اللاهوت الروحي

الفصل الثالث



الفصل الثالث

الفصل الثالث

قدِّسوا صوماً

23- معنى عبارة “قدسوا صوماً”

قال الرب علي لسان يوئيل النبي ” قدسوا
صوماً، نادوا باعتكاف ” (يوئيل 1: 14، 2: 15). فما معني تقديسنا للصوم؟ وكيف
يكون؟

كلمه “تقديس” كانت في أصلها اليوناني
تعني التخصيص.

فلما قال الرب لموسى ” قدس لي كل بكر، كل
فاتح رحم.. إنه لي ” (خر 13: 2). كان يعني خصص لي هؤلاء الأبكار، فلا يصيرون
لغرض آخ: أبكار الناس كانوا يتفرغون لخدمة الرب قبل اختيار هرون وأولاده. وأبكار
البهائم كانت تقدم ذبائح.. والثياب المقدسة هي المخصصة للرب لخدمه الكهنوت. وفي
هذا قال الرب لموسى النبي ” فيصنعون ثياباً مقدسة لهرون أخيك ولبنية، ليكهن
لي “(خر 28: 5). أواني المذبح هي أوان مقدسة للرب، لأنها مخصصة لخدمته، لا
يمكن أن تستخدم في غرض آخر. وتقديس بيت للرب معناها تخصيص بيت للرب، فلا يمكن أن
يستخدم في أي غرض آخر سوي عبادة الرب ” بيتي بيت الصلاة يدعي ” (مت 21:
13). ولعل البعض يسأل: ما معني قول الرب عن تلاميذه ” من أجلهم أقدس انا
ذاتي..” (يو 17: 19)؟ معناها قول الرب عن تلاميذه ” من أجلهم، أي لأجل
الكنيسة، لأني جئت لأقدس هؤلاء..

 

وبهذه تكون المقدسات هي المخصصات للرب.

 

أي أنها أشياء للرب وحده وليس لغيره، هي مخصصه
للرب، مثل البكور مثلاً. وفي هذا يقول الرب علي لسان حزقيال النبي ” هناك
أطلب تقدماتكم وباكورات جزاكم مع جميع مقدساتكم” (حز 20: 40). ويقول عن بكور
كل شجرة مثمرة ” وفي السنة الرابعة يكون كل ثمرها قدساً لتمجيد الرب” (لا
19: 24) أي يكون ثمرها مخصصاً للرب، يعطي لكهنة الرب (حز 44: 30). والموال التي
تدخل إلي خزانه الرب في الهيكل، قيل عنها ” تكون قدساً للرب، وتدخل في خزانه
الرب “(يش 6: 19). أي تخصص للرب.

 

وبنفس المعني كان تقديس الأيام أي تكون مخصصه
للرب.

 

فعبارة ” أذكر يوم السبت لتقدسه” (خر
20: 8) أي تخصص هذا اليوم للرب ” لا تعمل فيه عملاً ما ” إنه للرب.
وبنفس المعني تقديس كل مواسم الرب، كل أعياده. تقام فيها محافل مقدسة، وتخصص تلك
الأيام للرب. لا تعمل فيها أي عمل (لا 23: 7، 8، 21، 25، 31، 36).

 

وهكذا تقدس الصوم معناه تخصيصه للرب.

 

تكون أيام الصوم مقدسه، أي مخصصة للرب. هي أيام
ليست من نصيب العالم، ولكنها نصيب الرب، قدس للرب. ولهذا وضح الوحي الإلهي هذا
المعني بقوله ” قدسوا صوماً نادوا باعتكاف “. لأن الاعتكاف يليق بسبب
أعمالك الرسمية. أعتكف ما تستطيعه من الوقت لكي تتفرغ للرب . وإن ضاق وقتك علي
الرغم منك، فهناك معني آخر للتخصيص:

 

علي الأقل: خصص هدف الصوم للرب.

 

وهكذا يكون صوماً مقدساً أي مخصصاً للرب في
هدفه، وفي سلوكه. بهذا ندخل في المعني المتداول لكلمة مقدس، أي طاهر، لأنه للرب..
فهل هدف صومك هو الرب.

 

24- ما هو هدف صومك؟!

لماذا نصوم؟ ما و هدفنا من الصوم؟ لأنه بناء علي
هدف الإنسان، تتحدد وسيلته. وأيضاً بناء علي الهدف تكون النتيجة.

 

هل نحن نصوم، لمجرد أن الطقس هكذا؟

 

لمجرد أنه ورد في القطمارس، أو التقويم
(النتيجة)، أن الصوم قد بدأ، أو قد أعلنت الكنيسة هذا الأمر؟ إذن فالعامل الفلبي
الجواني غير متكامل.. طبعاً طاعة الكنيسة آمر لازم، وطاعة الوصية أمر لازم. ولكننا
حينما نطيع الوصية، ينبغي أن نطيعها في روحانية وليس في سطحية.. وان كانت الكنيسة
قد رتبت لنا هذا الصوم، فقد رتبته من أجل العمق الروحي الذي فيه. فما هو هذا العمق
الروحي؟؟ وما هدفنا من الصوم؟

 

هل هدفنا هو مجرد حرمان الجسد وإذلاله

 

في الواقع إن الحرمان الجسد ليس فضيلة في ذاته،
إنما هو مجرد وسيلة لفضيلة وهي أن تأخذ الروح مجالها. فهل نقتصر علي الوسيلة، أم
ندخل في الهدف منها وهو إعطاء الروح مجالها؟… ما أكثر الأهداف الخاطئة التي تقف
أمام الإنسان في صومه!

 

فقد يصوم البعض لمجرد أن يرضي عن نفسه.

 

لكي يشعر أنه إنسان بار، يسلك في الوسائط
الروحية، ولا يقصر في آيه وصية… أو قد يصوم لكي ينال مديحاً لكي ينال مديحاً من
الناس في صومه، أو في درجة صومه.. وهكذا يدخل في مجال المجد الباطل، أي يدخل في
خطية! ما هو إذن الهدف السليم من الصوم؟

 

الهدف السليم أننا نصوم من أجل محبتنا لله.

 

من أجل محبتنا، نريد أن تكون أرواحنا ملتصقة
بالله. ولا نشاء أن تكون أجسادنا عائقاً في طريق الروح. لذلك نخضعها بالصوم لكي
تتمشي مع الروح في عملها. وهكذا نود في الصوم، أن نرتفع عن المستوي المادي وعن
المستوي الجسداني، لكي نحيا في الروح، ولكي تكون هناك فرصه لأرواحنا البشرية أن
تشترك في العمل مع روح الله، وان تتمتع بمحبة الله وبعشرته . حقاً ان التمتع بمحبة
الله وحلاوة عشرته، من المفروض أن يكون أسلوب الحياة كلها. ولكن لا ننسي أننا ننال
ذلك بصورة مركزه في الصوم، فيها عمق أكثر، وحرص أكثر، كتدريب وكتمهيد لكي تكون هذه
المتعة بالله هي أسلوب الحياة كلها.

 

فنحن نصوم لأن الصوم يقربنا إلي الله.

 

الصوم فيه اعتكاف، والاعتكاف فرصة للصلاة
والقراءة الروحية والتأمل. والصوم يساعد علي السهر وعلي المطانيات. والسهر والمطانيات
مجال للصلاة. والصوم فيه ضبط للإرادة وانتصار علي الرغبات. وهذا يساعد علي التوبة
التي هي الطريق إلي الله وإلي الصلح معه. ونحن نصوم وفي صومنا تتغذي علي كل كلمة
تخرج من فم الله (مت 4). إذن من اجل محبة الله وعشرته، نحن نصوم. نصوم، لأن الصوم
يساعد علي الزهد في العالميات والموت عن الماديات. وهذا يقوينا علي الاستعداد
للأبدي والالتصاق بالله. إن كان الصوم إذن هو أيام مخصصه لله وحده، وإن كنا نصوم
من اجل الله ومحبته، فإن سؤالاً يطرح نفسه علينا وهو:

 

هل هناك اصوام غير مخصصه لله؟

 

نعم، قد توجد أصوام للبعض لا نصيب لله فيا.
كإنسان يصوم ولا نصيب لله في حياته علي الرغم من صومه! يصوم وهو كما هو، بكل
أخطائه، لم يتغير فيه شئ! أو يصوم كعادة، أو خوفاً من الإحراج لأجل سمعته كخادم.
أو أن صيامه مجرد صوم جسداني كله علاقة بالجسد، ولا دخل للروح فيه! أو هو صوم
لمجرد إظهار المهارة، والقدرة علي الأمتناع عن الطعام. أو قد يكون صوماً عن
الطعام، وفي نفس الوقت يمتع نفسه بشهوات أخري لا يقوي علي الأمتناع عنها..!

 

يظن البعض أن الصوم مجرد علاقة بين الإنسان وبين
الطعام، دون أن يكون الله طرفاً ثالثاً فيها.

 

كل اهتماماته في صومه هي هذه: ما هي فترة
الانقطاع؟ متي يأكل؟ وكيف ينمو في أطاله فترة إنقطاعه؟ وماذا يأكل؟ وكيف يمنع نفسه
عن أصناف معينه من الطعام؟ وكيف يطوي أياماً..؟ كأن الصوم بين طرفين هو و الطعام،
أو هو والجسد! دون أن يكون الله طرفاً في هذا الصوم بأيه صورة من الصور!! أحقاً
هذا صوم؟! إن الصوم ليس هو مجرد تعامل مع الجسد بل هو تعامل مع الله. والصوم الذي
لا يكون الله فيه، ليس هو صوماً علي الأطلاق.

 

نحن من أجل الله نأكل، ومن أجله نصوم.

 

من اجل الله نأكل، لكي ينال هذا الجسد قوة
يستطيع بها أن يخدم الله، وأن يكون أميناً في واجباته تجاه الناس. ونحن من أجل
الله نجوع لكي نخضع الجسد فلا يخطئ إلي الله. ولكن يكون الجسد تحت سيطرتنا، ولا
نكون نحن تحت سيطرة الجسد، لكي لا تكون رغبات الجسد وشهواته هي قائدتنا في
تصرفاتنا. وإنما نسلك حسب الروح وليس حسب الجسد، من أجل محبتنا لله، وحفاظاً علي
شركتنا مع روحه القدوس. أما في غير ذلك فيكون الصوم مرفوضاً من الله.

 

25- أصوام باطلة ومرفوضة

ليس كل صوم مقبولاً من الله. فهناك أصوام باطلة،
لا تعتبر بالحقيقة أصوامأ، وهي مرفوضة من الله. وقد قدم لنا الكتاب أمثلة من هذه
الأصوام المرفوضة.

 

1- منها الصوم الذي لكسب مديح الناس.

الصوم المكشوف الظاهر، الذي يشاء أن يكون
مكشوفاً لكي يراه الناس ويمتدحوه. وعن هذا الصوم قال السيد الرب في عظته علي
الجبل: ” ومتي صمتم فلا تكونوا عابسين كالمرائين، فإنهم يغيرون وجوههم لكي
يظهروا للناس صائمين. الحق أقول لكم إنهم قد استوفوا أجرهم. وأما أنت فمتي صمت،
فادهن رأسك واغسل وجهك، لكي لا تظهر للناس صائماً بل لأبيك الذي في الخطاء. فأبوك
الذي يري في الخفاء يجازيك علانية “(مت 6: 16-18) هذا الصوم الذي لمديح
الناس، ليس لأجل الله، ولا نصيب لله فيه. لذلك هو صوم باطل.

 

2- وصوم الفريسي الذي وقف مثال آخر لصوم غير
مقبول.

هذا الفريسي الذي وقف أمام الله يتباهي بفضائله
ويقول ” أصوم يومين في الأسبوع وأعشر جميع أموالي “. وفي نفس الوقت كان
يدين العشار قائلاً عن نفسه ” لست مثل سائر الناس الظالمين الخاطفين الزناه
ولا مثل هذا العشار “. لذلك لم يخرج من الهيكل مبرراً، مثلما خرج العشار
المنسحق القلب (لو 18: 9-14). وهذا المثل يرينا ان الصوم الذي لا يمتزج بالتواضع
والانسحاق هو صوم مرفوض من الله لأن صاحبه يظن في نفسه أنه بار، ويحتقر الآخرين
(لو 18: 9).

 

3- الصوم الذي هدفه خاطئ، صوم غير مقبول.

ومن أمثله هذا الصوم أولئك اليهود الذين صنعوا
اتفاقاً فيما بينهم ” وحرموا أنفسهم قائلين إنهم لا يأكلون ولا يشربون حتى
يقتلوا بولس. وكان الذين صنعوا هذا التحالف نحو الأربعين ” أع 23: 12، 13).
وطبعاً كان صومهم هذا خطية بل لا نستطيع أن نسميه صوماً بالمعني الروحي.

 

4- صوم الشعب الخاطئ أيام ارمياء النبي.

هؤلاء لم يقبل الرب صومهم بل قال عنهم لأرميا
النبي ” لا تصل لأجل هذا الشعب للخير حين يصومون لا أسمع صراخهم. وحين يصعدون
محرقه وتقدمه لا أقبلهم . بل بالسيف والجوع والوبأ أنا أفنيهم” (أر 14: 11،
12) . هؤلاء لم يقبل الرب أصوامهم ولا صلواتهم ولا محرقاتهم، لأنهم كانوا يعيشون
في الشر، وقلوبهم لم تكن طاهرة قدامه..

 

أذن الصوم البعيد عن التوبة هو صوم غير مقبول.

 

فالله يريد القلب النقي، أكثر مما يريد الجسد
الجائع. والإنسان الذي يصوم فمه عن الطعام، ولا يصوم قلبه عن الخطايا، ولا يصوم
لسانه عن الأباطيل، فصوم هذا الإنسان باطل، حتى إن يسلم جسده ليحترق فلا ينتفع
شيئاً (1 كو 13: 3)

 

5- والصوم العيد عن الرحمة و الصدقة، غير مقبول

 وقد شرح
الرب هذا الأمر لإشعياء النبي، فقال له ” يقولون لماذا صمنا ولم تنظر؟ ذللنا
أنفسنا ولم تلاحظ؟.. ها إنكم للخصومة و لنزاع تصومون.. أمثل هذا يكون صوم اختاره..
هل تسمي هذا صوماً ويوماً مقبولاً للرب؟! أليس هذا صوماً أختاره: حل قيود الشر، فك
عقد النير، وإطلاق المسحوقين أحرارا.. أليس أن تكسر للجائع خبزك، وأن تدخل
الماسكين التائهين إلي بيتك..” (أش 58: 3- 7). فالذي يصوم، حتى ولو كان صوماً
بتذللك بالمسوح و الرماد، يحني فيه كالأسلة رأسه، هو صوم غير مقبول، أ لم يكن
ممتزجاً بأعمال الرحمة وبنقاوة القلب…

 

6- والصوم الذي ليس لأجل الله، صوم باطل.

فقد يصوم إنسان، لأن الأطباء أمروه بهذا. وقد
يصوم آخر من أجل رشاقة جسده وحسن منظرة وكلاهما ليس من أجل الله، ولا ينتفع روحياً
بصومه. وقدوم إنسان ثالث، بأسلوب إضراب عن الطعام، وليس بهدف روحي، ولا من أجل
الله.. كما يمتنع رابع عن الطعام حزناً أو يأساً، ولا نستطيع أن نعتبر أحداً من
هؤلاء صائماً بالحقيقة. نعود ونقول: كل صوم ليس هو من أجل الله، وليس هو بسبب
روحي، لا يمكن أن نعتبره صوماً علي الإطلاق، ولا يقبله الله.

 

فما هو الصوم الروحي المقبول أمام الله؟

 

هو الصوم الذي تكون فيه علاقة عميقة مع الله.
الصوم الذي تشعر فيه بالله في حياتك، هو الفترة المقدسة التي تشعر أن الله يملكها،
وأنها مخصصة كلها لله، وان وجود الله ظاهراً جداً خلالها في كل تصرفاتك، وعلاقتك
بالله تزداد وتنمو في كل يوم من أيام الصوم، بمتعة روحية تشتهي بسببها أن يطول
صومك ولا ينتهي. لعل هذا يجعلنا نفحص سؤال هاماً وهو: ما علاقة الله بصومك؟!

 

26- ما علاقة الله بصومك؟!

ما الذي آخذه الله من صومك؟ وما الذي أخذته أنت
من الله؟ ماذا أعطيت الله في صومك، وماذا أعطاك؟ هل كان صومك فتره غير عادية في
حياتك؟ أياماً مقدسة شعرت فيها بيقظة روحية تدعوك أن تذوق وتنظر ما أطيب الرب؟ هل
اختبرت فيها كيف تسلك حسب الروح وليس حسب الجسد؟

 

ليس الصوم هو تغيير طعام بطعام.

 

 وليس هو
امتناع فتره معينة عن الطعام.. كل هذه مجرد وسائل، ولكنها ليست هي جوهر الصوم.
فجوهر الصوم هو انطلاق الروح من مطالب هذا الجسد، لكي يسمو الجسد معها، ويرتفع
الإنسان بعيداً عن ثقل المادة، متجهين معاً في اتجاه واحد هو محبة الله، والتمتع
بعشرته. هذا هو الصوم المقدس، أي المخصص لله. ثلاثة أشياء لابد أن تخصصها لله في
صومك، إن أردت ان تقدس هذا الصوم لله.

 

في الصوم تخصص القلب و الفكر والإرادة لله.

 

فلا يكون كل صومك هو انشغال بالأكل والشرب.
وإنما امتناعك عن الأكل والشرب، وضبطك فيما تآكل وتشرب، إنما هو تدريب لهذه
الإرادة كيف تقوي، ولا تكون قاصرة علي موضوع الطعام فحسب، وإنما إرادتك التي نجحت
في السيطرة علي الطعام، تقدم ذاتها لله في كل شئ.

 

فلا تريد إلا ما يريده الله..

 

وهذه هي الحكمة من الصوم. أن منع النفس عن الكل،
يمتد إلي أن يصير منعاً عاماً عن كل ما يغضب الله.. فلا يكفي أن تمنع نفسك عن
الأطعمة الحيوانية، أو عن الكل عموماً، وتبقي بلا ضابط في خطايا معينة ! إنما في
صومك قدم إرادتك لله في كل تصرفاتك وقل له ” لتكن لا إرادتي بل إرادتك”.

 

إبحث إذن أين تشرد إرادتك بعيدا عن الله.

 

وركز علي هذه النقطة بالذات لكي تنجح فيها،
وتقدم لله إرادة صالحة ترضيه وهذا التدريب الذي تسلك فيه أثناء الصوم، سوف يصحبك
بعده أيضاً. لأنه من غير المعقول أن تضبط نفسك في البعد عن خطايا معينه أثناء
الصوم، ثم تبيح هذا الأمر لنفسك عندما ينتهي الصوم! وإلا فما الذي تكون قد استفدته
من صومك؟!

 

أحرص أن يكون الصوم قد غير فيك شيئاً.

 

لا تأخذ من الصوم مجرد تغيير الطعام، إنما تغيير
الحياة إلي أفضل.. تغيير النقائص التي فيك، والضعفات التي تحسها في علاقتك مع الله
و الناس. لأنه ماذا تستفيد أن قهرت نفسك خلال خمسة وخمسين يوماً في الصوم الكبير،
وخرجت من الصوم كما كنت تماماً قبله، دون أن تكون علاقة حب مع الله، وعلاقة حب مع
الله، وعلاقة ثابت فيه؟!

 

تأمل كم صوماً مر عليك، وأنت كما!

 

كم هي الأصوام، التي صمتها، منذ أن عرفت الله
حتى الآن؟ كم سنة مرت عليك، وفي كل سنة عدد من الأصوام، مع أربعاء وجمعة في كل
أسبوع. تأمل لو كنت في كل صوم منها تنجح إرادتك، ولو في الانتصار علي نقطة ضعف
معينه حتى تصطلح مع الله فيها وتذوق حلاوة مشيئته.. تري لو سلكت هكذا، كم كنت تري
حصاد حياتك وفيراً في الروحيات، وكم كانت علاقتك بالله تزيد وتتعمق…

 

لا تأخذ من الصوم شكلياته، بل ادخل إلي العمق.

 

فليس الصوم مجرد شكليات ورسميات، ولا هو مجرد
فروض أو طقوس، إنما هو نعمة أعطت لنا من الله، ونظمتها الكنيسة لخيرنا الروحي.
لأجل تنشيط أرواحنا، وتذكيرنا بالمثالية التي ينبغي أن نسلك فيها، وتدريبنا علي
” القداسة التي بدونها لا يعاين أحد الرب “(عب 12: 14).

 

الصوم إذن فترة مقدسة مثالية غير عادية.

 

يحتاج إلي تدبير روحي من نوع خاص يتفق مع
قدسيتها. حالماً يبدأ الصوم نشعر أننا دخلنا في حياة لها سموها، وفي أيام غير
عادية نتدرب فيها علي حياة الكمال. ولذلك لا يجوز أن تمر علينا شأنها كباقي
الأيام… إنها صفحة جديدة في علاقتنا مع الله، ندخلها بشعور جديد وبروح جديدة..
حقاً إن كل أيام حياتنا ينبغي أن تكون مقدسة. ولكن فترة الصوم هي أيام مقدسة غير
عادية. وإن سلكنا فيها حسناً، سنصل غلي قدسية الحياة كلها.. إنها فتره نتفرغ فيها
لله علي قدر إمكاننا، ونعمق علاقتنا به.

 

هل سمعتم عن الصوم الذي يخرج الشياطين؟

 

وكيف قال الرب عن الشياطين ” هذا الجنس لا
يخرج إلا بالصلاة والصوم (مت 17: 21). فأي صوم هذا الذي لا تستطيع الشياطين أن
تحتمله فتخرج؟ أهو مجرد الامتناع عن الطعام؟ كلا بلا شك. بل إنها العلاقة القوية
التي تربط الصائم بالله، هذه التي لا يحتملها الشيطان.. الدالة التي بين الإنسان
والله، دالة الحب وصلة الروح التي حرم منها الشيطان، ما ان يراها حتى يتعب ويذهب..
القلب الملتصق بالله في الصوم، هذا يراه الشيطان فيهرب.

 

فهل قلبك ملتصق بالله في الصوم؟

 

هل تعطيه قلبك كما تعطيه إرادتك؟ وهل تشعر بحبه
أثناء الصوم؟ هل هذا الحب طابع واضح في صلواتك وتاملاتك أثناء الصوم؟ وهل من أجل
محبته نسيت طعامك وشرابك، ولم تعد تهتم بشيء من هذا؟

 

وكأنك تقول لجسدك أثناء صومك:

 

أنا لست متفرغاً لك الآن. أكلت أو لم تأكل، هذا
موضوع لم يعد يشغلني أو يهمني… ” لكل شئ تحت السموات وقت “. وليس هذا
هو وقتك.. أنا الآن مشغول بعمل روحي مع الله. فتعال اشترك معنا، أن أردت أن يكون
لك كيان في هذا الصوم. أما الطعام فليس الان مجاله. طعامي الآن هو كل كلمة تخرج من
فم الله. هذه هي مشاعر من يقول في صومه مع القديس يوحنا الرائي:

 

كنت في الروح في يوم الرب (رؤ 1: 10).

 

ولا شك أن يوم الصوم هو يوم للرب. فهل انت
” في الروح ” أثناء صومك؟ هل نسيت جسدك تماماً بكل ماله من رغبات ومطالب
واحتياجات، وفضلت أن تحيا في الروح خلال فترة الصوم؟ ليس للجسد عندك سوي الضروريات
التي لا قيام له بدونها.. وكأنك تقول مع بولس الرسول ” في الجسد أم خارج
الجسد، ليست أعلم. الله يعلم “(2كو 12: 3).

 

هل يكون فكرك منشغلاً بالله في صومك؟

 

في أثناء القداس الإلهي ينادي الأب الكاهن قائلاً
” أين هي عقولكم “؟ ويجيب الشعب ” هي عند الرب “. وانا اريد
ان أسأل نفس السؤال أثناء الصوم ” أين هي عقولكم “؟ أتستطيع ان تجيب
” هي عند الرب “؟ أليس الصوم فترة مقدسة لله، مخصصة له، يجب فيها ان
ينشغل الفكر بالله وحده؟ افحص يا أخي نفسك، وأبحث عن أفكارك اين هي أثناء الصوم.

 

هل مشاغل الدنيا تملأ فكرك أثناء الصوم؟

 

فأنت في دوامه العمل، وفي دوامة الأخبار، وفي
دوامة الأحاديث مع الناس، لا تجد وقتاً لله تعطيه فيه فكرك! وربما تصوم حتى
الغروب، وفكرك ليس مع الله، قد أرهقه الجولان في الأرض و التمشي فيها..! وربما
تفكر في التافهات، وتتكلم عن التافهات، والله ليس علي فكرك، ولا تذكره إلا حينما
تجلس لتآكل، فنصلي قبل الأكل، وتذكر الله وتذكر انك كنت صائماً! هل هذا صوم روحي
يريح ضميرك؟! ليتك إذن تذكر قول داود النبي:

 

جعلت الرب أمامي في كل حين.

 

هو أمامي في كل عمل أعمله، وفي كل كلمة
أقولها.إنه شاهد علي كل شئ. وأيضاً جعلته أمامي لأنه هدفي الذي لا أريد أن اتحول
عنه لحظه واحدة وهو امامي لأنني من أجله وحده أصوم لكي لا أنشغل عنه بل اجعله
أمامي كل حين.. أن كنت في الأيام العادية، ينبغي أن تضع الله أمامك في كل حين، فكم
بالأكثر في فترات الصوم التي هي مخصصة لله ومقدسة له؟

 

إن كان الله ليس علي فكرك، فلست صائماً.

 

يوم الصوم الذي لا تفكر فيه في الله، اشطبه من
أيام صومك، إنه لا يمكن أن يدخل تحت عنوان “قدسوا صوماً”.. ولكن لعل
البعض يسأل: كيف يمكنني تنفيذ هذا الأمر، وأنا أعيش في العالم، ولي مسئوليات كثيرة
ينبغي أن أفكر فيها؟

 

إذن احفظ التوازن، وأمامك ثلاث قواعد:

 

1- لا تجعل مسئولياتك تطغي، بحيث تستقطب كل
أفكارك، ولا تبقي في ذهنك موضعاً لله.. أجعل لمسئولياتك حدوداً، وأعط لربك مجالاً.

 

2- كل فكر لا يرضي الله إبعده عنك، فهو لا يتفق
مع المجال القدسي الذي تعيش فيه. وكما يقول القديس بولس الرسول ” مستأسرين كل
فكر لطاعة المسيح “(2 كو 10: 5). لذلك لا تنجس صومك بفكر خاطئ. فالفكر الذي
يطيع المسيح استبقه معك، والذي لا يطيع اطرده عنك.

 

3- إشرك الله معك في أفكارك، وفي أهداف أفكارك.
وقل:

 

أنا من أجل الله أفكر في هذا الموضوع.

 

أنت تفكر في مسئولياتك. حسناً تفعل. ولكن لا
تجعلها منفصلة عن الله. الله هو الذي أعطاك هذه المسئوليات. وأنت من أجل تفكر
فيها. ولا يكون فكرك فيها منفصلاً عن الله.. من أجل الله تفكر في شئون عملك. ومن
أجله تفكر في دروسك ومذكراتك. ومن اجله تفكر في خدمتك وفي مسئوليتك العائلية. بشرط
أن هذا التفكير كله لا يبعدك عن الله الذي هو الأصل والأساس. فكر في مسئولياتك
العائلية. بشرط أن هذا التفكير كله لا يبعد عن الله الذي هو الأصل والأساس. فكر في
مسئولياتك. وقل للرب أثناء ذلك:

 

إشترك في العمل مع عبيدك.

 

طالب مثلاً يذاكر أثناء الصيام. والله يشترك
معه. هو يذاكر والله يعطيه الفهم، ويثبت المعلومات في ذهنة وفي ذاكرته. وهذا
التلميذ يقول للرب ” أنا يارب لا أستطيع أن أفهم من ذاتي. أنت تجلس معي
وتفهمني،و أشكرك بعد ذلك لأنك كنت معي.. وأنا أذاكر يا رب، ليس من اجل العلم، ولا
من أجل مستقبلي، إنما من أجلك أنت، لكي يعرف الكل أن أولادك ناجحون، وأن كل عمل
يقومون به يكونون أمناء فيه، ويكون الرب معهم ويأخذ بيدهم، فيحبك الناس
بسببهم…” تقول لله: من أجلك آكل، ومن أجلك أصوم.

 

من أجلك آكل، لكي آخذ قوة أقف بها في الصلاة، وأسهر
بها في التأمل، وأخدم بها أولادك، ويأخذ بها الناس فكرة أن أولادك أمناء في عملهم
وأنا اصوم، لكي يمكن لروحي أن تلتصق بك دون عائق من الجسد. هكذا تكون في الصوم مع
الله في كل عمل تعمله.

 

وتدخل في شركة مع المسيح الذي صام.

 

تشترك معه في الصوم، علي قدر ما تستطيع طبيعتك
الضعيفة أن تحتمل. هو صام عنك، فعلي الأقل تصوم عن نفسك. وهو قد رفض هذا الخبز
المادي، وأنت تشترك معه في رفض هذا الطعام البائد. وهو كان يتغذي بحبه للآب وعشرته
معه، وأنت أيضاً تكون كذلك. وهو انتصر علي الشيطان أثناء صومه، وأنت تطلب إليه ان
يقودك في موكب نصرته..

 

وبهذا يكون الصوم فترة غذاء روحي لك.

 

أخطر ما يتعب البعض في الصوم، أن يكون الجسد لا
يتغذي و الروح أيضاً لا تتغذي وهذا الوضع يجعل الصوم فترة حرمان أو تعذيب، وليس
هذا هو المعني الروحي للصوم. بل إن هذا الحرمان يعطي صورة قاتمه للصوم، إذ يقتصر
علي حرمان الجسد (سلبياً) ويترك غذاء الروح من الناحية الإيجابية.

 

وغذاء الروح معروف وهو:

 

الصلاة، والتأمل، وقراءة الكتاب المقدس، وكل
القراءات الروحية كأقوال الآباء وسير القديسين، والألحان والتسابيح، والإجتماعات
والأحاديث الروحية و المطانيات،… وما أشبه. وغذاء الروح يشمل أيضاً المشاعر
الروحية، ومحبة الله التي تتغذي بها الروح وكل أخبار الأبدية..

والروح إذا تغذي، تستطيع أن تحمل الجسد.

وهذا نراه واضحاً جداً في أسبوع الآلام، إذ تكون
درجة النسك فيه شديدة وفترة الإنقطاع طويلة. ولكن الجسد يحتمل دون تعب، بسبب
الغذاء التي تأخذه الروح خلال هذا الأسبوع من ذكريات آلام المسيح، ومن القراءات
والألحان والطقوس الخاصة بالبصخة، وتركيز العقل في الرب وآلامه.. وكثيراً ما يقرأ
الإنسان، ويشبع بالقراءة ولذتها، ويحين موعد الطعام، فلا يجد رغبة في أن يكمل
القراءة. لأن الروح تغذت فحملت الجسد فلم يشعر بجوع.. إذن اعط الروح غذاءها أثنا
الصوم. وكن واتقاً إن غذاء الروح سيعطي الجسد قوة يحتمل بها الصوم. كما أن صوم
الجسد يعطي عمل الروح قوة إذ يكون عملا روحياً بزهد الجسد وزهد الفكر. ولذلك نجد:

 

صلوات الصوم اعمق، وقداسات الصوم أعمق.

 

هي صلوات خارجة من جسد صائم قد أسلم قيادته
للروح. وهي صلوات خارجه من قلب صائم عن الماديات، ومن روح صائمه عن كل شهوة
عالمية. لذلك تكون صلاة قوية. كصلوات الليل ونصف الليل التي يصليها الإنسان بجسد
خفيف بعيد عن الأكل. آباؤنا في أصوامهم كانوا يهتمون بعمل الروح. فماذا عن أكلهم؟

 

كانوا أيضاً في تناول الطعام يهتمون بعمل الروح.

 

وذلك انهم كانوا يكلفون واحدا منهم يقرأ لهم
شيئاً من سير القديسين وأقوال الآباء أثناء تناولهم للطعام، حتى لا ينشغلون بالأكل
المادي ولا يتفرغون له، وحتي يكون لهم غذاؤهم الروحي أيضاً أثناء تناولهم غذاء الجسد.
وهكذا تعودوا عدم التفرغ لعمل الجسد، وتعودوا سيطرة الروح علي كل عمل من أعمال
الجسد. هناك وصايا تامر بالصوم. ولكن آباءنا لم يصوموا بسبب المر.

 

لم يصوموا طاعة و للوصية، إنما محبة للوصية.

 

الطاعة درجة المبتدئين. ولكن الحب هو درجة
الناضجين و الكاملين. وآباؤنا لم يكن الصوم بالنسبة إليهم أمراً ولا فرضاً ولا
طقساً، إنما كان لذة روحية، وجدوا فيها شبعاً، ووجدوا فيها راحة نفوسهم وأجسادهم.

 

وفي الصوم لم يقف آباؤنا عند حدود طاعة الوصية،
وإنما دخلوا في روحانية الوصية..

 

وروحانية الوصية الخاصة بالصوم هو لخيرنا، ولولا
ذلك ما أمرنا الله بالصوم وبالإضافة إلي ما قلناه، سنشرح هذا الأمر بالتفصيل
بمشيئة الرب في الفصل المقبل الخاص (بالفضائل المصاحبة للصوم). أما ألان فسنتحدث
عن أقدس أصوام السنة وهو الصوم الكبير.

 

27- الصوم الكبير

الصوم الكبير عبارة عن ثلاثة أصوام:

الأربعين المقدسة في الوسط. يسبقها أسبوع أما أن
نعتبره تمهيدياً للأربعين المقدسة، أو تعويضياً عن أيام السبوت التي لا يجوز فيها
الإنقطاع عن الطعام. يعقب ذلك أسبوع الآلام. وكان في بداية العصر الرسولي صوماً
قائماً بذاته غير مرتبط بالصوم الكبير.

 

والصوم الكبير أقدس أصوام السنة.

 

وأيامه هي أقدس أيام السنة، ويمكن أن نقول عنه
إنه صوم سيدي، لأن سيدنا يسوع المسيح قد صامه. وهو صوم من الدرجة الأولي، إن قسمت
أصوام الكنيسة إلي درجات.

 

هو فترة تخزين روحي للعام كله.

 

فالذي لا يستفيد روحياً من الصوم الكبير، من
الصعب أن يستفيد من أيام أخري أقل روحانية. والذي يقضي أيام الصوم الكبير
باستهانة، من الصعب عليه يدقق في باقي أيام السنة. حاول أن تستفيد من هذا الصوم في
ألحانه وقراءاته وطقوسه وروحياته الخاصة وقداساته التي تقام بعد الظهر.

 

كان الآباء يتخذون الصوم الكبير مجالاً للوعظ.

 

لأن الناس يكونون خلاله في حالة روحية مستعدة
لقبول الكلمة. حقاً عن الوعظ مرتب في كل أيام السنة. ولكن عظا الصوم الكبير لها
عمق أكثر. وهكذا فإن كثيراً من كتب القديس يوحنا ذهبي الفم، كانت عظات له ألقاها
في الصوم الكبير، وكذلك كثير من كتب القديس أوغسطينوس. بل أن الكنيسة كانت تجعل
أيام الصوم الكبير فترة لإعداد المقبلين للإيمان.

 

فتعدهم بالوعظ في الصوم الكبير ليتقبلوا نعمة
المعمودية.

 

فكانت تقام فصول للموعوظين خلال هذا الصوم تلقي
فيها عليهم عظات لتعليمهم قواعد الإيمان وتثبيتهم فيها. وهكذا ينالون العماد في
يوم أحد التناصير، لكي يعيدوا مع المؤمنين الأحد التالي أحد الشعانين ويشتركون
معهم في صلوات البصخة وأفراح عيد القيامة . ومن أمثلة ذلك عظات القديس كيرلس
الأورشليمي إعداد الموعظين للإيمان بشرحه لهم قانون الإيمان في أيام الصوم الكبير.

 

ولاهتمام الكنيسة بالصوم الكبير جعلت له طقساً
خاصاً.

 

فله ألحان خاصة، فترة إنقطاع أكبر. وله قراءات
خاصة، ومردات خاصة، وطقس خاص في رفع بخور باكر، ومطانيات خاصة في القداس قبل تحليل
الخدام نقول فيها (اكلينومين تاغوناطا). ولهذا يوجد للصوم الكبير قطمارس خاص. كما
انه تقرأ فيه قراءات من العهد القديم. وهكذا يكون له جو روحي خاص.

 

وقد علت الكنيسة له أسبوعاً تمهيدياً يسبقة. حتى
لا يدخل الناس إلي الربعين المقدسة مباشرة بدون استعداد. وإنما هذا الأسبوع
السابق، يمهد الناس للدخول في هذا الصوم المقدس، وفي نفس الوقت يعوض عن إفطارنا في
السبوت التي لا يجوز الانقطاع فيها.

 

بل الكنيسة مهدت له أيضا بصوم يونان.

 

فصوم يونان، أو صوم نينوي يسبق الصوم الكبير
بأسبوعين، ويكون بنفس الطقس تقريباً وبنفس الألحان، حتى يتنبه الناس لقدوم الصوم
الكبير ويستعدون له بالتوبة التي هي جوهر صوم نينوي. وكما اهتمت الكنيسة بإعداد
أولادها للصوم الكبير، هكذا ينبغي علينا نحن أيضا أن نلاقيه بنفس الاهتمام.

 

وإن كان السيد المسيح قد صار هذا الصوم عنا،

 

وهو في غير حاجة إلي الصوم، فكم ينبغي أن نصوم
نحن في مسيس الحاجة إلي الصوم لكي نكمل كل بر، كما فعل المسيح. ومن اهتمام الكنيسة
بهذا الصوم أنها اسمته الصوم الكبير

 

فهو الصوم الكبير في مدته، والكبير في قدسيته.

 

إنه اكبر الأصوام في مدته التي هي خمسة وخمسون
يوماً. وهو اكبرها في قدسيته، لأنه صوم المسيح له المجد مع تذكاراً آلامه المقدسة.
لذلك فالخطية في الصوم الكبير شاعة.

 

حقاً ان الخطية هي الخطية. ولكنها أكثر بشاعة في
الصوم الكبير مما في باقي الأيام العادية. لأنن الذي يخطئ في الصوم عموماً، وفي
الصوم الكبير خصوصاً، هو في الواقع يرتكب خطية مزدوجة: بشاعة الخطية ذاتها، يضاف
إليها الاستهانة بقدسية هذه الأيام. إذن هما خطيئتان وليس واحدة.

 

والاستهانة بقدسية الأيام، دليل علي قساوة
القلب.

 

فالقلب الذي لا يتأثر بروحانية هذه الأيام
المقدسة، لا شك أنه من الناحية الروحية قلب قاس يخطئ في الصوم، ينطبق عليه قول
السيد المسيح ” إن كان النور الذي فيك ظلاماً، فالظلام كم يكون ” (مت 6:
23). أي إن كانت هذه الأيام المقدسة المنيرة فترة للظلام، فالأيام العادية كم
تكون؟!

 

وقد اهتم الآباء الرهبان القديسون بالصوم
الكبير.

 

حياتهم كلها كانت صوماً. ولكن إيام الصوم الكبير
كانت لها قدسية خاصة في الأجيال الأولي، حيث كانوا يخرجون من الأديرة في الأربعين
المقدسة ويتوحدون في الجبال. ولعلنا نجد مثالاً لهذا في قصة القديس زوسيما القس
ولقائه بالقديسة مريم القبطية التائبة. وهكذا كان أيضاً نفس الاهتمام في رهبنة
القديس الأنبا شنودة رئيس المتوحدين، وفي كثير أثيوبيا.

 

فلنهتم نحن أيضاً بهذه الأيام المقدسة.

 

أن كنا لا نستطيع أن نطوي الأيام كما كان يفعل
السيد المسيح له المجد فعلي الأقل فلنسلك بالزهد الممكن، وبالنسك الذي نستطيع أن
نحتمله. وأن كنا لا نستطيع أن ننتهر الشيطان ونهزمة بقوة كما فعل الرب، فعلي الأقل
فلنستعد لمقاومته. ولنذكر ما قاله القديس بولس الرسول في رسالته إلي العبرانيين
معاتباً ” لم تقاوموا بعد حتى الدم مجاهدين ضد الخطية “(عب 12: 4).
مفروض إذن أن يجاهد الإنسان حتى الدم في مقاومة الخطية. إن كانت ثلاثة أيام صامتها
استير وشعبها، وكان لها مفعولها القوي ن فكم بالأولي خمسة وخمسون

 

هنا واقول لنفسنا في عتاب:

 

كم صوم الكبير مر علينا في حياتنا، بكل ما في
الصوم الكبير من روحيات؟ لو كنا نجني فائدة روحية في كل صوم، فما حصاد هذه السنين
كلها في أصوامها الكبيرة التي صمناها، وباقي الأصوام الأخري أيضاً؟ إن المسأله
تحتاج إلي جدية في الصوم، وإلي روحانية في الصوم، ولا نأخذ الأمر في روتينية أو
بلا مبالاة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار