اللاهوت الدفاعي

الفصل التاسع



الفصل التاسع

الفصل التاسع

القرآن وشبهة تحريف الكتاب المقدس

 

إِنَّا
نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ

(الحجر: 9)

 

إننا نتحدّى
أي إنسان يقول لنا أن القرآن أشار من بعيد أو قريب لتحريف الإنجيل بأي صورة من
الصور، ونتحدى أن يقول لنا أحد أنه أشار لتحريف التوراة بمعني التغيير أو التبديل
أو الإضافة أو الحذف!!!!

وقبل أن
نبدأ في دراستنا لإثبات صحة وسلامة التوراة والمزامير (الزبور) والإنجيل، الكتاب
المقدس، واستحالة تحريفه وبطلان نظريات النقاد، من جهات عديدة، نناقش هنا موقف
القرآن وكتب الحديث والسيرة النبوية وما قاله المفسرون الأوائل في هذه القضية.
ولكي نفهم هذه المسألة جيداً ونصل إلى نتائج علمية مدروسة نضع الأسئلة التالية
كمدخل للبحث:

1 – هل قال
القرآن أن ما كان موجوداً مع اليهود والنصارى من كتب في أيام نبي المسلمين ليست هي
الكتب التي نزلت على
موسى
وداود وعيسى؟

2 – وهل
أشار من قريب أو من بعيد إلي تحريف حروف أو كلمات أو آيات محددة في التوراة أو
الإنجيل، سواء بالزيادة أو النقصان أو الحذف أو الإضافة أو التغيير أو التبديل؟

3 – هل هناك
آيات تتحدث عن تحريف حرفي في التوراة أو الإنجيل بمعنى التغيير أو التبديل؟

4 – هل رأى
نبي المسلمين التوراة مع اليهود واستشهد بها وأحتكم بأحكامها؟

5 – كان مع
ورقة بن نوفل ابن عم السيدة خديجة وقريب نبي المسلمين، العالم الحنيفي المتأثر
بالنصرانية إنجيل يترجم منه من العبرية (السريانية) إلى العربية، فهل رآه نبي
المسلمين أو قرأه ورقة الذي تعبد معه في غار حراء، في شهر رمضان، أكثر من 15 سنة؟

6 – وهل قال أحد من الصحابة الذين كانوا من أصل يهودي أو مسيحي،
مثل ابن اسحق وسلمان الفارسي وغيرهم، بتحريف التوراة أو الإنجيل؟

وقبل
الإجابة على هذه الأسئلة نوضح أن هناك خمس آيات تتحدث عن تحريف اليهود لمعاني آيات
التوراة ومعاني كلام نبي المسلمين ؛

1 – فما
المقصود بذلك وكيف حدث وما هو رأي المفسرين الأوائل في ذلك؟

2 – هل هو
التحريف اللفظي، بالتأويل والتفسير على غير المعنى المقصود أصلاً في كلمة الله؟ أم
بحسب ما تصوره المسلمون من التحريف الحرفي بمعنى التغيير

أو التبديل
أو الحذف أو الإضافة؟

3 – هذا
الكلام
قيل
عن فئة من اليهود وليس عن كل اليهود، فهل قيل مثله عن أي فئة من فئات النصارى؟

4 – ما هو رأي قدماء المفسرين وأصحاب كتب أسباب النزول والصحاح
الستة فيما تقصده هذه الآيات، وما تفسيرهم لها؟

5 – وهل رأى نبي المسلمين التوراة وأستشهد بما جاء فيها ككلمة الله؟ وهل رجع إليها
في مواقف محددة؟ أين؟ ومتى؟ ولماذا؟ وماذا قال عنها؟

6 – وهل أختلف مع اليهود حولها، أم أرتضى بما جاء فيها من أحكام؟

7 – وهل رفض التعامل بها بحجة أنها محرفة، أم أن ذلك لم يكن في
فكره وفكر صحابته ومعاصريه من الأصل؟

8 – وهل
أختلف مع
النصارى
العرب حول الإنجيل، وهل أشار من قريب أو من بعيد لأي نوع من أنواع التحريف فيه؟

 ولنا
ملحوظتان هامتان يجب أن نضعهما في الاعتبار وهما كما هو واضح من مضمون الأحاديث
التي ذكرها المفسرون أن التوراة التي كانت مع اليهود كانت باللغة العبرية، وكانوا
يقرءونها، كعادتهم، بالعبرية ويترجمون معانيها بالعربية، وكانت ترجمة معانيها في
الأغلب ترجمة معنوية وليست حرفية. ولأنه كان من النادر أن يوجد بين العرب من يعرف
العبرية مثل اليهود إلا بعض الصحابة الذين كانوا من أصل عبري مثل عبد الله بن سلام
ووهب بن منبه. لذا اتهم المسلمون اليهود بتحريف معاني كلمات التوراة مثلما حدث في
حادثتين سنأتي على ذكرهما وهما، حادثة الرجم التي حاول فيها القارئ اليهودي
للتوراة إخفاء آية الرجم بوضع يده عليها وكشف ذلك عبد الله بن سلام، وحادثة سب
اليهود نبي المسلمين باستخدام كلمة ” راعنا ” من المراعاة وتحويله إلى
” رعناً ” من الرعونة ” وكشف ذلك أحد المسلمين الذي كان له معرفة
باللغة العبرية.

 والملحوظة
الثانية هي تأكيد القرآن وكتب الحديث والسيرة على أنه لا يمكن تحريف كلام الله،
ومن ثم كانت تهمة التحريف المقصود بها هي تحريف معنى الكلمة، أو إخفائها باليد
وعدم قراءتها، أو اللي باللسان وتغيير المعنى عند اللفظ به واستحالة تغير اللفظ
بإزالته أو تغييره أو تبديله في الكتاب، فقد بقيت الكلمات كما هي في الكتاب إنما
فسرت بناء على هوى من فسرها من اليهود، أو بإخفاء القارئ اليهودي لنص منها مثل
إخفاء آية الرحم بيده!!

 وفيما يلي
الآيات القرآنية التي تتحدث عن التحريف وهي تشير إلى نوعين أساسيين قامت بهما فئة
من اليهود، هما ؛ التحريف باللي باللسان أثناء القراءة، أي بالقراءة غير الصحيحة
للنص الصحيح، أو بمعنى أدق التلاعب بالألفاظ!! التحريف بتأويل الكلام وتفسيره على
غير معناه، أو بحسب الهوى!! وذلك إلى جانب الاعتقاد بأن هناك آيات، في صالح
الإسلام، أخفاها أو كتمها اليهود مثل نعت نبي المسلمين!!

1 – التحريف بمعني التأويل أو التفسير على
غير المعنى:

¯
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ
وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ
يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا
عَقَلُوهُ
وَهُمْ يَعْلَمُونَ
(البقرة: 75).

 وهنا إشارة
إلى التوراة ككلام الله مع إشارة لنوع من التحريف “ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ
مِنْ بَعْدِ مَا
عَقَلُوهُ
وَهُمْ يَعْلَمُونَ
. فمن هم
المقصودون بقوله ” يُؤْمِنُوا لَكُمْ
“؟ وما هو التحريف المقصود؟ هل هو التحريف بمعني تغيير أو
تبديل أو حذف أو إضافة نقطة أو حرف أو كلمة أو عبارة أو جملة؟ أم هو تحريف بمعني
التفسير أو التأويل على غير المعنى المقصود؟

& جاء في تفسير القران الكريم لابن
كثير ” يَقُول
تَعَالَى
” أَفَتَطْمَعُونَ ” أَيّهَا الْمُؤْمِنُونَ ” أَنْ يُؤْمِنُوا
لَكُمْ
أَيْ يَنْقَاد لَكُمْ بِالطَّاعَةِ هَؤُلَاءِ الْفِرْقَة
الضَّالَّة مِنْ الْيَهُود

الَّذِينَ شَاهَدَ آبَاؤُهُمْ مِنْ الْآيَات الْبَيِّنَات مَا شَاهَدُوهُ ثُمَّ قَسَتْ
قُلُوبهمْ مِنْ بَعْد ذَلِكَ ” وَقَدْ
كَانَ فَرِيق مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَام اللَّه
ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ “

أَيْ يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْر تَأْوِيله
مِنْ
بَعْد مَا
عَقَلُوهُ
” أَيْ فَهِمُوهُ عَلَى الْجَلِيَّة وَمَعَ هَذَا يُخَالِفُونَهُ عَلَى بَصِيرَة
” وَهُمْ يَعْلَمُونَ ” أَنَّهُمْ مُخْطِئُونَ فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ
مِنْ
تَحْرِيفه وَتَأْوِيله
وَهَذَا الْمَقَام شَبِيه
بِقَوْلِهِ تَعَالَى
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقهمْ لَعَنَّاهُمْ
وَجَعَلْنَا قُلُوبهمْ قَاسِيَة

يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعه “.

 وهنا يؤكد
القرآن أن ” فريق منهم ” فقط، أي اليهود، ويقول ابن كثير
أن

المتحدث عنهم هم فئة من اليهود ” هَؤُلَاءِ الْفِرْقَة الضَّالَّة
مِنْ الْيَهُود
“، وأن التحريف المقصود هو
التفسير أو التأويل بغير المعنى المقصود “
أَيْ يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْر تَأْوِيله
” وليس التحريف بمعناه الحرفي، أي التغيير أو التبديل أو الإضافة أو الحذف.

& وقال البيضاوي في تفسيره ” أَفَتَطْمَعُونَ
أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ ” أن يصدقوكم، أو يؤمنوا لأجل دعوتكم. يعني اليهود.
وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مّنْهُمْ (طائفة من أسلافهم) يَسْمَعُونَ كَلَٰمَ
ٱللَّهِ
يعني التوراة ” ثُمَّ
يُحَرّفُونَهُ ” كنعت محمد …، وآية الرجم. أو
تأويله
فيفسرونه بما
يشتهون
“.

& وجاء في تفسير مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير
للرازي ” قال القاضي: إن التحريف إما أن يكون في اللفظ أو في المعنى، وحمل
التحريف على تغيير اللفظ أولى من حمله على تغيير المعنى، لأن كلام الله تعالى إذا
كان باقياً على جهته وغيروا تأويله فإنما يكونون مغيرين لمعناه لا لنفس الكلام
المسموع، فإن أمكن أن يحمل على ذلك كما روي عن ابن عباس من أنهم زادوا فيه
ونقصوا فهو أولى، وإن لم يمكن ذلك فيجب أن يحمل على تغيير تأويله وإن كان التنزيل
ثابتاً، وإنما يمتنع ذلك إذا ظهر كلام الله ظهوراً متواتراً كظهور القرآن، فأما
قبل أن يصير كذلك فغير ممتنع تحريف نفس كلامه، لكن ذلك ينظر فيه، فإن كان تغييرهم
له يؤثر في قيام الحجة به فلا بد من أن يمنع الله تعالى منه وإن لم يؤثر في ذلك صح
وقوعه فالتحريف الذي يصح في الكلام يجب أن يقسم على ما ذكرناه، فأما تحريف المعنى
فقد يصح على وجه ما، لم يعلم قصد الرسول باضطرار فإنه متى علم ذلك امتنع منهم
التحريف لما تقدم من علمهم بخلافه كما يمتنع الآن أن يتأول متأول تحريم لحم
الخنزير والميتة والدم على غيرها
“.

 أي أن فئة
من اليهود يفسرون كلام الله في التوراة بحسب أهوائهم لا بحسب معناه الذي تصوره
المسلمون “ كنعت محمد، وآية الرجم “، أي “
تأويله فيفسرونه بما

يشتهون “.

 فالتحريف
المقصود، هنا، هو تحريف فريق من اليهود لكلام الله، التوراة، بتأويله بغير معناه،
أي تفسيره على هواهم، وليس التحريف بمعناه الذي شرحناه سابقاً، أي ليس بتغير أو
تبديل آيات التوراة أو الحذف منها أو الإضافة إليها، إنما، فقط، بتفسيرها وتأويلها
على غير معناها. وتبقى التوراة كما هي كلمة الله الصحيحة غير المحرفة. وإلا لما
استشهد بما جاء فيها القرآن، كما يقول ابن عباس وغيره.

 كما أن
الذي قام بذلك، كما يؤكد القرآن والمفسرون، هو فريق واحد من اليهود وليس كل
اليهود، حيث تقول الآية “

وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ “،
أي فريق واحد. وبما أن تحريفهم هو تحريف المعنى فهذا يؤكد سلامة النص وصحته وعدم
تحريفه.

¯
وَإِنَّ مِنْهُمْ (أهل الكتاب = اليهود) لَفَرِيقًا يَلْوُونَ
أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنْ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنْ
الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
” (آل
عمران: 78).

 وهنا يؤكد
نص الآيات بوضوح على أن فريق، فقط، من الذين هادوا، اليهود، يلوون ألسنتهم في
تلاوة التوراة، أو الكتاب، أي يقرؤونه قراءة غير صحيحة ويؤكدون أن قراءتهم هي
القراءة الصحيحة.

& جاء في الدر المنثور للتفسير بالمأثور للسيوطي
قوله ” وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن وهب بن منبه قال: إن التوراة
والإنجيل كما أنزلها الله لم يغير منها حرف، ولكنهم يضلون بالتحريف والتأويل،

وكتب كانوا يكتبونها من عند أنفسهم ” ويقولون: هو من عند الله وما هو من عند
الله ” فأما كتب الله فهي محفوظة لا تحول “.

 وهنا تأكيد
منقول عن وهب بن منبه أحد الصحابة على استحالة تحريف التوراة والإنجيل “
إن التوراة والإنجيل كما أنزلها الله لم يغير منها حرف، ولكنهم يضلون بالتحريف
والتأويل
. وذلك لأن كتب الله محفوظة ويستحيل تحريفها، فالله هو
الحافظ لها، ولا يستطيع أحد أن يحذف منها أو يضيف إليها أو يغير أو يبدل فيها!!

& وجاء في البداية والنهاية للإمام إسماعيل بن كثير
الدمشقي ” فأخبر تعالى أنهم يفسرونها، ويتأولونها، ويضعونها على غير
مواضعها، وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء، وهو أنهم يتصرفون في معانيها، ويحملونها
على غير المراد،
كما بدلوا حكم الرجم بالجلد، والتحميم مع بقاء لفظ الرجم
فيها، كما أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا
عليه الحد، مع أنهم مأمورون بإقامة الحد، والقطع على الشريف والوضيع “.

 وهنا يؤكد
ابن كثير الدمشقي على أن التحريف المقصود هو التفسير أو التأويل على غير المعنى
الحقيقي، تغيير المعني وليس تغيير النص: ” يفسرونها، ويتأولونها،
ويضعونها على غير مواضعها، وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء، وهو أنهم يتصرفون في
معانيها، ويحملونها على غير المراد
“.

& وجاء في تفسير جامع البيان للطبري ” فريق
من أهل الكتاب يلوون ألسنتهم، وذلك تحريفهم إياه عن موضعه
“.

& وقال ابن كثير في البداية والنهاية ” فأخبر
تعالى أنهم يفسرونها، ويتأولونها، ويضعونها على غير مواضعها، وهذا ما لا خلاف فيه
بين العلماء، وهو أنهم يتصرفون في معانيها، ويحملونها على غير المراد،
كما بدلوا حكم الرجم بالجلد، والتحميم مع بقاء لفظ الرجم فيها “.

 والخلاصة
هنا أنه من المستحيل تحريف كلام الله في التوراة والإنجيل إنما ما فعله فريق من
اليهود فقط، وليس كل اليهود، هو تفسيرهم لكلام الله وتأويله على هواهم دون المساس
بالنص الإلهي نفسه، فهذا مستحيل.

2 لتحريف بلي اللسان، أي التلاعب بالألفاظ:

¯ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ
الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ

وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ
مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ
وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ
وَانظُرْنَا
لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ
بِكُفْرِهِمْ
فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ”
(النساء:
45و46).

 يفسر
الرازي قوله “ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ “ أن
المراد بالتحريف: إلقاء الشبه الباطلة، والتأويلات الفاسدة، وصرف اللفظ عن معناه
الحق إلى معنى باطل بوجوه الحيل اللفظية، كما يفعله أهل البدعة في زماننا هذا
بالآيات المخالفة لمذاهبهم، وهذا هو الأصح.
الثالث: أنهم كانوا يدخلون
على النبي … ويسألونه عن أمر فيخبرهم ليأخذوا به، فإذا خرجوا من عنده
حرفوا كلامه
. المسألة الرابعة: ذكر الله تعالى ههنا: ” عَن
مَّوٰضِعِهِ ” وفي المائدة
” مِن
بَعْدِ مَوٰضِعِهِ ” [المائدة: 41] والفرق أنا إذا فسرنا التحريف
بالتأويلات الباطلة، فههنا قوله: ” يُحَرّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن
مَّوٰضِعِهِ ” معناه: أنهم يذكرون التأويلات الفاسدة لتلك
النصوص، فههنا قول ه: ” يُحَرّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوٰضِعِهِ
” معناه: أنهم يذكرون التأويلات الفاسدة لتلك النصوص، وليس فيه بيان أنهم
يخرجون تلك اللفظة من الكتاب
“.

& وجاء في تفسير القرآن لابن عباس ”
يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ” يغيرون صفة محمد ونعته بعد
بيانه في التوراة ويأتون محمداً ” وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا ” قولك يا
محمد ” وَعَصَيْنَا ” أمرك في السر عنه ” وَٱسْمَعْ ”
منا يا محمد ” غَيْرَ مُسْمَعٍ ” غير مطاع ومسمع منك في السر ”
وَرَاعِنَا ” اسمع منا يا محمد وكان بلغتهم راعنا اسمع لا سمعت ” لَيّاً
بِأَلْسِنَتِهِمْ ” يحرفون ألسنتهم بالشتم والتعيير ” وَطَعْناً فِي
ٱلدِّينِ ” عيباً في الإسلام ” وَلَوْ أَنَّهُمْ ” يعني
اليهود ” قَالُواْ سَمِعْنَا ” قولك يا محمد ” وَأَطَعْنَا ”
أمرك ” وَٱسْمَعْ ” منا ” وَٱنْظُرْنَا ” انظر
إلينا ” لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ ” من السب والتعبير “.

 & وكان المسلمون يقولون لنبي المسلمين ”
راعنا ” من المراعاة، أي ارعنا ؛ جاء في قاموس مختار الصحاح ”
[رَاعِنَا] (البقرة104). قال الأخفش: هو فاعِلْنا من المُرَاعَاةِ، على معنى:
أَرْعِنَا سمعَك “.

& وجاء في مفردات القرآن ” رَاعِنَا أَي
احْفَظْنَا “
.

& وجاء في فتح القدير ” قوله: [راعنا] أي:
راقبنا، واحفظنا، وصيغة المفاعلة تدل على أن معنى [راعنا] ارعنا، ونرعاك، واحفظنا،
ونحفظك، وارقبنا، ونرقبك، ويجوز أن يكون من أرعنا سمعك “.

& وجاء في القاموس المحيط للفيروز آبادي ”
وقراءة الجمهور: راعنا. وفي مصحف عبد الله وقراءته، وقراءة أبي: راعونا، على إسناد
الفعل لضمير الجمع. وذكر أيضاً أن في مصحف عبد الله: ارعونا. خاطبوه بذلك إكباراً
وتعظيماً، إذ أقاموه مقام الجمع “.

 ولكن اليهود
كانوا ينطقونها محرفة ” رعناً ” ويقصدون سبه، أي يا أرعن، فنهى القرآن
المسلمون عن استخدام تعبير ” راعنا ” حتى لا يستغله اليهود في سب نبي
المسلمين!!

& جاء في
قاموس لسان العرب لابن منظور الأفريقي: ” رعن: الأَرْعَنُ: الأَهْوَجُ في
منطقه المُسْتَرْخي. و الرُّعُونة: الحُمْقُ والاسْتِرْخاء. رجل أَرْعَنُ وامرأَة
رَعْناء بَيِّنا الرُّعُونة والرَّعَن أَيضاً، وما أَرْعَنه، وقد رَعُن، بالضم،
يَرْعن رُعُونة ورَعَناً. وقوله تعالى: ” لا تقولوا راعِنا وقولوا انْظُرْنا
” ؛ قيل: هي كلمة كانوا يذهبون بها إِلى سَبِّ النبيّ، اشْتَقُّوه من
الرُّعُونة ؛ قال ثعلب: إِنَّما نهى الله تعالى عن ذلك لأَنَّ اليهود كانت تقول
للنبيّ راعِنا أَو راعونا، وهو من كلامهم سَبُّ
، فأَنزل الله تعالى: لا
تقولوا راعنا وقولوا مكانها انْظُرْنا ؛ قاله ابن سيد ه: وعندي أَنَّ في لغة
اليهود راعُونا على هذه الصيغة، يريدون الرُّعُونة أَو الأَرْعَن

وقيل: إِن راعنا كلمة كانت تُجْرَى مُجْرَى الهُزءِ، فنهي المسلمون
أَن يلفظوا بها بحضرة النبيّ، وذلك أَنَّ اليهود لعنهم الله كانوا اغتنموها،
فكانوا يسبّون بها النبيّ، في نفوسهم ويتسترون من ذلك بظاهر المُراعاة منها،
فأُمروا أَن يخاطبوه بالتعزيز والتوقير، وقيل لهم: لا تقولوا راعنا
“.

 ومن هنا يؤكد القرآن في هذه الآية تحريف اليهود لمعنى كلمة ”
راعنا ” التي قصد بها المسلمون المراعاة وتحويلها إلى كلمة سب ” يا أرعن
“، ومن ثم تقول الآية “ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا
وَعَصَيْنَا
وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي
الدِّينِ
“!!!

& جاء في صحيح البخاري: ” يحرفون الكلم
عن موضعه أي يزيلونه وليس أحد يزيل لفظ كتاب من كتب الله تعالى، ولكنهم يؤولونه
على غير تأويله
“.

 وهنا يؤكد
البخاري في صحيحه على استحالة إزالة لفظ واحد من كتاب الله (التوراة وغيرها من كتب
الله) وإنما “ يؤولونه على غير تأويله “.

& وهذا ما يؤكده القرطبي في تفسيره: ” يَتَأَوَّلُونَهُ
عَلَى غَيْر تَأْوِيله
. وَذَمَّهُمْ اللَّه
تَعَالَى
بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَفْعَلُونَهُ مُتَعَمِّدِينَ. وَقَرَأَ أَبُو عَبْد
الرَّحْمَن السُّلَمِيّ وَإِبْرَاهِيم
النَّخَعِيّ ” الْكَلَام “. قَالَ
النَّحَّاس: و ” الْكَلِم ” فِي هَذَا أَوْلَى
؛ لِأَنَّهُمْ
إِنَّمَا يُحَرِّفُونَ كَلِمَ النَّبِيّ … أَوْ مَا عِنْدهمْ فِي
التَّوْرَاة وَلَيْسَ يُحَرِّفُونَ جَمِيع الْكَلَام
وراعنا
ذَكَرَ شَيْئًا آخَر مِنْ
جَهَالَات الْيَهُود وَالْمَقْصُود
نَهْي الْمُسْلِمِينَ عَنْ مِثْل ذَلِكَ. وَحَقِيقَة ” رَاعِنَا ”
فِي اللُّغَة اِرْعَنَا وَلْنَرْعَك ; لِأَنَّ
الْمُفَاعَلَة مِنْ اِثْنَيْنِ ;
فَتَكُون مِنْ رَعَاك اللَّه , أَيْ اِحْفَظْنَا
وَلْنَحْفَظْك , وَارْقُبْنَا
وَلْنَرْقُبْك. وَيَجُوز أَنْ يَكُون مِنْ أَرْعِنَا
سَمْعَك ; أَيْ فَرِّغْ سَمْعَك
لِكَلَامِنَا
“.

& ويقول ابن كثير: ” ثُمَّ قَالَ تَعَالَى
” مِنْ الَّذِينَ هَادُوا ” مِنْ فِي
هَذَا لِبَيَانِ الْجِنْس كَقَوْلِهِ ”
فَاجْتَنِبُوا الرِّجْس مِنْ الْأَوْثَان

وَقَوْله يُحَرِّفُونَ الْكَلِم عَنْ مَوَاضِعه أَيْ يَتَأَوَّلُونَهُ
عَلَى غَيْر تَأْوِيله وَيُفَسِّرُونَهُ بِغَيْرِ مُرَاد اللَّه
عَزَّ
وَجَلَّ قَصْدًا مِنْهُمْ وَافْتِرَاء

وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا ” أَيْ سَمِعْنَا مَا قُلْته يَا مُحَمَّد وَلَا نُطِيعك
فِيهِ هَكَذَا فَسَّرَهُ مُجَاهِد وَابْن زَيْد وَهُوَ الْمُرَاد وَهَذَا أَبْلَغ
فِي كُفْرهمْ وَعِنَادهمْ
وَأَنَّهُمْ
يَتَوَلَّوْنَ عَنْ كِتَاب اللَّه بَعْدَمَا عَقَلُوهُ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ
مَا عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ مِنْ الْإِثْم وَالْعُقُوبَة
“.

& ويقول السيوطي في الدر المنثور: ” وأخرج ابن
جرير وابن المنذر عن عكرمة في قوله ” ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب
” إلى قوله ” يحرفون الكلم عن مواضعه ” قال: نزلت في رفاعة
بن زيد بن التابوت

اليهودي والله أعلم … وأخرج ابن أبي حاتم
من طريق علي عن ابن عباس في قوله ” يحرفون الكلم عن مواضعه ” يعني
يحرفون حدود الله في التوراة
. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم
عن
مجاهد في قوله ” يحرفون الكلم عن مواضعه ” قال: تبديل اليهود التوراة،
ويقولون ” سمعنا وعصينا ” قالوا: سمعنا ما تقول ولا نطعيك
” وأسمع غير مسمع ” قال غير مقبول ما تقول ” ليا بألسنتهم ”
قال: خلافا
يلوون
به ألسنتهم
” واسمع وانظرنا ” قال أفهمنا
لا تعجل
علينا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله ” يحرفون الكلم عن مواضعه ” قال:
لا يضعونه على ما أنزله الله “.

 إذا
فالمقصود بالتحريف هنا هو تحريف معنى قوله “ راعنا “؟
يقول الطبري “
قال ابن عباس: كان المسلمون يقولون للنبي …:
راعنا. على جهة الطلب والرغبة – من المراعاة – أي التفت إلينا، وكان هذا
بلسان اليهود سبا، أي اسمع لا سمعت
، فاغتنموها وقالوا: كنا نسبه سرا فالآن
نسبه جهرا، فكانوا يخاطبون بها النبي … ويضحكون فيما بينهم، فسمعها سعد بن معاذ
وكان يعرف لغتهم، فقال لليهود: عليكم لعنة الله! لئن سمعتها من رجل منكم يقولها
للنبي … لأضربن عنقه، فقالوا: أو لستم تقولونها؟ فنزلت الآية، ونهوا عنها لئلا
تقتدي بها اليهود في اللفظ وتقصد المعنى الفاسد فيه “.

& وقال جلال الدين السيوطي في الجلالين ” يا
أيها الذين آمنوا لا تقولوا للنبي (راعِنا) أمر من المراعاة وكانوا يقولون له ذلك وهي
بلغة اليهود سب من الرعونة
فسروا بذلك وخاطبوا بها النبي فنهى المؤمنون
عنها “. وأيضاً “
وقد نهى عن خطابه بها وهي كلمة
سب بلغتهم (ليَّا) تحريفا (بألسنتهم وطعنا) قدحا
(في الدين) الإسلام
“.

& وجاء في مختصر تفسير ابن كثير ” نهى اللّه
تعالى عباده المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم، وذلك أن اليهود
كانوا يعانون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص
– عليهم
لعائن اللّه – فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا، يقولوا (راعنا) ويورُّون
بالرعونة
، كما قال تعالى: ” من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه
ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا. ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ”
وكذلك جاءت الأحاديث بالإخبار عنهم بأنهم كانوا إذا سلَّموا إنما يقولون (السأم
عليكم) والسأم هو الموت “.

& وجاء في تفسير بحر العلوم للسمرقندي ” أي
يحرفون نعته عن مواضعه، وهو نعت محمد … ” وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا ”
قولك ” وَعَصَيْنَا ” أمرك ” وَٱسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ
” منك ” وَرٰعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ أي يلوون لسانهم
بالسب
” وَطَعْناً فِى ٱلدّينِ ” أي في دين الإسلام. قال
القتبي: كانوا يقولون للنبي … إذا حدثهم وأمرهم سمعنا، ويقولون في أنفسهم
وعصينا. وإذا أرادوا أن يكلموه بشيء قالوا: اسمع يا أبا القاسم. ويقولون في
أنفسهم: لا سمعت. ويقولون: راعنا يوهمونه في ظاهر اللفظ أنهم يريدون انظرنا حتى
نكلمك بما تريد، ويريدون به السب بالرعونة ” لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ ”
أي قلباً للكلام بها ” وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا
” مكان سمعنا وعصينا ” وَٱسْمَعْ ” مكان اسمع لا سمعت ”
وَٱنْظُرْنَا ” مكان قولهم راعنا ” لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ
وَأَقْوَمَ ” أي وأصوب من التحريف والطعن “.

 أي
أن اليهود كانوا يسبون نبي المسلمين بقولهم له ” راعنا ” والتي تعني
” أرعانا “، وذلك بتحريف معنى الكلمة ولي لسانهم وقولهم له “
راعنا أو راعُونا
” أي يا أرعن وهي “ كلمة سب بلغتهم
(ليَّا) تحريفا بألسنتهم “
!!!

 فالاتهام
هنا موجَّهٌ ضد بعض اليهود الذين يحرّفون الكلِم. ومن الأمثلة المعطاة نرى أنهم
كانوا يحرفون كلام نبي المسلمين كما بينا أعلاه وكما يقول عبد الله يوسف علي مترجم
القرآن للإنجليزية في تفسيره لهذه الآية ” كان من مكر اليهود أنهم يلوون
الكلمات
والتعبيرات ليسخروا من جدية تعاليم الإسلام، فبدل أن يقولوا: سمعنا وأطعنا يقولون
بصوت عال ” سمعنا “ ثم بصوت خفيض ” وعصينا “.
وكان يجب أن يقولوا باحترام · نسمع ولكنهم يقولون هامسين في سخرية غير مُسمَع. ومع
أنهم ادّعوا أنهم يحترمون المعلم إلا أنهم استخدموا كلمة مبهمة ظاهرها طيب، بنية
سيئة. فكلمة ” راعِنا “ عربية تقدم الاحترام، ولكن بليّ اللسان
في نطقها يصير معناها سيئاً وهو · خُذنا لمحل الرعي أو في العبرية · أنت السيئ
فينا ” (وليم كامبل)
.

¯ فَبِمَا
نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً
يُحَرِّفُونَ
الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ

وَنَسُوا حَظًّا
مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ
مِنْهُمْ إِلاَّ
قَلِيلاً
مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ
(المائدة: 13).

 وتقول
الآية (15) في نفس سورة المائدة بعد هذا الكلام ” يا أهل الكتاب قد جاءكم
رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب “. إذا فهو يؤكد
المقصود من التحريف هو إخفاء أجزاء من الكتاب، وليس تغيير ألفاظ كلام الله
.

& يقول الرازي: ” إن المراد بالتحريف هو إلقاء
الشبهة الباطلة، والتأويلات الفاسدة وصرف اللفظ عن معناه الحق إلى المعنى الباطل،
بوجوه الحيل اللفظية، كما يفعل أهل البدع في زماننا هذا بالآيات المخالفة لمذهبهم،
وهذا هو الأصح
“.

 وقال
أيضاً: ” يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ ” وهذا التحريف
يحتمل التأويل الباطل، ويحتمل تغيير اللفظ، وقد
بينا فيما تقدم أن الأول أولى لأن
الكتاب المنقول بالتواتر لا يتأتى فيه تغيير
اللفظ
“.

& وجاء في تفسير القرطبي: ” يحرفون الكلم عن مواضعه أَيْ يَتَأَوَّلُونَهُ
عَلَى غَيْر تَأْوِيله
, وَيُلْقُونَ ذَلِكَ إِلَى
الْعَوَامّ “.

& وجاء في تفسير النسفي ” يُحَرِّفُونَ
الْكَلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ ” يفسرونه على غير ما أنزل
وهو بيان
لقسوة قلوبهم لأنه لا قسوة أشد

من الافتراء على الله وتغيير وحيه “.

& وجاء في تفسير المحرر الوجيز في تفسير الكتاب
العزيز لابن عطية
” واختلف العلماء في معنى قوله: ”
يحرفون الكلم ” فقال قوم منهم ابن عباس، تحريفهم هو بالتأويل ولا قدرة
لهم على تبديل الألفاظ في التوراة ولا يتمكن لهم ذلك ويدل على ذلك بقاء آية الرجم
واحتياجهم إلى أن يضع القارئ يده عليها
“.

& وجاء في تفسير البحر المحيط لأبي حيان ”
يُحَرّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوٰضِعِهِ ” أي يغيرون ما شق عليهم
من أحكامها، كآية الرجم بدلوها لرؤسائهم بالتحميم وهو تسويد الوجه بالفحم قال
معناه ابن عباس وغيره
، وقالوا: التحريف بالتأويل لا بتغيير الألفاظ،
ولا قدرة لهم على تغييرها ولا يمكن. ألا تراهم وضعوا أيديهم على آية الرجم؟

وقال مقاتل: تحريفهم الكلم هو تغييرهم صفة الرسول أزالوها وكتبوا مكانها صفة أخرى
فغيروا المعنى والألفاظ، والصحيح أن تحريف الكلم عن مواضعه هو التغيير في
اللفظ والمعنى، ومن اطلع على التوراة علم ذلك حقيقة، وقد تقدم الكلام على هذا
المعنى
“.

 

3 مشاهدة نبي المسلمين للتوراة وتصديقه لما
جاء بها
:

¯ وَمِنْ
الَّذِينَ
هَادُوا سَمَّاعُونَ
لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ
يُحَرِّفُونَ
الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ
يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا
فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ فِتْنَتَهُ
فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ
يُرِدْ
اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ
فِي
الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ”
(المائدة: 41).

& يقول القرطبي: َ” أْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ
مِنْ بَعْدِ أَيْ
يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْر
تَأْوِيله
بَعْد أَنْ فَهِمُوهُ عَنْك وَعَرَفُوا
مَوَاضِعه الَّتِي أَرَادَهَا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ …
وَالْمُحَرِّفُونَ مِنْ الْيَهُود
بَعْضهمْ لَا
كُلّهمْ، وَلِذَلِكَ
كَانَ حَمْلُ الْمَعْنَى عَلَى ” مِنْ الَّذِينَ
هَادُوا ” فَرِيق سَمَّاعُونَ أَشْبَهَ
مَوَاضِعِهِ فِي مَوْضِع الْحَال مِنْ
الْمُضْمَر فِي ” يُحَرِّفُونَ “.

& جاء في صحيح مسلم، كتاب الحدود، باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنى، وكذلك في
صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن ” حدثني الحكم بن موسى أبو صالح حدثنا شعيب
بن إسحق ‏أخبرنا عبيد الله عن نافع أن عبد الله بن عمر أخبره
أن رسول الله … أتي بيهودي ويهودية قد زنيا فانطلق رسول
الله … حتى جاء يهود فقال ما تجدون في التوراة على من زنى
قالوا نسود
وجوههما ونحملهما ونخالف بين وجوههما ويطاف بهما قال فأتوا بالتوراة إن
كنتم
صادقين
فجاءوا
بها فقرءوها حتى إذا مروا بآية الرجم وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم وقرأ
ما بين يديها وما

وراءها فقال له عبد الله بن سلام وهو مع
رسول الله … مره فليرفع يده فرفعها فإذا تحتها آية الرجم فأمر
بهما رسول
الله … فرجما
“.

 وهنا يقول
أن نبي المسلمين طلب من اليهود أن يأتوا بالتوراة فأتوه بها وقرؤوها أمامه وأمام
بعض الصحابة والذين كان بعضهم من أصل يهودي مثل عبد الله بن سلام، وعندما حاول
القارئ اليهودي إخفاء آية الرجم بيده أدرك ذلك عبد الله بن سلام اليهودي السابق
وطلب رفع يد القارئ من على الآية، آية الرجم وهنا أمر نبي المسلمين بتطبيق ما جاء
في الآية ورجم الزاني والزانية!!

 فالنص يقول
أن الكلام، كلام الله، موجود في التوراة، ولكن الرجل أخفاه بيده لكي ينقذ الزاني
والزانية من حكم الرجم. ومن ثم فلا يوجد تحريف في النص لأن النص ثابت ومكتوب في
التوراة.
فقد قرأ الرجل نص التوراة وأخفى آية الرجم عمدا بوضع كفه عليها ولم يقرأها مع
العلم أنها كانت موجودة ولكنه أخفاها.

 إذا فقد
رأي نبي المسلمين التوراة وشاهدها بعض الصحابة وقرأت أمامه بناء على طلبه وحكم بما
جاء فيها، بل وعلق القرآن على ذلك بقوله ” وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ
وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ
ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ
” (المائدة: 43). مما يدل
على تصديقه لما جاء فيها وحكمه ببعض أحكامها!!

وهكذا أجمع
المفسرون أن سبب نزول هذه الآية في سورة المائدة هو هذه القصة
.
فالتحريف المقصود هو في تفسير حكم الرجم بالجلد، وليس تغيير نصوص الكتاب المقدس.

 ونستنتج
مما سبق أن
كل
هذه الآيات لا تمس التوراة ولا الإنجيل، بل نزلت في فئة قليلة من أفراد اليهود
الذين
يؤولون كلام الله، المكتوب والثابت في التوراة، على غير تأويله ويفسرونه
تفاسير
خاطئة. ونلاحظ هنا إجماع المفسرين ومن نقلوا عنهم على أن التحريف المقصود هو التحريف
المعنوي أو اللفظي وليس التحريف الحرفي
: فيقول الرازي “

وصرف اللفظ عن معناه الحق إلى المعنى الباطل، بوجوه الحيل اللفظية
.
ويقول القرطبي “ يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْر تَأْوِيله 00 و
00 يُحَرِّفُونَ كَلِمَ النَّبِيّ … أَوْ مَا عِنْدهمْ فِي التَّوْرَاة
وَلَيْسَ يُحَرِّفُونَ جَمِيع
الْكَلَام
“.
أي يحرفون المعنى. ويقول ابن كثير “
يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْر تَأْوِيله وَيُفَسِّرُونَهُ بِغَيْرِ مُرَاد اللَّه
عَزَّ
وَجَلَّ قَصْدًا مِنْهُمْ وَافْتِرَاء
“.
ويقول السيوطي “
يعني يحرفون حدود الله
في التوراة
يلوون به ألسنتهملا
يضعونه على ما أنزله الله
“.

 كما
إن استشهاد نبي المسلمين بحكم التوراة هو دليل أكيد على اقتناعه بسلامتها وعدم
تحريفها ولأنه لم يكن لديه أية شبهة أو شك في ذلك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار