المسيحية

الفصل الثالث



الفصل الثالث

الفصل
الثالث

محمد
بن عبد الله

مولده

اي
محاولة للبحث عن تفاصيل حياة الرسول تصطدم بحائط من الخرافات بناه كُتاب سيرة
الرسول في القرن الثامن الميلادي ومابعده. نزلت الرسالة على الرسول وعمره حوالي
اربعين عاماً. قبل نزول الرسالة كان محمد رجلاً عادياً من بني هاشم، يعمل في
التجارة، مثله مثل رجال كثيرين من قريش في ذلك الوقت. وبالطبع، لم يكن عرب مكة في
القرن السادس الميلادي، يعرفون كتابة شهادات الميلاد لاطفالهم، ولم يكن لديهم
تقويم متفق عليه. وعندما ابتدأ محمد بتبليغ رسالته، لم يكن احدٌ ممن حوله مهتماً
لمعرفة في اي يوم من ايام الاسبوع ولد، ولا في اي عام، وإنما كان همهم محاربة دينه
الجديد. وحتى حين مات لم يتفق الناس على اي يوم مات فيه، قال بعضهم انه مات في
اليوم الثامن والعشرين من صفر وقال آخرون في اليوم الثالث عشر من ربيع الاول في
العام الحادي عشر للهجرة. ومع هذا نجد مؤرخين مثل ” ابن كثير” الذي الف
” مختصر السيرة النبوية” في القرن الثامن الميلادي يخبرنا بالتفصيل عن
حمل امه به، ويوم مولده، وكل المعجزات التي ظهرت يوم ان وُلد وحتى يوم ان حملت به
أمه.

 

ونعلم
من كتب السيرة كذلك ان النبي ولد مختوناً ومسروراً، اي مقطوع حبل السرة. وولد
وبصره شاخص الى السماء. فلو ولد النبي وحبل سرته مقطوعاً لمات قبل ان يولد لان حبل
السره هو الذي يوصل الاوكسجين الى الطفل في الرحم والى ان يصرخ الطفل صرخته الاولى
يكون اعتماده على حبل السرة كلياً، كما يؤكد الطب الحديث، فاذا انقطع حبل السرة
قبل ان يولد الطفل، مات ذلك الطفل.

وتقول
السيرة النبوية لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله ارتجس إيوان كسرى، وسقطت
منه اربع عشرة شرفة، وخمدت نار الفرس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، وغاصت بحيرة
ساوة.

 

ولنسأل
انفسنا سؤالاً بسيطاً. اذا كان الله قد ارسل محمداً لاهل مكة والجزيرة العربية في
المكان الاول، كما يذكرنا القرآن في عدة آيات انه انزله قرآناً عربياً، لماذا
ارتجس ايوان كسرى في العراق وخمدت نار المجوس في بلاد فارس ولم يحدث شئ في مكة
وجوارها، أما كان الاجدر في الليلة التي ولد فيها رسول الله ان يسطع النور الباهر
في الكعبة ليقنع اهل مكة ان الله مرسل رسولاً منهم؟

 

وواضح
ان كل هذه خرافات ”
Mythology” نسجها كُتّاب السيرة النبوية حول النبي بدون تمحيص وبدون اي
اعتبار لعقل اي انسان يقرأ هذه الكتب. فيحدثنا ابن كثير، مثلاً، ان آمنة بنت وهب،
ام النبي، قالت لحليمة السعدية التي ارضعته: ” حملت به فما حملت حملاً قط اخف
منه”. ونحن نعلم ان محمداً لم يكن له اخوة ومات ابوه وامه حبلى به. فكيف تقول
انها ما حملت قط حملاً اخف منه وهي لم تحمل غيره؟ وان كانت تعني حمل اشياء اخرى
غير الجنين، فهي لا بد قد حملت عدة اشياء اخف من الجنين الذي يزن في المتوسط ثلاثة
كيلوجرامات.

 

كل
ما نستطيع ان نحصل عليه من السيرة النبوية هو ان محمداً ولد في عام الفيل، اي
حوالي عام 570 للميلاد وان ابوه مات وهو بعد في بطن أمه، وارضعته حليمة السعدية،
وماتت امه وعمره خمسة او ستة سنوات ورباه عمه ابو طالب. وكان يرعى الغنم وهو طفل
ثم مارس التجارة لحساب أمرأة ثرية اسمها خديجة بنت خويلد، وتزوجها فيما بعد وكان
عمره آنذاك خمسة وعشرين عاماًً وهي عمرها اربعون عاماً. وصار محمد مسؤولاً عن
تجارة خديجة، يسافر بها الى الشام من وقت لآخر. وقد اتاح له هذا الزواج التفرغ
للتأمل في شؤون الكون واللجوء الى غار حراء من وقت لآخر

 

 طفولته

اما
طفولة محمد فلا نعلم عنها شيئاً لان كتب السيرة لا تذكر منها الا القليل، رغم
زعمهم ان كل آيات النبوة ظهرت عليه عند مولده. ومن البديهي ان يهتم معاصروا محمد
بنشأته اذا اهتز ايوان كسرى وسطع نورٌ باهر يوم مولده، واغلبهم قال سيكون له شأن
عظيم. ولكن للاسف لا نجد الا القليل عن طفولته. فنعرف، مثلاً انه عندما كان عمره
احدى عشر عاماً اصطحبه عمه ابو طالب الى الشام، حيث رأى عالماً فيه حضارة وتهذيب،
غير ما رأى في مكة. وان كان صغيراً في تلك الرحلة وربما لم يحتك بديانة التوحيد في
الشام، الا ان الرحلة فتحت عقله وجعلته يتوق الى رحلات اخرى، قام بها فيما بعد، لا
بد انه رأى في اثنائها الرهبان واستمع اليهم.

 

وفي
اندفاع كُتاب السيرة الى تمجيد محمد والحاق الكرامات به، كتبوا عن طفولته اشياء لا
يمكن ان يصدقها اي انسان. فمثلاً، كتب ابن كثير: كان ابو طالب لا مال له، وكان
يحبه (محمد) حباُ ما يحبه ولده وكان يخصه بالطعام، وكان اذا اكل عيال ابي طالب
جميعاً او فرادى لم يشبعوا، واذا اكل معهم رسول الله شبعوا، وكانوا يفضلون من
طعامهم اذا اكل معهم، وان لم يكن معهم لم يشبعوا.

 

و
في نفس الصفحة يقول ابن كثير: ” وكان ابو طالب يقرّب الى الصبيان صفحتهم اول
البُكرة، فيجلسون وينتهبون، ويكف رسول الله يده فلا ينتهب معهم. فلما رأى ذلك عمه
عزل له طعامه على حدة “. فإذا كان أطفاله يشبعون ويفضلون في طعامهم اذا أكل
معهم، لماذا كانوا ينتهبون، ولماذا فصل له طعامه عنهم؟

 

زواجه
من خديجة

تزوج
محمد خديجة وهو في العشرينات من عمره وظل معها ما ظلت خديجة على قيد الحياة. ثم
ماتت خديجة قبل هجرته الى المدينة بثلاث سنين. وبين موت خديجة وموته هو في السنة
الحادية عشر للهجرة، اي في ظرف ثلاث عشرة سنة، تزوج الرسول اربع عشرة امرأة او
اكثر وملك عدداً من الجواري. ويقال انه دخل بثلاث عشرة امرأة من ضمنهن خديجة، وجمع
بين احدى عشر وتوفي عن تسعة

 

وقد
يسأل سائل: لماذ تزوج محمد، وهو ابن بضع وعشرين عاماً، وكان رجلاً في غاية
الوسامة، كما يخبرنا اهل السيرة، لماذا تزوج خديجة بنت خويلد بن اسد بن عبد العزى،
وقد كانت قبله عند عتيق بن عابد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وولدت له بنتاً، ثم
توفى عنها فتزوجت ابو هالة بن زرارة بن نباش بن زرارة بن حبيب بن سلامة بن عدي
فولدت له هند بن ابي هالة، ثم توفى عنها فتزوجها الرسول.

 

فلماذا
اذاً تزوج هذا الشاب ثيباً في الاربعين من عمرها ولديها طفلان؟

قد
نجد الجواب في حديث نُسب الى عائشة. فقد قال الامام احمد عن ابن اسحاق، اخبرنا
مُجالد، عن الشّعبي، عن مسروق، عن عائشة قالت: كان النبي اذا ذكر خديجة اثنى عليها
بأحسن الثناء. قالت: فغرت يوماً فقلت: ما اكثر ما تذكرها حمراء الشدقين، قد ابدلك
الله خيراً منها. قال: ” ما ابدلني خيراً منها، وقد آمنت بي اذ كفر بي الناس،
وصدقتني اذ كذبني الناس، وآستني بمالها اذ حرمني الناس، ورزقني الله ولدها اذ
حرمني اولاد النساء.

 

.
فهل يجوز انه تزوجها من اجل مالها؟ وانه عندما كان في عنفوان شبابه، لم يتزوج
غيرها، خوفاً من ان تحرمه مالها، ولما ماتت وعمره خمسون عاماً تزوج اربع عشرة
امرأة او يزيد؟

 

نبوته

موضوع
النبوة يثير جدالاً عميقاً في كافة المجتمعات، فهناك من ينكره وهناك من هو على
استعداد لأن يموت من اجله. فموضوع النبوة يجري في خط موازي لنظرية داروين في
التطور ولذا لا يمكن لهما ان يلتقيا. فنظرية داروين تقول بتطور الحياة من حيوانات
بخلية واحدة ” الاميبا” الى الانسان في شكله الحالي ماراً بمراحل متعددة
من النمو والتطور. والاديان السماوية تقول بان الله خلق آدم وحواء ومنهم انتشر الجنس
البشري في الارض، ولذا ارسل الله الرسل لهدايتهم. وقد يسأل سائل: ما الحكمة في
ذلك؟ ما دام الله قد خلق الانسان، وهو القادر على كل شئ، لماذا لم يخلقهم كلهم
مؤمنين؟ ويجيبنا علماء الاديان بان الله اراد ان يختبر الانسان.

 

ولكن
قد نسأل لماذا احتاج الله ان يختبر الانسان وهو عالم بكل سرائره وما سيفعله في
حياته من قبل ان يولد الانسان؟ اننا نختبر الانسان لمعرفة قدراته الفكرية او
العملية، ولكن اذا كنا مسبقاً نعرف قدرات هذا الشخص، يكون الاختبار اضاعة للوقت
والجهد. واذا كان الغرض من ارسال الرسل هو هداية البشر، فقد فشلت التجربة مرات
عديدة. فلماذا استمر الله في اجراء نفس التجربة؟ فكل الانبياء الذين يزيد عددهم عن
العشرين نبياً وارسلوا الى بني اسرائيل، لم ينجحوا الا في هداية جزء يسير منهم.
وتعداد اليهود اليوم في كل انحاء العالم لا يزيد عن العشرين مليون شخصاً من مجموع
سكان العام الذين يزيد عددهم عن ستة مليارات من ألاشخاص. واظن المنطق يقنعنا ان
تجربة ارسال كل هولاء الانبياء الى بني اسرائيل كانت تجربة فاشلة. وقد قتل بنو
اسرائيل بعض هولاء الانبياء كما يخبرنا القرآن، وقد عاقب الله كل الامم التي بعث
فيهم رسولاً بأن خسف بهم الارض او ارسل عليهم الزلزال او الصيحة التي دمرتهم ودمرت
مساكنهم لان اغلبهم لم يؤمنوا.

 

وفي
عهد نوح ارسل طوفاناً اغرق الزرع والضرع وكل البشر ماعدا نوحاً واهله الذين آمنوا
به. وبعد ان راى اهل نوح ما حدث للذين لم يؤمنوا، عادوا بعد اجيالٍ الى الكفر
والعصيان مما اضطر الله ان يرسل لهم عدة انبياء آخرين، وتكررت نفس عملية خسف الارض
والدمار. وحتى في العهد الحديث نسبياً عندما ارسل الله موسى الى بني اسرائيل،
لماذا ارسل الله موسى وهو يعلم ان بلسانه عقدة ولن يستطيع ان يقنع الناس، ومهمة
الرسول الاولى هي تبليغ الرسالة، ولذا يجب ان يكون فصيحاً، فاضطر موسى أن يسأل
الله ان يرسل معه اخاه هارون؟ لماذا لم يرسل هارون وحده؟

 

ومما
يثبت فشل تجربة الرسل ان بني اسرائيل عندما قادهم موسى في هجرتهم من مصر ورأوا ان
الله قد شق لهم البحر وانجاهم واغرق فرعون وجنده، وانزل لهم المن والسلوى من
السماء ليطعمهم، لم يقتنعوا بوجوده او برسالته فصنعوا لانفسهم عجلاً من ذهب
وعبدوه. فهل هناك معجزات أكثر من هذه لتقنع الناس بوجود الله؟ فإذا لم يقتنع بنو
أسرائيل بعد أن رأوا كل هذه المعجزات، الا يقنع كل هذا الله بأن ارسال الانبياء لا
يجدي فتيلا؟

وهذا
هو القرآن نفسه يقول في الآية 30 من سورة ” يس”: ” يا حسرة علي
العباد ما يأتيهم من رسول الا كانوا به يستهزؤن”. فاذا علم الله ان كل العباد
يستهزؤن برسلهم، لماذا يستمر في ارسالهم؟ لماذا لا يدمر الارض ومن عليها، كما فعل
من قبل، ويخلق اناساً على دينٍ واحد؟ وارسال الرسل والانبياء، وان هدى بعض الناس،
فهم دائماً اقلية، كما يخبرنا القرآن نفسه في سورة يوسف، الاية 103: ” وما
اكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين”.

 

وفي
سورة آل عمران، ألآية 55 عندما يخاطب الله عيسى فيقول له: ” وجاعل الذين
أتبعوك فوق الذين كفروا الى يوم القيامة “، فنفهم من هذه ألآية أنه سيكون
هناك مسيحيون مؤمنون بعيسى الى يوم القيامة، فما فائدة ارسال محمد بالاسلام ليظهره
على الدين كله، وهو قد قرر أنه سيكون هناك مسيحيون الى يوم القيامة. والدليل على
ذلك أنه بعد ألف وأربعمائة سنة على إرسال محمد بالاسلام ليظهره على الدين كله، ما
زالت المسيحية أكبر ديانة سماوية حتى ألان، وعدد أتباعها يفوق عدد المسلمين
أضعافاً.

 

والقرآن
يخبرنا في عدة آيات ان الله لو شاء لجعل الناس كلهم أمةً واحدةً يؤمنون برسالة
واحدة ويكونون على دين واحد ” ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة”. وكذلك
يخبرنا القرآن ان الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء: ” من يشإ الله يضلله ومن
يشأ يجعله على سراط مستقيم “.

 

ويخبرنا
الله كذلك في سورة الاسراء انه اذا اراد ان يهلك قريةً، امر مترفيها ففسقوا فيها،
فحق عليها القول، فيدمرها تدميراً. فكل هذه الايات تؤكد ان الانسان مسيّر، ليس
بيده اي شئ، الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء ويدمر القرى التي يختار تدميرها.
فاذاً ما الحكمة في ارسال الانبياء لهداية البشر، والبشر لا يملكون الحق في تقرير
مصيرهم؟

 

وفي
بعض الاحيان نشعر ان الله لا يريد للناس ان يتبعوا الرسل، ففي سورة مريم الاية 83،
نجد الله يقول: ” ألم تر إنا ارسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم ازاً ”
اي تهيّجهم الى المعاصي حسب تفسير الجلالين. فما الحكمة في ارسال انبياء لهداية
الناس، وفي نفس الوقت يرسل الله الشياطين لتهيّجهم على المعاصي؟

 

وهناك
مفكرون عبر التاريخ قد انكروا فكرة ارسال الانبياء، منهم الطبيب الفارسي المشهور
محمد بن زكريا الرازي (250-313 هجرية) والمفكر والشاعر العربي الشهير ابو العلاء
المعري (369-450 هجرية)، الذي قال:

تحطمنا
الايام كالزجاج ولكن لا يُعاد لنا سبك

 

واذا
اخذنا في الاعتبار الاعداد الهائلة من البشر الذين قُتلوا في الحروب الصليبية بين
المسيحيين والمسلمين، والذين قُتلوا في محاكم التفتيش الاسبانية ”
Spanish inquisition“، وكذلك الذين قُتلوا ايام انتشار الدولة الاسلامية، والالاف
الذين مازالوا يموتون في الحروب بين الاديان في عدة اقطار من العالم، يتضح لنا ان
الاديان جلبت للجنس البشري ضرراُ يفوق المصلحة التي نتجت عنها. وهناك مفكرون عظماء
عبر التاريخ البشري قدموا للعالم افكاراً نيرة افادت البشرية، ولم يكونوا انبياء،
مثل كونفوسيوس ”
Confucius” وبوذا “Buddha” وحمورابي وأرسطو وغيرهم.

 

ومع
ان محمداً كان من بني هاشم، لم يعتبره سادات قريش ذا مكانة عظيمه لانه كان يتيماً
وفقيرا، وكان في مفهومهم ان الله اذا اراد ان يرسل رسولاً، لا بد له ان يختار
رسولاً ذا مكانة في مجتمعه. ولهذا لما اعلن نبوته، قال الوليد بن المغيرة، زعيم
بني مخزوم بمكة: عندما يكون في قريش رجل مثلي وفي بني تميم رجل مثل عروة بن مسعود،
كيف يدّعي محمد انه نبي؟ فانزل الله قوله: ” وقالوا لولا نزل هذا القرآن على
رجلٍ من القريتين عظيم, أهم يُقسّمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة
الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ورحمة ربك خير مما
يجمعون”.

 

ظل
النبي بمكة ثلاث عشرة عاماً يحاول اقناعهم بدينه دون جدوى. وكان يعرض نفسه على
قبائل العرب في موسم الحج من كل عام، دون ان يؤمن به احد. وزار بني ثقيف بالطائف
يدعوهم الى الاسلام فلم يتبعوه. واخيراً استمع اليه نفر من الاوس والخزرج فآمنوا
به وعقد معهم معاهدة لنصرته ” بيعة العقبة”، ودعوه الى الهجرة لهم في
المدينة، فهاجر اليها سنة ثلاث عشرة من بعثته، اي حوالي عام 623 للميلاد.

 

غزواته

عندما
استقر النبي بالمدينة وسط الانصار والمهاجرين، ابرم اتفاقاً مع يهود المدينة
أمنّهم فيه على انفسهم ومالهم على الا يحاربوه، وضمن بذلك ان قاعدته بالمدينة
سالمة لا خوف عليها، وابتدأ يخطط لغزواته ليدخل الناس في الاسلام او يدفعوا له
الجزية لتساعده على تحمل نفقات اقامة دولة للمسلمين. والدولة، طبعاً، لا بد لها من
جيش يدافع عنها ويزيد من مساحتها وسطوتها. ويحتاج تجهيز الجيش الى أموال لشراء
الاسلحة والخيول واطعام الجنود وما الى ذلك. ولكن من اين لمحمد بكل هذا المال.

الحل
الذي لجأ اليه النبي كان السطو على قوافل قريش التي كانت دائماً محملةً بأثمن
البضائع من الشام وكذلك غزو القبائل المجاورة. وحسب ما قال محمد بن عمر: ان مغازي
رسول الله معروفة مجتمع عليها ليس فيها اختلاف بين احد في عددها وهي سبع وعشرون
غزوة. واخْتُلف في عدد سراياه، حدثنا محمد بن حُميد قال: حدثنا سلمة قال: حدثنا
محمد بن اسحاق قال: كانت سرايا رسول الله وبعوثه – فيما بين ان اقدم المدينة وبين
ان قبضه الله خمساً وثلاثين بعثاً وسرية.

 

ففي
شهر رمضان على رأس سبعة اشهر من هجرته الى المدينة، عقد النبي لحمزة بن عبد المطلب
لواءً ابيضاً في ثلاثين رجل من المهاجرين، وامره ان يعترض لعيرات قريش، كما زعم
الواقدي. ولكن حمزة لما حاول اعتراض القافلة وجد ابا جهل بن هشام في ثلاثمائة رجل،
فحجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني فافترقوا ولم يكن بينهم قتال.

 

وفي
شهر ربيع الاول من السنة الثانية للهجرة خرج الرسول في غزوة مع مائتي راكب، وكان
مقصده ان يعترض لعير قريش، وكان فيها امية بن خلف ومائة رجل والفان وخمسمائة بعير.
وسار النبي حتى بلغ بُواط من ناحية رضوى لكنه لم يجد عير قريش، فرجع للمدينة وسميت
هذه الغزوة ” غزوة بواط”.

 

ومرة
اخرى خرج في غزوة العُشيرة يريد الاعتراض لعيرات قريش وسار حتى وصل العُشيرة ببطن
ينبع، ولم يعثر على عير قريش، فرجع. وفي رجب من نفس العام ارسل عبد الله بن جحش مع
ثمانية من المهاجرين، وكتب له كتاباً وامره الا ينظر فيه حتى يسير يومين، ثم ينظر
فيه. فلما فتح الكتاب وجد فيه: ” اذا نظرت في كتابي فامض حتى تنزل نخلةً بين
مكة والطائف فترّصد بها قريشاً وتعلم لنا من اخبارهم”. وساروا حتى نزلوا
نخلة، فمرت عيرُ لقريش فيها عمرو بن الحضرمي وعثمان بن عبد الله بن المغيرة واخوه
نوفل والحكم بن كيسان. وتشاور الصحابة فيهم، وذلك في آخر يوم من رجب فقالوا: والله
لئن تركتموهم هذه الليلة ليدخلن الحرم فليمتنعُن به منكم، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم
في الشهر الحرام، فاجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم واخذ ما معهم، فحلقوا رأس
احدهم ليطمئن القرشيون اصحاب العير أنهم من عُمار بيت الله الحرام.

 

وعندما
أطمئن القرشيون ووضعوا سلاحهم رمي واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم
فقتله واستاسر عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان وافلت منهم نوفل بن عبد الله.
واقبل عبد الله بن جحش واصحابه بالعير والاسيرين، حتى قدموا على رسول الله. فقال
عبد الله بن جحش لاصحابه: ان لرسول الله فيما غنمنا الخمس، فعزله وقسم الباقي بين
اصحابه، وذلك قبل ان تنزل آية الخمس.

 

ولما
قالت قريش قد استحل محمد واصحابه الشهر الحرام وسفكوا فيه الدم واخذوا فيه الاموال
واسروا الرجال، أنزعج الرسول من هذا الكلام وقال لأصحابه: ” ما أمرتكم بقتالٍ
في الشهر الحرام”. ورفض ان يأخذ نصيبه من الغنيمة، وهو الاسيرين وبعض العير.
وحينئذ سقط في أيدي القوم وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنفهم أخوانهم من المسلمين فيما
صنعوا.

 

ولكن
سرعان ما نزلت الاية: ” يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه، قل: قتال فيه
كبيرٌ، وصدٌ عن سبيل الله وكفرٌ به، والمسجد الحرام واخراج اهله منه اكبر عند
الله، والفتنة اكبر من القتل، ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم ان
استطاعوا”. فلما نزل القرآن بهذا الامر وفرّج الله تعالى عن المسلمين ما كانوا
فيه من الشفق، أخذ رسول الله –ص- العير والاسيرين. وهذا كان يمثل خمس الغنيمة،
وكانت هذه اول غنيمة للمسلمين، وفادى الاسيرين بأربعين أوقية لكل منهما وهذا أول
فداء لأول أسير في الاسلام.

 

وهذه
ألآية طبعاً عذر لا تسنده الوقائع، فقريش لم تكن تحاربهم في ذلك الوقت، بل بالعكس،
حاول المسلمون اعتراض قوافل قريش ثلاث مرات قبل هذا. وحتى في هذه المرة لم تكن
قريش قد اعتدت عليهم وانما هم الذين اعتدوا، وفي الشهر الحرام.

 

غزوة
بدر الكبرى

 سمع
الرسول بأبي سفيان صخر بن حرب مقبلاً من الشام في عير لقريش عظيمة فيها اموال وتجارة،
وفيها ثلاثون رجلاً، او اربعون، وكان في العير الف بعير تحمل اموال قريش باسرها،
فقال الرسول لاصحابه: ” هذه عير قريش فيها اموالهم، فاخرجوا اليها لعل الله
يُنفلكموها”. فسمع ابو سفيان ان المسلمين يتربصون بهم، فارسل ضمضم بن عمرو
الى مكة يطلب النجدة منهم. فخرجت قريش في تسعمائة وخمسين مقاتلاً وخرج النبي مع
المهاجرين والانصار حتى بلغ بدر فنزل بها في انتظار ابي سفيان وعير قريش. وعلم ابو
سفيان بنزول المسلمين ببدر فغير طريق قافلته ونجا بها وارسل الى قريش يخبرهم انه
قد نجا بقافلته فليرجعوا.

 

ولكن
ابو جهل بن هشام اصر ان تصل قريش الى بدر، وكان موسماً من مواسم العرب يجتمع لهم
به سوق كل عام. فساروا حتى نزلوا بالعدوة القصوى. وسار الرسول حتى جاء ادنى ماء من
بدر فنزل به. وكان مع الرسول رجل يدعى الحباب بن منذر بن الجموح، قال للرسول: يا
رسول الله ارايت هذا المنزل، أمنزلاً انزلكه الله ليس لنا ان نتقدمه ولا نتأخر
عنه، ام هو الرأى والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأى والحرب والمكيدة. قال الحباب:
يارسول الله، فان هذا ليس بمُنزل، فامض بالناس حتى نأتي ماءً من القوم فننزله، ثم
نغّور(نملأ بالتراب) ما وراءه من القُلُب (الآبار)، ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه
ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون. فقال رسول الله: ” لقد اشرت
بالرأي” وفعل ما اقترحه ابن المنذر. والتقى الجمعان وانتصر المسلمون.

 

وقال
ابن اسحاق عن عبد الرحمن بن عوف انه مر يوم بدر بأمية بن خلف واقفاً مع ابنه علي
وهو آخذ بيده، فأسرهما عبد الرحمن بن عوف، فرآهما بلال فقال: رأس الكفر أمية بن
خلف، لا نجوتُ ان نجا. ثم صاح بأعلى صوته: يا أنصار الله، رأس الكفر أمية بن خلف.
فهجم الانصار عليهما وقتلوهما.

 

واختلف
الصحابة في بقية الاسرى: أيُقتلون او يُفادون؟، فاستشار الرسول ابا بكر وعلياً وعمر،
فقال ابو بكر: يارسول الله هولاء بنو العم والعشيرة والاخوان، واني ارى ان تأخذ
منهم الفدية، فيكون ما اخذناه قوةً لنا، وعسى ان يهديهم الله فيكونوا لنا عضداً.
فقال عمر: والله ما ارى ما رأى ابو بكر، ولكن ارى ان تمكنني من فلان، قريب لعمر،
فأضرب عنقه، وتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان اخيه فيضرب عنقه،
حتى يعلم الله انه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين. فأخذ الرسول براي ابي بكر وقرر
ان يأخذ من الاسرى الفداء.

 

وفي
اليوم التالي وجد عمر الرسول وابا بكر يبكيان، فلما سأل عن السبب، قال الرسول:
” نبكي للذي عرض علي اصحابك من اخذهم الفداء” وانزل الله ” ما كان
لنبي ان يكون له اسرى حتى يثخن في الارض، تريدون عرض الدنيا والله يريد الاخرة
والله عزيز حكيم”. ثم احل لهم الغنايم.

 

المنطق
يتطلب ان تكون الشرائع السماوية ارحم من تشريع البشر، فالله يصف نفسه بانه رحيم بعباده
غفور بهم. ومن اسمائه السلام والرؤوف وما الى ذلك، فهل يعقل ان يغضب الله على
الرسول لانه لم يقتل الاسرى، وقرر ان يأخذ منهم الفداء بينما التشريع الانساني
يحرم قتلهم؟ ولم يذكر احد من المؤرخين ان الرسول انّبَ بلال واصحابه على قتل
الاسيرين أمية بن خلف وابنه. واي اله هذا الذي يشجع على قتل الاسرى؟

 

وحتى
بعد أن كثر عدد المسلمين ونزلت سورة محمد، قال الله: ” فإذا لقيتم الذين
كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فاما مناً بعد واما فداء”. ويقول
القرطبي في تفشير هذه ألآية: قال الله: فضرب الرقاب، ولم يقل اقتلوهم، لأن في
العبارة ” ضرب الرقاب” من الغلظة والشدة ما ليس في لفظ القتل، لما فيه
من تصوير القتل بأشنع صوره وهو حز العنق وإطارة العضو الذي هو رأس البدن.

 

فالله
لا يكتفي بقتل الكافرين فحسب، بل يجب أن نقتلهم شر وافظع قتل. أما ألاسرى، فرغم أن
الله قال ” اما مناً واما فداء” فيقول القرطبي في تفسير ألآية: ”
قال قتادة ومجاهد إذا أُسر المشرك لم يجز أن يُمن عليه، ولا أن يُفادى به فيرد الى
المشركين، ولا يجوز أن يُفادى عندهم الا بالمرأة لأنها لا تُقتل”. فحتى بعد
أن تلطف الله على المشركين بعد أن غضب على الرسول لانه أخذ منهم الفداء في واقعة
بدر، وقال ” فأما مناً واما فداء” يقول علماء المسلمين يجب قتل الاسرى.

 

غزوة
بني قينقاع

كان
للرسول حلفٌ مع يهود المدينة، وكتب رسول الله كتاباً بين المهاجرين والانصار وادع
فيه اليهود وعاهدهم واقرهم على دينهم واموالهم واشترط عليهم وشرط لهم فقال: ”
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي الامي بين المؤمنين والمسلمين من
قريش ويثرب،.. الى ان قال: ان اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وان
يهود بني عوف أمةٌٌ مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وانفسهم،
الا من ظلم واثم فانه لا يوتغ الا نفسه واهل بيته. وان على اليهود نفقتهم وعلى
المسلمين نفقتهم، وان بينهم النصر على من حارب اهل هذه الصحيفة، وان بينهم النصح
والنصيحة والبر دون الاثم، وانه لم يأثم امرؤُ بحليفه، وان النصر للمظلوم، وان
يثرب حرام جوفها لاهل هذه الصحيفة، وان الجار كالنفس غير مضار ولا آثم “.
ومعنى العبارة ” أن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة” هو أن جوف
المدينة حرمٌ لأهل هذه المعاهدة، لا يجوز الاعتداء عليهم فيها.

ويقال
ان أمرأة من العرب قدمت بجلب لها فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست الى صائغ هناك
منهم فجعلوا يراودونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ الى طرف ثوبها فعقده الى
ظهرها، فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا بها، فصاحت فوثب رجل من المسلمين على
الصائغ فقتله، وكان يهودياً، فشد بعض اليهود الحاضرين على المسلم فقتلوه، فاستصرخ
اهل المسلم المسلمين على اليهود، فحاصرهم رسول الله حتى نزلوا على حكمه، رغم ان
العقد بينهم يقول ” الا من ظلم واثم فانه لا يوتغ الا نفسه واهل بيته”.
فبدل ان يُحاسب الذين اثموا، حاصر النبي كل بني قينقاع.

 

فكُتفوا
وهو يريد قتلهم، فكلمه فيهم عبد الله بن ابي بن سلول، فقال: يا محمد، احسن في
موالي – وكانوا حلفاء الخزرج – فأبطأ عليه النبي. فادخل يده في جيب رسول الله،
فقال الرسول: ” أرسلني”، وغضب رسول الله حتى رأوا في وجهه ظلالاً ثم
قال: ” ويحك ارسلني” فقال عبد الله: لا والله لا ارسلك حتى تحسن الى
موالي. اربعمائة حاسر وثلاثماية دارع قد منعوني من الاسود والاحمر، تحصدهم في غداة
واحدة! واني والله لا آمن واخشى الدوائر. فقال الرسول: ” هم لك. خلوهم لعنهم
الله ولعنه معهم”. فأرسلوهم، ثم امر بإجلائهم، وغنم المسلمون ما كان لهم من
مال. وكان للرسول خُمس اموالهم.

 

وواضح
ان النبي اراد عذراً لغزوة بني قينقاع، فاتخذ ما حدث للمرأة الاعرابية كذريعة
لغزوهم. ويذكر الواقدي ان بني قينقاع كانوا صاغة واصحاب سلاح، ولمكانتهم هذه في
المدينة ولما ابدوه من مناصرة قريش، فكر الرسول في امرهم طويلاً وظل في ذلك حتى
نزلت الاية ” واما تخافن من قوم خيانة، فانبذ اليهم على سواء، ان الله لا يحب
الخائنين”. ويتضح من الاية ان الله احل للنبي ان يغزو من شاء اذا خاف منهم
خيانةً. وهذا ما حدث لبني قينقاع دون اعتداء منهم علي المسلمين، بل بالعكس، قتل
احد المسلمين الصائغَ اليهودي اولاً، فقتل اليهود المسلم القاتل. وهذا يقع تحت
طائلة الاخذ بالثار التي كانت متفشية عند العرب في ذلك الوقت. ولكن النبي قرر نقض
العهد معهم وحصارهم وطردهم من المدينة، بل لقتلهم لولا تدخل عبد الله بن أبي بن
سلول، رغم الصحيفة التي تقول أن المدينة حرمٌ لأهل المعاهدة ولا يجوز الاعتداء
عليهم فيها.

 

وسورة
البقرة الآية 85 تقول عن اليهود: ” وتُخرجون فريقاً منكم من ديارهم وتُظاهرون
عليهم بالاثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرمٌ عليكم إخراجهم أفتؤمنون
ببعض الكتاب وتكفرون ببعضٍ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا
ويوم القيامة”. فإذا كان القرآن يُعيب على اليهود إخراجهم بعضهم من ديارهم
ويقول لهم هو محرم عليكم، كيف إذاً أحل النبي لنفسه ان يُخرج بني قينقاع من
ديارهم؟

 

وفي
بداية السنة الثالثة للهجرة سمع النبي أن أبا سفيان خارج في تجارة للشام، وأنهم
خافوا طريق الشام بعد موقعة بدر فسلكوا طريق العراق. قال ابو جعفر: واما الواقدي
فزعم ان سبب هذه الغزوة كان ان قريشا قالت: قد عور علينا محمد متجرنا وهو علي
طريقنا. وقال ابو سفيان وصفوان بن امية: ان اقمنا بمكة اكلنا رؤوس اموالنا. قال
ابو زمعة الاسود: فانا ادلكم علي رجل يسلك بكم النجدية، لو سلكها مغمض العينين
لاهتدى. قال صفوان: من هو؟ فحاجتنا الي الماء قليل، انما نحن شاتون. قال: فرات بن
حيان، فدعواه فاستاجراه، فخرج بهم في الشتاء، فسلك بهم علي ذات عرق، ثم خرج بهم
علي غمرة، وانتهي الي النبي خبر العير وفيها مال كثير، وانية من فضة حملها صفوان
بن امية، فخرج زيد بن حارثة فاعترضها، فظهر بالعير وافلت اعيان القوم منه، فكان
الخمس عشرين الفا، فاخذه رسول الله وقسم الاربعة الاخماس علي السرية

 

وفي
سنة اربع من الهجرة، ارسل النبي ابا سلمة بن عبد الاسد ليغزو بني اسد ومعه خمسون
ومائة رجلاً. فانتهى الى ادنى قطن، وهو ماء لبني اسد، وكان هناك طليحة الاسدي
واخوه سلمة ابناء خويلد. فلما رأوا السرية تفرقوا وتركوا عدداً كبيراً من الابل
والغنم، فاخذها ابو سلمة ورجع للمدينة، واخرج للنبي خمس الغنيمة.

 

غزوة
بني النضير

كان
بين عمرو بن امية وبني النضير عهدٌ وحلف، وعندما قتل عمرو بن امية رجلين من بني
عامر، خرج رسول الله الى بني النضير يستعينهم في دية ذينك القتيلين، رغم المعاهدة
سابقة الذكر التي كتبها بينه وبين يهود المدينة وقال فيها: ” وإنه لم يأثم
أمرؤ بحليفه”. ورغم هذا قال له بنو النضير: نعم يا ابا القاسم نعينك على ما
احببت. ويبدو ان النبي جلس الى جنب جدار، فهمّ احد بني النضير بالطلوع فوق البيت
لكي يرمي حجراً علي النبي فيقتله. ولكن النبي ترك مكانه من عند الجدار ورجع الى
المدينة وارسل محمد بن مسلمة يأمر يهود بني النضير بالخروج من المدينة. فرفضوا
الخروج، وعندئذ امر الناس بالخروج اليهم، وحاصرهم خمسة عشر يوماً وهم يقاومون في
حصونهم.

 

وعندها
امر رسول الله – ص – بقطع نخيلهم والتحريق فيها. فنادوا عليه: يا محمد قد كنت تنهى
عن الفساد وتعيب من صنعه، فما بال قطع النخيل وتحريقها، اذا كان لك هذا فخذه وان
ان لنا فلا تقطعه. وتنبه جماعة من المسلمين الى ان النخيل سوف يصير لهم بعد هزيمة
بني النضير، فمنعوا أبا ليلى المازني وعبد الله بن سلام من ان يقطعوه، وكان النبي
قد أوكل اليهما قطعه. وذهب جماعة منهم الى النبي وقالوا له كيف نقطع النخيل وسوف
يصير لنا؟ فانزل الله: ” ما قطعتم من لينةٍ او تركتموها قائمة على اصولها
فبأذن الله”

 

ولما
اشتد عليهم الحصار سألوا رسول الله ان يجليهم ويكف عن دمائهم على ان لهم ما حملت
الابل من اموالهم. فحملوا ما استطاعوا من اموالهم وخرجوا الى خيبر ومنهم من سار
الى الشام. وخلوا النخيل والمزارع لرسول الله، فكانت له خاصة لان المسلمين لم
يحاربوا من اجلها.

 

غزوة
بني قريظة

بعد
غزوة الخندق اخبر الرسول اصحابه ان جبريل اتى اليه واخبره ان الله قد امره ان يغزو
يهود بني قريظة، رغم الحلف الذي كان بينه وبينهم، فساروا اليهم وحاصروهم خمساً
وعشرين ليلة. فبعثوا الى رسول الله ان ابعث الينا ابا لُبابة بن عبد المنذر
نستشيره في امرنا. فارسله لهم، فلما رأوه جهش اليه النساء والصبيان يبكون، فرق
لهم، فقالوا: يا ابا لبابة أترى ان ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم. واشار بيده الى
حلقه انه الذبح.

 

فاجتمع
نفر من الاوس، وكانوا حلفاء بني قريظة، وقالوا للنبي: يا رسول الله انهم كانوا
موالينا دون الخزرج، وقد عفوت عن بني قينقاع موالي الخزرج، فاعف عن بني قريظة.
فقال النبي: يا معشر الاوس الا ترضون ان يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلى. فقال:
ذلك الى سعد بن معاذ. فقالوا لسعد: يا ابا عمرو احسن في مواليك، فان رسول الله
انما ولاك ذلك لتحسن فيهم. فقال لهم: قد آن لسعد الا تأخذه في الله لومة لائم.
وحكم سعد بان يُقتل الرجال وتُقسم الاموال وتسبى الذراري والنساء. فقال له النبي:
لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة ارقعة.

وخرج
النبي الى سوق المدينة وامر ان تُحفر بها خنادق ثم انزلوا رجال بني قريظة وضربت
اعناقهم في تلك الخنادق، حتى بلغ عددهم ستمائة او سبعمائة قتيل، وقال آخرون ان
القتلى كانوا ثمانمائة الى تسعمائة. وقتل منهم امرأة واحدة، هي زوجة حسن القريظي،
كانت قد رمت بحجر نحوالنبي في ايام الحصار.ورغم ان النبي قد وافق مقدماً ان يقبل
حكم سعد، وعندما سمعه قال انه حكم الله، لكنه خالف حكم الله واعدم امرأةً رغم ان
سعد قال تُسبى النساء. وقد رأينا سابقاً أن قتادة ومجاهد قالا: لا يجوز أن يُفادى
الاسير المشرك الا بالمرأة لأن المرأة ألاسيرة لا تُقتل.

 

و
بعث الرسول سعد بن زيد الانصاري بسبايا من سبايا بني قريظة الى نجد فابتاع له بهم
خيلاً وسلاحاً، واختار لنفسه ريحانة بنت عمرو بن خُناقة وعرض عليها ان تسلم
فيتزوجها، او تكون مما ملكت يمينه. فقالت: يا رسول الله بل اتركني في ملكك فهو اخف
علي وعليك. وقد يسال سائلٌ: أيُعقل ان يحكم الله من فوق سبعة ارقعة بقتل كل هذا
العدد من الاسرى وسبي نسائهم واطفالهم، مع العلم بانهم لم يحاربوا الرسول، وان
كانوا قد شجعوا قريشاً على حربه؟

 

غزوة
خيبر

في
السنة السابعة للهجرة قرر النبي غزو يهود خيبروكان فيهم يهود بني قينقاع ويهود بني
النضير الذين سبق ان أُخُرجوا من المدينة. فسار النبي بجيشه حتى نزل بوادي يقال له
الرجيع، فنزل بين اهل خيبر وبين غطفان ليحول بينهم وبين ان يمدوا اهل خيبر وكانوا
لهم مظاهرين. بدأ الرسول بالاموال يأخذها مالاً مالاً ويفتحها حصناً حصناً، فكان
اول حصونهم افتتح حصن ناعم ثم القموص، حصن ابن ابي العقيق، واصاب النبي منهم سبايا
منهن صفية بنت حُيي بن أخطب، فاصطفى النبي صفية لنفسه. ثم جعل النبي يتدنى الحصون
والاموال.

 

فلما
فتح النبي من حصونهم ما فتح وحاز من اموالهم ما حاز، انتهوا الى حصنهم الوطيح –
وكان آخر حصون خيبر- حاصرهم النبي بضع عشرة ليلة. قال ابن اسحق: واتى النبي بكنانة
بن الربيع بن ابي الحقيق – وكان عنده كنز بني النضير- فسأله فجحد ان يكون له علم
بالكنز، فاتى النبي برجل من يهود، فقال الرجل للنبي: اني قد رايت كنانة يطيف بهذه
الخربة كل غداة. فقال النبي لكنانة: أرايت ان وجدناه عندك، أأقتلك؟ قال: نعم. فأمر
النبي بالخربة فحُفرت فاخرج منها بعض كنزهم ثم سأله ما بقي فأبى ان يؤديه، فأمر به
رسول الله الزبير بن العوام فقال: عذبه حتى تستأصل ما عنده، فكان الزبير يقدح
بزنده في صدره حتى اشرف على الهلاك، ثم دفعه رسول الله الى محمد بن مسلمة فضرب
عنقه.

وحاصر
النبي اهل خيبر في حصنهم حتى اذا ايقنوا بالهلكة سألوه ان يأخذ مالهم ويحقن لهم
دماءهم.ففعل. وكان النبي قد حاز الاموال كلها الا ما كان من حصن الوطيح. ولما نزل
اهل خيبر من حصنهم سألوا النبي ان يعاملهم بالاموال على النصف، وقالوا: نحن اعلم
بها منكم واعمر لها، فصالحهم النبي على النصف، على انا اذا شئنا ان نخرجكم
اخرجناكم. فلما سمع اهل فدك بما حدث لاهل خيبر، بعثوا الى النبي يسألونه ان
يسيّرهم ويحقن دماءهم ويخّلوا له الاموال، ففعل.

 

والانطباع
الذي يخرج به القارئ من كل هذه الغزوات ان الدافع لها كان مادياً اكثر منه الحرص
على اقناع اليهود والوثنيين بالدخول في الاسلام. فلم يهتم النبي بمحاولة اقناع اي
قبيلة من اليهود بالاسلام، خاصةً وانه ذكر في معاهدته معهم ” لليهود دينهم
وللمسلمين دينهم”، ولذا لم يحاول اقناعهم وقد اترف ان لهم دينهم، فأصبح
الدافع الوحيد لغزوهم هو اخذ اموالهم وقتلهم او طردهم من المكان. والدافع لقتل اليهود
كان قوياً عند النبي بدليل قتله كل اسرى بني قريظة وكذلك نيته قتل يهود بني النضير
لولا ان تدخل عبد الله بن ابي بن سلول. أما تعذيب الاسرى فيظهر انه مباح في
الاسلام بدليل ان النبي امر بتعذيب كنانة بن الربيع حتى يدلهم على الكنز، وعندما
فشل التعذيب في حمله على الافشاء بالكنز، قتلوه. ولم يذكر المؤرخون ان النبي عرض
على كنانة ان يسلم ويحقن دمه، بل كان كل همه ان يعرف مكان الكنز المدفون.

 

وفي
العام السادس للهجرة خرج الرسول في سبعمائة رجل الى مكة يريد العمرة، فمنعه اهل
مكة وطلبوا منه الرجوع في العام القادم. واخيراً، بعد عدة ايام، عقدوا صلح
الحُديبية بين النبي وبين اهل مكة. وكان ممثل اهل مكة في الصلح سهيل بن عمرو. فدعا
النبي علي بن ابي طالب ليكتب الصلح. فكتب علي: ” هذا ما صالح عليه محمد بن
عبد الله سهيل بن عمرو، اصطلحنا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، يأمن فيهن
الناس، ويكف بعضهم عن بعض، على انه من اتى رسول الله من قريش بغير إذن وليه رده
عليهم، ومن جاء قريشاً ممن مع محمد لم ترده عليه. وان بيننا عيبة مكفوفة، وانه لا
اسلال ولا إغلال، وانه من احب ان يدخل في عقد رسول الله وعهده دخل فيه، ومن احب ان
يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه”.

 

وبعد
ثمانية عشر شهراً هجم بنو بكر على خزاعة ويبدو ان قريشاً ساعدت بني بكر بالسلاح
والكُراع. فركب عمرو بن سالم، من خزاعة، يستنجد بالنبي. فجهز النبي جيشاً كبيراً
وغزا مكة رغم صلح الحُديبية الذي وضع الحرب بينهم عشر سنوات. وقال ابن اسحاق: قد
كان رسول الله عهد الى امرائه الا يقاتلوا الا من قاتلهم، غير انه اهدر دم نفرٍ
سماهم وان وجدوا تحت استار الكعبة وهم: عبد الله بن ابي سرح، وعبد الله بن خطل،
رجل من بني تيم بن غالب، وكانت له قينتان، اسم احدهم فرتانا وواسم الاخرى غريبة،
امر بقتلهما معه، والحويرث بن نقيد بن وهب بن عبد قصي، ومقيس بن صبابة، وعكرمة بن
ابي جهل، وسارة، وكانت مولاة لعمرو بن هاشم من بني عبد المطلب، وهند بنت عتبة،
زوجة ابي سفيان. ولكن هند بايعت الرسول فسلمت.

 

اما
عبد الله بن سعد بن ابي سرح قد امر بقتله لانه كان قد اسلم وكتب الوحي للنبي لمدة
من الزمن، ثم ترك وارتد لانه قال كان يكتب الوحي وكان يقترح على النبي بعض
التعديلات فيما كان قد املاه عليه، وكان النبي يوافق علي التعديل، فمثلاً في احد
المرات قال له النبي اكتب: ” ان الله عزيز حكيم” فقال له عبد الله: اليس
من الافضل ان تقول ” ان الله عليم حكيم؟” فوافق النبي. فقال عبد الله لو
كان هذا من عند الله لما قبل ان يغيره، فترك وارتد. وعندما دخل النبي مكة فر عبد
الله الى عثمان بن عفان وكان اخاه من الرضاعة، فلما جاء به ليستامن له صمت عنه
الرسول طويلاً ثم قال: ” نعم “. فلما انصرف مع عثمان قال النبي لاصحابه:
” أما كان فيكم رجلٌ رشيد يقوم الى هذا الرجل حين رآني قد صمتُ فيقتله”
فقالوا: يا رسول الله هلا أومأت الينا؟ فقال: ” ان النبي لا يقتل
بالاشارة”. واسلم عبد الله وحسن اسلامه، وفي ايام خلافة عثمان، اصبح عبد الله
قائدا لجيوش العرب في شمال افريقيا، وابلى بلاءً حسناً جعل الخليفة عثمان يعزل
عمرو بن العاص من ولاية مصر ويولي عليها عبد الله.

 

وعبد
الله بن خطل قيل انه ارتد وقتل خادمه وكان مسلماً، اما قينتاه فكانتا تغنيان بهجاء
الرسول. فقُتلت احداهما وهربت الاخرى. اما عكرمة بن ابي جهل فكان ممن يؤذيه بمكة
قبل الهجرة، وهرب عكرمة الى اليمن واسلمت امرأته ام حكيم بنت الحارث بن هشام،
فأستامنت له النبي فأمنه. اما سارة مولاة بني عبد المطلب فاستُومن لها فأمنها
وبقيت حتى اوطأها رجل من المسلمين فرساً له بالابطح فقتلها الفرس. اما الحويرث بن
نقيد فقد قتله علي بن ابي طالب. واما مقيس بن صبابة فقتله رجل يدعى نُميلة بن عبد
الله، رجل من قومه، فقالت اخت مقيس:

 

لعمري
لقد اخزى نُميلةُ رَهطَه وفجّع اضياف الشتاء بمقيسٍ

فلله
عينا من رأى مثل مقيس اذا النفساء اصبحت لم تُخّرس

قال
الواقدي: امر رسول الله بقتل ستة رجال واربع نسوة. وذنب الاربع نساء وبعض الرجال
انهم هجوا الرسول فاباح دمهم حتى لو وجدوا تحت استار الكعبة. والكعبة كانت حرماً
آمنا لكل العرب، لا يؤذى من دخلها حتى وان كان قاتلاً. والقرآن يقول عن اول بيت
بُني للناس، وهو الكعبة، في سورة آل عمران الاية 97: ” فيه آياتٌ بيناتٌ مقام
ابراهيم ومن دخله كان آمناً..” ولكن هذا لم يمنع النبي ان يأمر بقتلهم حتى لو
وجدوا متعلقين بأستار الكعبة.

وهذه
لم تكن اول مرة يأمر فيها النبي بقتل من هجاه او اغضبه. فقد امر بقتل النضر بن
الحارث من بني عبد الدار بن قصي من قريش، وهم من اقربائه، وكان النضر علي علم بقصص
الانبياء وقصص اهل فارس، فكان يعقب النبي في مجالسه بمكة ويقول للاعراب: انا اقص
عليكم قصصاً احسن من قصص محمد. وكان يقص عليهم اخبار ملوك فارس وقصص انبياء
اليهود. فلما وقع النضر اسيراً في غزوة بدر، امر الرسول بقتله، وكان من نصيب
المقداد بن عمرو. فلما امر الرسول بقتله وكان المقداد يطمع في الفداء، قال المقداد
للرسول: هذا الرجل اسيري ويحق لي ان افاديه. فقال الرسول له: هل نسيت ما قال هذا
الفاسق عن الاسلام. فقتلوه في الاثيل. وقالت اخته قتيلة بنت النضر في رثائه:

 

يا
راكباً ان الاثيلَ مظنةُ من صبح خامسةٍ، وانت موفق

ابلغ
بها ميتاً بان تحيةً ما ان تزال بها النجائب تخفق

مني
اليك، وعبرةً مسفوحةً جادت بواكفها واخرى تخنق

هل
يسمعني النضرُ ان ناديته أم كيف يسمع ميت لا ينطق

أمحمدٌ
يا خيرَ ضن كريمةٍ في قومها، والفحلُ فحلٌ معرق

ما
كان ضرك لو مننتَ؟ وربما منّ الفتى وهو المغيظ المحنق

او
كنت قابل فديةٍ فلينفقن بأعز ما يغلو به ما يُنفق

فالنضرُ
اقربُ من أسرت قرابةً وأحقهم ان كان عٍتقٌ يُعتق

ظلت
سيوف بني امية تنوشه لله ارحامٌ هناك تشقق

صَبْراً
يُقادُ الى المنية مُتعباً رَسفَ المقيّد وهو عانٍ موثق

 

مرة
اخرى يقاد الاسير وهو مكتوف الايدي والارجل الى المنية، لا لذنب غير انه اغضب
الرسول. واين العفو والعرب تقول العفو عند المقدرة شجاعة. والقرآن يقول للرسول:
” وجادلهم بالتي هي احسن”، ” لو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من
حولك” وهذه اخت النضر تقول: ربما منّ الفتى وهو المغيظ المحنق. فلو كان الفتى
العادي يمن وهو مغيظ ومحنق، ما كان اولى بالنبي ان يمن ويصفح، وقد صفح انبياء
قبله. فمثلاً، عيسى بن مريم يقول: ” اذا صفعك احد على خدك الايمن، فأدر له
خدك الايسر”.

 

ويبدو
ان قتل الاسرى كان متعارفاً عليه بين المسلمين. قال ابن عباس: بعث رسول الله خالد
بن الوليد حين افتتح مكة الى بني جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة. فلما رآه
القوم اخذوا السلاح، فقال خالد: ضعوا سلاحكم فان الناس قد اسلموا. فقال رجل من بني
جذيمة يقال له جحدم: ويلكم يابني جذيمة انه خالد! والله ما بعد وضع السلاح الا
الإسار، وما بعد الاسار الا ضرب الاعناق. والله لا اضع سلاحي ابداً. فأخذه رجال من
قومه فقالوا: يا جحدم أتريد ان تسفك دماءنا؟ ان الناس قد اسلموا ووضُعت الحرب وآمن
الناس. فلم يزالوا به حتى نزعوا سلاحه، ووضع القوم سلاحهم لقول خالد. فقال حكيم بن
جكيم عن ابي جعفر: فلما وضع الناس السلاح امر بهم خالد فكُتفوا ثم عرضهم على السيف
فقتل منهم من قتل.

 

وفي
سنة خمس بعث الرسول زيد بن حارثة الى وادي القرى فلقي بني فزارة، فأصيب عدد من
اصحابه وجُرح زيد. فلما رجع الى المدينة نذر الا يمس رأسه غسل من جنابة حتى يغزو
بني فزارة. فلما شُفي من جراحه بعثه الرسول في جيش الى بني فزارة، فلقيهم بوادي
القرى فأصاب فيهم واسر ام قَرفة – وهي فاطمة بنت ربيعة بن بدر – عجوزاً كبيرة
وبنتها، وكان العرب يضربون المثل بأم قرفة لعزتها فيقولون: أعز من أم قَرفة. وقال
الاصمعي: من أمثالهم في العزة والمنعة: أمنع من أم قَرفة. وكان النبي يقول لأهل مكة:
أرأيتم لإن قتلتُ أم قرفة؟ فيقولون: أيكون ذلك؟ فامر النبي زيد بن حارثة ان يقتل
ام قرفة، فقتلها قتلاً عنيفاً، ربط برجليها حبلين ثم ربطهما الى بعيرين حتى شقاها.
فأمر النبي بالطواف برأسها في دروب وازقة المدينة

 

ويبدو
ان الاغتيالات السياسية كانت متفشية في زمن النبي. ففي السنة الثانية للهجرة بعث
الرسول عبد الله بن عُقبة ليغتال ابا رافع سلام بن ابي الحقيق اليهودي وكان سبب
قتله انه كان يظاهر كعب بن الاشرف على الرسول. فدخل عبد الله الحصن وكمن تحت حمار
الى ان اغلق البواب ابواب الحصن وعلق المفاتيح من داخل الباب. وكان ابو رافع يسمر
مع اصحابه، فلما تفرقوا عنه، اخذ عبد الله بن عقبة المفاتيح وصعد اليه. ويقول عبد
الله: فجعلت كلما فتحت بابا اغلقته عليّ من داخل. قلت: إن القوم نذروا بي لم
يخلصوا اليّ حتى اقتله. قال: فانتهيت اليه، فاذا هو في بيت مظلم وسط عياله، لا
ادري اين هو من البيت! قلت: ايا رافع! قال: من هذا؟ قال: فاهويت نحو الصوت فاضربه
ضربة بالسيف وانا دهش فما اعي شيئا، ثم وضعت ضبيب السيف في بطنه حتى اخرجته من
ظهره.

 

واليهودي
الاخر، كعب بن الاشرف لم يكن احسن حظاً. فهو كان يهجو النبي ويألب قريشاً ضده. قال
ابن اسحاق: قال النبي: من لابن الاشرف؟ فقال له محمد بن مسلمة اخو بني عبد الاشهل:
انا لك به يا رسول الله انا اقتله. فقال له الرسول: افعل ان قدرت على ذلك. فرجع
محمد بن مسلمة، فمكث ثلاثاً لا يأكل ولا يشرب الا ما يعلق نفسه. فذُكر ذلك لرسول
الله، فدعاه فقال له: لم تركت الطعام والشراب؟ فقال: يا رسول الله قلت لك قولاً لا
ادري هل أفي به ام لا. قال له الرسول: انما عليك الجهد. فذهب ابن مسلمة ومعه سلكان
بن سلامة بن وقش، وكان اخاً لكعب من الرضاعة. ومشى معهم رسول الله الى بقيع الغرقد
ثم وجههم وقال: انطلقوا على اسم الله، اللهم اعنهم “. ثم رجع الى بيته.
وعندما وصلوا حصن كعب بن الاشرف نادى عليه سلكان فنزل اليهم كعب في ملحفته، وكان
عريساً، وخرجوا يتمشون فهجموا عليه بسيوفهم وقتلوه.

 

وبعث
الرسول عمرو بن امية الضمري وسُلمة بن اسلم بن حريس الى مكة وقال لهما: اخرجا حتى
تأتيا ابا سفيان بن حرب، فان اصبتما منه غرةً فاقتلاه. ولكن عندما وصلا الكعبة
عرفهم اهل مكة مما اضطرهما للهرب دون ان يصيبا ابا سفيان.

 

وفي
النخلة كان خالد بن سفيان الهذلي يألب بني هذيل ضد النبي فارسل النبي عبد الله ين
انيس الجهني ليقتله، وقال له: انه قد بلغني ان خالد بن سفيان بن نبيح الهذلي يجمع
لي الناس ليغزوني، فائته فأقتله. فلما اتاه سأله خالد: من الرجل؟ قال: رجل من
العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل فجاءك لذلك. فقال خالد: اجل انا في ذلك. فسار معه
عدة خطوات وحمل عبد الله عليه بسيفه فقتله وحمل رأسه للنبي. فأعطاه النبي عصاً
وقال له: تحضّر بهذه في الجنة. ولما مات عبد الله بن انيس أدرجت العصا في كفنه

 

كان
ابو عفك رجلاً مسناً، قيل ان عمره كان عشرين ومائة عام، قال شعراً هجا به النبي،
فقال النبي: من لي بهذا الرجل؟ فتطوع سالم بن عمير لقتله. فسار اليه سالم وقتله،
فاثار هذا العمل حفيظه شاعرة اسمها اسماء بنت مروان، فقالت شعراً هجت فيه النبي.
فارسل النبي اليها عمير بن عُدي الذي تسلل الى خيمتها ليلاً وهي ترضع وليدها
فقتلها

 

وفي
سنة ثمانية للهجرة عندما كان النبي يجهز لحملته ضد الروم، تناهى الى سمعه ان بعض
الرجال كانوا مجتمعين في بيت يهودي اسمه شويلم وكانوا يخططون لمعارضة الحملة،
فارسل النبي طلحة بن عبيد الله مع عدد من الرجال ليحاصروا المنزل ويحرقوه. رجل
واحد فقط استطاع ان ينجو من المنزل وكسر رجله في محاولته الهروب من النار.

 

 ازواج
النبي

 حدثنا
ابن سعد عن ابيه ان الرسول تزوج خمس عشرة امرأة، دخل بثلاث عشرة، وجمع بين احدى
عشرة وتوفى عن تسعة. وتقول الدكتوره عائشة عبد الرحمن أنه تزوج بعد خديجة عشر
زوجات منهن الشابة الفتية والمرأة الناضجة. ولكن في روايات اخر انه تزوج اثنتين
وعشرين زوجة، واثنين مما ملكت ايمانه واربع نسوة هدين انفسهن له. تزوج في الجاهلية
وهو ابن بضع وعشرين سنة خديجة بنت خويلد بن اسد بن عبد العُزى، وهي اول من تزوج،
فولدت له ثمانية اطفال وفي رواية اخرى عشرة.

 

ولم
يتزوج النبي على خديجة في حياتها، فالما ماتت تزوج عائشة بنت ابي بكر، وقال آخرون
اول امرأة تزوجها بعد خديجة كانت سؤدة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس، وكانت ثيباً
وكان زوجها قبل النبي السكران بن عمرو بن عبد شمس. اما عائشة فكانت طفلة صغيرة
عمرها ست سنوات عندما تزوجها بمكة ولكنه دخل عليها بالمدينة وعمرها تسع سنوات.
قالت عائشة: عندما قدمنا المدينة نزل ابو بكر السنح في بني الحارث، فجاء رسول الله
فدخل بيتنا فاجتمع اليه رجال من الانصار ونساء، فجاءتني امي وانا في ارجوحة بين
عذقين يُرجح بي، فانزلتني ثم وفت جُميمةً كانت لي ومسحت وجهي بشئ من ماء ثم اقبلت
تقودني، حتى اذا كنت عند الباب وقفت بي حتى ذهب بعض نفسي ثم اُدخلت ورسول الله
جالس على سرير في بيتنا. فاجلستني في حجره، فقالت: هولاء اهلك فبارك الله لك فيهن
وبارك لهن فيك. ووثب القوم والنساء فخرجوا، فبنى بي رسول الله في بيتي وانا يومئذ
ابنة تسع سنين. ولما توفي الرسول كانت عائشة ابنة ثمان عشرة سنة.

ثم
تزوج حفصة بنت عمر بن الخطاب وكانت قبله عند خُنيس بن حُذافة بن قيس.

 

ثم
تزوج ام سلمة واسمها هند بنت ابي امية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم
وكانت قبله عند ابي سلمة بن عبد الاسد بن هلال من بني مخزوم، ومات ببدر، وكان ابن
عمة الرسول واخوه من الرضاعة، ارضعتهما ثويبة، مولاة لابي لهب. وامه برة بنت عبد
المطلب، وولدت لابي سلمة عمر وسلمة وزينب ودرة. وتميزت أم سلمة بجمال نادر ووضاءة
باهرة، وكانت جموع شباب تتسارع لتخطب ودها ولتطلب يدها. وعندما ترملت تقدم اليها
ابو بكر الصديق يطلب يدها ولكنها ردته في رفق. وتقدم اليها كذلك عمر بن الخطاب
فردته كذلك. فبعث اليها الرسول عمار بن ياسر ليخطبها له فتعللت بطفلتها الرضيعة،
فأخذ عمار الطفلة وذهب بها لمن ترضعها، فقبلت ان تتزوج الرسول.

 

 ثم
تزوج جُويرية بنت الحارث بن ابي ضرار، زعيم قبيلة المصطلق وكانت قبله عند مالك بن
صفوان ذي الشفر، وكانت قد وقعت في الاسر في غزوة بني المصطلق في السنة الخامسة
للهجرة، وكانت من نصيب احد المحاربين، وطلبت منه ان تفدي نفسها فقبل ولكنه طلب
سعراً عالياً ما كانت لتقدر عليه. فذهبت للنبي تطلب منه التدخل لتقليل ما طلب
آسرها. وتخبرنا عائشة انها بمجرد ان رأت جويرية عند بابها اصابها الهلع لان جويرية
كانت في غاية من الجمال، وكانت عائشة متاكدة ان النبي بمجرد ان تقع عينه عليها
سيتزوجها. وعندما دخلت جويرية عليه وطلبت منه التدخل عرض عليها ان يدفع هو الفدية
ويتزوجها، فوافقت.

 

ثم
تزوج ام حبيبة بنت ابي سفيان بن حرب وكانت قبله عند عبيد الله بن جحش وقد هاجرا الى
الحبشة مع المسلمين الاوائل، فتنصر عبيد الله ومات بالحبشة. فبعث الرسول عمرو بن
امية الضُمري الى النجاشي فزوجه ام حبيبة وساق عنه اربعمائة دينار مهراً لها.

 

وتزوج
بعد ذلك زينب بنت جحش بن رئاب وكانت امها اميمة بنت عبد المطلب عمة الرسول. وكان
اسمها اولاٌ بَرّة فلما اسلمت سماها النبي زينب، وزوجها الى زيد بن حارثة وكان قد
تبناه الرسول ورباه كإبنه بعد ان اعتقه، وكان يدعى زيد بن محمد. ويقال انها كانت
من اجمل النساء. فلما جاء الرسول يخطبها لزيد، رفضت ان تتزوج من هو اقل منها، فقال
لها الرسول: بلى، تزوجيه ونزلت الاية: ” وما كان لمؤمن ولا مؤمنة اذا قضى
الله ورسوله امراً ان يكون لهم الخيرة من امرهم”. فتزوجته. ولم تمكث مع زيد
الا سنةً واحدة وطلقها، وقيل طلقها لانها كانت تستعلي علية لانه كان عبداً للرسول
قبل ان يتبناه. ولكن بعض المؤرخين يقول ان الرسول اتى يوماً يزور زيداً، ولم يكن
زيد بالبيت، ووقعت عينه على زينب وعليها قميص لها مردع بالزعفران فوقعت في نفسه
فقال سبحان الله مقلب القلوب ثلاث. فأخبرت زينب زيداً بذلك، فقال زيد: أطلقها لك
يا رسول الله.

 

وأما
أبن أسحق فيقول: مرض زيد بن حارثة فدخل عليه رسول الله – ص- وزينب بنت جحش امرأته
عند رأسه فقامت لبعض شأنها فنظر اليها رسول الله – ص- ثم طأطأ رأسه فقال: سبحان
الله مقلب القلوب والابصار، فقال زيد أطقها لك يا رسول الله؟ فقال: لا، فانزل الله
عز جل: ” وإذ تقول للذي أنعم الله عليه أنعمت عليه”.

 

وفي
رواية ثالثة ان النبي ذهب ليزور زيداً فارسل الله ريحاً رفعت الستر وزينب متفضلة
(شبه عارية) في منزلها فرأى زينب فوقعت في نفسه ووقع في نفس زينب أنها وقعت في نفس
النبي- ص- فلما جاء زيد أخبرته بذلك فوقع في نفس زيد ان يطلقها. وقال أبن عباس
” وتخفي في نفسك” الحب لها و” تخشى الناس” أي تستحيهم وقيل
تخاف وتكره لائمة المسلمين لو قلت طلقها ويقولون أمر رجلاً بطلاق امرأته ثم نكحها
حين طلقها.

 

وعرف
زيد في نفسه ان ايامه مع زينب اصبحت معدودة. فذهب الى الرسول ليخبره انه اراد ان
يطلق زينب. ورغم حب الرسول لها، حاول الرسول ان يقنع زيداً بان يمسك اليه زوجه.
واخيراً تم الطلاق. وبعد انتهاء العدة، نزلت علي النبي آية تخبره ان الله قد زوجه
زينب: ” واذ تقول للذي انعم الله عليه وانعمت عليه امسك عليك زوجك واتق الله
وتخفي في نفسك ما الله مبدئه وتخشى الناس والله احق ان تخشاه فلما قضى زيد منها
وطراً زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في ازواج ادعيائهم اذا قضوا منهن
وطراً”. فجاء النبي الى بيت زينب ودخل بها دون الحاجة الى عقد قران او شهود
او صداق.

 

ثم
تزوج صفية بنت حُيي بن اخطب من يهود بني النضير، وكانت زوجة كنانة بن الربيع، الذي
كان في اسرى يهود خيبر وقتله محمد بن مسلمة بأمر النبي، وكانت في السبايا. فلما
استعرض النبي السبايا وراى صفية القى رداءه عليها ليعلم الجميع انه اصطفاها لنفسه.
واخذتها الماشطة أم أنس بن مالك كي ما تقينها (تزينها) فقالت أنها لم تر في النساء
أضوأ منها. وتزوجها الرسول ودخل عليها في نفس اليوم الذي قُتل فيه زوجها، وهم في
طريقهم الى المدينة.

 

ثم
تزوج ميمونة بنت الحارث بن حزن وكانت قبله عند عمير بن عمرو، وهي اخت ام الفضل
زوجة العباس بن عبد المطلب عم النبي. وكانت كذلك عمة خالد بن الوليد.

 

وتزوج
امرأة من بني كلاب بن ربيعة يقال لها النشاة بنت رفاعة، وكانوا حلفاء لبني قريظة
وكان بعضهم يسميها سنا بنت اسمة بن الصلت.

 

ثم
تزوج الشنباء بنت عمرو الغفارية وكانوا ايضاً حلفاء لبني قريظة، فعركت، اي جاءها
الحيض يوم دخلت عليه ومات ابنه ابراهيم قبل ان تطهر، فقالت: لو كان نبياً ما مات
احب الناس اليه. فسرحها الرسول قبل ان يبني بها

 

ثم
تزوج غزية بنت جابر من بني ابي بكر بن كلاب، بلغ الرسول عنها جمال وبسطة في الرزق،
فبعث ابا سعيد الانصاري فخطبها عليه، فلما قدمت على النبي قالت: اني لم استامر في
نفسي، اني اعوذ بالله منك. فقال النبي: امتنع عائذ الله. وردها الى اهلها

 

وتزوج
بعد ذلك اسماء بنت النعمان بن الاسود فلما دخل بها وجد بها بياضاً في اجزاء من
جلدها فردها الى اهلها. ويقال انها استعاذت منه فردها

 

وقيل
انه تزوج زينب بنت خزيمة، وهي التي يقال لها ام المساكين، من بني عامر بن صعصعة
وكانت قبله عند الطفيل بن الحارث

 

وتزوج
كذلك شراف بنت خليفة، والعالية بنت ظبيان، وقتيلة بنت قيس بن معد يكرب وتوفي عنها
قبل ان يدخل بها، وفاطمة بنت شريح وخولة بنت الهُذيل وعمرة بنت يزيد من بني رولس
بن كلاب، وفاطمة بنت الضحاك.

 

ومما
ملكت ايمانكم كانت عنده مارية القبطية التي اهداها له المقوقس ” وكانت شابة
مصرية حلوة جعدة الشعر جذابة الملامح جاءت من ارض النيل” وولدت له ابراهيم.
وكذلك كانت عنده ريحانة بنت زيد من بني قريظة

 

وهناك
اربع نسوة هدين انفسهن للنبي وكان قد ابيح له الاحتفاظ بهن بعد نزول الاية الخمسين
من سورة الاحزاب: ” يا ايها النبي احللنا لك ازواجك اللاتي اتيت اجورهن وما
ملكت يمينك مما افاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن
معك وأمرأة مؤمنة ان وهبت نفسها للنبي ان اراد النبي ان يستنكحها خالصة لك من دون
المؤمنين”. هولاء النسوة هن: ام شريك وميمونة وزينب وخولة.

 

 يقول
مشائخ الدين ان النبي تزوج كل هولاء النسوة ليستميل القبائل اليه لنصرته. ولكن
التاريخ يقول غير ذلك. فالنبي كان في اضعف موقف لما كان في مكة وكانت قريش تحاربه
وتضطهده. وظل في مكة ثلاث عشرة سنة بعد بدء الرسالة وهو مضطهد. لكنه ظل طوال هذه
المدة مع خديجة لم يتزوج غيرها حتى ماتت قبل ثلاث سنوات من هجرته الى المدينة.
وعندما هاجر الى المدينة اصبح في حمى الاوس والخزرج ولم يمضي وقت طويل حتى خضعت
الغالبية العظمى من القبائل له واصبح في موقف لا تستطيع اي قبيلة ان تهدده، واصبح
غنياً بعد كل الانفال التي جمعها المسلمون من الغزوات. ومن ثم كان جل زواجه في
المدينة ما عدا عائشة بنت ابي بكر، تزوجها بمكة بعد وفاة خديجة لكنه لم يدخل بها
الا بعد ان هاجر الى المدينة. وتقول بعض الروايات انه تزوج كذلك سؤدة بنت زمعة بن
قيس في مكة.

 

فلننظر
الى نسائه، تزوج عائشة بنت ابي بكر وحفصة بنت عمر بن الخطاب، وكان الاثنان، ابوبكر
وعمر، اول من آمن به وكليهما من قريش، فلو كان بالامكان استمالة قريش له لفعلا ذلك
دون ان يتزوج بنتيهما. فزواجه من عائشة وحفصة لم يكن، اذاً، لاستمالة قريش، ولكنه
قد يكون مكافأةً لابي بكر وعمر لنصرته والائمان به. ثم تزوج جويرية بنت الحارث
وصفية بنت حُيي اليهوديتان بعد ان قتل زوجيهما واعداداً كبيرة من رجال بني قريظة
وبني النضير، فهذا الزواج كذلك لم يكن لاستمالة القبائل اليهودية لانه شن عليهم
الحرب واجلاهم عن المدينة وقتل رجال بني قريظة قبل ان يأسر ويتزوج جويرية وصفية.
ثم تزوج ام حبيبة بنت ابي سفيان وهي بالحبشة، وليس من المعقول ان يستميل مثل هذا
الزواج ابا سفيان الذي ظل يكن العداء لمحمذ وللاسلام رغم زواج ابنته من مسلم
وهجرتها الى الحبشة، بل بالعكس، قد يكون اسلام ابنته وهجرتها قد زاد من كراهيته
للنبي، وزواج محمد منها لا يمكن الا ان يكون قد زاد من هذه الكراهية.

 

اما
هند بنت امية فكان زوجها الاول ابن عمة الرسول واخوه في الرضاعة ولو كان الزواج من
محمد يحتمل ان يستميل قبيلتها، لاستمالها الزواج الاول من ابن عمة النبي وأخوه من
الرضاعة. اما زينب بنت جحش فقد كانت ابنت عمته ولم يكن هناك اي احتمال ان زواجها
كان سيؤثر في قريش، بل بالعكس، فقد نفّر هذا الزواج القرشيين لان زواج طليقة الابن
بالتبني لم يكن من عاداتهم.

وميمونة
بنت الحارث كانت اخت ام الفضل زوجة العباس عم النبي. وثلاث نساء، الشنباء، وغزية
واسماء بنت النعمان، فقد طلقهن قبل ان يبني بهن، ولا يُعقل ان يستميل هذا التصرف
قبائلهن.

 

اما
زواج عائشة فقد ترك المفسرين وكُتاب السيرة في حيرة من امرهم. اذ كيف يفسرون دخول
رجل في الربعة والخمسين من عمره بطفلة في التاسعة من عمرها، كانت تتأرجح مع
صديقاتها على ارجوحة امام بيتها، وفي يدها جُميمة، اي لُعبة من لعب البنات؟ ولما
توفي النبي كانت عائشة في الثامنة عشرة من عمرها، وحرّم عليها الزواج من بعده.
” وما كان لكم ان تؤذوا رسول الله ولا ان تنكحوا ازواجه من بعده ابداً ان
ذلكم كان عند الله عظيماً” (سورة الاحزاب، ألآية 53)

 بعثته

كان
اليهود في فلسطين وفي يثرب ينعتون من جاورهم من العرب ب ” الاميين”، ولا
يعنون بهذه الكلمة الجهل بالقراءة والكتابة، بل يعنون بها شيئاً بمعنى: ”
القوم ” اي ” كوييم” و” جوييم” وتعني هذه الكلمات في
اللغة العبرية ” الغرباء”. لانهم في نظر انفسهم انهم هم شعب الله
المختار الذي اختص بالوحي والنبوة، وما غيرهم هم الغرباء عنهم، ويعرفون عندهم ب
Goyim“، وهي صيغة الجمع من المفرد ” كوي” “Goy“. فكلمة ” الامي” و” الاميين” كلمة تطلق
على كل من هو غير يهودي. فكلمة ” امي” مرادفة لكلمة ” كوي” في
العبرانية وكلمة ”
Ethnos” في اليونانية وتعني ” الشعب” او ”
الامة”. وقد ورد في القرآن: ” فان حاجوك فقل: “اسلمت وجهي لله ومن
اتبعن. وقل للذين اوتوا الكتاب والاميين: أأسلمتم”. والمراد بالذين اوتوا
الكتاب اليهود والنصارى. أما الاميون فهم الذين لا كتاب لهم اي من غير اليهود
والنصاري.

 

وكذلك
ورد في سورة الجمعة، الاية الثانية ” هو الذي بعث في الاميين رسولاً منهم
يتلوا عليهم آياته”. وكلمة العرب لا تعني فقط الذين في مكة والمدينة، فقد كان
هناك عرب في الشام يدينون بالمسيحية وكان جزء كبير منهم يقرأ ويكتب، وكذلك عرب
العراق كانوا على قدر كبير من العلم وعرب جنوب الجزيرة كانت القراءة والكتابة
متفشية فيهم. وحتى مكة والمدينة كانت فيهما نسبة لا يستهان بها على علم بالقراءة
والكتابة، خاصة الجاليات اليهودية. فهل نفهم أن كل هولاء لم يكن محمد قد بُعث فيهم
لانهم لم يكونوا أميين؟ ولما كانت كلمة ” اميين” تعني ”
كوييم” اي من امة غير يهودية، فيكون محمد قد بُعث لكل العرب المتعلمين منهم
وغير المتعلمين.

 

وفي
آية اخرى: ” ومن اهل الكتاب من ان تأمنه بقنطار يؤده اليك، ومنهم من ان تأمنه
بدينار لا يؤده اليك الا ما دمت عليه قائماً، ذلك بانهم قالوا: ليس علينا في
الاميين سبيل”. ومما لا شك فيه ان ” الاميين” هنا تعني العرب الذين
لم يكونوا يهوداً ولا تعني الذين لا يعرفون القراءة والكتابة. واذا اخذنا بهذا
المعنى فان الرسول الامي لا تعني ان محمداً لم يكن يقرأ ويكتب، وانما كان من امة
غير يهودية.

 

ونحن
نعلم ان محمداً كان يسافر في تجارته الى الشام وكان يلتقي احبار اليهود ورهبان
النصارى هناك ويستمع اليهم، وفي طريق عودته للحجاز كان يمر بارض ثمود وعاد ولا بد
انه سمع قصصهم وما آلوا اليه. وكان يخرج الى حراء في كل عام شهراً من السنة يتنسك
فيه، وكان هذا من نُسك قريش في الجاهلية، وكان اذا فرغ من مجاورته لم يدخل بيته
حتى يطوف بالكعبة. فأعتكافه شهراً كاملاً في غار حراء يستدعي ان يكون معه رفقاء
يستانس بهم او كتاب يدرسه، لانه لا يُعقل ان يظل شهراً كاملاً معتكفاً بمفرده
يتأمل في أمور العبادة، ولم تكن هناك صلاة تشغل وقته، دون أن يفقد صوابه. فإن لم
يكن بمفرده، فمن كان معه بالغار؟ هل كان ورقة بن نوفل او أحد الصبية النصاري، وهل
كان يحاورهم في أمور دينهم؟ فكتب السيرة لا تخبرنا هل كان يتعبد منفرداً أم لا.

 

وكان
في مكة في تلك الايام جماعة من النصارى الغرباء النازحين لاسباب من الرق والتجارة
والتبشير، ومنهم نفر كانوا على درجة من الفهم والمعرفة، يعرفون القراءة والكتابة.
من هولاء رجل روى المفسرون ان اسمه ” جبر” وانه كان غلاماً لعامر بن
الحضرمي، وانه كان قد قرأ التوراة والانجيل، وكان محمد يجلس اليه.

 

ويقول
الطبري ان آل الحضرمي كانوا يملكون عبدين هما جبر ويسار، فكانا يقرآن التوراة
والكتب بلسانهما، فكان الرسول يمر عليهما فيقوم يستمع منهما. وقال الضحاك ان النبي
كان دائماً يجلس الى سلمان الفارسى يتعلم القصص منه.

 

ولا
بد ان كل هذه القصص التي سمعها في الشام وفي مكة وكذلك تعبده في غار حراء، لا بد
ان كل هذه الاشياء اثارت في نفسه تساؤلات كثيره دفعته في بعض الاحيان الى التخيل
والاحلام وجعلته من وقت لآخر في حالة نفسية قابلة للايحاء ”
trance ” خاصة اذا كان يتعبد منفرداً في الغار لمدة شهر كامل كل
عام. وقال مالك عن هشام بن عروة، سئل الرسول: كيف يأتيك الوحي؟ فقال: ”
احياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو اشده عليّ، فيفصم عني وقد وعيت ما قال،
واحياناً يتمثل اليّ الملك رجلاً يكلمني فأعي ما يقول”. فواضح انه احياناً
كان يسمع اصواتاً كصلصلة الجرس، واحياناً يتخيل اليه انه راى رجلاً يكلمه.

 

وفي
اول مرة نزل فيها الوحي عليه لما كان بغار حراء، جاءه الملك فقال: اقرأ. فقال محمد:
ما انا بقارئ. قال: اخذنئ فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم ارسلني. فقال: أقرأ. فقلت:
ما انا بقارئ. فاخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم ارسلني. فقال: اقرأ.
فقلت: ما انا بقارئ. فاخذني فغطني الثالثه حتى بلغ مني الجهد. ثم ارسلني فقال:
” اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الانسان من علق، اقرأ وربك الاكرم. الذي علم
بالقلم. علم الانسان ما لم يعلم”.

وخرج
محمد من غار حراء وهو يرتجف ودخل على خديجة فقال: زملوني زملوني. والذي يتضح من
هذه القصة هو: اما ان يكون محمد قد كان نائماً في الغار فحلم بجبريل، او خُيل اليه
وهو صاحٍ، أن رجلاً أتى اليه وطلب منه ان يقرأ ثم غطه لما رفض ان يقرأ. وكون جبريل
غطه وطلب منه أن يقرأ توحي لنا بأن جبريل كان عالماً بان محمداً يستطيع ان يقرأ
لكنه رفض ان يقرأ، فغطه ثلاث مرات حتى خشى محمد على حياته، او ان يكون جبريل يجهل
ان محمداً لا يستطيع القراءة والكتابة، والا لما طلب منه ان يقرأ، وهذا امر بعيد
الاحتمال اذا ايقنا ان جبريل هو روح القدس والواسطة بين الله ومحمد. ونستطيع ان
نقول ان محمداً كان يقرأ ويكتب ولذا طلب منه جبريل ان يقرأ، أو ان جبريل لم ينزل
عليه وانما خُيل له.

 

وهناك
دليل آخر أن محمد كان يقرأ ويكتب، فقد ذكر البخاري عن أبن عباس أن النبي لما
حُضرَ، أي لما كان على فراش موته، وكان في البيت رجال، طلب منهم إحضار الدواة
والقلم، وقال لهم: هلموا أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً. فقال بعضهم: إن
رسول الله قد غلبه الوجع وعندكم القرآن، حسبنا كتابُ الله. فهاهو الرسول يقول لهم:
أكتب لكم كتاب، ولم يقل أُملي عليكم كتاب.

 

ووصف
كُتاب السيرة النبوية عن عائشة، ان محمداً عندما كان يأتيه الوحي كانت كل اعضاء
جسمه ترتجف لفترة من الزمن، ثم يتصبب عرقاً ثم ينام، وعندما يصحو من نومته يخبرهم
بالوحي. ونحن كأطباء، نعلم أن هذه الاوصاف كلها، خاصةً صلصلة الجرس في ألاذن، من
أعراض الصرع, وتُسمى ”
Aura” وعادةً تسبق هذه الاعراض التشنج الذي يحدث لمرضى الصرع.

 

ولقد
ذهب بعض المستشرقين وخاصة جوستاف فيل ”
Gustav Weil ” الى أن محمداً كان يعاني من داء الصرع، واستشهدوا بأنه ولد
وبصره شاخص الى السماء. وإذا جاء المولود وبصره شاخص الى السماء، وهو عكس الوضع
الطبيعي للمولود، تتعثر عملية الولادة وتطول وغالباً ما يحدث نزيف بسيط في عدة
أماكن من الدماغ تؤدي في بعض الحالات الى حدوث الصرع في الشخص عندما يكبر.

 

وقد
يقول قائل أن الخلوة المتكررة بغار حراء قد أثرت فعلاً في محمد فصار يتوهم حدوث
اشياء غير طبيعية. فنجد في صحيح مسلم عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله – ص-
” إني لأعرف حجراً بمكة كان يُسلم عليّ قبل أن أُبعث، إني لأعرفه ألآن”.
فهل يصدق انسان عاقل أن حجراً جماداً لا حياة له ولا لسان ولا حبال صوتية كان
يتكلم ويسلم على محمد حتى قبل ان يصير نبياً؟ وإذا كانت الحجارة تعرفه وتكلمه،
لماذا شج الحجر وجه محمد في غزوة أحد عندما انهزم المسلمون؟ لماذا لم يرتعب هذا
الحجر ويسقط قبل ان يضرب وجه محمد ويشجه؟

 

ويقال
ان خديجة بعد ان زملت محمداً عندما جاءها يرتجف، ذهبت من توها الى ابن عمهما ورقة
بن نوفل، وكان قد تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الانجيل
بالعبرانية ما شاء الله ان يكتب. فاخبرته بما حدث لمحمد، فقال ورقة بن نوفل لمحمد:
يابن اخي، هذا الناموس الذي كان ينزل على موسى، يا ليتني فيها جذعاً، ليتني اكون
حياً، اذ يخرجك قومك. فقال الرسول: ” او مخرجي هم؟” فقال: نعم. وان
يدركني يومك انصرك نصراً مؤزّراً. وكان ورقة بن نوفل وقتها رجلاً مسناً اعمي. ولم
يخطر ببال كُتاب السيرة النبوية ان يسألوا انفسهم: لماذا اذاً لم يسلم ورقة بن
نوفل في وقتها إذا عرف أن الذي نزل على محمد انما هو الملك الذي نزل على موسى، وأن
محمد نبي الله؟ خاصة إذا عرفنا أن خديجة بنت أخيه قد اسلمت في ذلك الوقت؟ واي نصرٍ
كان سيقدمه لمحمد ان كان حياً حين اخرجوه من مكة، وورقة رجل مسن اعمى؟

 

واستمر
الوحي لفترة من الزمن ثم توفي ورقة بن نوفل، فتوقف الوحي فترة من الزمن حتى حزن
الرسول حزناً جعله يفكر في ان يلقي بنفسه من رؤوس شواهق الجبال. فكلما اوفى بذروة
جبل لكي يلقي نفسه تبدى له جبريل فقال: يا محمد انك رسول الله. فيسكن جأشه، فيرجع.
فاذا طالت عليه فترة الوحي غدا كمثل هذا.

 

وهناك
سؤالان يفرضان نفسهما علي القارئ: لمذا حزن محمد على ورقة بن نوفل كل هذا الحزن
حتى كاد يقتل نفسه، ولم يبد نفس الحزن عندما مات عمه ابو طالب الذي رباه وحماه من
قريش؟ ولماذا لم يظهر نفس الحزن عندما قُتل عمه حمزة ومُثل به؟ والسؤال الثاني:
لماذا توقف الوحي بموت ورقة بن نوفل؟ هل حزن عليه جبريل كذلك وقرر عدم النزول
بالوحي؟ ام ان ورقة بن نوفل كان هو الوحي؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار