علم المسيح

الفصل الخامس



الفصل الخامس

الفصل
الخامس

قبول
الكنيسة الأولى للأناجيل

 

لم
تكتب الأناجيل بشكل يشمل كل المعلومات التي كانت معروفة آنذاك عن يسوع (يو20: 30).
وصار تأليفها في وقت كان فيه التقليد الشفهي غنياً جداً بالروايات المنقولة عن
الرسل والشهود العيان الآخرين. لذلك ظل التقليد الشفهي حتى منتصف القرن الثاني
محتفظاً بسلطة معادلة لسلطة الأناجيل وتعايش التقليد الشفهي والتقليد الكتابي في
الكنيسة.

 

وقد
اعتمد آباء الكنيسة هذين التقليدين فالقديس اغناطيوس الأنطاكي الذي عاش في أوائل
القرن الثاني ذكر معرفته بمواد موجودة في إنجيلين وثلاثة. بيد أنه من الصعب التأكد
في ما إذا كانت معرفته تنبع من الأناجيل أم من التقليد الشفهي الذي سمعه ممن عرفوا
تلاميذ الرسل ومن ذكريات بقيت بعد قراءته للأناجيل (1). وفي منتصف القرن الثاني
استشهد القديس يوستينوس بالإنجيل واعتمد كذلك على التقليد الشفهي. فكتب في حواره
مع تريفن (47: 5) على لسان يسوع: “سأحاكمكم على النحو الذي أجدكم فيه”.
هذا القول لا يرد في الأناجيل الأربعة ولذلك يغلب الظن على أنه استقي من تقليد
شفهي (2).

 

بالرغم
من أن كتاب (بتشديد التاء) القرن الثاني المسيحيين كانوا يعتبرون للتقليد الشفهي
سلطة معادلة لسلطة التقليد المكتوب، فإنهم أخذوا يظهرون ميلاً متزايداً إلى
الاعتماد على الروايات الإنجيلية المدونة. هذا الميل حصل نتيجة لانتشار المسيحية
في العالم الهليني ولقيام أدب هرطوقي ولبروز أولى المحاولات لوضع قانون العهد
الجديد. وسوف ندرس في هذا الفصل طريقة إقرار قانونية أسفار العهد الجديد.

 

الأناجيل
الأبوكريفية

لقد
وجد إلى جانب الأناجيل الأربعة عدد من الكتب الأخرى التي ألفت هي البرهة نفسها
بهدف نقل حياة يسوع وتعاليمه. جل هذه الكتب دوّن إما لملء ثغرات الكتب القانونية
بواسطة قصص غالباً ما سادها الطابع الخيالي ولنشر بعض التعاليم الغنوصية. والذي
يقرأ الأناجيل الأبوكريفية بعد قراءة الأناجيل القانونية يجد نفسه في عالم مختلف
جد، مليء بالمعجزات والأساطير، خال تقريباً من التفاصيل التاريخية (3).

 

تحاول
أناجيل الطفولة مثلاً مدّنا بمعلومات عن طفولة يسوع غير موجودة في الأناجيل
القانونية. هذه النصوص لا تعكس الجو الحقيقي لحياة يسوع ولا تصف يسوع كطفل حقيقي
كما كان (4). كذلك تتعارض صورته في هذه الأناجيل مع التي تعطينا إياها الأناجيل
الأربعة. فهو كطفل يجترح العجائب. وهنا يخطر لمن يؤمن بالعجائب الواردة في أناجيل
الطفولة السؤال: لِم لمْ يحول يسوع الحجارة إلى خبز ولماذا لم يقذف بنفسه من جناح
الهيكل؟ نجد في النصوص الأبوكريفية للعهد الجديد هذا النوع من العجائب التي طلب
الشيطان من يسوع اجتراحها. فيستجيب يسوع مظهراً قدرته الإلهية أمام كل الشعب،
ويفعل ذلك كلما تحداه أحد (5). لقد استعاضت أناجيل الطفولة عن التجسد التاريخي
الظاهر في الأناجيل القانونية بتجسد خرافي ذي طابع دوسيتي (6).

 

يوجد
في إنجيل توم، كما في عدد من الأناجيل الأبوكريفية الأخرى، تأثير المفاهيم
الغنوصية. ولقد أوجد الغنوصيين نظاماً معقداً جداً لوصف بنية العالم السماوي
المنفصل عن العالم المادي. ولم يبدوا أي اهتمام بيسوع التاريخي. وكانوا أول من فصل
“يسوع” عن “المسيح”، وبنوا كل تفسيرهم للكتاب المقدس على هذا
الفصل الصارم. واعتبروا أن المسيح الإلهي الذي هو فيض من الألوهة الأزلية قد حل
على يسوع الإنسان أثناء المعمودية وتركه قبل الآلام. ولا يوجد في إنجيل توما أي
إطار قصصي وتاريخي بل يتألف فقط من أقوال يسوع السرية. ويبتدئ الكتاب هكذا:
“هذه هي الأقوال السرية التي نطق بها يسوع الحي والتي دونها ديدموس يهوذا
توما. قال يسوع: من يجد تفسيراً لهذه الكلمات لن يذوق الموت” (7).

 

يتبع
هذه المقدمة بأكثر من مائة قول سري ليسوع. وإذا ما قارنا بعض الأقوال بالأقوال
المماثلة التي حفظتها الكنيسة وأدخلتها في أناجيلها القانونية نراها معكوسة
تماماً. فعل الغنوصيين هذا لينشروا تعاليمهم. يورد إنجيل متى على لسان يسوع قوله:
“متى صنعت صدقة فلا تهتف قدامك بالبوق كما يفعل المراؤون” (6: 2).
“ومتى صليتم فلا تكونوا كالمرائين” (6: 16). نفهم من ذلك أن يسوع كان
يتوقع من أتباعه أن يتصدقو ويصومو ويصلوا. لم يقل يسوع “إذا” فعلتم كذ
وكذا بل “متى” فعلتم. هذا يعني أنه لم يترك الأمر لاختيارنا بل جعله
أمراً مفروغاً منه. وعلى خلاف ذلك فإن الرسل في إنجيل توما يسألون يسوع عما إذا
كان يريدهم أن يصلو ويصومو ويتصدقو، فيجيبهم قائلاً: لا تتكلموا بالكذب ولا تفعلوا
ما تكرهونه” (القول الخامس). وفي القول الرابع عشر يتلكم بطريقة أكثر وضوحاً
ويذهب إلى رفض الصوم والصلاة والصدقة كلياً حين يقول: “إذا صمتم فستخطئون إلى
أنفسكم وإذا صليتم تدانون وإذا تصدقتم تؤذون أنفسكم”. وعندما طلب إليه أتباعه
أن يصوم ويصلي أجابهم: “أية خطيئة ارتكبت وأي اثم سيطر علي” (القول
101). وهذا يوضح تماماً أن هذا الإنجيل لا يشهد للمسيح بل للغنوصيين وتعاليمهم.

 

هنالك
أناجيل أبوكريفية أخرى يصعب تحديد هويتها لأننا لا نملك نصوصها الكاملة بل أجزاء
منها. ولأن هذه الأجزاء تماثل كثيراُ بعض المواد الموجودة في الأناجيل السينابتية،
يرحج أن يكون مؤلفو هذه الأناجيل قد اعتمدوا على الأناجيل القانونية أكثر من
اعتمادهم على التقليد الذي يسندها. يبدو إنجيل بطرس، الذي كتب في منتصف القرن
الثاني، أنه معتمد على الأناجيل القانونية. لكن الأحداث التي يرويها لا تتوافق مع
المحتوى التاريخي للأناجيل السينابتية. وتتعدى حدود فلسطين القرن الأول ويمكن أن
تكون قد حصلت في أي مكان آخر. وفي حين أن الأحداث في الأناجيل القانونية ترتبط
بمكان وزمان معينين، نجدها لا ترتبط ارتباطاً كلياً في إنجيل بطرس. مع ذلك يبقى أن
الفرق الأساسي بين هذا الإنجيل وأناجيل الكنيسة يكمن في لهجته الدفاعية، فيستعيض
عن الشهادة للمسيح التي هي الميزة الرئيسية للأناجيل القانونية “ببرهان مباشر
للحقيقة” (8). وبينما لا يوجد في كتاب الكنيسة وصف حي للقيامة نجد في إنجيل
بطرس الوصف المفصل التالي: {في الليلة التي بزغ فيها يوم الرب وفيما كان الحراس
يتناوبون الحراسة اثنين اثنين سمع صوت عظيم فرأوا السموات مفتوحة ورجلين يهبطان
منها بنور عظيم ويقتربان من القبر. أما الحجر الذي كان على بابا القبر فأخذ
يتدحرجا جانباً حتى أصبح القبر مفتوحاً ودخله الرجلان… ورأيا أيضاً ثلاثة رجال
خارجين من القبر، وكان اثنان منهم يسندان الثالث ويتبعهم صليب. وكان رأسا الرجلين
يناطحان السماء بينما رأس الثالث الذي يقوده الاثنان يتجاوز السماء. وإذا بهما يسمعان
صوتاً من السموات صارخاً: “هل بشرت النيام؟ “، فأتى الجواب من الصليب:
“نعم”}(9). لا بد وأن يكون استخدام وضع كهذا لأغراض دفاعية ولإشباع فضول
الناس.

 

تختلف
الأناجيل الأبوكريفية كثيراً عن الأناجيل القانونية من حيث الشكل الأدبي، فلا
يحتوي إنجيل توما الذي نملك نصه الكامل على فرادة الشكل الأدبي الذي للأناجيل
القانونية. فالأناجيل الغنوصية أعادت إحياء الأشكال الأدبية القديمة التي كانت
مستعملة قبل بزوغ المسيحية.

 

لقد
اكتسبت الأناجيل القانونية بنيها من الكرازة الرسولية التي تجاهلها الغنوصيون
الذين وضعوا مؤلفاتهم لنقل آرائهم وخلق صورة ليسوع تخدم مآربهم. ولقد رفضت الكنيسة
الكتب الأبوكريفية لأنها روايات أسطورية لا أسس تاريخية لها عن حياة يسوع وأعماله
(10).

 

الكنيسة
ومركيون

لقد
أثارت محاولة مركيون (سنة150م) لوضع لائحة من قِبله بكتب العهد الجديد المقبولة
تحدياً جدياً للكنيسة. وحتى ذاك الحين لا يوجد أي برهان قاطع على أن الكنيسة كانت
قد وضعت قانوناً للكتاب المقدس، بل كانت تقبل الأسفار المطابقة لإيمانها.

 

أما
مركيون فحذف من قانونه أسفار العهد القديم كله وأبقى من العهد الجديد على إنجيل
لوقا باستثناء فصليه الأولين، وعلى عشر من رسائل بولس الرسول. مما لا ريب فيه أن
مركيون قام بعمله هذا تحت تأثير غنوصي، فبدون فصص الطفولة يبدو يسوع في إنجيل لوقا
وكأنه منحدر مباشرة من السماء، وبدون العهد القديم ليس كمحقق لوعود الله في
التاريخ بل كفيض من العلى. توصل ترتليانس إلى القول بأن مركيون “يجزئ الكتاب
المقدس إلى أجزاء حتى تتوافق مع أفكاره الخاصة” (11).

 

إن
تحدي مركيون أجبر الكنيسة، وفقاً لرأي بعض البحاثة، على وضع لائحة بالكتب المقدسة
المقبولة لديها والتي يمكن اعتبارها مرجعاً لحياتها وتعاليمها. والسؤال الذي يطرح
نفسه الآن هو: هل كان وضع قانون العهد الجديد لولا الضغط الخارجي؟ سؤال مثيل يمكن
أيضاً طرحه حول عقيدة الثالوث التي جاءت كرد على الأريوسيين. من المؤكد أنه لم يكن
هناك دور للتأثير الخارجي في تحديد قانونية سفر من الأسفار. والتزمت الكنيسة
بكتبها التي كانت قد قبلتها دائماً. وبعملها هذا حددت الكنيسة الأساس الذي بموجبه
تحدد قانونية أسفار الكتاب المقدس. وكما أجابت الكنيسة عن السؤال حول هوية يسوع،
كذلك عبرت عن إيمانها في عقيدة الثالوث. وأنها لم تبتدع إيماناً جديداً بل أعطت
صيغة وتعبيراً ذاتياً عما كانت تعتقد به نتيجة الإعلان الإلهي.

 

فقبل
أن يأتي مركيون بقانونه الجديد، كانت الكنيسة تعتمد على أناجيلها. لكنها احتاجت
بعد ذلك إلى أكثر من مائتي سنة كي تمهرها بخاتم الاعتراف القانوني النهائي. ولم
تختر الكنيسة كتبها على نحو اعتباطي، بل اعتمدت بعض المقاييس لتحديد قانونية تلك
الأسفار. منها أن يكون السفر مكتوباً من قبل الرسل أنفسهم ومن قبل تلاميذهم، وأن
تكون تعاليمه من أصل رسولي واستخدمت في العبادة الجماعية. وبينما كانت المطابقة
لمقياس واحد تعتبر غير كافية لإدراج أي كتاب في قانون العهد الجديد، لم تكن
المطابقة لكل المقاييس هي الشرط للإدراج. فلم يكن سفر الرؤيا من الأسفار التي تقرأ
في الخدم الإلهية –كما هي الحال اليوم أيضاً- بالرغم من كونه من أصل وتأليف
رسوليين. وعندما برزت في الغرب بعض التساؤلات حول قانونية الرسالة إلى العبرانيين
انبرى القديس ايرونيموس للدفاع عن قانونيتها استناداً إلى استخدامها في العبادة.
ومادام السفر من إنتاج الكنيسة ويتلى فيها فليس من الضروري معرفة مؤلفه (12).
والغرب، مع أخذه حجج القديس ايرونيموس في الدفاع عن الرسالة إلى العبرانيين بعين
الاعتبار، كان يعطي للسلطة الرسولية الأهمية القصوى في كتاب متنازع على قانونيته،
على عكس الشرق الذي كان يميل دائماً إلى التشديد على محتوى الكتاب أكثر منه على
مؤلفه.

 

إن
السلطة الرسولية المنوطة بالأناجيل سبقت قانونيته، إذ أن الكنيسة لم تعط الأناجيل
سلطة بل اعترفت فقط بسلطتها الذاتية. عوامل عدة ساهمت في تكوين العهد الجديد، ولكن
العامل الأكثر أهمية هو إلهام الروح القدس. والروح الذي ألهم الإنجيليين في كتابة
أناجيلهم هو نفسه الذي ألهم الكنيسة في قبول هذه الأسفار. لم يستطع مركيون، وهو
يعارض تقليد الكنيسة، أن يميز بين الأسفار الملهمة والأسفار غير الملهمة. والملهم
(
theopneustos) هو “الموصى به من الله” (2تيمو3: 16) الذي لا يرتكز
على إدراك بشري بل على عمل الله. فسلطة الأناجيل وأي جزء من العهد الجديد، ليست في
الكتب نفسه، ولا ترتكز على سلطة الكنيسة التي فيها وجدت، بل تأتي من المسيح الذي
تشهد له الأناجيل الملهمة من الروح وتعلنه في حياة الكنيسة.

 

لم
تقبل الكنيسة قانون مركيون ليس فقط لأنه ناقص بل لأن جامعه هو غنوصي سعى إلى تحوير
النص لكي يعكس الصورة التي يرغبها هو عن يسوع. واعتمدت الكنيسة في حربها ضد مركيون
الأناجيل الأربعة كي تظل صورة يسوع غير مشوهة.

 

“الإنجيل
الرباعي” (
Diatessaron) وال (Euaggelion
tetramorphon
)

في
النصف الثاني من القرن الثاني برز السؤال: لماذا توجد أربع روايات عن حياة يسوع
وتعاليمه؟ ولماذا كل هذا الصراع القائم حول الفروقات والمصاعب فيما بينها؟ فلماذا
لا توجد رواية واحدة متجانسة تعتمد الروايات الأربع؟ هذا السؤال طرح نفسه على
تاتيانوس المناضل المسيحي الذي ولد في منطقة ما بين النهرين وعاش في روما زمناً
طويلاً. فوضع كتاب “من خلال الأربعة” و”الإنجيل الرباعي”
حوالي سنة 170م. استخدمت بعض الكنائس الشرقية هذا الكتاب وبقي مستخدماً في الكنيسة
السريانية حتى القرن الخامس حين استبدل أسقف رخا رأبوله الأناجيل “المدمجة”
بالأناجيل “المنفصلة” الأربعة. يشكل وجود هذا الكتاب دليلاً قاطعاً على
أن كنيسة القرن الثاني كانت قابلة للأناجيل الأربعة. أما النجاح الذي حظي به
“الإنجيل الرباعي” في الكنائس الشرقية فيعزى إلى كونه عرضاً للرواية
الإنجيلية خال من التناقضات التي غالباً ما تظهر عند مقارنة الأناجيل الأربعة.

 

فقد
النص الأصلي لكتاب تاتيانوس. لذلك لا نعلم حتى الآن ما إذا كان قد وضعه أصلاً
بالسريانية أم باليونانية. واستناداً إلى ترجمات متأخرة نعلم أنه بدأ إنجيله
وأنهاه بآيات من إنجيل يوحنا. وهذا لا يعني أنه اتبع تصميم الإنجيل الرابع بل
يعتقد أنه فضل ترتيب الأحداث حسب الأناجيل السينابتية مستثنياً قصة الآلام حيث
أوردها كما في الإنجيل الرابع (13). وقد أثبت البحث الإنجيلي الحديث صحة هذا
الرأي.

 

هل
أظهر تاتيانوس ميولاً غنوصية في مؤلفه؟ يشهد القديس ايريناوس بأن تاتيانوس كان
تلميذاً ليوستينوس الشهيد وأنه ترك روما بعد استشهاد معلمه. ولعله وقع بعد ذلك تحت
تأثير بعض الأوساط الغنوصية. فهل وضع كتاب “الإنجيل الرباعي” قبل وبعد
قبوله لأراء فئة الأنكراتيين (الممسكين) الغنوصية التي كانت تنكر للزواج قدسيته
وتحرم استعمال الخمر في سر الشكر؟ ينزع بعض العلماء اليوم، إلى القول بأن كتاب
تاتيانوس، بصرف النظر عن تاريخ كتابته، خال من الميول الغنوصية، لكن المراجع
القديمة تخالف هذا الرأي. فثيودوريتوس أسقف قورش (393-466)، الذي عرف نصاً
يونانياً لكتاب تاتيانوس، يشير إلى أن هذا قد حذف سلسلة الأنساب الدالة على أن
يسوع هو من سلالة داوود حسب الجسد نحت تأثير التعليم الغنوصي.

 

وسواء
كان “الإنجيل الرباعي” ذا ميول غنوصية أم لا. فلا يمكن اعتباره عملاً
إلهياً – إنسانياً كالأناجيل بل وثيقة من صنع بشري. ناهيك عن فقدان التنوع الموجود
في الأناجيل الملهمة والإخفاق في إظهار كل غنى المواد الإنجيلية، وذلك نتيجة عملية
التنسيق التي أجريت والتي تفرض حدوداً لا يمكن أن يتعداها المرء في اختيار النصوص.
إن كل إنجيل، بالرغم من توافقه في الأساس مع الأناجيل الأخرى، يعطي تفاصيل خاصة
به. وفي قراءة الأناجيل الأربعة تظهر صورة المسيح أوضح. فلا يغني كتاب
“الإنجيل الرباعي” عن الأناجيل الأربعة لأنه لا ينقل كل ما تنقل. وانتهت
الكنيسة إلى رفض كتاب تاتيانوس واعتباره عملاً إنساني وفضلت البقاء على تعددية
الأناجيل الأربعة.

 

كتب
القديس ايريناوس في أواخر القرن الثاني أن الأناجيل هي “ركيزة الإيمان
وعموده” التي بشر بها الذي “ألبسوا قوة من العلا عندما حل الروح القدس
عليهم وملئوا بالمعرفة الكاملة”.

 

لقد
نقل متى ومرقس ولوق ويوحنا الإيمان “بإله واحد صانع السماء والأرض الذي تكلم
عنه الناموس والأنبياء، وبمسيح هو ابن الله الوحيد” (14). وهكذا لم يفصل
ايريناوس بين الأناجيل واعتبر أن الهراطقة بشروا بآرائهم الخاصة فافسدوا بذلك
“قانون الإيمان”.

 

لم
يكن لديهم بشارة خلاصية فعارضوا التقليد واعتبروا ذواتهم أكثر حكمة من شيوخ
الكنيسة ومن الرسل أنفسهم. وتابع ايريناوس القول بأنه حتى لو لم تكتب الأناجيل لكنا
ملزمين ب “قانون التقليد” الذي “سلمه الرسل للذين جعلوهم مسؤولين
عن الكنيسة” (15).

 

يشدد
القديس ايريناوس على وجود أربعة أناجيل “دون زيادة ونقصان” (16). يقول:
هنالك، في الواقع، إنجيل واحد “بأربعة وجوه من حيث الشكل يجمعها روح
واحد”، أما الذين يغيرون نمط الإنجيل ويقدمون أكثر وأقل من أربعة أشكال له (
Euaggelion Tetramorphon)، فهم أناس متهورون يقطعون أنفسهم عن الأناجيل والكنيسة وعن
“شركة الأخوة”. وقال ايرنياوس عن الغنوصيين أنهم “أتوا بتآليفهم
الخاصة متباهين بامتلاكهم أناجيل تفوق العدد الموجود” (17). وأكد على أن هذه
الأناجيل لا تمت بصلة إلى أناجيل الكنيسة التي تتضمن وحدها إلهام الروح القدس.
وكما أشرنا سابقاً حوّر الغنوصيون النص الكتابي حسب ميولهم الخاصة لأنهم تجاهلوا
الكرازة الإنجيلية التي هي بمثابة “المسودة الأصلية” لكل تعليم إنجيلي.

 

لقد
دافع ايريناوس عن تقليد الكنيسة ضد هجمات مؤلفي الأدب الأبوكريفي وكذلك ضد مركيون
وتاتيانوس اللذين لم يثقا كلياً بالأناجيل وأرادا الإنقاص من موادها للوصول بها
إلى المستوى المقبول منهما. فيتضح إذن أن الكنيسة قد ألتزمت بكتبها ودافعت عنها
معتبرة إياها معبرة عن إيمانه وحياتها. كذلك رفضت بحزم إنقاصه وحافظت عليها كاملة.
فالأناجيل كتبت لإعلامنا عن طبيعة المسيح الإنسانية وطبيعته الإلهية. وهي تستمد
سلطتها من المسيح نفسه الذي وجدت لتشهد له.

 

حرصت
الأناجيل كل الحرص على تحديد زمان ومكان وقوع الأحداث التي وصفتها. وأظهرت كيف
أصبح الله إنساناً ودخل التاريخ وعاش بيننا ومات كإنسان، وذلك خلافاً للغنوصيين
الذين خلطوا بين الإلهي والإنساني ورفضوا الإقرار بإمكان إتحادهما.

—————

حواشي
الفصل الخامس

(1)
للحصول على بحث مفصل لهذه الاحتمالات راجع:

 

Robert M. Grant:
Formation of the New Testament
،
New-York، Harper and Row، 1965،pp.100-102.

 

(2)
لقد جمع جيرمياس أقوال يسوع الموجودة خارج الأناجيل القانونية وحللها في كتابه:

 

J. Jeremias: Unknown
Saying of Jesus
، London، S.P.C.K. Press، 1957.

 

وقد
زودنا أيضاً بمجموعة من 11 قول في مقاله:

 

Isolated Saying of Jesus” in E. Hennecke، pp. 85-90.

 

هناك
قول آخر لا نجده في الأناجيل القانونية، ولكنه منسوب إلى يسوع من قبل يوستينوس وهو
“ستقوم فتن ونزاعات” (حوار 35: 3). هذا القول مدون أيضاً في النص
السرياني ل “تعليم الرسل الاثني عشر” (6، 5) وعظات اكليمندوس (2، 17
و16، 21)، وفي إنجيل توما القبطي،(القول 16). هذه المصادر مستقلة عن بعضها
البعض.(راجع:
E.Hennecke،p.85). لعل يسوع أراد أن يشير إلى الخلافات التي ترافق عمل الأنبياء
الكذبة (متى 24 ومرقس 13).

 

(3)
“إذا كانت هذه المصادر بمعنى ما غير صالحة كمصدر فهي صالحة بمعنى آخر. فهي
تسجل تصورات كتابه وآمالهم ومخاوفهم، وتعرض ما كان مقبولاً لدى البسطاء من مسيحيي
القرون الأولى مشيرة إلى مراكز اهتمامهم وإعجابهم وإلى المثل العليا التي كانوا
يتبعونها في سلوكهم في هذا العالم، وآرائهم بما سيجدون في العالم الآخر”
راجع:

 

Montague Rhodes James:
The Apocryphal New Testament
،
Oxford، Clarendon press، 1926،
p. XIII.

 

وقال
أيضاً القديس ايرونيموس، هذا الناقد القوي لكتب العهد الجديد الأبوكريفية، أنه
بالإمكان وجود “ذهب” في وسط “وحل” الأناجيل الأبوكريفية. إن
المعنى الأصلي لكلمة “
Apocryphos” هو “المختبئ” وقد ربط القديس ايرونيموس هذه
الكلمة “بالملفق” وترتليانوس “بالزائف”.

 

(4)
راجع:

 

Edgar Hennecke and
Wilhelm Schneemelcher
،
New Testament Apocrypha I، pp. 81-84.

 

نجد
في كتاب “طفولة الرب يسوع” المعروف أيضاً باسم “قصة الطفولة
لتوما” رواية عن يسوع حين كان في الخامسة يلعب قرب غدير. “فجبل طيناً
ناعماً وصنع منه اثني عشر عصفوراً. وفعل ذلك في يوم السبت”. فشكاه أحد اليهود
إلى يوسف لأنه يدنس السبت. وبعد تأنيب يوسف له، صفق يسوع بيديه وصرخ قائلاً
للعصافير: “طيري!” فابتعدت العصافير وهي تزقزق. هناك قصة أخرى عن يسوع في
هذا الإنجيل، وهي أن أحد الأولاد كان يلعب ذات مرة مع يسوع، فسقط من الطابق الأعلى
للبيت ومات. فاتهم أهل الولد يسوع أنه هو الذي دفعه إلى أسفل. دافع يسوع عن نفسه
ولكن أهل الولد أصروا على اتهامه. آنذاك رمى يسوع بنفسه أسفل واقترب من الصبي
الميت منادياً إياه باسمه وقائلاً: “انهض وأخبرني، هل رميت بك إلى الأسفل؟
” فعاد الولد إلى الحياة وقال: “كلا يا سيد، انك لم ترم بي إلى أسفل بل
أنهضتني”. لقراءة قصص وعجائب كهذه راجع:

 

The Account of Thomas
the Israelite Philosopher concerning The Childhood of the Lord
، in Hennecke and
Schnemelcher
، pp.392-399.

 

تجدر
هنا الإشارة أن هذا الإنجيل الخاص بطفولة يسوع لا يمت بصلة إلى إنجيل توما
الغنوصي.

 

يفتقر
يسوع في هذه الأناجيل إلى الطبيعة الإنسانية فيخبر يوحنا الرسول أخوته، في
“أعمال يوحنا” الأبوكريفية (93) أنه عندما كان يحاول لمس يسوع كان يحس
أنه يمسك أحياناً جسماً مادي، وأحياناً أخرى جسداً غير هيولي كما لو أنه غير
موجود. “وعندما كنت أسير معه، كثيراً ما رغبت في رؤية اثر رجليه على الأرض
فلم أجد هذا الأثر. ولكن رأيته كما لو أنه كان يرفع جسده عن الأرض”. راجع:

 

M.R. James: pp. 252-253.

 

(5)
انظر مقالتي:

 

Chris’s Temptation in the Apocryphal Gospels
and Acts” in St.
Vladimir‘s Theological Quarterly 5: 4، 1961m pp. 3-9.

 

(6)
التجسد الدوسيتي ليس تجسداً على الإطلاق، إذ أن الله في رأيهم، لم يتأنس أبد، بل
تراءى وكأنه فعل، ولكن لم يحدث أي شيء من هذا في الحقيقة التاريخية، وهذا هو معنى
كلمة “دوسيتي”. فتشبه القصص الأبوكريفية من حيث نوعيتها روايات الإله
كريشنا في الهندوسية، الذي هو منحدر (
avatar) من الإله الأسمى فيشنو. فمفهوم ال (avatar)
هذا يدل على ظهور إله ذي طبيعة دوسيتية. “فيشير إلى ما قد يكون التجسد لو
ابتع المنطق ولو كان بالإمكان تصور الجواب الإلهي لتطلعات الإنسان الروحية. أما
صورة المسيح المصلوب المميزة فتكشف عن ماهية التجسد عندما يشاء الله أن
يحققه”. راجع:

 

Jacques-Albert Cuttat:
The Encounter of Religions
،
New York، Desclee Co1960،
p.58.

 

إن
الأناجيل وأعمال الرسل الأبوكريفية، التي هي من إنتاج المخيلة الإنسانية
والأساطير، تعطي لنا أمثالاً عديدة عن طبيعة “التجسد” الدوسيتي.

 

(7)
هناك ترجمة انكليزية لإنجيل توما مع شرح وتعليق في:

 

Robert M. Grant and
David Noel Freedman: The Secret Saying of Jesus. The Gnostic Gospel of Thomas
، New-York، Doubleday، 1960،
pp. 115-191.

 

(8)
راجع:

 

E. Hennecke and Schneemelcher، op. citp. 81.

 

(9)
راجع المرجع نفسه ص 185-186

 

(10)
تستخدم كلمة “
mythos” في العهد الجديد للدلالة على الانفصام التام عن الحقيقة التي
أعلن عنها تاريخن وعلى الأخص في التجسد (1تيمو 1: 4، 4: 7، 2تيمو 4: 4، تيط 1: 14
و2بطرس 1: 16). راجع:

 

C.F.D. Moule: The Birth
of the New Testament
،
London، Adam and Charles
Black
، 1962، p. 143.

 

(11)
راجع:
De praescr. 38..

 

(12)
لم يواجه سفر الرؤيا في الغرب صعوبة في الدخول في لائحة الكتب القانونية. كذلك
قبلت الرسالة إلى العبرانيين، في الشرق، بسهولة على الرغم من النقاش الحاد حول
هوية مؤلفها. وما كتبه أوريجنس في القرن الثالث حول هذه المسألة لا يزال صحيحاً.
فقد شك أن يكون القديس بولس هو كاتب هذه الرسالة، ولكنه اعترف بأن لاهوتها هو
لاهوت الرسول بولس، مع أن “التعابير وأسلوب الكتابة هما لشخص تذكر أحاديث
الرسول وأعاد سبك كلمات معلمه” بطريقته الخاصة. فيكون إذن كاتب الرسالة هو
أحد تلاميذ بولس، “ولكن الله يعلم من” كما يقول أوريجنس. يوجد تعليق أوريجنس
على قانون العهد الجديد في “تاريخ الكنيسة” لأفسابيوس.

 

(13)
لمناقشة كل ما نعرفه عن
Diatesseron راجع:

 

Robert M. Grant: The
Earliest Lives of Jesus
،
New York، Harper and Row، 1961،
pp. 23-26.

 

(14)
راجع: ضد الهرطقات: 2، 2

 

(15)
راجع: ضد الهرطقات: 3، 4

 

(16)
راجع: ضد الهرطقات: 3، 8

 

(17)
راجع: ضد الهرطقات

 

يبحث
جورج فلورفسكي في مقاله:

 

The Function of Tradition in the Ancient
Church”
، Greek Orthodox Theological Review، 9: 2،
1963،
pp. 184-185.

 

في
تشبيهين يستعملهما القديس ايريناوس (ضد الهرطقات 1، 8: 1 و9: 4) يظهر “سوء
الاستعمال الغنوصي للكتاب المقدس”. إن التشبيه الأول ذو صلة وثيقة ببحثن، إذ
أنه يتعلق بصورة ملك مصنوعة من حجارة كريمة كسرها أحد الأشخاص وأعاد ترتيب
المجوهرات بشكل مختلف تماماً جاعلاً منها صورة حيوان. هذه هي الطريقة التي عالج
بها الغنوصيون الكتاب المقدس.

 

فتبدو
عندهم الكلمات والتعابير صحيحة ولكن التصميم والصورة المعطاة هما جديدان
واعتباطيان (ضد الهرطقات1، 8: 1). ويعلق فلورفسكي على هذا قائلاً: “إن ما
حاول القديس ايريناوس إثباته هو أن الكتاب المقدس له تصميم خاص وبينة داخلية
مميزة. أما الهراطقة فقد تجاهلوا هذا التصميم لا بل أحلوا تصميمهم الخاص محله.
بكلام آخر إنهم أعادوا ترتيب الشواهد الكتابية وفق نموذج غريب كل الغرابة عن
الكتاب المقدس نفسه” (185).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار