علم الاخرويات

الفصل الخامس



الفصل الخامس

الفصل الخامس

24- القيامة هي لقاء عجيب

أبنائى وأخوتى الأحباء:

يسرنى أن أهنئكم جميعاً بعيد قيامة السيد المسيح
من بين الأموات. المسيح قام، وكانت قيامته عربوناً لقيامة الكل. فالبشر سوف لا
تنتهى حياتهم بالموت، وإنما سيقومون لحياة أخرى. ويلذ للنفس أن تتأمل كثيراً في
هذه القيامة العامة، معاينتها عميقة جداً، ولا تنضب..

القيامة هي لقاء عجيب

 

1 – إنها أولاً: لقاء صديقين متحدين:

هذان الصديقان عاشاً معاً العمر كله، منذ
الولادة، بل وقبلها أيضاً، أثناء الحمل في بطن الأم، لم يفترقا لحظة واحدة، وأعنى
بهما الجسد والروح. كل منهما طبيعة متميزة تماماً:

 

الجسد طبيعة مادية، والروح طبيعة روحية، اتحدا
في طبيعة واحدة هي الطبيعة البشرية، لا تستطيع أن تفصل بينهما فتقول هنا الجسد
وهنا الروح. عاشا بهذه الوحدة العجيبة، التي يعبر فيها الجسد عن كل مشاعر الروح: إن
فرحت الروح، يبتسم الجسد ويتهلل. وإن حزنت الروح، يظهر حزنها في عينيه.. وبعد عمر
واحد، انفصل الاثنان بالموت. وأخيراً يلتقيان في القيامة.. بعد غربة طويلة،
ويتحدان مرة أخرى..!

 

ترى ما هي مشاعر الروح وهى تلتقى بجسدها، شريك
العمر، ربما بعد آلاف أو مئات السنين، مثلما تلتقى أرواح آدم ونوح وإبراهيم
بأجسادها..!!

 

تلتقى الروح بجسدها، بعد أن رأته يتحول إلى حفنة
تراب، ثم يعود، وفى صورة أبهى من الأول، بلا أى عيب، ولا نقص، حتى العيوب التي
كانت فيه أثناء ذلك الزمان السحيق.. نعم، يقوم بلا عيب، لأن العيوب لا تتفق مع
النعيم الأبدى (وأيضاً يعود وهو أكثر صداقة، فلا يختلف إطلاقاً في الحياة الأخرى
مع الروح، إذ يقوم جسداً روحانياً).

 

2- اللقاء العجيب الثانى في القيامة، هو لقاء
شعوب وأجناس التاريخ.

إنها قيامة عامة منذ آدم، تجتمع فيها كل الشعوب
والأجناس، التي عاشت خلال أجيال وقرون، بكل ملاحهما ولغاتها، بكل أبطالها وقادتها.
ألعلها تتعارف وتتفاهم؟! نعم، بلا شك. لأنه ستكون للكل لغة واحدة هي لغة الروح، او
لغة الملائكة. حقاً ما أعجب هذا اللقاء! إنه قصة القصص، وحكاية دهور طويلة. وأجمل
ما فيه موكب المنتصرين، الذين جاهدوا خلال حياتهم في العالم وغلبوا. انتصروا للحق
والقيم. يلتقون ووراء كل منهم رواية روتها الأجيال.. ويعود العالم شعباً واحداً
كما كان، قبل أن يفترق ويتشتت.

ترى كيف سيكون لقاء الشعوب التي كانت متصارعة من
قبل؟ أترى تبدو أمامهم تافهة جداً، تلك الأسباب التي دعتهم من قبل إلى الصراع؟!

 

3 – اللقاء الثالث العجيب، هو لقاء البشر
والملائكة.

وهم طبيعة أخرى أسمى من طبيعتنا، ولكن اللقاء
بهم إحدى متع الأبدية..

 

4- وأسمى من هذا كله بما لا يقاس: لقاؤنا مع
الله..

التقاؤنا به – تبارك إسمه – هو النعيم الأبدى،
ولا نعيم بدون الله.. هنا ويقف قلمى في صمت خاشع، لأنى أمام أمر لا تستطيع الألفاظ
أن تعبر عنه، لأنه فوق مستوى اللغة في التعبير، وفوق مستوى العقل في التفكير..

القيامة إذن هي لقاء عجيب.. وماذا أيضاً؟

 

25- القيامة هي انتقال عجيب

1- هي انتقال من المحدود إلى اللا محدود.

انتقال من هذا العمر المحدود بأيام وسنين، إلى
حياة غير محدودة، بل إلى مجال هو فوق الزمن. أترى هل توجد هناك أرض تدور حول نفسها
وحول الشمس، وتترجم دوارتها إلى أيام وسنين؟! أم أننا سنرتفع فوق الزمن، بدخولنا
في عالم آخر جديد..! مقاييس الزمن ستنتهى. لحظة واحدة في الأبدية، هي أطول وأعمق
من حياة الأرض كلها.

 

2- القيامة أيضاً هى انتقال من المرئيات إلى ما
لا يرى.

هى دخول فيما قال عنه الكتاب “ما لم تره
عين، ولم تسمع به إذن، ولم يخطر على قلب بشر، ما أعده الله لمحبى اسمه القدوس
“. إنه دخول في عالم الأرواح، والتقاء مع الملائكة، وهم أرواح لا ترى. مع
أفراح لم تعرف من قبل في هذا العالم المادى المرئى. وهنا تكون القيامة سمواً فوق
مرتبة ما تدركه الحواس، بارتفاع إلى ما لا تدركه سوى الروح.

 

3- هي إذن انتقال من عالم الحواس إلى عالم الروح.

أو هي اقتناء حواس روحية غير الحواس المادية
الحالية، حواس ترى الروح والروحيات، وتبهر بها. وهنا أصمت مرة أخرى..

 

هنا نوع من التجلى للطبيعة البشرية.

تدرك فيه ما لم تدركه من قبل، وتكتسب خواصاً
روحية لم تكن تمارسها قبلاً، وتصبح في القيامة في وضع تستطيع به أن ترى ما لا يرى،
أو بعضاً منه، أو تتدرج في الرؤية، منتقلة من شبع روحى، إلى شبع أسمى وأسمى، في
حياة التجلى..

 

4 – والقيامة هي انتقال من عالم الباطل إلى عالم
الحق.

من عالم الفناء إلى عالم البقاء. من عالم كل ما
فيه يبطل بعد حين، إلى عالم باق إذ ليس فيه بطلان. عالم كل ما فيه حق وثابت. انتهت
منه الخطيئة، وأصبح كل ما فيه بر وفيه أيضاً ينتقل الإنسان من عشرة إلى عشرة، أنقى
وأبقى وأصفى..

 

 وماذا
عن القيامة أيضاً؟

26- القيامة معجزة متعددة الجوانب

1- إنها معجزة ممكنة:

هنا قدرة الله العجيبة! كيف يجمع الأجساد مرة
أخرى بعد أن تحولت إلى تراب؟! أليس هو الذي خلقها من قبل من تراب، بل من عدم،
فالتراب كان عدماً قبل أن يكون تراباً. والذى يتأمل القيامة من هذه الناحية، إنما
يتأمل القدرة غير المحدودة التي لإلهنا الخالق، الذي يكفى أن يريد، فيكون كل ما
يريد، حتى بدون أن يلفظ كلمة واحدة. إنها إرادته التي هي في جوهرها أمر فعال قادر
على كل شئ..

 

نسمى القيامة إذن معجزة، ليس لأنها صعبة، وإنما
لأن عقلنا يعجز عن أدراكها كيف تكون. وإن كان العقل يعجز عن الفهم، فالإيمان
يستطيع بسهولة أن يفهم..

 

لذلك فالقيامة هي عقيدة للمؤمنين.

 

الذى يؤمن بالله وقدرته، يستطيع أن يؤمن
بالقيامة. والذى يؤمن بالله كخالق، يؤمن به أيضاً مقيما للموتى. أما الملحدون، فلا
يصل أدراكهم إلى هذا المستوى. إنهم لا يؤمنون بالقيامة، منا لا يؤمنون بالروح،
وخلودها، كما لا يؤمنون بالله نفسه..

 

2 – القيامة معجزة ممكنة. وأيضاً هي معجزة لازمة،
لجل العدو ولأجل التوازن:

إنها لازمة من أجل العدل. من أجل محاسبة كل
إنسان على أفعاله التي عملها خلال حياته على الأرض، خيراً كانت أم شراً، فيثاب على
الخير، ويعاقب على الشر. ولو لم تكن قيامة، لتهالك الناس على الحياة الدنيا،
وعاشوا في ملاذها وفسادها، غير عابئين بما يشعرون أن العدل لابد أن يأخذ مجراه في
العالم الآخر.

 

وهذا الجزاء لابد أن يكون بعد القيامة واتحاد
الأرواح بالأجساد.

 

لأنه ليس من العدل أن تجازى الروح وحدها، ويترك
الجسد بلا جزاء على كل ما فعله في عصيان أو في طاعتها. إذن لابد أن يقوم الجسد،
وتتحد به الروح، ويقف الإثنان معاً أمام الله. لأن كل أعمالهم على الأرض كانت معاً
كشريكين ملتزمين..

 

والقيامة لازمة أيضاً من أجل التوزان.

ففى الأرض لم يكن هناك توزان بين البشر ففيها
الغنى والفقير، السعيد والتعيس، وامنعم والمعذب.. فإن لم تكن هناك مساواة على
الأرض، فمن اللائق أن يوجد توزان في السماء. ومن لم ينل حقه على الأرض، يمكنه أن
يناله بعد ذلك في السماء، ويعوضه الرب ما قد فاته في هذه الدنيا، إن كانت أعماله
مرضية للرب. وقصة الغنى ولعازر في الإنجيل المقدس (لو 16) تقدم لنا الدليل الأكيد
عن التوازن بين الحياة على الأرض والحياة في السماء.

 

3- القيامة أيضاً هي معجزة جميلة رائعة.

لأنها تقدم للعالم الآخر الحياة المثالية.
فالإنسان المثالى الذي تحدث عنه الفلاسفة، والذى بحث عنه ديوجين ولم يجده، والذى
فكر العلماء كيف يكون.. هذا الإنسان المثالى تقدمه لنا القيامة في العالم الآخر،
في عالم ليست فيه خطيئة على الإطلاق، وليس فيها حزن ولا بكاء، ولا فساد ولا ظلم،
ولا نقص ولا عيب.

إنها معجزة تقدمها القيامة، أو هي شهوة في حياة
البر تتحقق بالقيامة.

 

4 – ولذلك فالقيامة معجزة مفرحة.

مفرحة، لأن بها تكمل الحياة، وينتصر الإنسان على
الموت، ويحيا إلى الأبد. إن الحياة الأبدية هي حلم للبشرية التي يهددها الموت بين
لحظة وأخرى، والتى تحيا حياة قصيرة على الأرض، وعلى قصرها مملوءة بالمتاعب
والضيقات. لذلك يكون فرح عظيم للإنسان أن يتخلص من التعب ومن الموت، ويحيا سعيداً
في النعيم الأبدى.

إنه حلم يتحقق بالقيامة.. من هنا نصل إلى حقيقة
هامة وهى:

 

27- القيامة هي باب الأبدية

لولا القيامة لكان الموت حكماً بالفناء.

والفناء هو أمر مخيف. وهو نهاية مؤلمة تعتبر
أقسى مأساة. ولكن الله عندما خلق الإنسان، لم يخلقه للفناء، وإنما للحياة. وإن كان
الإنسان قد تعرض للموت بسبب خطيئته، فإن الله رسم له طريق الخلاص. وأقامه من هذا
الموت.

 

بل إن الله عندما خلق الإنسان، خلق له رفيقاً
خالداً هو الروح.

 

والروح لا تموت بموت الإنسان، بل تبقى حية
بطبيعتها. وبهذا يختلف الإنسان عن باقى المخلوقات الأخرى على الأرض، التي تنتهى
حياتها وتبيد. أما الإنسان فإنه بالقيامة يبدأ من جديد حياة أخرى لا تنتهى. وهنا
تبدو قيمة الإنسان وأفضليته على غيره من المخلوقات الأرضية.

 

ولأن الروح حدها، لا تكون إنساناً كاملاً، لذلك
لابد أن يقوم الجسد ويتحد بها.

وهكذا لا تكون الحياة الأبدية لجزء واحد من
الإنسان هو الروح، بل تكون للإنسان كله روحاً وجسداً. فيعود الإنسان كله إلى
الحياة.

وبهذا تكون القيامة يقظة للإنسان بعد نوم طويل.

ونقصد بها يقظة لهذا الجسد، أو للإنسان بمعناه
الكامل. أما الروح فهى في يقظة دائمة.

إن القيامة هي نهاية للموت. فلا موت بعدها.

 

إنها نهاية لهذا العدو المخيف. لقد انتصر
الإنسان على أعداء كثيرة للبشرية، ما عدا هذا العدو الذي غلب الجميع، لأنه كان
عقوبة من الله الذي لا رد لحكمه. ولكن الله بالقيامة نجا البشرية من هذا العدو،
وقضى عليه إلى الأبد.

 

وأصبحنا أمام جسر يفصل بين حياتين: على أوله
الموت، وفى نهايته القيامة. فالموت هو نهاية الحياة الأولى، والقيامة هي بداية
الحياة الأخرى. والمسافة بينهما هي فترة أنتظار، تنتظرها أرواح الذين سبقوا، حتى
يكمل على الأرض جهادهم واختبارهم.

 

على ان الأبدية التي تقدمها القيامة لابد تسبقها
الدينونة.

بين القيامة والأبدية يقف يوم الدينونة الرهيب،
حيث يقف الجميع أمام الله، ليقدموا

 

حساباً عن كل ما فعلوه بالجسد، خيراً كان أم
شراً. يقدمون حساباً عن كل عمل، وكل فكر، وكل إحساس وشعور، وكل نية نووها، وكل
كلمة لفظوها.

ويمضى الأبرار إلى النعيم الأبدى، ويمضى الأشرار
إلى العذاب الأبدى.

لذلك فكما أن القيامة فرح للأبرار، هي أيضا رعب
للملحدين وللأشرار.

وحتى بالنسبة إلى الأبرار يعيد الله ترتيب
مراكزهم، بحسب أعمالهم.

 

فيعطى كل إنسان مركزا جديداً بحسب ما كان له من
نقاوة القلب والفكر، وبحسب ما كان له من دقة وصايا الله، ومن جهاد في نشر الخير
ومحبة الإنسان، وأيضاً بحسب ما كان في قلبه من حب لله واشتياق إليه.

 

نسأل الله وسط ذكرى القيامة وأفراحها، أن يفرح
بنعمته قلب كل أحد. نصلى إليه أن يرفع عن العالم الحروب والغلاء والوباء وشتى
الخطايا والأمراض. وأن يمتع العالم بالهدوء، ويحقق فكرة مؤتمر السلام فتسعى كل
الدول لإنجاحه.

 

ونصلى من أجل أن يسود الرخاء ويحل الرب كل
مشاكلنا الإقتصادية. ونصلى من اجل وحدتنا الوطنية أن يحفظها الرب عميقة ونامية،
وأن تسود المحبة في القلوب، بنعمة إلهنا الصالح الذي له المجد الدائم، من الآن
وإلى الأبد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار