اللاهوت المقارن

الفصل الثالث



الفصل الثالث

الفصل الثالث

التقليد

23 أقدمية التقليد

24 الكتاب لم يذكر كل شيء

25 التقليد من تعليم الرسل

26 من فوائد التقليد

27 التقليد الصحيح والتقاليد
الباطلة

28 سلطة الكنيسة في التشريع

29 شروط التقليد السليم

29′ أمر الرسل بحفظ التقاليد

29” البروتستانت لهم تقاليد

 

23- أقدمية التقليد

التقليد هو كل تعليم وصل إلينا عن طريق التسليم
الرسولي والآبائي، غير الكلام الذي ترك لنا كتابة في الكتاب المقدس، في موضوعات
ربما لم تذكر في الكتاب، ولكنها لا تتعارض معه في شئ.

 

والبروتستانت لا يؤمنون بالتقليد. ولا يلتزمون
إلا بالكتاب المقدس وبهذا الوضع يتركون كل التراث الذي تركته الأجيال السابقة
للكنيسة: كل ما تركه الآباء الرسل، آباء الكنيسة الأولي، والمجامع المقدسة،
والقوانين والنظم الكنسية، وما في الكنيسة من طقوس ومن نظم، وما أخذناه من تعليم
شفاهي عبر هذه الأجيال الطويلة كلها. وسنبحث هنا موضوع التقليد.

 

والتقليد هو أقدم من الكتاب، يرجع إلي أيام
أبينا آدم:

لعل أقدم ما وصل إلينا من الشريعة المكتوبة، كان
علي يد موسى النبي، الذي عاش في القرنين الخامس عشر والرابع عشر قبل الميلاد، ولكن
التقليد أقدم من هذا بكثير.. آلاف السنين مرت علي البشرية بدون شريعة مكتوبة. فمن
الذي كان يقود تفكيرها: الضمير من جهة (ويسمي الشريعة الأدبية). والتقليد من جهة
أخري وهو تسليم جيل لجيل آخر.

 

وسنحاول أن نضرب بعض الأمثلة السابقة للشريعة
المكتوبة.

 

1- ورد في سفر التكوين أن هابيل الصديق قدم
قرباناً من ابكار غنمه ومن سمانها (تك4: 3). وشرح القديس بولس الرسول هذا الأمر
(بإيمان قدم هابيل ذبيحة أفضل من قايين) (عب4: 11). وهنا نسأل:

 

ومن أين عرف هابيل فكرة الذبيحة التي تقدم
قرباناً لله؟ ومن أين أتاه هذا الإيمان، ولم تكن في زمنه شريعة مكتوبة؟

 

لاشك أنه تسلمها بالتقليد من أبيه آدم، وأبونا
آدم تسلمها من الله نفسه، كل ذلك قبل أن يكتب موسى النبي عن الذبائح والمحرقات
بأربعة عشر قرناً من الزمان.

 

2- ونفس الوضع يمكن أن تقوله عن كل المحرقات
التي قدمها آباؤنا نوح وإبراهيم واسحق ويعقوب، وأيوب أيضاً..

 

كلهم عرفوا الذبيحة وتسلموها عن طريق التقليد.
وأيضاً تسلموا بناء المذابح كما فعل أبونا نوح بعد الطوفان حينما (بني مذبحاً
للرب) (تك20: 8).، وأبونا إبراهيم حينما بني مذبحاً عند بلوطة مورا (تك7: 12).
وتتابع معه بناء المذابح ولم يكن هناك كتاب مقدس يأمر ببناء المذابح.

 

3- يذكر الكتاب أن أبانا نوح بعد الطوفان (أخذ
من كل البهائم الطاهرة ومن كل الطيور الطاهرة، واصعد محرقات علي المذبح. فتنسم
الرب رائحة الرضا) (تك8: 20،21).

 

فمن أين عرف نوح فكرة تقديم الذبائح من
الحيوانات الطاهرة؟

 

لعله أخذها عن الله مباشرة، ثم سلمها للأجيال من
بعده، قبل أن يشرح موسى فكرة ووصف الحيوانات الطاهرة، في التواره.

 

4- وفي قصة مقابلة أبينا إبراهيم لملكي صادق،
قيل عنه أنه (كاهن الله العلي) (تك18: 14).

 

فمن أين عرف هذا الكهنوت، الذي أتاح لملكي صادق
أن يبارك أبانا إبراهيم.

 

والذي جعل ابرام يقدم العشور لملكي صادق؟ (تك20:
14). ويعتبر بهذا أكبر منه (عب7: 6، 7).

 

وفي ذلك الحين لم تكن هناك شريعة مكتوبة تشرح
الكهنوت وعمله وكرامته ومباركته للآخرين. وفي كل الإصحاحات السابقة من سفر التكوين
لم ترد مطلقاً كلمة (كاهن) ولا كلمة (كهنوت)…

 

من أين معرفة الكهنوت إلا عن طريق التقليد..

 

1- وفي نفس قصة مقابلة أبرآم لملكي صادق، نسمع
أن أبرام، أعطاه عشراً من كل شئ (تك20: 14).

 

فمن أين عرف تقديم العشور للكهنة وقت أبينا
إبراهيم، إلا عن طريق التقليد..

 

إن شريعة العشور لم تكن قد وردت بعد في شريعة
مكتوبة.

 

وبنفس الوضع كيف عرف أبونا يعقوب فكرة العشور
حينما قال للرب (وكل ما تعطيني، فإني أعشره لك) (تك22: 28).

 

قطعاً أبونا يعقوب تسلم شريعة العشور بالتقليد،
إذا تسلمها عن جده إبراهيم الذي قدم العشور لملكي صادق، ولم يأخذها إطلاقا من
شريعة مكتوبة..

 

واضح أن التقليد كان معلماً للبشرية قبل الشريعة
المكتوبة.. وبقي بعدها..

 

6- وفي قصة هروب أبينا يعقوب من جه أخيه عيسو
حينما رأي سلماً منصوبة علي الأرض ورأسها يمس السماء، والملائكة صاعدة ونازلة
عليها. وكلمه الرب وأعطاه وعداً.. يقول الكتاب أن يعقوب قال (ما هذا إلا بيت الله
وهذا باب السماء). (ودعا أسم ذلك المكان بيت إيل) (أي بيت الله) (وأخذ الحجر الذي
وضعه تحت رأسه، وأقامه عموداً وصب زيتا علي رأسه).

 

فمن أين عرف أبونا يعقوب عبارة “بيت
الله”؟

ومن أين عرف فكرة تدشين بيوت الله بصب زيت
عليها؟

ولا شئ من هذا كله ورد له ذكر في شريعة مكتوبة..
وليس له تفسير سوي التقليد..

 

7- ولما أعطي الرب الشريعة المكتوبة، أبقي
التقليد أيضاً.

وأوصي الآباء في مناسبات عديدة – أن يوصوا
أولادهم، ليسلموهم التعليم. فقد أمرهم أن يخبروا أولادهم بقصة ومناسبة تكريس كل
بكر فاتح رحم للرب (خر13: 14/16). وقال أيضاً (إنما احترز واحفظ نفسك جداً، لئلاً
تنسي نفسك ما أبصرت عيناك ولئلا تزول من قلبك كل أيام حياتك، وعلمها لأولادك
وأولاد أولادك) (تث9: 4).

 

8- وحتى في المسيحية نري أن بعض كتبة العهد
الجديد كتبوا بعض معلومات عن العهد القديم أخذوها بالتقليد.

مثال ذلك بولس الرسول ذكر اسمي الساحرين اللذين
قاوما موسى النبي فقال (وكما قاوم ينيس ويمبريس موسى، كذلك هؤلاء أيضاً يقاومون
الحق) (2تي8: 3).

 

ونحن لا نجد هذين الاسمين في أسفار موسى النبي
ولا في كل أسفار العهد القديم. ولكن لعل بولس الرسول عرف ذلك عن طريق التقليد.

 

9- والذي حدث في العهد الجديد هو نفس الذي حدث
في العهد القديم. ولكن بنسبة أقل.

إذ مضت مدة طويلة لم تكن هناك فيها أناجيل
مكتوبة ولا رسائل مكتوبة.

 

وكل الناس يتلقون الإيمان كله، وقصة المسيح كلها،
وتعاليمه، وعمله الفدائي كل ذلك عن طريق التقليد، ما يقرب من عشرين سنة..

 

10- إن السيد المسيح لم يكتب إنجيلاً، ولم يترك
إنجيلاً مكتوباً. ولكنه كان يعظ ويعلم، ويترك للناس كلامه روحاً وحياة (يو63: 6).
وهذا يتناقله الناس وحينما بدأ تعليمه وعمله الكرازي قال للناس (قد كمل الزمان،
واقترب ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل) (مر15: 1). ولم يكن هناك إنجيل مكتوب،
إنما كانت هناك كرازة وبشارة مفرحة، تلك التي تمثل الإنجيل الشفاهي، أو التعليم
الإلهي الذي يتناقلونه بالتسليم.

 

24- الكتاب لم يذكر كل شيء

ونفس المعني يطلق علي قول الرب لتلاميذه (اذهبوا
إلي العالم أجمع، واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها) (مر15: 16). كل ذلك خارج النطاق
المكتوب.

 

أ- لم يذكر كل ما فعله السيد المسيح، ولا كل ما
قاله.. وإنما الذي حدث هو أن الإنجيليين اختاروا بعضاً من أقوال السيد المسيح ومن
أعماله وسجلوها في وقت ما للناس، وتركوا الباقي. وهذا واضح في أخر إنجيل قد كتب،
إذا يقول القديس يوحنا الرسول (وأشياء أخر كثيرة صنعها يسوع، إن كتبت واحدة فواحدة،
فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة) (يو25: 21) كما يقول أيضاً (وآيات
آخر كثيرة صنعها يسوع قدام تلاميذه لم تكتب في هذا الكتاب. وأما هذه فقد كتبت
لتؤمنوا أن يسوع المسيح، ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه) (يو20: 30،31).

 

لا تظنوا أن معجزات المسيح هي فقط التي وردت في
الإنجيل فآلاف المعجزات لم تكتب. يكفي لإثبات هذا قول لوقا البشير (وعند غروب
الشمس، كان كل الذين عندهم مرضي بأنواع أمراض كثيرة يقدمونهم إليه، فكان يضع يديه
علي كل واحد فيشفيهم) (لو40: 4).

 

ما عدد هؤلاء المرضي؟ كثير جداً. ولم تسجل كل
حوادث الشفاء ويقول معلمنا متي البشير (وكان يسوع يطوف كل الجليل، يعلم في مجامعهم
ويكرز ببشارة الملكوت، ويشفي كل مرض وكل ضعف في الشعب) (مت23: 4).

 

ما هي حوادث شفاء كل مريض؟ لم تذكر.

 

وماذا كان تعليم الرب في المجامع وكرازته؟ لم
يذكر أيضاً.

 

يقول معلمنا مرقس الإنجيلي أن المسيح لما دخل
كفر ناحوم دخل المجمع (وصار يعلم فبهتوا من تعليمه لأنه كان يعلمهم بسلطان وليس
كالكتبة) (مر21: 1).

 

ما هو هذا التعليم الذي بهتوا منه؟ لم يكتب.

 

وفي معجزة الخمس خبزات والسمكتين، كان الناس من الصباح
حتي بدأ النهار يميل. فماذا كان تعليمه لهم؟ لم يذكر شئ عنه في الأناجيل.

 

وما هو التعليم الذي قاله المسيح علي شاطئ
البحيرة؟ وعلي شاطئ النهر؟ وفي السفينة؟ وفي الطرقات؟ لا نعرف، ولم يذكر في
الإنجيل.

 

ب) وبعد قيامته، حدث نفس الوضع.. قيل إن السيد
المسيح قابل تلميذي عمواس.

 

(وبدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يشرح لهم
الأمور المختصة به في جميع الكتب) (لو27: 24).كل هذا وغيره لم يكتب في الأناجيل.
ولكنه ولا شك وصل إلينا عن طريق التقليد، أو وصل بعضه علي الأقل.

 

ج- ثم ماذا عن فترة الأربعين يوماً التي قضاها
الرب مع تلاميذه بعد القيامة يتكلم معهم فيها عن الأمور المختصة بملكوت الله (أع3:
1).

 

ماذا قال الرب عن الأمور المختصة بملكوت الله؟

 

لا شك أنها أشياء هامة جداً استحقت من الرب
لقاءات له مع تلاميذه بعد القيامة (ولكنها مع كل هذا لم تذكر في الكتاب المقدس..
ولعلها أمور كانت لقادة الكنيسة، يفهمونها، ثم يعلمونها للشعب، حسب قوله لهم
(وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به) (مت20: 28). دون أن يذكر ما هو الذي
أوصاهم به.

 

فهل تعاليم المسيح هذه ووصاياه فقد فقدت، أم
وصلت إلينا؟

 

إننا نستبعد جداً أن تكون فقد فقدت ولها كل تلك
الأهمية. فكيف إذن وصلت إلينا.

 

فإذا استثنينا بولس الرسول الذي لم يكن واحداً
من الأحد عشر، ولم يحضر لقاءات المسيح مع تلاميذه بعد القيامة، فإن ما كتبه الأحد
عشر الذين قضى معهم الرب 40 يوماً، كان قليلاً ولا يشمل كل التعليم المسيحي.

 

بقيت إجابه واحدة؟ وهي أن تعليم المسيح لتلاميذه
وصل إلينا عن طريق التقليد أي التسليم الرسولي.

 

مارسته الكنيسة كحياة، حسب قول الرب (الكلام
الذي أقوله لكم هو روح وحياة) (يو63: 6). لقد فهموا روح الكلام، وحولوه إلي حياة
ووصل إلينا في حياة الكنيسة.

 

يمكن أن نقول إذا أن التقليد هو حياة الكنيسة،
أو هو الكنيسة الحية.

 

وهذه الحياة أودعها الرسل القديسون في الكنيسة
بكل ما تعلموه من الرب وكل ما أخذوه منه. ولكنهم لم يكتبوه في أناجيل أو رسائل،
إنما تركوه حياً في حياة الكنيسة. ولعل من بين هذا نظم الكنيسة وطقوسها وأسرارها.

 

هل تظنون أن عظة السيد المسيح علي الجبل (مت7: 5).هي
كل عظاته علي مدي أكثر من ثلاث سنوات؟!

 

هذا غير معقول طبعاً. ولكن كلام الرب لم يضِع؛
بل حفظه التلاميذ في قلوبهم، وفي آذانهم وأذهانهم ومن كنز قلبهم الصالح، ومن
ذاكرتهم المقدسة، أخرجوا أقوال الرب وسلموها للكنيسة. وأودعت فيها بعنوان
(التقليد) أو التسليم الرسولي، والروح القدس الذي حل عليهم، ذكرهم بما قاله الرب
حسب وعده الصادق (يو26: 14). هذا عن كلام السيد المسيح نفسه.

 

25- التقليد من تعليم الرسل

إن رسلاً كثيرين لم يكتبوا رسائل، فأين تعليمهم؟
وأين عمل الوحي الإلهي فيهم، وعمل الروح القدس الناطق في الأنبياء؟ وبعض الرسل لا
يمكن أن يكون كل تعليمهم هو فقط ما وصل إلينا منهم. لا يمكن أن يكون كل تعليم
يعقوب الرسول، هو تلك الرسالة الواحدة. ولا يمكن أن يكون كل تعليم يهوذا الرسول هو
إصحاح واحد. وماذا عن باقي الإثنى عشر الذين لم يصل لنا من تعليمهم حرف واحد؟ ماذا
كانت كرازتهم؟ وماذا تركوا للكنيسة؟

 

لعل كل هذا أو بعضاً منه، وصل إلينا عن طريق
التقليد.

 

كان الرسل يدخلون إلى المجامع، ويعلمون ويحاججون
المعارضين ولم يصل إلينا شئ من هذا. بشروا فى أورشليم واليهودية والسامرة، حتى آمن
الكل. ولم تصل إلينا إلا كلمات قليلة من تبشيرهم. وبولس الرسول استأجر بيتا فى
رومة، وأقام فيه سنتين كارزا بملكوت الرب ومعلما بكل مجاهرة (أع 28: 31،30). ولم
يصل إلينا شئ من هذا، فأين ذهب؟

 

ولا شك أن الرسل قد وضعوا أنظمة للكنيسة. فما
هي؟

 

هل نعقل أن رسل المسيح، بكل ما أودعه الرب فيهم
من علم، تركوا الكنيسة بلا نظم، ولا قوانين تدبر شئونها. يقيناً إنهم فعلوا ذلك
ولكنهم لم يكتبوا في رسائلهم: إما لأنها ليست لعامة الناس، وإما لأنها ستكون
معروفة للكل عن طريق الممارسة.

 

وهذه كلها بلا شك، وصلت عن طريق التسليم
والتقليد.

 

هوذا يوحنا الرسول يقول في آخر رسالته الثانية
(إذ كان لي كثير لأكتب إليكم لم أرد أن يكون بورق وحبر، لأني أرجو أن آتي إليكم
وأتكلم فما لفم) (2يو12). وكرر نفس الكلام في آخر رسالته الثالثة (3يو14: 13) فما
هو هذا الكلام الذي قاله فماً لفم، ولم يكتبه؟ فكيف وصل إلينا؟

 

نلاحظ – فيما اقتبسناه هنا من هاتين الرسالتين،
أن الآباء الرسل كانوا في بعض الأحيان يفضلون الكلام عن الكتابة حيثما توفر لهم
ذلك. وتعليمهم الشفاهي، كان يسلمه جيل إلي جيل، حتي وصل إلي أيامنا.

 

أو أنهم ركزوا في رسائلهم بقدر الإمكان علي
الأمور العامة الخاصة بالقواعد الأساسية للإيمان. أما عن تفاصيل النظم الكنسية
والطقوس، فتركوها للترتيب عملياً في الكنائس. وكان الناس يتعلموها ليس عن طريق
الكتابة، إنما عن طريق الحياة والممارسة.

 

وبولس الرسول يقول في رسالته الأولي إلي أهل
كورنثوس (وأما الأمور الباقية، فعندما أجئ أرتبها) (1كو34: 11). فما هو هذا
الترتيب الرسولي الذي لم يصل إلينا بالتقليد؟

 

وقال القديس بولس الرسول لتلميذه تيطس أسقف كريت
(من أجل هذا تركتك في كريت لكي تكمل الأمور الناقصة، وتقيم في كل مدينة قسوساً كما
أوصيتك) (تي5: 1) ولم يشرح في رسالته هذه طريقة إقامة القسوس هذه:

 

سواء من جهة الصلوات أو الطقس، أو الشروط
اللازمة. فمن أين عرف تيطس هذا الأمر إلا بالتسليم الشفاهي. لهذا قال له (كما
أوصيتك). هذه الوصية لم تذكر تفاصيلها في الرسالة، إنما عرفها الأسقف تيطس فماً
لفم، ووصلت إلينا نحن عن طريق التقليد.

 

ونفس الوضع يفهم مما قاله القديس بولس الرسول
لتلميذه تيموثاوس أسقف أفسس (وما سمعته مني بشهود كثيرين، أودعه أناساً أمناء،
يكونون أكفاء أن يعلموا آخرين أيضاً) (2تي2: 2).

 

هنا سماع وليس كتابة. ولم يذكر ما هذا الذي سمعه
منه. ولكن لا شك أن هذا التعليم انتقل من القديس بولس إلي القديس تيموثاوس إلي
الأشخاص الأمناء الأكفاء، الذين أوصلوه إلي آخرين أيضاً. وظل التسليم يتتابع حتي
وصل إلينا. إن الذين يصرون علي إثبات كل شئ بآية من الكتاب، ينسون ما قاله الرسل
فماً لفم (2يو) وما رتبوه في الكنائس دون أن يكتبوه (1كو34: 11) وما أوصوا به
تلاميذهم (تي5: 1) ينسون التعليم الرسولي الذي تحول إلي حياة وممارسة في الكنيسة
دون أن يكون نصاً من رسالة أو إنجيل..

 

ونذكر مثالاً لذلك تقديس يوم الأحد كيوم للرب.

 

إن كل المسيحيين الذين يؤمنون بالكتاب المقدس
وحده، ويهاجمون التقليد الكنسي، كلهم يقدسون يوم الأحد بدلاً من يوم السبت، ولا
يتمسكون إطلاقاً بحرفية الآية التي تقول “اذكر يوم السبت لتقديسه” (خر 8:
20) (تث12: 5).

 

فمن أين استقوا التعليم بتقديس الأحد بدلا من
السبت؟

 

هل من الإنجيل أم من التقليد؟ لاشك أنه من
التقليد. ذلك لأنهم لا يجدون آية واحدة تقول “قدس يوم الأحد” أو
“أذكر يوم الأحد لتقدسه، عملا من الأعمال لا تعمل فيه”.

 

ولكن تقديس الأحد كان تقليداً كنسياً مارسه
الرسل، آخذين إياه من تعليم السيد المسيح الذي لم يذكر صراحة في الإنجيل. إنما
ذكرت في سفر أعمال الرسل ممارسات توحي بهذا التسليم الإلهي.

 

بحيث تحول الأمر إلي ممارسة كنيسة بها، دون
الحاجة إلي وصية مكتوبة، وهذا الإجماع علي تقديس الأحد في كل الكنائس، دليل علي
الاعتراف بالتقليد.

 

في رسائل بولس الرسول ما يشير إلي أنه كان يتسلم
من الرب.

 

فهو يقول عن سر الأفخارستيا “لأَنَّنِي
تَسَلَّمْتُ مِنَ الرَّبِّ مَا سَلَّمْتُكُمْ أَيْضًا: إِنَّ الرَّبَّ يَسُوعَ فِي
اللَّيْلَةِ الَّتِي أُسْلِمَ فِيهَا، أَخَذَ خُبْزًا”.. (رسالة بولس الرسول
الأولى إلى أهل كورنثوس 11: 23).

 

فهو هنا يتكلم عن تسليم،أخذه من الرب، وسلم إلي
الكنيسة في كورنثوس ولم يذكر لنا الكتاب كيف ومتي أخذ بولس الرسول هذا التسليم من
الرب. ولكنه يعطي فكرة عن العقائد الكنسية، وكيف دخلت إلى الكنيسة بالتسليم.

 

لقد عرفنا من قبل فى الأناجيل كيف أن الرب سلم
للرسل هذا السر، ولكنهم لم يذكروا أنهم سلموه للكنيسة. ليس من المهم أن يكتبوا هذا
إنما أن تحياه الكنيسة وتمارسه. ولكن بولس الرسول ذكر هذا التسليم.

 

هناك أشياء أخري أخذها الرسل عن طريق التقليد
وسجلوها في رسائلهم.

 

وقد ذكرنا بعضاً منها قبلاً، ونضيف عليها ما ورد
في رسالة يهوذا، من الخصومة مع الشيطان علي جسد موسى، إذا يقول (وأما ميخائيل رئيس
الملائكة، فلما خاصم إبليس محاجاً عن جسد موسى، لم يجسر أن يورد حكم افتراء، بل
قال: لينتهرك الرب (يه9). ولم يرد شئ من هذا كله في العهد القديم. ولعل يهوذا عرفه
عن طريق التقليد.

 

ب- وكذلك في وصف تلقي الشعب للشريعة من جبل
مضطرم، يقول القديس بولس الرسول “وكان المنظر هكذا مخيفاً، حتي قال موسى: أنا
مرتعب ومرتعد” (عب21: 12). وهذه العبارة المنسوبة إلي موسى النبي لم ترد في
سفر الخروج ولا في سفر التثنية. ولعل بولس الرسول عرفها عن طريق التقليد.

 

ج- كذلك نضف ما ورد في سفر الرؤيا عن ضلاله
بلعام، هذه التي لم يشرح سفر العدد تفاصيلها (عدد25: 24).

 

ولكن ورد في سفر الرؤيا (أن عندك قوماً متمسكين
بتعاليم بلعام الذي كان يعلم بالاق أن يلقى معثرة أمام بني إسرائيل أن يأكلوا ما
ذبح للأوثان ويزنوا) (رؤ14: 2). وقد ذكر سفر العدد أنهم فعلوا ذلك (عد25). لكن لم
يذكر أن ذلك كان من تعليم بلعام. ولعل القديس يوحنا الرائي عرف هذا عن طريق
التقليد. كذلك يدخل في هذا الموضوع ما ذكره بطرس الرسول أيضاً عن بلعام (2بط15: 2).
وما ذكره يهوذا (يه11) من حيث أنه “أحب أجرة الإثم”.

 

د- وبنفس الوضع تحدث يهوذا الرسول عن نبوءة
لأخنوخ لم ترد في العهد القديم فقال “وتنبأ عن هؤلاء أيضاً اخنوخ السابع من
آدم قائلاً: هوذا قد جاء الرب في ربوات قديسيه، ليصنع دينونة علي الجميع ويعاقب
جميع فجارهم” (يه15: 14). وهذه النبوءة لعل مصدرها التقليد أيضاً.

ه – نلاحظ أن وصية الختان استلمها أبونا إبراهيم
من الله (تك17). وانتشرت بين الناس عن طريق التسليم قبل أن توجد شريعة مكتوبة تدعو
إليها.

 

26- من فوائد التقليد

1- بالتقليد عرفنا الكتاب المقدس نفسه،
فبالتسليم وصلت إلينا كتب الله، وما كنا لنعرفها ونميزها بغير هذا الطريق.
والمجامع المقدسة هي التي حددت لنا كتب العهد الجديد.

 

2- بالتقليد وصل إلينا كل تراث الكنيسة وكل
نظمها وطقوسها.

 

3- التقليد هو الذي حفظ لنا الإيمان السليم.
سلمه جيل إلي جيل. ولو ترك كل شخص لنفسه يري ما الذي يفهمه من آيات الكتاب، لوجدت
شيع ومذاهب متعددة لا تربطها وحدة في الإيمان. لأن الكتاب المقدس شئ. وطريقة
تفسيره شئ آخر.

 

4- حفظ لنا بعض عقائد وتعاليم، مثل تقديس يوم
الأحد، ورشم الصليب وشريعة الزوجة الواحدة، والصلاة علي الراقدين، وحفظ لنا عمل كل
رتب الكهنوت.

 

27- التقليد الصحيح والتقاليد الباطلة

إن الذين يرفضون التقليد، يحتجون علي ذلك بأن
السيد المسيح قد رفضه في توبيخ الرب للكتبة والفريسيين “وأنتم لماذا تتعدون
وصية الرب بسبب تقليدكم” (مت3: 15) وإدانة في نفس المناسبة لبعض التقاليد
الخاطئة (مت15: 4-6).

 

وكذلك يحتجون بقول الرسول “انظر أن لا يكون
أحد يسبيكم بالفلسفة أو بغرور باطل حسب تقليد الناس.. وليس حسب المسيح” (كو8:
2).

 

ونحن لا نقصد في حديثنا عن التقليد تلك التقاليد
الباطلة التي هي من صنع الناس، أو التي هي ضد تعليم الكتاب أو ضد روحه، أو
كالتقاليد التي أظهر السيد المسيح زيفها..

 

إنما نقصد التقليد السليم الذي هو علي أنواع:

 

1- تعليم الرب نفسه الذي وصل عن طريق التقليد.

 

2- التقليد الرسولي الذي هو تعليم الآباء الرسل
وقد وصل إلينا عن طريق التسليم جيل يسلم جيلاً.

 

3- التقليد الكنسي، الذي قررته مجامع الكنيسة
المقدسة في قوانينها ونظمها أو ما وصل إلينا عن طريق الآباء الكبار معلمي البيعة
أو أبطال الإيمان. وهذا ينقلنا إلي نقطة هامة وهي: سلطة الكنيسة في التشريع.

 

28- سلطة الكنيسة في التشريع

هذا السلطان الذي سلمه السيد الرب للآباء الرسل
في قوله لهم “ما ربطتموه علي الأرض يكون مربوطاً في السماء. وما حللتموه علي
الأرض يكون محلولاً في السماء” (مت18: 18).

 

وقد بدأت الكنيسة عملها هذا بعقد مجمع كنسي في
أورشليم سنة 45م. وهذا المجمع ناقش موضوع “قبول الأمم في الإيمان”.

 

وقرر فيه الآباء الرسل قبول الأمم من التخفيف
عليهم فقالوا “رأى الروح القدس ونحن أن لا نضع عليكم ثقلاً أكثر غير هذه
الأشياء الواجبة: أن يمتنعوا عما ذبح للأصنام، وعن الدم والمخنوق والزنا”
(أع15: 29،28).

 

ثم توالي عقد المجامع المقدسة، المكانية
والمسكونية، من خلال سلطة التعليم والتشريع والتقنين التي منحها الرب لسلطان
الكهنوت. وأصدرت هذه المجامع تعليماً ونظماً للكنيسة دخلت ضمن التقليد الكنسي.

 

29- شروط التقليد السليم

يشترط في التقليد السليم: Holy
Tradition

1- أنه لا يعارض الكتاب المقدس (غل8: 1).

2- أن يكون غير متعارض مع التقاليد الكنسية
الأخرى.

3- أن يكون مقبولاً من الكنائس.

 

والمعروف أنه في كل جيل تظهر أمور جديدة لم تكن
معروفة من قبل تحتاج إلي إبداء رأي الدين فيها، حتى لا يتبلبل الناس وتشتت آراؤهم
ولا يعرفون أين الحق من الباطل. لأنه ليس جميع الناس علماء بالكتاب وبقواعد الدين.
لذلك تقوم الكنيسة بسلطانها التعليمي والتشريعي، بإبداء رأي الدين في هذه الأمور،
لأنه من فم الكاهن تطلب الشريعة كما قال الكتاب.

 

وبتوالي الأجيال يتحول تعليم الكنيسة في جيل
معين إلي تقليد تتوارثه الأجيال.

 

29′- أمر الرسل بحفظ التقاليد

وقد أمر الآباء الرسل بحفظ التقاليد:

 

فقال الرسول “إذن أيها الأخوة تمسكوا
بالتقليدات التي تسلمتوها سواء بالكلام أو برسالتنا” (2تي 2: 15) (ترجمة
البروتوستانت: إِذًا أَيُّهَا الإِخْوَةُ وَتَمَسَّكُوا بِالتَّعَالِيمِ الَّتِي
تَعَلَّمْتُمُوهَا، سَوَاءٌ كَانَ بِالْكَلاَمِ أَمْ بِرِسَالَتِنَا).

 

وقال أيضاً “تجنبوا كل أخ يسلك بلا ترتيب،
وليس حسب التقليد الذي أخذه منا” (2تس6: 3). قال لأهل كورنثوس “أمدحكم
علي أنكم تذكرونني في كل شئ، وتحفظون التقليدات التي سلمتها إليكم” (1كو2: 11).

 

وللأسف فإن اخوتنا البروتستانت في الترجمة
البيروتية للكتاب، وضعوا كلمة “تعاليم” بدلاً من كلمة
“تقاليد” في الأمور التي تؤيد فكرة التقاليد. واستبقوا كلمة تقاليد في
كل ما يدل علي التقاليد الباطلة وترفضه الكنيسة المقدسة.

 

29”- البروتستانت لهم تقاليد

 وهذه
التقاليد، عبارة عن أنظمة توحد حياة الطائفة في العبادة، ويمكن أن نراها في كتاب
الصلوات الخاص بهم مثلاً.. وفي أقامة القسوس، والشيوخ، وما أشبه..

 

لا يحدث أن كل أحد يقول ما يخطر بباله. أو يفعل
حسبما يشاء، وإنما هناك قواعد متبعة يراعونها.

 

هذه بلا شك تقاليد، مهما وضعت لها أسماء أخري.

وعلي أية الحالات، فإن البروتستانت، علي الرغم
من إنكارهم للتقاليد، لهم أيضاً تقاليد يحفظونها، ويلتزمون بها. ولهم طقوس مع
إنكارهم للطقوس. ولهم صلوات محفوظة وقراءات ثابتة في الرسامات وفي أمور الزواج والمعمودية
في مناسبات الموت، علي الرغم من إنكارهم للصلوات المحفوظة.لهم إذن تقاليد.. ولكنهم
ينكرون التقاليد التي يرونها مخالفة لعقائدهم الخاصة. علي أن التقاليد تراث ثمين،
من الخسارة لأي كنيسة أن تفقده، وتصبح بلا ماض، وبلا ضابط يضبط حرية كل إنسان في
الفهم والتفسير.

 

كذلك أخوتنا البروتستانت يراعون أقوال الآباء
عندهم.

فبينما نحن في أقوال الآباء (في الباترولوجي)
كتابات القديس يوحنا ذهبي الفم مثلا في التفسير، ونضع في اللاهوت والعقيدة كتابات
القديس أثناسيوس والقديس كيرلس والقديس غريغوريوس الناطق بالإلهيات. ويعطون هم
أهمية خاصة لكتابات لوثر وكفلن وزو ينجل ومودي، ومن إليهم من مشاهير الأشخاص الذين
لا يسمونهم آباء. ولكن من الناحية العلمية توضع كتاباتهم في علم الباترولوجي..

 

وإن كانوا يحترمونهم، ولكنهم لا يلتزمون بهم.

 كتاباتهم لها أهمية، ولكن يمكن معارضتها
وتجاوزها.. كمجرد آراء لها أهمية، ولكنها غير ملزمة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار