اللاهوت المقارن

الفصل الخامس



الفصل الخامس

الفصل الخامس

الخلاص هو قصة العمر كله

48- الخلاص بالإيمان والتوبة والمعمودية

1 أنت يا أخى، كنت في صلب آدم، حينما أخطأ،
وحينما عوقب، وحينما دخل الموت إليه. فورثت عنه كل هذا، وتلقيت معه حكم الموت،
كجزء منه ودخلت الخطيئة إلى طبيعتك، وفقدت صورتك الإلهية.

 

وأصبحت في حاجة إلى الخلاص من هذه الخطية
الأصلية الجدية، ومن كل نتاجها وعقوباتها.

 

هذه التي قال عنها الرسول: (بإنسان واحد، دخلت
الخطية إلى العالم وبالخطية الموت. وهكذا إجتاز الموت إلى جميع الناس، إذ أخطأ
الجميع) (رو 5: 12) فكيف إذن نلت الخلاص من هذه الخطية؟

 

2 تبدأ قصة الخلاص في حياة كل إنسان بالإيمان
والتوبة والمعمودية.

 

وذلك حسب قول السيد المسيح: (من آمن واعتمد خلص)
(مر 16: 16) وحسب قول القديس بطرس الرسول لليهود في يوم الخمسين: (توبوا وليعتمد
كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا..) (أع 2: 38)

 

وهذه الخطايا تشمل الخطية الأصلية، وجميع
الخطايا الفعلية التي ارتكبها الإنسان قبل المعمودية.

 

3 في المعمودية ننال خلاصاً وغفراناً، وغسلاً
لخطايانا، وتجديداً.

 

فيها ندفن مع المسيح (كو 2: 12) نموت معه، لنقوم
معه، ونحن في جدة الحياة (رو 6: 4) (عالمين أن إنساننا العتيق قد صلب معه، ليبطل
جسد الخطية، حتى لا نعود نستعبد أيضاً للخطية) (رو 6: 6).

 

لقد صرنا في المعمودية أولاداً لله، وصرنا أعضاء
في جسد المسيح. بل أكثر من هذا يقول الرسول: (لأنكم جميعكم الذين اعتمدتم للمسيح،
قد لبستم المسيح)

 

(غل 3: 27) لقد متنا مع المسيح وقمنا. مات
إنساننا العتيق المحكوم عليه بالموت، وقام إنسان جديد على صورة الله..

 

4 ولكننا مازلنا نخطئ بعد المعمودية. المعمودية
منحتنا تجديداً في طبيعتنا، ولكنها لم تمنحنا عصمة.. لقد صار المعتمد إنساناً
جديداً، ولكنه إنسان حر، وبالحرية يمكن أن يخطئ.

 

نحن لا ننكر أننا نخطئ بعد المعمودية، ونخطئ كل
يوم (وإن قلنا إنه ليس لنا خطية، نضل أنفسنا وليس الحق فينا) (1يو 1: 8)

 

نعمة التجديد التي نلناها في المعمودية، لم
تسلبنا نعمة الحرية التي لنا كصورة الله، هذه الحرية الى ترفع من قدر إنسانيتنا..
الطبيعة ألتى أخذناها من المعمودية، طبيعة نقية، ومع ذلك هى طبيعة قابلة للخطية.
فهكذا كانت أيضا طبيعة آدم قبل السقوط..

 

5 إننا لم ننل العصمة.لم ننل بعد إكليل البر،
الذي يهبه لنا في ذلك اليوم الرب الديان العادل (2تى 4: 8).

 

حقاً إننا نخطئ بعد المعمودية. ولكن لا شك أن
هناك فرقاً بين من يخطئ قبل العماد وحياته في الشر، وبين من يخطئ بعد عماده،
ويبكيت من الروح القدس ومن ضميره. وتكون الخطية بالنسبة إليه شيئاً عارضاً، ترفضه
روحه ويمكنه الإنتصار عليه..

 

6 كذلك نحن في سر الميرون، سر المسحة المقدسة
(1يو 2: 20، 27)، يسكن فينا الروح القدس، نصير هياكل للروح القدس، وروح الله يسكن
فينا (1كو 3: 16)

 

ولكن الروح القدس الذي فينا، لا يرغمنا على
الخير.

 

ولا يمنعنا من إرتكاب الخطية إجباراً بالقوة.
إنما يرشدنا ويقوينا، ويبكتنا على خطية. ونبقى كما نحن أحراراً، يمكن أن نسقط في
الخطية، إذا انحرفت إرادتنا الحرة.

 

وواضح أننا نخطئ بعد المعمودية، وبعد سكنى الروح
القدس فينا. وهنا لابد أن يعترضنا سؤال وهو:

 

7 هذه الخطايا التي نقع فيها بعد المعمودية: أليست
لها عقوبة؟ ألا تحتاج أيضاً إلى خلاص؟!

 

الكتاب صريح في هذا الأمر. إنه يقول: (أجرة
الخطية هى موت) (رو 6: 23) كل خطية، بلا استثناء (لأنه لابد أننا جميعاً نظهر أمام
كرسى المسيح، لينال كل واحد ما كان بالجسد بحسب ما صنع خيراً كان أم شراً) (2كو 5:
10) وقد قال السيد نفسه: (ها أنا آتى سريعاً وأجرتى معى، لأجازى كل واحد كما يكون
عمله) (رؤ 22: 12) ومادامت هناك عقوبة على كل خطية فعلية نرتكبها، إذن لابد من
احتياج مستمر للخلاص. وكيف ذلك؟ نتدرج إلى:

 

49- الخلاص بالتوبة والتناول

8 لعلك تقول: كل خطاياى قد حملها المسيح المسيح
على الصليب

هنا وأقول لك: أية خطايا قد حملها المسيح عنك؟

بكل صراحة، يجب أن تعلم أن المسيح لا يحمل عنك
إلا الخطايا التي تتوب عنها. لأنه هو نفسه يقول (إن تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون)
(لو 13: 3، 5) والكتاب يقول في ذلك أيضاً (أم تستهين بغنى لفه وامهاله وطول اناته،
غير عالم أن لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة. ولكنك من أجل قساوتك وقلبك غير
التائب تدخر لنفسك في يوم الغضب واستعلان دينونة الله العادلة، الذي سيجازى كل
واحد حسب أعماله) (رو 2: 4-6)

 

9 إذن هناك خلاص تناله أيضاً في التوبة..

والتوبة ليست عملاً يتم في لحظة، إنما هى تستمر
معك طول حياتك، عن كل خطية ترتكبها في رحلة العمر الطويلة. وليست التوبة فقط،
وإنما..

 

10 هناك خلاص تناله في التناول من جسد الرب ودمه:

 

إننا نقول في القداس الإلهى عن التناول: (يعطى
عنا خلاصاً وغفراناً للخطايا وحياة أبدية لمن يتناول منه).

 

ولعل هذا مأخوذ من وعود السيد المسيح التي قال
فيها: من يأكل جسدى ويشرب دمى، فله حياة أبدية.. من يأكل جسدى ويشرب دمى، يثبت في
وأنا فيه) (يو 6: 54، 56)

 

إذن هناك خلاص نناله في المعمودية، وخلاص نناله
في التوبة والتناول وما في التوبة من اعتراف بالخطايا.

 

لا نستطيع ان نقول إننا خلصنا حقاً، مادمنا نخطئ،
ومادامت عقوبة الخطية تترصدنا، ومادمنا نحتاج كل يوم إلى توبة.. إنما نحن ننال
خلاصاً في كل يوم بالتوبة، وتمحى خطايانا بالدم، ونخطئ مرة أخرى.

 

11 إننا نحيا على الأرض فترة اختبار. والإنسان
لا يختبر في لحظة، أو في فترة معينة من حياته. إنما حياته كلها حتى يوم وفاته هى
فترة اختبار.

 

إن لحظات مقدسة في حياة الإنسان، لا يمكن أن
تعبر عن حياته كلها، مهما كانت لحظات توبة، أو عمق الصلة مع الله في صلاة وتأمل
وخدمة للآخرين..! فحياة الإنسان فيها الكثير من التغير ومن التقلب..

 

القديس بطرس الرسول كان في لحظة ما في منتهى
الحماس والتمسك بالرب حتى الموت، يقول له: (إن شك الجميع، فأنا لا أشك.. ولو
اضطررت أن أموت معك، لا أنكرك) (مر 14: 29، 31).. وبعدها بساعات، سب ولعن، وقال لا
أعرف الرجل، منكراً المسيح ثلاث مرات (مت 26: 74، 75)

 

إن كان رسول عظيم كهذا، تعرض إلى حرب روحية
شديدة وسقط، فماذا تقول عن نفسك يا من تظن أنك خلصت؟!

 

50- إنك في حرب!

12 إنها حرب قائمة دائمة، تستمر معك طول الحياة..

ومادامت في حرب، كيف تعلن نتيجتها قبل
انتهائها؟!

هذه الحرب يتحدث عنها القديس بولس الرسول فيقول:
(إن مصارعتنا ليست مع لحم ودم بل مع.. أجناد الشر الروحية) (أف 6: 12) وقال لنا عن
هذه الحرب: (من أجل ذلك، إلبسوا سلاح الله الكامل، لكى تقدروا أن تقاوموا في اليوم
الشرير، وبعد أن تتموا كل شئ أن تثبتوا) (أف 6: 13) وما أجمل تلخيص الرسول لأمور
الحرب هنا:

 

حرب. سلاح. مقاومة. تتمموا كل شئ. ثبتوا..
ونحتاج في هذه الحرب إلى إطفاء جميع سهام الشرير الملتهبة (أف 6: 16).

 

والقديس بطرس الرسول يقول عن هذه الحرب: (اصحوا
واسهروا، لأن إبليس خصمكم كأسد زائر، يجول ملتمساً من يبتلعه هو. فقاوموه راسخين
في الإيمان) (1ب 5: 8، 9) إذن هو يكلم مؤمنين، ومحاربين، ويحتاجون إلى صحو وسهر،
ومقاومة لعدو شديد. والقديس بولس يريد أن نقاوم حتى الدم، مجاهدين ضد الخطية (عب
12: 4)

 

الحرب مازالت مستمرة. ونتيجتها هى التي تقرر
خلاصكم.

 

ولذلك فإن السيد المسيح يكرر عبارة (من يغلب..)
سبع مرات في رسائله إلى الكنائس السبع التي في آسيا (رؤ 2، 3) فهل تحسب نفسك من
الغالبين، والحرب مازالت مستمرة؟! انتظر إذن حتى تنتهى هذه الحرب.

 

13 كثيراً ما يخيل إليك أنك قد خلصت من الخطية،
ثم ترجع إليها أو إلى غيرها

 

مرة أخرى..!

 

كثيراً ما تظن أنك صرت صديقاً باراً، ثم ترى أن
(الصديق يسقط سبع مرات ويقوم) (أم 24: 16) وكيف يقوم؟ يقوم بعمل النعمة، وبخدم
المصالحة من رجال الكهنوت (2كو 5: 18، 20) وبسرى التوبة والافخارستيا، وبمعونة من
الكنيسة في افتقادها ورعايتها..

 

وكثيراً ما تحولك التوبة، ليس من خاطئ إلى تائب
فحسب، بل من خاطئ إلى قديس.. ولكن هل تظن بهذا أنك قد وصلت؟! كلا، فإن الحرب ضد
القديسين أخطر وأصعب!

 

أتراك صرت قديساً، وظننت أنك قد خلصت؟! إذن اسمع
ما يقوله سفر الرؤيا عن الوحش: (وأعطى أن يصنع حربا مع القديسين ويغلبهم) (رؤ 13: 7)
هؤلاء القديسون الذي غلبهم الوحش، الا يحتاجون إلى الخلاص؟!

 

14 ما أكثر صلوات القديسين طلباً للخلاص..

وما أكثر صلواتنا اليومية التى نصليها بالمزامير
طلباً للخلاص. ونقول فيها: (اللهم باسمك خلصنى) (مز 53) (انضح على بزوفاك فاخلص،
واغسلنى فأبيض أكثر من الثلج) (مز 50) (إلى متى أردد هذه المشورات في نفسى، وهذه
الأوجاع في قلبى النهار كله؟ إلى متى يرتفع عدوى على) (مز 12)

 

15 فمادامت الحرب الروحية التى تهدد خلاصنا، هى
طول الحياة كلها إذن فهذا الخلاص هو قصة الحياة كلها.

 

51- لا تستكبِر بل خَفْ

16 يقول القديس بولس الرسول: لا تستكبر بل خف.
لأنه إن كان الله لم يشفق على الأغصان الطبيعية فلعله لا يشفق عليك أنت أيضاً.
فهوذا لطف الله وصرامته: أما الصرامة فعلى الذين سقطوا. وأما اللطف فلك، إن ثبت في
اللطف. وإلا فأنت أيضاً ستقع) (رو 11: 20 22)

 

إذن هناك إحتمال أنك لا تثبت، وحينئذ تقطع. فذلك
لا تستكبر وتظن أنك قد خلصت وانتهى الأمر، بل خف. المتضعون يسلكون بهذه المخافة.
أما المتكبرون فيفتخرون باطلا بأنهم خلصوا، وضمنوا الخلاص إلى الأبد. وبهذا
الافتخار تزول المخافة من قلوبهم. وبالتالى يزول الحرص، وتتخلى عنهم النعمة بسبب
الكبرياء فيسقطون. ويبلون وصية الرسول القائل:

 

17 (تمموا خلاصكم بخوف ورعدة) (فى 2: 12)

ومعنى هذا أن الخلاص الذي نلناه في المعمودية من
الخطية الأصلية والخطايا السابقة للمعمودية، وهو خلاص يحتاج إلى تتميم.

وهو تتميم يشمل الحياة كلها، ولا يتم في لحظة.

 

18 إنه لم يتوقف على القبول والإيمان، ولا على
التوبة والمعمودية، وإنما يحتاج إلى ثمر الإيمان (يو 15: 5، 6) وإلى ثمار تليق
بالتوبة (مت 3: 8) ويلزمه في كل ذلك عمل النعمة، وشركة الروح القدس (2كو 13: 14)
ومحبة الله، والثبات في هذه المحبة (يو 15: 9) والجهاد (2تى 2: 5 عب 12: 1)
والمصارعة مع الشيطان (أف 6: 12) والمقاومة حتى الدم (عب 12: 4) كما تلزم فاعلية
الأسرار وهى كثيرة..

 

ويلزم أيضاً الخوف: الخوف من السقوط، ومن
الدينونة..

 

19 ويقول القديس ذهبى الفم عن الخوف، في شرح (فى
2: 12):

 

[ إن الرسول لم يقل فق (بخوف) وإنما قال (ورعدة)
وهى درجة أعلى بكثير من الخوف..

 

هذا الخوف كان عند القديس بولس نفسه. ولذلك قال:
أنا أخاف (لئلا بعدما كرزت لآخرين، أصير أنا مرفوضاً) (1كو 9: 27).

 

لأنه إن كان بدون الخوف لا تتم بعض الأمور
الزمنية، فكم بالأولى الأمور الروحية.. لأنه حيثما توجد حرب بمثل هذا العنف،
وحيثما توجد هذه العوائق العظيمة، كيف يمكن أن توجد إمكانية للخلاص بدون خوف؟! ]

 

ويستطرد القديس يحنا ذهبى الفم فيقول:

 

[ أنت قد آمنت، وقمت بأعمال فاضلة. وقد ارتقيت
إلى فوق. إذن احترس لنفسك. كن في خوف حيثما تقف. ولتكن لك العين الحذرة، لئلا تسقط.
لأنه ما أكثر أمور الشر الروحية التي تعمل على الإحاطة بك (أف 6: 12) ]

 

جميلة هذه النصيحة التي يقولها لنا القديس ذهبى
الفم: إن عوائق كثيرة تعمل على الإحاطة بنا. لذلك ينبغى أن نتمم خلاصنا بخوف ورعدة.

 

20 تخاف لأنك لا تزال في الجسد، ولأن حروباً
كثيرة تحيط بك لإسقاطك، ولأنك مهدد بأنك ستقطع إن لم تثبت. وتخاف بسبب ضعف طبيعتك
وقوة أعدائك. كما أن الخوف يجلب لك الحرص والتدقيق والاتضاع، ويلصقك بالصلاة
بالأكثر، لتنال معونة من فوق.

 

21 وقد أكد القديس بطرس الرسول ضرورة هذا الخوف
بقوله: (إن كنتم تدعون أباً، الذي يحكم بغير محاباة حسب عمل كل واحد، فسيروا زمان
غربتكم بخوف) (1بط 1: 17)

 

نعم نسير بخوف، لئلا يفقد أحد إكليله (رؤ 3: 11)..
لئلا تمحى أسماؤنا من سفر الحياة (رؤ 3: 5 خر 32: 33) لئلا تتزحزح منارتنا من
مكانها (رؤ 2: 5) لئلا نعمل مثل الغلاطيين: (نبدأ بالروح ونكمل بالجسد)! (غل 3: 3)

 

22 نخاف أيضاً، لأن الخلاص ليس سهلاً، فالرسول
يقول:

 

(إن كان البار بالجهد يخلص، فالفاجر والخاطئ أين
يظهران) (1بط 4: 18) والإنسان البار هو مؤمن طبعاً، لأن (البار بالإيمان يحيا) (عب
10: 38) فإن كان هذا المؤمن البار، بالجهد يخلص، أفلا يخاف المؤمن العادى؟!

 

23 ذلك لأنه لو كان الخلاص يتم في لحظة، أو لو
كان قد تم وانتهى الأمر، ما كان هناك داع للخوف.

 

ولكن الكتاب يقول: (أما البار فبالإيمان يحيا.
وإن ارتد، لا تسر به نفسى) (عب 10: 38) هناك إذن احتمال أن يرتد المؤمن، ولا يسر
به الله. حقاً إنه أمر يدعون للخوف..

 

24 أيقول أحد إن المؤمن قد خلص وضمن الخلاص؟!
ماذا نقول إذن عن هذا الذي يرتد بعد إيمانه؟!

 

وقصص الإرتداد عن الإيمان كثيرة في الكتاب.. وقد
شرحنا هذه النقطة بالتفصيل في كتابنا (الخلاص في المفهوم الأرثوذكسى)، فلا داعى
للاستفاضة فيها هنا. إنما نقول: مادام هناك خوف من الارتداد، إذن (سيروا زمان
غربتكم بخوف) كما يقول الرسول (1بط 1: 17)

 

52- زمان غربتكم

25 حينما قال الرسول: (سيروا زمان غربتكم بخوف)
(1بط1: 17) كان يقصد طبعاً طول مدة غربتنا على الأرض، يرافقنا الحرص فيها طلباً
للخلاص. ولهذا فإن الكنيسة كانت باستمرار تهتم كيف فارق الإنسان هذا العالم، وليس
كيف بدأ حياته. ولذلك يقول القديس بولس الرسول عن الأمثلة التي نفتدى بها:

 

(انظروا إلى نهاية سيرتهم، فتمثلوا بإيمانهم)
(عب 13: 7).

 

وماذا تعنى عبارة (نهاية سيرتهم) إلا أن الخلاص
يشمل الحياة كلها حتى نهاية السيرة بحيث لا نستطيع أن نحكم قبل هذه النهاية، التي
فيها هؤلاء القديسون (كملوا في الإيمان)

 

26 فالخلاص ليس هو مجرد البدء، إنما الاستمرارية
حتى النهاية.

 

ليس هو انتقالك من الموت إلى الحياة، إنما
استمرارك في الحياة. فقد تبدأ بالروح وتكمل بالجسد، كما فعل الغلاطيون الأغبياء
(غل 3: 3)

 

ليس الخلاص في أن تصير قديساً، إنما الخلاص هو
أن تستمر في القداسة، حتى تسلم وديعتك بسلام وتنتقل إلى الرب.

 

27 هوذا بولس الرسول يقدم لنا أهل أفسس كمثال:

 

إنه يكتب رسالته إلى القديسين الذين في أفسس (1:
8) ومع ذلك يطلب إليهم أن يسلكوا كما يليق بالدعوة التي دعوا إليها (4: 1) وأن
يسلكوا بالتدقيق، لا كجهلاء بل كحكماء (5: 15) وشرح لهم حروب الشياطين (6: 10 18)
وقال لهؤلاء (ألبسوا سلاح الله الكامل، لكى تقدروا أن تثبتوا ضد مكايد إبليس) (6: 11).

 

بل ما أعجب قول بولس الرسول إلى قديسى أفسس، وهو
يحذرهم من الوقوع من الوقوع في الزنا والنجاسة والطمع وكلام السفاهة.

 

فيقول: (وأما الزنا وكل نجاسة أو مع، فلا يسم
بينكم كما يليق بينكم كما يليق بقديسين ولا القباحة ولا كلام السفاهة..) (5: 3 7)
أكان هناك خوف على هؤلاء القديسين أيضاً (لأنه بسبب هذه الأمور يأتى غضب الله على
بناء المعصية، فلا تكونوا شركاءهم) (أف 5: 6، 7)

 

إذن فالقديسون يحتاجون إلى سلاح وإلى حرب، وإلى
ثبات، حتى يعلن الله خلاصهم في اليوم الأخير (1بط 1: 5)

 

28 فهل يجرؤ إنسان أن يسأل غيره قبل الوقت،
ويقول له: ,, هل خلصت يا أخ؟،، إن كان قد خلص، وخلص في لحظة سجلها في مفكرته، فما
معنى الجهاد إذن مدى الحياة؟ وما معنى الحرب التي يتعرض لها القديسون؟ وما معنى أن
بعض القديسين سيغلبهم الوحش (رؤ 13)؟ وما معنى سقوط ثلاثة من ملائكة الكنائس السبع
(رؤ 2، 3)؟ وما معنى حاجة المؤمنين إلى سلاح الله الكامل لكى يقدروا أن يثبتوا ضد
مكائد إبليس (أف 6)؟!

 

إن شعر أحد في لحظة أنه قد تخلص من محبة الخطية،
فليتضع هذا الشخص ولينسحق.. فربما تعود إليه الخطية مرة أخرى، وبصورة أشد وأبشع!

 

إن الشيطان ليس نائماً، ولم يسلم سلاحه بعد. بل
على العكس هو مازال يجول كأسد يزأر (1بط 5: 8، 9). لذلك حياة القديسين هى حياة
جهاد طوال (زمان غربتهم) على الأرض.. حتى بولس الرسول نفسه، الذي صعد إلى السماء
الثالثة وسمع كلمات لا ينطبق بها (2كو 12: 2، 4)

 

29 بولس الرسول العظيم يقول: (أقمع جسدى
واستعبده، حتى بعدها كرزت لآخرين، لا أصير أنا نفسى مرفوضاً) (1كو 9: 27)!

 

هذا القديس المتواضع، لم يقل أنا خلصت في لحظة،
كما يقولها بكل جرأة أحد الشبان في أيامنا! بل انه يقول بكل اتضاع: (أسعى نحو
الغرض، لأجل جعالة دعوة الله العليا) (اسعى لعلى أدرك، الذي لأجله أدركنى أيضاً
المسيح) (فى 3: 14، 12)

 

30 ولا يقول هذا الكلام عن نفسه فقط، بل يضعه
كقاعدة أمامنا، بل أمام الكاملين منا فيقول:

 

(فليفتكر هذا جميع الكاملين منا.. فلنسلك بحسب
بحسب ذلك القانون عينه، ونفتكر ذلك عينه) (فى 3: 15، 16)

 

إذن يا من تظن أنك نلت الخلاص فى لحظة، انتظر
قليلاً ولا تتسرع.. ربما تكون لحظة من النعمة قد مرت بك، فأحسست شيئاً روحياً
داخلك. وظننت أن نعمة تلك اللحظة قد صارت لك بيعة الحياة كلها..

 

إذن (لا تستكبر بل خف) (رو 11: 20) وأمامك مثال:

 

31 القديس تيموثاوس، تلميذ بولس الرسول، كمثال
في الخلاص:

 

كان هذا القديس من رجال الإيمان المعروفين. وقد
تربى تربية صالحة على يدى أمه وجدته (2تى 1: 5) وكان منذ طفولته يعرف الكتب
المقدسة (2تى 3: 15) وقد صار بعد إيمانه أحد أساقفة الكنيسة، وصار مساعداً لبولس
الرسول في كرازته الواسعة. ولقد قال عنه القديس بولس في رسالته الأولى إلى أهل
كورنثوس: (لأنه يعمل عمل الرب كما أنا أيضاً) (1كو 16: 10)

 

ومع كل ذلك، يقول له معلمه بولس:

 

لاحظ نفسك والتعليم، وداوم على ذلك. لأنك إن
فعلت هذا، تخلص نفسك والذين يسمعونك أيضاً) (1تى 4: 16)

 

إذن القديس تيموثاوس الأسقف والمبشر والمعلم
ومساعد بولس الرسول، الذي يعمل عمل الرب كما هو أيضاً.. تيموثاوس رجل الإيمان، كان
محتاجاً إلى الخلاص، وكان محتاجاً أن يلاحظ نفسه لكى يخلص.. وهذه الملاحظة للنفس
كانت لابد أن تستمر على الداوم.

 

وقد جعل الرسول خلاص هذا القديس الأسقف مشروطا
بشرط: إن فعلت هذا تخلص نفسك. إن لاحظت نفسك والتعليم ودامت على ذلك..

 

53- مَنْ يصبر إلى المُنتهى

32 مادام موضوع الخلاص هو قصة العمر كله، إذن
علينا أن نجاهد باستمرار، ونصبر على حروب العدو وهجماته.. وما هى حدود هذا الصبر؟
يقول السيد الرب:

 

(من يصبر إلى المنتهى، فهذا يخلص) (مت 10: 22)

 

وعبارة الصبر إلى المنتهى لكى يخلص الإنسان،
تعنى أن الخلاص لا يتم في لحظة. وتعنى أن الصبر ليس له مدى محدود، وإنما إلى
المنتهى، أى إلى (نهاية سيرتهم) لأنه يحدث أحيانا أن تبرد محبة الكثيرين (مت 24: 12)
ولا نستطيع أن نحصى عدد الذين يتركون محبتهم الأولى (رؤ 2: 4)، ويحتاجون إلى توبة..

 

33 إن الإكليل لم يأت موعده بعد، ففترة إختبارنا
لا تزال قائمة0 وسنظل في هذا الإختبار مدى الحياة. وقد قال الرب: (كن أميناً إلى
الموت، فسأعطيك (إكليل الحياة) (رؤ 2: 10) وعبارة (إلى الموت) لا تنطبق عليها كلمة
لحظة. وهذه الأمانة (إلى الموت) شرط لنوال إكليل الحياة..

 

34 وقد وعد بمنح الأكاليل لمن يغلب. والغلبة لا
تحدد الآن. فطالما نحن في حرب، لا تستطيع أن تقول إنك خلصت. وإنما (لما تنتهى
الحرب نكلل)، كما يقال في الترتيلة. ومتى تنتهى الحرب؟ بانتهاء الحياة على الأرض.

 

35 لا تحكم قبل الوقت. ولا تحكم باللحظات،
فاللحظات تتغير.

ربما ما تناله في لحظة، تفقده في لحظة أخرى! وما
أخطر التغير الذي شرحه الوحي الإلهي بقوله: (مدة كل أيام الأرض.. برد وحر، صيف
وشتاء، نهار وليل، لا تزال) (تك 8: 22) ليتك إذن تصلى لكى لا يكون هربك في شتاء
(مت 24: 20)

 

لا تقل إذن: ,, إنى خلصت في اليوم الفلانى،،
محدداً الساعة والدقيقة! بل الأفضل أن تصلى، لكى يديم الله عليك خلاصه حتى المنتهى،
إلى نهاية سيرتك.

 

36 لا يكفى أن تبدأ، إنما يجب أن تثبت وتستمر:

 

فالرسول يقول: (وأما اللطف فلك، إن ثبت في اللطف،
وإلا فأنت أيضاً ستقطع) (رو 11: 22) وهذا الثبات الذى يطلبه الرسول، لا تحكم عليه
لحظة، إنما هو قصة الحياة كلها..

 

أنت تبت في لحظة (فرضاً)؟! هذا حسن جداً. ولكنك
لن تخلص، إلا إذا ثبت في التوبة. والزمن يحكم على هذا الثبات..

 

حياتك تغيرت في لحظة؟! حسن جداً، ولكنك لن تخلص
إلا إذا احتفظت بهذا التغير إلى أفضل، حتى المنتهى.

 

37 مرت عليك لحظات مصيرية، عرفت فيها الله،
أدركت فيها فناء العالم هذا حسن ورائع، وإنما المهم أن تثبت. واللحظات لا يمكن أن
تحكم على ثباتك..!

 

أتراك تحولت من خاطئ إلى قديس؟! حسن جداً.. ولكن
الخلاص هو أن تثبت في هذه القداسة طول حياتك.

 

وتسلك كما يليق بالدعوة التي دعيت إليها، حسبما
نصح الرسول قديسى أفسس (أف 4: 1 3) وحتى إن كنت قد نلت خلاصاً بعمل الرب معك،
وبجهاد طويل وليس في لحظة، وبممارسة أسرار الكنيسة وكل وسائط النعمة.. انصت إلى
قول الرسول: (تمموا خلاصكم بخوف ورعدة) (فى 2: 12).

إن هذا الخلاص هو قصة العمر كله..

 

54- خلاص في اليوم الأخير

38 إعلان الخلاص ليس عملك، حتى تقول: ,, أنا
خلصت،، أو تقول عن غيرك ,, خلص فلان،، إنه عمل الله.

 

الله هو الذي يعلن الخلاص، لأنه الديان العادل.
يقول في اليوم الأخير: (تعالوا يا مباركى أبى، رثوا الملك المعد لكم منذ تأسيس
العالم) (مت 25: 34) أو يقول: (اذهبوا عنى يا ملاعين إلى النار المعدة لإبليس
وملائكته) (مت 25: 41) هو الذي يجلس على كرسى مجده، ويفرز الخراف من الجداء،
والقمح من الزوان.. يقول الرسول:

 

(أنتم بقوة الله محروسون، بإيمان، لخلاص مستعد
أن يعلن في اليوم الأخير) (1بط 1: 5).

 

39 ومادام لم يعلن، وإعلانه من فم الله وحده،
إذن فلا نسبق الوقت، ولا نعلن حكم الله المنتظر.

 

الإعلان سيكون في يوم الرب، فى اليوم الأخير.
ولذلك قال الرسول في عقوبته لخاطئ كورنثوس

 

(لكى تخلص الروح في يوم الرب) (1كو 5: 5)

 

ولم يقل الآن.. إنه خلاص (يعلن في اليوم الأخير).
وحتى الأكاليل التي ننالها في هذا الخلاص، وقال الرسول: (وأخيراً وضع لى إكليل
البر، الذي يهبه لى في ذلك اليوم، الرب الديان العادل. وليس لى فقط، بل لجميع
الذين يحبون ظهوره أيضاً) (2تى 4: 8).

 

هل أنت إذن قد خلصت، أم تنتظر ذلك اليوم، وتنتظر
الإعلان أو الحكم من فم الديان العادل؟

 

وذلك بعد أن تغلب، وبعد أن تنتهى الحرب..

 

أنت إذن طول عمرك تسعى للخلاص لكى تناله. وفى
هذا نرى أن القديس بولس الرسول العظيم، رجل الرؤى والمعجزات، الذى صعد إلى السماء
الثالثة، والذى تعب أكثر من جميع الرسل.. هذا الرسول العظيم يقول:

 

(أسعى لعلى أدرك، الذي لأجله أدركنى المسيح) (فى
3: 12)

 

إذن حياتنا في الأرض هى حياة سعى لكى ندرك.
ويستمر هذا السعى بجهاد مرير طول العمر. ومتى ينتهى هذا السعى؟ ينتهى عند الموت.
ولذلك فإن القديس بولس الرسول لم يستطع أن يقول: (جاهدت الجهاد الحسن، أكملت
السعى)، إلا بعد أن قال قبلها مباشرة (أنا الآن اسكب سكيباً، ووقت انحلالى قد حضر)
(2تى 4: 7، 6).

 

أخشى إن قلت (أنا خلصت) أو (إنى واثق).. تهمل
نفسك وتقع في اللامبالاة. لأنه لماذا الجهاد مادمت قد ضمنت كل شئ؟‍!

 

تذكر باستمرار قول الرسول: (إذن من يظن أنه قائم،
فلينتظر لئلا يسقط (1كو 10: 12)
.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار