟ السبب هو أنه من بطن
أمه امتلأ من الروح القدس (لو1: 15). وهكذا كانت خدمته قوية، بعمل الروح القدس فيه
ومعه.. واستطاع في شهور قليلة أن يقود الآلاف إلى التوبة، ويمهد الطريق أمام
المسيح، ويهيئ للرب شعباً مستعداً” (لو1: 17).

 

لهذا كان الامتلاء من الروح القدس شرطاً لجميع
الخدام في الكنيسة أيام الرسل.

حتى الشمامسة.. ففي اختيار الشمامسة السبعة قال
الآباء الرسل لجمهور الشعب ” انتخبوا أيها الرجال الأخوة سبعة رجال منكم
مشهوداً لهم، ومملوئين من الروح القدس والحكمة، فنقيمهم على هذه الحاجة”
(أع6: 3). ” فاختباروا اسطفانوس، فإذ كان مملوءاً إيماناً وقوة، كان يصنع
عجائب وآيات عظيمة في الشعب” (أع6: 8).

 

كذلك كانت خدمة برنابا في أنطاكية.

يقول عنه سفر الأعمال أنه ” كان رجلاً
وممتلئاً من الروح القدس، فانضم إلى الرب جمع غفير” (أع11: 24). حتى الرسل
الذين امتلأوا من الروح القدس في يوم الخمسين، كانوا في مناسبات معينة تحتاجون إلى
دفعة خاصة من الروح. فنسمع أنه لما اجتمع رؤساء اليهود وكهنتهم القوا الأيادى على
بطرس ويوحنا. وجعلوا يسألونهما بأية قوة صنعتما هذا ” حينئذ امتلأ بطرس من
الروح القدس وقال لهم..” (أع4: 7، 8).

 

الروح القدس هو الذى كان يعمل في كنيسة الرسل.
لذلك كانت كنيسة قوية.

وكان حلول الروح القدس عليهم، هو نقطة التحول في
حياة الكنيسة. فبعد أن كان الرسل خائفين ومختبئين في العلية، أخذوا قوة في الكرازة
وخدمة الكلمة. وقوة في نشر الإيمان والأعتراف به أمام الكل.. أخذوا قوة في الكرازة
وخدمة الكلمة. وقوة تقف أمام الفلسفات والأديان والبدع، وأمام الولاة والحكام
والسلاطين. أخذوا أيضاً قوة في الصلاة، وقوة في الأحتمال وقوة في العمل والسهر
والجهاد..

 

على أن عمل الروح القدس لم تظهر قوته العجيبة في
عصر الرسل فقط.

إنما نرى مثالاً رائعاً لقوة الروح القدس في
القرن الرابع الميلادي وامتداده.

نرى ذلك واضحاً في ثلاث نقاط أساسية:

1 عمل الروح في الشهداء واحتالهم العجيب من أجل
الإيمان، وقوتهم في مواجهة الأباطرة والولاة. بل فرحهم في مواجهة الموت، وقدرتهم
على احتمال ألوان التعذيب البشعة. وتراتيلهم وهو في الطريق إلى المحاكمات أو إلى
الحبس. وتسابيحهم وألحانهم داخل السجون.. أية قوة هذه التى أذهلت الناس؟ أنها قوة
الروح القدس.

 

2 قوة الروح القدس العاملة في أبطال الإيمان:

هؤلاء الذين شهد عصرهم المجامع المسكونية
المقدسة أمثال مجمع نيقية سنة 325م، ومجمع القسطنطينة سنة 381م.. ثم في الأول من
القرن الخامس. مجمع افسس سنة 431م، وكيف شهدت تلك الفترة ابطالاً عظاماً عمل فيهم
الروح القدس بكل قوة سواء من جهة المعرفة اللاهوتية، أو القوة في الآقناع، أو
القوة في مواجهة أعداء الإيمان وفى مواجه الاضطهادات والنفى والعزل وسائر
الاتهامات.. ونذكر في مقدمة هؤلاء القديس أثناسيوس الرسولى، والقديس باسيليوس
الكبير، والقديس غريغوريوس الناطق بالإلهيات، والقديس كيرلس عمود الدين في القرن
الخامس.. وعدد كبير من هؤلاء القمم، كان الروح القدس يعمل فيهم ومعهم للقضاء على
الهرطقات ولولاة قوة الروح فيهم، ما وصل إلينا الإيمان كما نؤمن به الآن.

 

وتظهر قوة الروح القدس أيضاً في تلك الفترة في
عمله في حياة الرهبنة والنسك.

في حياة الرهبان والمتوحدين والسواح الذين
امتلأت بهم البرارى والقفار، والجبال وشقوق الأرض، في صلوات وتسابيح وأصوام،
وانتشرات وأصوام، وانتشرت رائحتهم الزكية العطرة في كل ارجاء المسكونة.

 

وأتى السائحون من كافة الأقطار ليسمعوا كلمات
منفعة ينطقها الروح على أفواه هؤلاء النساك. لكى يروا نماذج عالية من أناس عاشوا
في حياة الروح، في شركة كاملة مع الروح القدس، يقدموا صوراً مثالية لحياة القداسة،
في الهدوء والوداعة والتأمل والسكون والصلاة الدائمة.

 

إنه عمل ثلاثى عجيب للروح القدس، في الاستشهاد
والأيمان والنسك.

ظهرت قوة الروح في أوجها: في احتمال الموت
والتعذيب، وفي الدفاع عن الإيمان السليم وفي حياة الوحدة والصلاة.. كل ذلك في جيل
واحد.. كما قدم لنا مارجرجس ومارمينا والأمير تادرس ودميانة في مجال الاستشهاد قدم
لنا أثناسيوس في اللاهوتيات وذهبى الفم في التفسير، ومارافرام في الشعر، وأغسطينوس
في التأمل.. وقدم لنا أيضاً قديسى الرهبنة العظام: الأنبا أنطونيوس والثلاث مقارات
والأنبا باخوميوس والأنبا شنوده والأنبا بيشوى والأنبا موسى الأسود، وعشرات
القديسين العظام..

 

وظهرت قوة الروح القدس فيما أجراه على أيدى
القديسين من آيات ومعجزات.

ما أكثر العجائب التى كانت تحدث على أيدى
القديسين، وللقديسين.. ليس فقط في العصر الرسولى، وفى القرنين الرابع والخامس،
وإنما في كل العصور بلا استثناء. ويحدثنا القديس بولس الرسول في رسالته الأولى إلى
كورنثوس عن مواهب الروح القدس التى يهبها “قاسماً لكل واحد بمفرده كما
يشاء” (1كو12: 11).. في قوات وعجائب ونبوءة ومواهب متعددة، كلها تدل على
القوة العجيبة التى للروح، والتى يمنحها للمؤمنين والخدام. وبواسطة هذه الآيات
والعجائب انتشر الإيمان وليس بالتعليم وحده.. كانت المعجزات برهاناً على صحة
الكرازة والتعليم، وعلى أن الله يسند الإيمان بقوة روحه.

 

مشكلتنا الحالية أن خداماً كثيرين يخدمون بكل
نشاط وباتساع في العرفة ولكنهم لا يخدمون بقوة الروح القدس فيهم.

 

ربما يعتمدون على الذكاء البشرى، أو على المعرفة
التى من الكتب ليس على الروح. وقد ينطقون عليهم بكلام الحكمة الإنسانية المقنع،
ولكن لا ينطق الروح على أفواههم. ولا ينطبق عليهم قول الرب لتلاميذه ” لستم
أنتم المتكلمين، بل روح أبيكم الذى يتكلم فيكم” (مت10: 20). لإغن تكلم الروح
فيكم، حينئذ ستظهر القوة في كلماتكم. وكمثال لذلك:

 

عظة واحدة ألقاها بطرس الرسول، وهو ممتلئ
بالروح، جذبت ثلاثة آلاف نفس إلى الإيمان (أع2: 41).

 

لأن الروح حينما يعمل، إنما يعمل بقوة.. بقوة
ليست عادية، إنما هي قوة إلهية.

 

ماذا نقول إذن: إن كان خادم لا يخدم بقوة الروح
القدس، ولا حتى بروحه البشرية، وإنما بطرق عالمية، فيها الحلية والأسلوب العلمانى
وربما فيها أيضاُ أخطاء أهل العالم‍‍‍!! هل يمكن لمثل هذا الخادم أن ينجح في خدمته
أو ينشر الملكوت؟ كم بالأكثر لو دخل في الخدمة لون من الروتين أيضاً!

 

لكى تنجح الكنيسة، ولكي تكون قوية، ينبغى أن
يعمل فيها الروح القدس.

 

من نقظة البدء، إذ يكون الخادم نفسه فيه روح
الله، كما كان الشمامسة السبعة (أع6). وأيضاً يستمر عمل الروح مع الخادم في كل
مراحل الخدمة، فيدخل في شركة الروح القدس، ويعمل الروح القدس فيه وبه ومعه.. وهكذا
تكون لخدمته قوة.. لا قوة الفصاحة والبلاغة. ولا قوة المعرفة والقراءة.. إنما قوة
الروح.

 

وقوة الروح ليست فقط في الخدمة، إنما في الحياة
الشخصية أيضاً.

من صفات أولاد الله أنهم دائماً أقوياء. على
الأقل لأنهم صورة الله ومثاله، والله بطبيعته قوى. وثانياً لأن أولاد الله هم
الذين يعمل فيهم روح الله القدوس. وهو روح القوة (أش11: 2).. وهذه القوة التى
لأولاد الله، لا تغنى بها قوة جسدية، إنما قوة في الروح وفى الفكر، قوة فى الإرادة
وفى العمل. قوة في حياة القداسة وفي الانتصار على حروب الشياطين. قوة في النفس
والصعود، لا نعرف الخوف ولا القلق.

 

وكل هذا يمنحه الروح القدس للإنسان.

فإن كنت ضعيفاً، تأكد تماماً أنك لا تشترك مع
الروح القدس الساكن فيك.

ولا أقول أن ضعفك يدل على أن الروح القدس لا
يعمل فيك.. كلا فالروح يعمل. إنما المهم هو تجاوبك أنت مع الروح، هل تعمل معه؟هل
تشترك معه في العمل؟ هل تقاومه؟! إن سكنى الروح القدس فيك عبارة عن قوة جبارة.
ولكن هل أنت تستخدم هذه القوة أو لا؟

 

إن حبة القمح فيها قوة الحياة. تظهر هذه القوة،
إن وجدت ظروف إنبات مواتية.

 

إن وجدت هذه الظروف من أرض وماء وحرارة وضوء،
نبت. وإلا فإن الحياة التى فيها تبقى كاملة أو معطلة. مثال آخر، كالقوة في الذرة،
إن وجدت ظروفاً مساعدة، تفجرت أو استخدمت كطاقة معينة. وإلا بقيت حيث هي، طاقة غير
مستخدمة.

 

كم من الناس فيهم قوى معطلة؟

قوة الروح فيهم لا تعمل، لأنهم لم يستخدموها. أو
لأنهم أحزنوا روح الله الذى فيهم (أف4: 30). أو أطفأوا الروح (1تس5: 19). هذا الذى
يضعف أمام أية خطية ويسقط، ما عمل الروح فيه؟ هل هو يستخدم قوة الروح الذى في مسحة
الميرون المقدسة؟! أم قوة الروح فيه طاقة معطلة؟‍!

 

على أية الحالات، لا تحزن على الماضى، إنما
استمع في رجاء إلى قول الكتاب:

” أما منتظروا الرب فيجدون قوة. يرفعون
اجنحة كالنسور، يركضون ولا يتعبون. يمشون ولا يعيون” (أش40: 31).

 

إن فقدت قوة الروح، يمكنك أن تجدد عملها فيك مرة
أخرى.. أطلب من روح الله أن يعطيكم قوة على التوبة، وقوة على العمل. واشترك أنت في
العمل معه.. وستنال هذه القوة.. لأنه ” يعطى المعيى قدرة يكثر شدة”
(أش40: 29). وحينما يمنحك الروح هذه القوة، يمكنك أن تسبح وتغنى مع المرتل وتقول:

” قوتى وتسبحتى هو الرب وقد صار لي
خلاصاً” (مز118: 14).

أخيراً يا أخوتى.. تقووا في الرب، وفى شدة قوته
(أف6: 10).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار